4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي العام : ولما كان الاسلام يعكس جوهر العدالة الاجتماعية بين الافراد ، فان نظامه السياسي والقضائي والاقتصادي لابد وان يتحرك بكل قوة لمعاقبة المنحرفين الذين يحاولون العبث بمقدرات الافراد على الصعيد الاجتماعي . ولذلك فان الانحرافات التي يقوم بها هؤلاء الافراد ـ وتؤدي بقصد او دون قصد الى زعزعة النظام الاجتماعي ، كإرهاب الناس ، واحتكار اقواتهم ، وظلمهم ـ تعتبر جرائم تستحق نوعاً من العقوبات المنصوص عليها في الشريعة ؛ ومن امثلة هذه الجرائم : المحاربة.
فالمحاربة هي ارادة الافساد في الارض . والمحارب هو الذي يجهز سلاحه لإرعاب الناس ، ذكراً كان أم انثى ، قوياً كان أم ضعيفاً ، لعموم الآية في قوله تعالى : ( انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) (1).
ولاشك ان من أهم نتائج هذا التشريع هو استتباب الامن والسلام الاجتماعي في المجتمع الاسلامي . فليس لاولياء المقتول عن طريق المحاربة العفو عن المحارب ، بل ان على الامام قتله بأي شكل من الاشكال ، الا اذا تاب من تلقاء نفسه ؛ فعندئذ يسقط الحق العام ، لقوله تعالى : ( الا الذين
____________
(1) المائدة : 33.

( 74 )

تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم ) (1) وهذا الامن الاجتماعي الذي ينعم به المجتمع الاسلامي يعتبر من أهم مصادر استقرار النظام وتنشيط طاقات افراده الانتاجية.
ولاشك ان الدولة في الاسلام ينبغي ان تتمتع بأمان اقتصادي ومعاشي ينعم به جميع الافراد ؛ بل ان اي انتهاك لهذا الامان يجب ان يعامل بقوة اخلاقية وشرعية من قبل الحاكم الشرعي أو الدولة بمؤسساتها القضائية والتنفيذية . والاحتكار ـ وهو خزن المادة الغذائية الاساسية التي يحتاجها الافراد وقت الاضطرار من أجل رفع سعرها أو إضرار الدولة ـ يمثل هذا الانحراف الموجه ضد النظام الاجتماعي العام . الا ان الاسلام يتعامل مع هذا الانحراف الاقتصادي تعاملاً حاسماً ، فيجبر المحتكر على بيع المادة المحتكرة فوراً . وفي عهد الامام علي (ع) لمالك الاشتر اشارة الى ذلك : ( فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به وعاقب في غير اسراف ) (2) . وهذا التشريع ـ اضافة الى تجنيبه الافراد للفوضى الاقتصادية والمعيشية ـ منسجم تماماً مع تطلعات الاسلام نحو العدالة الاجتماعية بين الافراد.
اما فيما يتعلق بظلم الحاكم ، فان المجتمع الانساني لما كان بحاجة مستمرة الى نظام اجتماعي مستقر ، وبحاجة ماسة الى مدير يدير هذا النظام ويرعى شؤونه المالية والقضائية والدفاعية والسياسية ، تعين ان تكون للقائد شروط ومواصفات موضوعية مستمدة من الشريعة نفسها . وقد جابه القرآن الكريم بكل قوةٍ النظام السياسي الظالم وأدان وجوده
____________
(1) المائدة : 34.
(2) نهج البلاغة ص 615.

( 75 )

اللاشرعي بمختلف الاساليب ، وجعل فرعون مثلاً يعكس فساد جوهر الظلم السياسي : ( واذ نادى ربك موسى ان ائت القوم الظالمين قوم فرعون الا يتقون ) (1) ، ( ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً ) (2) ، ( وقد خاب من حمل ظلماً ) (3) ، ( انه لا يحب الظالمين ) (4) . وورد ما يشير الى وجوب الكفر بالحكومة التي لا تقضي بما انزل الله و تعمل في الناس بالجور والظلم والعدوان وسماها بالطاغوت ، فقال عز وجل : ( الم تر الى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به ) (5) . وفي خطبة الامام الحسين بن علي (ع) في الناس في ( منى ) تأكيد آخر على التصدي للظلم الاجتماعي : ( اعتبروا ايها الناس بما وعظ الله به اولياءه من سوء ثنائه على الاحبار اذ يقول : ( لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) (6) . وقال : ( لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) (7) . وانما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين اظهرهم المنكر والفساد فلا ينهون عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما يحذرون والله يقول : ( فلا تخشوا
____________
(1) الشعراء : 10 ـ 11.
(2) الفرقان : 19.
(3) طه : 111.
(4) الشورى : 40.
(5) النساء : 60.
(6) المائدة : 63.
(7) المائدة : 78 ـ 79.

( 76 )

الناس واخشون ) (1) ، وقال : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (2) . فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها اذا أديت وأقيمت ، استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ؛ وذلك ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء الى الاسلام مع رد الظالم ، ومخالفة الظلم ، وقسمة الفيء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها ) (3).
واذا كان الاسلام دين العدالة الاجتماعية حقاً ـ وهو بالتأكيد كذلك ـ فان أول عدو يسعى لمحاربته ، هو نظام الظلم الاجتماعي والسياسي ضد الافراد . ولذلك ، فان قاعدة العدالة الاجتماعية المتمثلة باطار الحكم الاسلامي والدولة الاسلامية يجب ان تستمر حتماً ، حتى قيام الساعة ؛ ان كانت تحت أمر النبي (ص) أو الامام المعصوم (ع) أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط ( يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ، واولي الامر منكم ) (4) . فلا مكان للحاكم الظالم في دنيا الاسلام ، دنيا العدالة الاجتماعية والحقوقية.
____________
(1) المائدة : 44.
(2) التوبة : 71.
(3) تحف العقول للحراني ص 237.
(4) النساء : 59.

( 77 )

النظريات الاجتماعية الغربية المتعلقة بالانحراف ونقدها

وهذه النظريات هي من أهم الافكار الاجتماعية التي انتجتها اوروبا الغربية وامريكا الشمالية في عصر التصنيع والنهضة العلمية . وهي اربع نظريات ؛ اولها : نظرية ( الانتقال الانحرافي ) ، وثانيها : نظرية ( القهر الاجتماعي ) ، وثالثها : نظرية ( الضبط الاجتماعي ) ، ورابعها : نظرية ( الالصاق الاجتماعي ) . فنظرية ( الانتقال الانحرافي ) تؤمن بأن الانحراف سلوك مكتسب ، حيث يتعلم الفرد الانحراف كما يتعلم الفرد الآخر السلوك الذي يرتضيه النظام الاجتماعي (1) . بمعنى ان الانحراف اذا ظهر في بيئة اجتماعية معينة فلابد له من الاستمرار والازدهار حتى يتعمق في التركيبة الثقافية والاجتماعية لتلك البيئة . وينتقل ذلك الطابع الانحرافي من فرد الى آخر ثم من جيل الى آخر دون ان يتغير الدافع الذي يؤدي الى ارتكاب الجريمة لدى الفرد . ولما كان الانسان يولد نقياً من بذرة الانحراف ، فان العوامل التي تساعده على تكوين شخصيته الاجرامية لابد وان تكون متسلسلة الحدوث خلال مسيرته التطورية من الطفولة وحتى البلوغ . بمعنى ان هذه العوامل مرتبطة قطعاً بالبيئة التي يعيشها الفرد خلال ادوار نموه المختلفة ، وأهمها على الاطلاق انفتاحه على المنحرفين عن طريق الصداقة والمودة.
وتتجاهل هذه النظرية جوهر المشكلة الانحرافية ، وهي ان الدافع
____________
(1) ( ادوين سوذرلائد ) . مبادئ علم الاجرام . فيلادلفيا : ليبنكوت ، 1939 م.

( 78 )

الرئيسي للانحراف هو عدم اشباع الحاجات الانسانية الاساسية للمنحرفين من قبل النظام الاجتماعي . فالانحراف عموماً لا يحتاج الى معلم ؛ فالسارق الجائع يعرف بالغريزة كيف يفعل فعلته ، والقاتل يعرف بالغريزة كيف يقتل ، والغاصب في مجتمع منحل يعرف كيف يتعامل مع ضحيته . وفي كل هذه الجرائم يكون الدافع والحاجة عاملين مهمين من عوامل ارتكاب الفعل نفسه . اضف الى ذلك : ان هذه النظرية تقصر عن التمييز ما بين الانحراف الاقتصادي والانحراف الاخلاقي والسياسي ، وتعجز عن تفسير ظهور الانحراف بين افراد الطبقة الرأسمالية الذين لايرتبطون بأية فئة منحرفة اجتماعياً.
ويعتقد ( اميلي ديركهايم ) مؤسس نظرية ( القهر الاجتماعي ) بأن الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الافراد ضد البعض الآخر (1) . فالفقر باعتباره انعكاساً صارخاً لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات ، يولد رفضاً للقيم والاخلاق الاجتماعية التي آمن بها الرعيل الاكبر من افراد النظام الاجتماعي . وما الانحراف الا صورة من صور ذلك الرفض الاجتماعي . والفرد الذي لا يصل الى تحقيق اهدافه عن طريق الوسائل المقررة اجتماعياً ، يسلك مسلكاً منحرفاً يؤدي به الى هدفه كالسرقة ، والرشوة ، والبيع الذي يحرمه القانون . وهنا يلعب القهر الاجتماعي دوراً في توليد ضغط لدى بعض الافراد كي ينحرفوا اجتماعياً.
____________
(1) ( اميلي ديركهايم ) . تقسيم العمل في المجتمع . جيلنكو ، الينوي : المطبعة الحرة ، 1964 م . الطبعة الاولى صدرت في عام 1893 م.

( 79 )

الا ان هذه النظرية فيها خلل واضح ، وهو تجاهلها للانحراف الناتج عن الاضطرابات العقلية والامراض النفسية ، وهو انحراف غير مرتبط بالقهر الاجتماعي . وتعجز هذه النظرية أيضاً عن تفسير ظاهرة الانحراف بين افراد الطبقة الرأسمالية الغنية ، ومصاديقها القتل والاعتداء والاغتصاب ، مع انهم يملكون كل وسائل الثروة والمنزلة الاجتماعية ، ومع ملاحظة انتفاء ظاهرة القهر الاجتماعي عنهم.
اما نظرية ( الالصاق الاجتماعي ) فهي تشير الى حقيقة مهمة تجعلها محور فكرتها الرئيسية ، وهي ان الانحراف الاجتماعي انما هو نتاج نجاح مجموعة من الافراد بالاشارة الى افراد آخرين بأنهم منحرفون (1) . وتستند فكرة النظرية على فرضية الصراع الاجتماعي بين الافراد ومحاولة اتهام بعضهم البعض بالحيود والزيغان عن المجرى العام للسلوك الاجتماعي . وتقسم الانحراف الى قسمين ؛ الاول : الانحراف المستور ، والثاني : الانحراف الظاهر . فعندما يتهم افرادٌ بالانحراف علناً ، فان الوضع النفسي والاجتماعي للمتهمين سوف يتبدل بالمقارنة فيما لو بقي الانحراف مستوراً . فاذا ألصقت تهمة السرقة بشخص مثلاً ، وتهمة الرشوة بشخص آخر ، وتهمة التجديف بثالث ، شعر هؤلاء الافراد بالاهانة الاجتماعية ؛ لأن الآثار المترتبة على انحرافهم تعني : اولاً : انزال العقوبات التي اقرها النظام الاجتماعي بهم . وثانياً : افتضاح امرهم امام الناس . وثالثاً : انعكاس ذلك الافتضاح على
____________
(1) ( هاورد بيكر ) . الخارجون : دراسات في علم اجتماع الانحراف . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1963 م . وايضاً : ( ادوين ليمرت ) . الانحراف الانساني ، المشاكل الاجتماعية ، والسيطرة الاجتماعية . انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1967 م.

( 80 )

معاملة بقية الافراد لهم . ولذلك فان الصفات القاسية التي يستخدمها النظام ضدهم كصفات السرقة والرشوة والتجديف انما وضعها في الواقع : النظام الاجتماعي والسياسي وألصقها بهؤلاء الافراد.
ولكن هذه النظرية بتشديدها على فكرة الالصاق ، تبرر بصورة غير مباشرة ظاهرة الانحراف المستور ؛ لان الانحراف اذا لم يلصق بفئة من الافراد فانه سيصبح سلوكاً طبيعياً . ولكن السارق في البيع والشراء يعد سارقاً بغض النظر عن الصاق التهمة به أو عدم الصاقها به . والمرتشي يعد مرتشياً ان الصقت التهمة به ام لا . والقاتل الذي لم تكشف جريمته يعتبر قاتلاً في كل الاحوال ، أالصقت التهمة به ام لم تلصق . وهذه النظرية تعطي الفرد مبرراً لاستمرار الانحراف ، فالمنحرف يجد عذراً بإلقاء سبب انحرافه على النظام الاجتماعي ، ولا يقيم لدافعه الذاتي نحو ارتكاب الجريمة وزناً . وهذا يتنافى مع الاصول العامة للتجريم التي تأخذ الدافع الذاتي والنية المسبقة بنظر الاعتبار.
ولعل نظرية ( الضبط الاجتماعي ) تعتبر من أقرب النظريات الغربية الى الواقع القرآني . فتعتقد هذه النظرية بأن الانحراف ظاهرة ناتجة عن فشل السيطرة الاجتماعية على الافراد (1) ؛ لان الانحراف يتناسب عكسياً مع العلاقة الاجتماعية بين الافراد . فالمجتمع المتماسك رحمياً يتضاءل فيه الانحراف ، على عكس المجتمع المنحل . ولو درسنا نسب انتحار الافراد في المجتمع الانساني للاحظنا انها اكثر انتشاراً في المجتمعات التي لاتهتم
____________
(1) ( اميلي ديركهايم ) . تقسيم العمل في المجتمع . جيلنكو ، الينوي : المطبعة الحرة ، 1964 م . وايضاً : ( ترافيس هيرشي ) . اسباب الجنوح . بيركلي ، كاليفورنيا : مطبعة جامعة كاليفورنيا ، 1969 م.

( 81 )

بعلاقات القربى والعشيرة وصلة الرحم . وعلى هذا الاساس آمنت هذه النظرية بان افراد المجتمع المتماسك من ناحية العلاقات الرحمية والانسانية أكثر طاعة للقانون وأكثر اتباعاً للقيم التي يؤمن بها من افراد المجتمع المتحلل في علاقات افراده الاجتماعية . وبالجملة ، فان الافراد الذين تربطهم الاواصر الاجتماعية المتينة ، وينغمسون في اعمالهم ونشاطاتهم ، ويستثمرون في المجتمع اموالهم واولادهم ، ويطبقون ـ بكل ايمان ـ احكام دينهم ؛ فهؤلاء تتضاءل عندهم فرص الانحراف الاجتماعي ، وتزداد من خلال سلوكهم فرص الاستقرار والثبات على الخط الاجتماعي السليم.
وهذه النظرية تعكس ـ بشكل جزئي ـ بعض المفاهيم القرآنية التي تتعامل مع العلاقات الاجتماعية وتأثيراتها الايجابية في ضبط سلوك الافراد ، كصلة الرحم : ( والذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) (1) ، ( يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خيرٍ فان الله به عليم ) (2) ، واكرام الجار : ( ... والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ) (3) ، والنهي عن الظلم : ( ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً ) (4) . وحرمة اذى المؤمنين : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً واثماً مبيناً ) (5) ،
____________
(1) الرعد : 21.
(2) البقرة : 215.
(3) النساء : 36.
(4) الفرقان : 19.
(5) الاحزاب : 58.

( 82 )

والنهي عن احتقار الناس : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيراً منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالالقاب ، بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ، ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون ) (1) ، واصلاح ذات البين : ( انما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين اخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (2) ، والتعاون على الخير : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ) (3).
ومع كل هذه الاقتباسات ـ التي اقتبسها ( اميلي ديركهايم ) لتصميم نظريته الخاصة بالضبط الاجتماعي من المفاهيم القرآنية ـ تبقى تلك النظرية عاجزة عن عرض الصورة الاجتماعية الشاملة للانحراف وطرق معالجته . فديركهايم لم يتناول معالجة الانحراف بين الافراد الذين تتوفر فيهم جميع عناصر منع الانحراف الاجتماعي ، كالطبقات الرأسمالية في الدول الصناعية ، وبابوية القرون الوسطى في اوروبا ، والتجار الاثرياء في الانظمة الحرة مع انهم يتمتعون بأفضل الصلات العائلية والعشائرية ، ويمارسون أفضل الهوايات الفكرية والبدنية ويستثمرون اموالهم في العقارات والمزارع والمصانع ، ويعتقدون بدياناتهم المختلفة.
والخلاصة : ان هذه النظريات الاجتماعية الغربية الاربع تفشل في تفسير ظاهرة الانحراف والتجريم بالصورة الدقيقة الشاملة المستوعبة لكل
____________
(1) الحجرات : 11.
(2) الحجرات : 10.
(3) المائدة : 2.

( 83 )

مفردات الواقع الاجتماعي . فهذه النظريات ـ منفصلةً ـ لا تستطيع تفسير جرائم المقامرة ، وانحراف الاحداث ، وتعاطي المخدرات ، والتحايل في دفع حقوق الفقراء ... وكل نظرية من هذه النظريات تنظر للجرييمة بشكل تجزيئي محدود ولا تنهض بمستوى النظرة الكلية للمشكلة الانحرافية بحيث تستوعب كل مفردات وتشكيلات الاجرام الفردي والجماعي في المجتمع الانساني.


( 84 )

نظام العقوبات : نقاط مقارنة بين النظرية
القرآنية والنظرية الغربية

وفي الوقت الذي لا يحمل فيه السجن عقوبة رادعة في النظرية القرآنية ، الا انه يعتبر محور العقوبات في النظام الغربي . بل ان النظريات الاجتماعية الغربية الحديثة جعلت ( السجن ) المصدر الرئيسي والساحة الحقيقية لمعالجة الانحراف (1) . ولابد ان يعترف دعاة النظام القضائي الرأسمالي اليوم ، بفشلهم بجعل السجون ساحة العقوبات الاساسية لمعالجة الانحراف وتقويم المنحرفين ، لأن ثلاثة أرباع المنحرفين الذين يطلق سراحهم من السجون الرأسمالية بعد اتمام مدد عقوباتهم يرتكبون جرائم جديدة (2) ، مساهمين بذلك في هدر الاموال التي صرفت عليهم لتأديبهم في تلك المؤسسات الردعية.
ولكن السجن في النظرية الاسلامية ، ماهو الا عقوبة مساندة للعقوبات الاساسية الفورية كالقصاص والحدود والديات والارش على اختلاف انواعها وازمان دفعها ؛ لان الجناية أو الجرم ليس الا عمل مربك للنظام الاجتماعي ، فلابد للنظام الاسلامي من التحرك سريعاً لمعالجة ذلك
____________
(1) ( ارفينك كوفمان ) . اللجوء . شيكاغو : آلدين ، 1961 م.
(2) ( مارشال كلينارد ) و( روبرت ميير ) . علم اجتماع السلوك المنحرف . الطبعة السادسة . نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، 1985 م.

( 85 )

الانحراف ، بالقطع في السرقة : ( والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما ) (1) ، والقصاص في القتل والجروح : ( ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب ) (2) ، والقتل أو الصلب أو القطع أو النفي في الفساد في الارض : ( انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ) (3) ، والرجم أوالجلد في الزنا : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) (4) ، والجلد في القذف : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادةً ابداً ، واولئك هم الفاسقون ) (5) ، ولاشك ان ثبوت العقاب يتناسب مع درجة تأثير الجريمة والانحراف على النظام الاجتماعي . فكل الجرائم الاجتماعية لها ضحايا ، كجرائم العنف ، والجرائم الخاصة بالممتلكات ، والجرائم الاخلاقية . وحتى الجرائم التي تزعم النظرية الغربية فيها بأنها لا تنتج ضحايا ، كجرائم المقامرة والبغاء والانحراف الخلقي ـ باعتبارها جرائم تضر على الصعيد الشخصي للفرد فحسب ـ فان النظرية القرآنية تنزل بمرتكبيها أقصى العقوبات ؛ لان الاسلام لا ينظر للفرد الا من زاوية مصلحته الاجتماعية والتكوينية . فالعقوبة الصارمة هدفها الردع والتأديب وليس الانتقام ، كما يدعي أعداء النظرية الدينية . ولاشك ان
____________
(1) المائدة : 38.
(2) البقرة : 179.
(3) المائدة : 33.
(4) النور : 2.
(5) النور : 4.

( 86 )

فكرة ( السجن ) تعجز عن ردع الآخرين عن الانحراف ، وتفشل في تعويض الضحية أو من يتعلق بها مالياً ، وتتراجع عن التأهيل الاجتماعي للمنحرف بقصد ارجاعه الى المجرى الاجتماعي العام.
ولما كانت فكرة السجون ـ هدفاً ووسيلةً ـ قد اثبتت فشلها في نظام العقوبات الغربي والامريكي بالخصوص ، فقد مال رأي القضاة واعضاء جهاز المحاكم في العقود الاخيرة الى استحسان فكرة تعليق العقوبة الصادرة بحق الجاني (1) ؛ بشرط ان يجد له عملاً يرتزق به ، وان لا يرتكب جريمة جديدة خلال فترة تعليق الحكم . وقد قوبلت هذه الفكرة بالتأييد من قبل السلطة القضائية الى درجة ان المنحرفين المعاقبين بتعليق الحكم اليوم ، يشكلون خمسة اضعاف عدد المنحرفين المعاقبين بالسجن (2) . ولكن عقوبة التعليق فاشلة ايضاً ، لأن الجاني المدان بتعليق العقوبة اذا ارتكب جريمة جديدة ، عوقب مرة اخرى بالسجن ، الذي لا حظنا فشله في تأديب المنحرف وتهذيبه في المرة الاولى.
وتنفرد الولايات المتحدة من بين الدول الرأسمالية بتطبيق عقوبة الموت ضد المنحرفين الذين أدينوا عن طريق المحاكم الجنائية ، بارتكاب جرائم قتل (3) . وفكرة ( عقوبة الموت ) تتناقض مع فكرة الحرية الشخصية التي نادت بها النظرية الرأسمالية لان الجناية مهما عظمت ـ حسب زعمها ـ لا تستحق إلغاء حياة الجاني من الوجود . وعلى ضوء ذلك فان ( عقوبة
____________
(1) ( مارشال كلينارد ) و( روبرت ميير ) . علم اجتماع السلوك المنحرف . نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، 1985 م.
(2) ( كوين نتلر ) . شرح الجريمة . الطبعة الثالثة . نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1983 م.
(3) ( ارنيست هاك ) و( جون كونراد ) ( محرران ) . عقوبة الموت : مناقشة . نيويورك : بلينم ، 1983 م.

( 87 )

الموت ) ما هي الا عقوبة انتقامية وليست عملاً ردعياً . ويدل على ذلك ، ان تلك العقوبة النازلة بالمنحرفين لم تردعهم بالكف عن انحرافهم ! وهذا التناقض في فكرة الحرية الشخصية والمذهب الفردي يقودنا الى السؤال التالي وهو : اذا كانت عقوبة الموت انتقامية ، فلماذا يأخذ بها النظام القضائي الامريكي خلافاً لفكرة الحرية الشخصية والمذهب الفردي ؟ تجيب النظرية الرأسمالية الغربية ، بأن عقوبة الموت ضرورية ، لان فكرة الحرية الشخصية يجب ان ترسم لها الحدود وتوضع لها الضوابط ، اذا تعلق الامر بالانحراف الاجتماعي (1) . ولكن يرد على ذلك ، بان تحديد الحرية في جريمة معينة ، يستلزم تحديدها في بقية الجرائم ايضاً ، كالجرائم الاخلاقية مثلاً . هنا تتوقف النظرية الرأسمالية عن الرد.
والنتيجة ان اقرار النظام القضائي الرأسمالي بشرعية ( عقوبة الموت ) يناقض ادعاءاته القائلة ، بتخلف عقوبة القصاص في القرآن عن المنهج الحضاري الحديث والمتمثلة بقوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب ) (2) . فاذا كانت ( عقوبة الموت ) لا تتماشى مع المنهج الحضاري ، فلماذا ينفذها النظام بحق المنحرفين على أرضه ؟ واذا كانت ( عقوبة الموت ) أفضل وأقصر الطرق لبتر الجريمة الاحترافية ، فلماذا لا يقر بأسبقية القرآن الكريم في تشريعها والحث بكل قوة على تنفيذها ؟
____________
(1) ( اوستن تورك ) . الجريمة السياسية : التحدي والدفاع عن السلطة . بيفرلي ـ هيلز ، كاليفورنيا : سيغ ، 1982 م.
(2) البقرة : 179.

( 88 )

الاضطراب العقلي

وبطبيعة الحال ، فان فهم معنى الاضطراب العقلي مهم للغاية في ادراك ابعاد الانحراف ، باعبتاره عجزاً في قابلية الفرد على التمييز بين الحقيقة والخيال . فالمضطرب عقلياً ينتهك العرف الاجتماعي من خلال تصرفاته التي يختلط فيها الوهم بالحقيقة ، والسراب بالواقع ، والخوف بالامان ، والافكار المجزئة التي لا يجمعها رابط بالافكار الطبيعية المتصل بعضها بالآخر . ولذلك فان أكثر الاضطرابات العقلية انتشاراً هي الاضطرابات الناشئة عن انفصام شخصية الفرد مع الحقيقة والواقع الخارجي . ويربط علماء الطب هذه الاضطرابات باختلال الهرمونات في الجسم الانساني وما يصاحب ذلك من اضطرابات نفسية وتفاعلات عاطفية تنتهي بالانسان الى فهم الواقع فهماً مغايراً لفهم بقية الافراد (1) . ومنهم من يعتبر الاضطراب العقلي أو الجنون وسيلة ناقصة لدى الفرد للتعامل مع العالم الخارجي (2) . فالمضطربون عقلياً يفشلون في التعامل مع اجواء المجتمع المحيطة بهم ، فيلجأون في النهاية الى التعامل مع انفسهم وندبها على عدم فهم الواقع . فتراهم يتحدثون معها على مرأى من الملأ ، ويضحكون
____________
(1) ( وليام كوكرهام ) . علم اجتماع الاضطراب العقلي . انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1981 م.
(2) ( وليام ايتون ) . علم اجتماع الاضطرابات العقلية . نيويورك : بريكر ، 1980 م.

( 89 )

ويتبسمون لطرائف لم يلتفت اليها الآخرون ، وهم بذلك يحيدون عن العرف الاجتماعي فيوصمون بالجنون.
ولذلك فان وصم الطبقة الحاكمة ـ على مر التاريخ ـ للانبياء والرسل (ع) بالاضطراب العقلي كان من أهم الاساليب التي استخدمت لربط الجنون بالانحراف ، وبالنتيجة إبعاد الافراد عن الايمان بالعقائد التي حملها الرسل والانبياء (ع) اليهم . وقد ورد الى ما يشير الى ذلك في الكتاب المجيد : ( وقالوا يا ايها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) (1) ، ( ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ) (2) ، ( ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) (3) ، ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) (4).
ولكن الجنون الحقيقي ما هو الا وليد الحاجة الانسانية التي لم يشبعها النظام الاجتماعي . فالفقر هو من أهم عوامل نشوء الاضطراب العقل في المجتمعات التي تحكمها انظمة ظالمة . والفقر ليس حاجة مادية فحسب ، بل حاجة نفسية ايضاً ؛ لانه يمس كرامة الانسان ، ويحط من قدره ، ويشعره بظلم النظام الاجتماعي . وهذه العوامل مجتمعة تساهم في رسم شكل الانحراف وتحدد مسيرته.
ولاشك ان من مصلحة النظام السياسي الظالم وصم الفقراء بالاضطرابات العقلية ؛ لأن في ذلك عزلاً لهم عن الساحة السياسية ،
____________
(1) الحجر : 6.
(2) الصافات : 36.
(3) الدخان : 14.
(4) الذاريات : 52.

( 90 )

وبالتالي حرمانهم من الخيرات الاقتصادية التي ينبغي ان ينعم بها افراد المجتمع كلياً بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية . فالمضطرب عقلياً ، لا يستطيع المشاركة في نشاطات المجتمع السياسية والاجتماعية فضلاً عن قيادة الافراد . وهذا الإبعاد المقصود للفقراء عن الساحة السياسية ، يعطي الطبقة الرأسمالية الظالمة فرصة عظيمة في السيطرة على شؤون النظام الاجتماعي وتحطيم المعارضة السياسية الحقيقية.


( 91 )

الاسلام والتأثيرات الاجتماعية للانحراف

ولاريب ان تساؤل رواد القضاء الغربي عن موجب الشدة والفورية في نظام العقوبات الاسلامي له منشأ نابع من احساسهم بفشل نظام العقوبات الذي يطبقه ذلك القضاء . فالزعم بأن القصاص في القتل والجرح والقطع والجلد ، عقوبات في غاية القسوة مقارنة بنظام السجون الذي اقره القضاء الغربي كعقوبة عادلة لجرائم القتل والسرقة والاعتداء والاغتصاب ، زعم فيه الكثير من المغالطات ؛ لأن فشل القضاء الرأسمالي الغربي في تصحيح الانحراف وإبعاد الجريمة عن النظام الاجتماعي ، وضع الكثير من المفكرين والمقننين الغربيين على حافة السقوط في احضان الفكرة القائلة بأن اجتثاث جذور الجريمة من المجتمع الانساني لايتم الا عن طريق استخدام أقسى العقوبات الجسدية بالمنحرفين . ولكنهم عادوا وقالوا بأن قسوة العقوبات في الاحكام الجنائية ، تتنافى مع تطلعات العالم المتحضر في النظر للانسان باعتباره كائناً متميزاً يحق له العيش في الحياة الطبيعية ، حتى لو كان مجرماً منحرفاً عن الخط الاجتماعي العام (1) . وهذه النظرة الرحيمة تجاه الاجرام تعتبر ظلماً للضحية واجحافاً بحقها في الاقتصاص والمماثلة والتعويض.
ومع ان الاسلام ينظر الى الانحراف باعتباره اعوجاجاً يتوجب
____________
(1) ( ادوين شور ) . سياسة الانحراف . انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1980 م.

( 92 )

علاجه وتعديله ، ويوجب على الحاكم الشرعي استرداد الحق وارجاعه الى أهله وذويه ، الا ان التشريع الاسلامي أراد بالقصاص والحدود ودفع الديات ، تثبيت النظام الاجتماعي ونشر فكرة العدالة والامان في ربوع الوطن الاسلامي ؛ لأن تأثيرات الانحراف السلبية على المجتمع وافراده ، تسبب نخراً مستمراً وتهديماً اساسياً لاصول النظام الاجتماعي . وحتى نفهم الصورة الحقيقية للانحراف الاجتماعي وتأثيره المستمر على المجتمع الانساني لابد من ادراج هذه السلبيات المتمثلة بالحقائق التالية :
الحقيقة الاولى : ان من سلبيات الانحراف ارباك النظام الاجتماعي ؛ فانتشار عمليات القتل والسرقة والغصب والاعتداء على أعراض الناس يجعل الحياة الاجتماعية الرغيدة امراً صعب المنال ، ويحمل الحياة اليومية الكثير من المفاجآت . فكما ان العامل المشاغب في مصنع آلي يستطيع ارباك الانتاج ، والطبيب المجنون في مستشفى للاطفال يستطيع خلخلة النظام الطبي ، والمعلم المستهتر بقيم العلم يستطيع ارباك اذهان الطلبة ، كذلك يفعل الانحراف في المجتمع الانساني من خلال ارباكه لتوجه الافراد وتطلعهم نحو حياة مستقرة هادئة.
الحقيقة الثانية : ومن سلبياته ايضاً ارباك النظام الاخلاقي . فان انتشار الانحراف وانعدام السيطرة الاجتماعية عليه بنظام أو قانون ، يفتح الباب امام الافراد بتجاوز الخط الذي يفصل بين الحق والباطل ، خصوصاً اذا كان نظام العقوبات متساهلاً مع المنحرفين . فاذا كان الانحراف يمثل حصيلة شريحة اجتماعية صغيرة العدد اليوم مع قانون متساهل ، فان الغد


( 93 )

سيجلب منحرفين جدد ، الى ان يعم ذلك الانحراف جميع اطراف النظام الاجتماعي.
الحقيقة الثالثة : ان من سلبيات الانحراف استهلاك مصادر وطاقات بشرية نافعة لو لم تستخدم للسيطرة على الجريمة ، لاستخدمت في مجال آخر لمنفعة الافراد . خذ على سبيل المثال النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة ، فانه يصرف يومياً مبالغ مالية طائلة على اطعام ورعاية ثلاثة ملايين سجين ارتكبوا جرائم مختلفة لعزلهم عن الاختلاط بالمجتمع الكبير (1) . ومع ان هؤلاء السجناء قد اخرجوا عن ساحة العمل الانتاجية ، الا ان الدولة مكلفة باعاشتهم ومراقبتهم وتقديم العلاج الطبي لهم ، وهذا يكلفها كمية هائلة من الطاقات الانتاجية والبشرية.
الحقيقة الرابعة : ومن سلبيات الانحراف زوال الثقة بين الافراد . والتعامل التجاري والتعليمي والثقافي عموماً مبني على اساس الثقة ؛ فالفرد يستأجر سيارة للانتقال من مكان الى آخر باعتقاد ان السائق سيوصله الى المكان المعين لقاء اجرة معينة ، فاذا تبين ان السائق مجرم محترف هدفه سرقة المستأجر ، انهدمت الثقة بين المتسأجرين والمؤجرين . ومثال آخر ان الافراد يودعون اموالهم في المصارف فاذا تبين ان اصحاب المصارف لا يؤتمنون على أموال الناس انعدمت الثقة بين المودعين والبنوك التجارية . ويضع الناس كذلك ثقتهم بالنظام السياسي فاذا تبين خيانة افراد النظام لحقوق الناس زالت الثقة بين الحاكم والمحكوم . وانعدام الثقة هذا يكلف
____________
(1) ( جاك جيبز ) . الجريمة ، العقاب ، والردع . نيويورك : السفاير ، 1975 م.

( 94 )

النظام الاجتماعي والاقتصادي اموالاً طائلة ، بل ان انعدام الثقة بين المتعاقدين من أفراد المجتمع يؤدي في النهاية الى تخريب النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمجتمع الانساني.
وحتى نفهم الصورة المشرقة للعلاج الاسلامي وتأثيره الايجابي في بناء النظام الاجتماعي الخالي من الانحراف ، لابد من ادراج ايجابيات نظام العقوبات الاسلامي بالنقاط التالية :
اولاً : فعلى صعيد استقرار النظام الاجتماعي فان فورية التعامل مع الانحراف يبعد الحياة الاجتماعية عن المفاجآت المحزنة التي تجلبها جرائم الاعتداء والقتل والسرقة ، فيستطيع الفرد ان يعيش ويحيا في مجتمع تظلله شمس الامان والحرية والسلام.
ثانياً : وعلى صعيد نظافة النظام الاجتماعي ، فان الاسلام يحاول اجتثاث الامراض الاجتماعية من الجذور ، فيرجم المنحرف خلقياً كالزاني المحصن ، ويجلد الزاني الأعزب ، والقاذف والسكران . فيتأدب أفراد المجتمع بآداب الاسلام ، الى حد انه يأمرهم بأن لا يخرجوا من أفواههم كلمة نابية ، أو يتهموا انساناً بريئاً ، أو يجرحوا شعور فرد ما . فيكون من نتائج تطبيق هذا النظام على المجتمع الشعور بالطمأنينة والامان ، وازدياد المحبة والتعاون بين الناس ، وازدياد الطاقة الانتاجية للافراد في المجتمع الكبير.
ثالثاً : وعلى صعيد المصادر والطاقات البشرية فان الاسلام يستثمرها بأكمل الوجوه فلا يحتاج المجتمع الاسلامي إلا لعدد ضئيل من أفراد الشرطة ، وعدد أقل من السجون ، لأن العقوبات رادعة والنتيجة الايجابية


( 95 )

متوقعة بكل تأكيد . فلو سرق فرد وقطعت يده علناً امام الناس ، ترى من يتجرأ على ارتكاب نفس الانحراف مرة اخرى ؟ هذا اذا ما علمنا ان من مسؤولية الدولة اشباع حاجات الناس الاساسية ، وان لها الحق في التدخل بما يضمن ذلك ، حتى ان المنحرف المعاقب بأحكام الشريعة الاسلامية يعتبر أكثر انتاجاً من المنحرف المعاقب في السجون الغربية . فالسارق المحدود بحد السرقة يستطيع ان يعمل وينتج ويحيا حياته الطبيعية ويتوب الى الله ويرجع الى الحياة الاجتماعية كفرد طاهر من ذنوب الانحراف ، الذي كان لابد من معالجته . اما المنحرف المسجون في النظام الغربي الرأسمالي فهو مصدر من مصادر الاجرام والشقاء ، لأن السجن لا يؤدب المنحرف بل يزيده حقداً وغضباً على النظام الاجتماعي.
رابعاً : وعلى صعيد الثقة بين أفراد المجتمع ، فان النظام الاسلام بتشريعاته الدقيقة جعل الثقة محور كل النشاطات الاجتماعية . فالثقة المتبادلة بين أفراد العائلة والجيران والقرابة وابناء الحي وأبناء المدينة وأبناء الدين الواحد والدولة الواحدة ، يرجع فضلها بالاصل الى نظام العقوبات . واطمئنان الفرد في المجتمع الاسلامي يرجع بالاساس الى اطمئنانه على نفسه وماله وعرضه . فالمسلم يعلم ان العقوبة في النفس والمال والعرض صارمة الى حد انها تردع الآخرين عن مجرد التفكير بالقيام بالانحراف . وهذه الثقة المتبادلة بين الافراد تجعل المجتمع الاسلامي من أكثر المجتمعات البشرية انتاجاً وأكثرها ثراءً . وان الحرية التي يزعم النظام الرأسمالي منحها لافراده لا تنهض الى مستوى الحرية التي يمنحها الاسلام لافراد الدولة


( 96 )

الاسلامية . فأية حرية أعظم من اطمئنان الفرد على نفسه وماله وعرضه ينتقل متى شاء ، ويتحدث بما شاء ضمن حدود الأدب الاسلامي ، ويستثمر ماله انى شاء ، وهو يعلم انه لا يخاف على مال يسرق أو نفس تقتل أو عرض يهتك ، فأية حرية أعظم من هذه ؟ ولاشك اننا لو طبقنا التشريع الاسلامي على البشرية جميعاً بكل الوانها واشكالها ، لما جاع فقير ، وما هدر حق ، وما انتصر باطل ، لأنه دين الاعتدال والمساواة ، ونظام الحق والعدالة الاجتماعية.