الفصل الثالث
النظام التعليمي في النظرية القرآنية

دور العقل في عملية التحصيل * نظرية التعليم في القرآن * ( المدرسة ) في النظام الاجتماعي * التعليم والعدالة الاجتماعية في القرآن * فلسفة ( التعليم ) في النظريات الغربية ونقدها *


( 98 )



( 99 )

دور العقل في عملية التحصيل

ان الاسلام يمجد العقل لا باعتباره أداةً لاستيعاب المعلومات وخزنها ثم استرجاعها وتحليلها فحسب ، بل يعتبره أهم أداة لمعرفة الخالق عز وجل ؛ ولولاه لأصبح الانسان حيواناً بهيمياً آخر لا يعي من واقعه الاجتماعي شيئاً ولا يهتم بأمر مثل اهتمامه بغرائزه الحيوانية.
ولكن العقل البشري بدل المعادلة الحيوانية وقلبها لصالح الانسان ، فأصبح هذا الكائن الكريم بحكم عقله مكلفاً بالمسؤوليات الشرعية ومحاسباً عليها . ولعل اشد الآيات القرآنية وقعاً وأوجعها على الجهلاء من الناس ، قوله تعالى : ( ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) (1) . فأصبح العقل الحجة التي يحتج بها الله على المكلف يوم القيامة ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) (2).
ولما كان العقل هو البنية التحتية للتفكير الانساني ، أصبح العلم البناء الفوقي الذي يساهم بشكل فعال في تقوية سلطات العقل وقوته المنطقية والتحليلية . فالحقيقة العلمية اليقينية ، يعتبرها الفقهاء شيئاً قطعياً ، والتنكر لها تنكر للعقل نفسه . وأعظم دليل على ذلك ان أكثر الناس خشية للـه
____________
(1) الانفال : 22.
(2) الحجر : 92 ـ 93.

( 100 )

سبحانه العلماء العارفون بأسرار الكون والحياة والخلق ؛ لأن الجاهل بأسرار الكون والخلق جاهل بعظمة الخالق . والسر في ذلك ان العلم بطبيعة المخلوقات يستوجب علماً بطبيعة الخالق ، وقد جاء في النص المجيد ما يشير الى ذلك : ( انما يخشى الله من عباده العلماء ) (1).
ولكي يدرك العقل ويستوعب المعارف والمعلومات التي ينتفع بها ، فلابد للفرد من الاجتهاد في تنمية قوة ادراك ذلك الجهاز العظيم لمفاهيم الخير والشر ، والتمييز بينهما عن طريق علوم الطبيعة والدين والاخلاق وما يتعلق بهما من معارف وغايات . فحينما يحاول العقل انشاء العلوم النافعة للانسان في حياته العملية ، فانه يستخدم طاقته الجبارة لانشاء نظرية معاشية تدله على تعلم العلوم التطبيقية كي تدر عليه شتى أنواع المنافع ، وتيسر له سبل العيش الانساني الكريم ، كعلوم الزراعة والصناعة والطب والهندسة والفضاء . ولاشك ان ترجمة الافكار التي ينشئها العقل ويحاول تطويرها وتنميتها لابد ان تتم عن طريق خاص يشترك في فهمه وممارسته جميع الافراد في النظام الاجتماعي ، الا وهو النطق.
فيتميز تحصيل العقل وترجمة الافكار التي يحملها بالنطق ؛ فالانسان كيان ناطق ، وهذا النطق الذي يمثل رمز التفاهم بين الناس يميز هذا الكائن المفكر عن غيره من العجماوات . وبطبيعة الحال ، فان علوم اللغة وما يتفرع عنها من معارف وحقول ، تمثل قابلية العقل على ترجمة الافكار الخافية الى رموز مسموعة تستفيد منها الانسانية في تعاملها الاجتماعي جيلاً بعد جيل .
____________
(1) فاطر : 28.

( 101 )

ولاشك ان استعداد النفس لتحصيل النظريات والفرضيات ، يساهم في تطوير العلوم التي تخدم مصلحة الانسان . فلو أراد العالم التجريبي وضع نظرية تتناول حركة الالكترونات في الذرة مثلاً ، فما عليه الا ان يفترض افتراضاً نظرياً يتناول فيه حركة تلك الشحنات ، ويفصلها تفصيلاً نظرياً ، ثم يقوم بعد ذلك بتجارب خاصة لإثبات صحة فرضيته ؛ فاذا تم له ذلك بالتجربة والخطأ تطورت فرضيته القائمة على مجرد الظن الى نظرية قائمة على اساس ثبوت الحقائق . وهذا الاستعداد النفسي في انشاء الافتراض وتحصيل النظرية يرفع العلم التجريبي من المستوى النظري الى مستوىً عالٍ من الدقة التجريبية والمهارة والاتقان.
والمحصل استقراءً ان الانسان العاقل المدرك يحتاج في حياته العملية الى أربعة اصناف من العلوم حتى يستطيع ان يكون عضواً نافعاً فعالاً في النظام الاجتماعي ؛ الاول : علوم اللغة وما يتعلق بها من معارف ، لانها تعتبر عنصراً اساسياً من عناصر حفظ الاجتماع الانساني وتنميته ؛ فعن طريقها يتم التفاهم والاتصال بين الافراد في النظام الاجتماعي . الثاني : علوم الدين والاخلاق وما يتعلق بهما من معارف ؛ وهذا الصنف اساسي في استقرار النظام الاجتماعي ونشر العدالة الاجتماعية بين الافراد . الثالث : العلوم النظرية ، وهي النظريات والفرضيات التي يحتاجها الانسان كقاعدة يبني عليها بناءه العلوي في العلوم التجريبية . الرابع : العلوم التطبيقية ، وهي ثمرة العلوم الطبيعية التي يعتصر الفرد بواسطتها كل ما يتمكن اعتصاره من خيرات الارض ، وبشكل يمكنه من توفير وتيسير سبل العيش لكل افراد


( 102 )

المجتمع الانساني.
وقد أكدت النصوص الشرعية على حاجة الانسان الى تلك العلوم والى ضرورة تعلمها ، من أجل المصلحة الاجتماعية . فعلى مستوى الصنف الاول ، ورد قوله تعالى : ( انا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ) (1) . وفي رواية عن الامام جعفر بن محمد (ع) انه قال : ( تعلموا العربية فانها كلام الله الذي يكلم به خلقه ) (2) . وعلى مستوى الصنف الثاني ، ورد في وصية الامام أمير المؤمنين لابنه الحسن ( عليهما السلام ) : ( وان أبدأك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله ، وشرائع الاسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه لا اجاوز ذلك بك الى غيره ) (3) ، ولعله اشارة الى قوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ) (4) . وعلى مستوى الصنف الثالث ورد قول الامام علي (ع) ايضاً : ( لا علم كالتفكير ... ) (5) ، الذي هو اشارة واضحة لقوله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ) (6) . وعلى مستوى الصنف الرابع ورد عن الامام جعفر الصادق (ع) ما يدعو الى التعليم المهني : ( فكل ما يتعلم العباد أو يعلمون غيرهم مثل صنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والتجارة ...
____________
(1) الزخرف : 3.
(2) البحار ج 1 ص 212.
(3) البحار ج 1 ص 19.
(4) التوبة : 122.
(5) البحار ج 1 ص 179.
(6) آل عمران : 191.

( 103 )

فحلال فعله وتعليمه والعمل به ) (1) . ولعل في الآية الشريفة : ( ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ) (2) ، تلميح الى العمل المهني الذي يقره الارتكاز العقلائي . والمستفاد من هذه النصوص الشرعية المساندة والمؤيدة ، بأن الاصل في العلوم الاجتماعية والتجريبية والدينية هو بناء النظام الاجتماعي وبناء الفرد بشكل يجعله مرتبطاً بالخالق سبحانه اولاً ، وقادراً على تأدية التكاليف الشرعية ثانياً ، وقادراً على اشباع حاجاته الاساسية ثالثاً.
وربما يستفاد من مقتضى نص قوله تعالى في خطاب النبي (ص) : ( وقل ربي زدني علماً ) (3) زيادة على ماقيل بأمر الله النبي (ص) بعدم التعجيل بقراءة القرآن وقت نزول الوحي ، ان الاسلام لم يقيد العلم بعلوم الدين بل أطلق عبارة العلم لتشمل كل العلوم التي تنفع الانسان في حياته العملية والدينية ؛ ومنها علوم الطب والتمريض والهندسة والفيزياء والكيمياء والفلك والتربة والجغرافية والتربية التي تساهم جميعاً في تيسير حياة الانسان لظهور النص القرآني اولاً ، وللنصوص الشرعية الاخرى التي تعضد هذا الرأي ، ثانياً.
____________
(1) تحف العقول ص 249.
(2) يس : 35.
(3) طه : 114.

( 104 )

نظرية التعليم في القرآن

وتتلخص هذه النظرية بفكرتين ؛ وهما : ( القراءة ) ، و( التسخير ) . فقد اختصر الاسلام نظريته في التعليم بأول كلمة وحي من الباري عز وجل نزلت على قلب الرسول العظيم محمد (ص) ، وهي كلمة : ( اقرأ ... ) . ومع ان هذه الجملة في الآية الكريمة تفيد خصوص القراءة للرسول (ص) الا ان مقتضاها أوسع من ذلك . فتوجيه صيغة الامر بالقراءة سيساعد المكلفين حتماً على فهم الاحكام الشرعية وتطبيقها ، ويساعدهم أيضاً على قراءة القرآن والتفكر في آياته العظيمة ، وعلى تنشيط عقولهم لتطوير الحياة الانسانية في مختلف مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية . وفي المشهور : ( اطلبوا العلم من المهد الى اللحد ) ، وقوله (ع) : ( ايها الناس اعلموا ان كمال الدين طلب العلم والعمل به ، وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ) (1) ، دلالة على ان طلب العلم والتفقه يشمل المسلمين عموماً ولا يختص بفئة دون اخرى . فكمال الدين اذن ـ حسب الرواية ـ والسمو في فهم الاحكام الشرعية وعللها ، لايتم الا عن طريق طلب العلم والاجتهاد في تحصيله . وبذلك ، فان الاسلام وضع العلم على سلم الحاجات البشرية التي ينبغي اشباعها.
____________
(1) الكافي ج 1 ص 35.

( 105 )

وليس هناك أدنى شك من ان الاعمال التي يقوم بها الفرد في حياته العملية تحتاج الى كمية من العلوم ، تقدرها المصلحة الاجتماعية . فالطب وتخطيط المدن وجمع الحطب مثلاً تحتاج الى علوم تتناول تلك الاختصاصات . فعلم التشريح والعقاقير والكيمياء يطور علم الطب ، ودراسة القياسات ومعرفة علم المساحة وتربة الأرض ومواد البناء تساعد في علم تخطيط المدن ، ودراسة الاشجار واخشابها وطريقة قطعها واسلوب نقلها يساعد الأفراد المهتمين بعملية جمع الحطب واستخدامه في عملية توليد الطاقة . وفي كل تلك الأمثلة يكون العلم الاختصاصي هو المحور والمدار في تطوير المهنة التي يقوم بها العامل المختص . وبطبيعة الحال ، فان الاختصاص ليس القطب الوحيد الذي عرضه الاسلام ضمن اهتمامه بالعلوم التطبيقية ، بل طرح فكرة التسخير أيضاً ، باعتبارها منهجاً عملياً للتفاعل الاجتماعي : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) (1) . وهي اشارة ـ كما ذكرنا سابقاً ـ الى ان النظام الاجتماعي لا يحيا الا عن طريق تسخير جهود الافراد الشخصية لخدمة بعضهم البعض في شتى المجالات الحياتية الضرورية للبقاء البشري على الأرض ، حيث تقوم العلوم التخصصية في عملية التسخير بدور العامل المساعد في تطوير تلك العملية وتسهيلها خدمة للنظام الاجتماعي العام وافراده . ولم تتوقف فكرة التسخير على الاعمال اليدوية والاعمال القائمة على الجهد الانساني العضلي ، بل تعدت الى الجهد العلمي والفكري الذي يقوم به الانسان . ومن
____________
(1) الزخرف : 32.

( 106 )

ذلك ، الجهد العلمي الذي يؤدي الى الاجتهاد في علوم الدين ، وبالخصوص الفقه والاصول . وعملية الاجتهاد هذه ، تعتبر جزءاً من نظرية التسخير ، فاجتهاد المجتهد وعلمه ينبغي ان يسخر كلياً لخدمة الامة ، بالتوافق مع حاجتها ، وبالتناسب مع طموحاتها في انشاء نظام اجتماعي سياسي ديني متكامل.
ولكن الحركة الاجتهادية في الفقه والاصول قاست في العصور الاسلامية الاولى انعزالاً سياسياً أدى الى تحديد الهدف الاجتماعي من التعليم . فبدلاً من تعميم مفهوم التعليم وجعله حقاً لكل فرد ، سعت السلطات السياسية الحاكمة الى الحفاظ على مستوى من الجهل والتخلف الفكري السائد بين الافراد آنذاك ، لأن السلطات كانت تشعر ان نشر العلم بين افراد الامة سيؤدي الى هز الكيان السياسي الظالم وتقويض أركانه . وكان من نتائج هذا الانعزال تقلص النظرة الاجتماعية للفقه الاسلامي ، وظهور الاتجاه الفقهي الذي يهتم بشؤون الفرد أكثر من اهتمامه بشؤون الامة . وانصب اهتمام الفقهاء بالحث على تحصيل العلوم الدينية المتمثلة بالفقه والاصول وعلوم الحديث واللغة والمنطق بالقلة المختارة من الافراد ، بينما أهمل تعليم الافراد عموماً ؛ بل ان الامة الاسلامية باتت على قسمين ، القسم الاول والأكبر سماهم الفقهاء بـ ( العوام من الناس ) وهم الذين لا يجيدون القراءة ، والثاني : وهم الطلبة والعلماء . وهذه التسمية في حد ذاتها تعطي انطباعاً ظاهرياً بان العلم في الاسلام انما وجد للخاصة فحسب ، وبقية الناس ينطبق عليهم اصطلاح العوام . وكأن التكليف الشرعي لا يحث


( 107 )

المكلف على طلب العلم والتحصيل ! ولانشك ان اللوم في هذا الفكر المتخلف يقع كلياً على السلطات السياسية المنحرفة التي حكمت الامة الاسلامية قروناً عديدة ، فسلبت من أيدي الفقهاء العدول كل أدوات السلطة التنفيذية ، وأرادت للامة الاسلامية ـ بجميع أفرادها ـ التخلف عن ركب العلم والحضارة ، حتى يتم لتلك الفئة المنحرفة السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بشكل تام . ولا يحمل اصطلاح الفقهاء هذا غير معنى الاختصاص ، فسمي الفقهاء ( علماءً ) لا ختصاصهم بعلمي الفقه والاصول ، وسمي غيرهم ( عواماً ) لجهلهم علمي الفقه والاصول . ويكفينا ، لفهم موقف الاسلام من العلم وضرورة التعلمي الجماعي للمسلمين ، ان نتذكر ما حصل في معركة بدر المظفرة من أمر الرسول (ص) باطلاق سراح أسرى المشركين ، شرط ان يعلم الاسير الواحد منهم عشرة مسلمين القراءة والكتابة.
ولاريب ان التأكيد على التعليم الجماعي كان قد ورد في أحاديث أهل البيت (ع) في القرن الاول الهجري . فالامام علي بن الحسين (ع) في رسالته الحقوقية يدعو بصراحة الى منح الافراد حق التعليم ، ويعلق هذا الحق بواجبات السلطة السياسية التي من مسؤوليتها بناء النظام الاجتماعي ، ويقول (ع) : ( واما حق رعيتك بالعلم ، فان تعلم ان الله قد جعلك لهم فيها آتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة ... فان أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله ) (1).
ولكن تحديد المسار التعليمي الذي تنتهجه الدولة لابد وان يكون
____________
(1) الخصال ج 2 ص 567.

( 108 )

مرتبطاً بخطة عامة ، يضعها متخصصون بشؤون التعليم ، تستهدف رفع المستوى الثقافي للامة الاسلامية . وهذا لايتم الا بتصميم نظام تعليمي مبني على منهج علمي يساند الدولة الاسلامية في كل توجهاتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية . فينبغي ان يكون من نتائج هذا التصميم انشاء نظام مدرسي عام يتعلم افراد النظام الاجتماعي من خلاله ، كل الفنون المتعلقة بالحياة الاجتماعية ؛ على ان يكون هذا النظام المدرسي قاعدة للانطلاق في شتى المجالات الحياتية المفترض ان يكون للمعلم فيها دور بناء وأرجو ان لا يختلط اصطلاح ( المدرسة العامة ونظامها ) المستخدم في هذا البحث ، بالمدارس الدينية حسب النظام المعمول به في الحوزات العلمية . بل المقصود من المدرسة العامة ، المؤسسة العلمية التي نشأت مع ظهور الدولة الحديثة وتولت تعليم الصغار اللغة والعقيدة والفقه والعلوم التجريبية حتى مرحلة البلوغ . والصغار هم كل أفراد النظام الاجتماعي دون سن البلوغ الذين يعيشون في تلك البقعة من الأرض ، ويطلق عليهم وعلى من سواهم اسم المجتمع الانساني.


( 109 )

( المدرسة ) في النظام الاجتماعي

ولما كان ايمان الاسلام بحق الفرد في التعليم ايماناً راسخاً ، نابعاً من مقتضى قوله تعالى : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (1) ، فإن تدخل الدولة في المجتمع الاسلامي بضرورة فرض التعليم الاجباري لحد المرحلةالمتوسطة يجب ان يكون امراً ارتكازياً وشرعياً ، للاسباب الثلاثة التالية : اولاً : لأن الفرد يعتبر قاصراً في سن الطفولة ؛ فعلى وليه الاهتمام بمصلحته العلمية . ثانياً : لما كان ولي أمر الامة ( الامام المعصوم أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة ) مسؤولاً عن بناء الدولة الاسلامية بناءً محكماً في المجال الاقتصادي والسياسي والعسكري ، وجب عليه تهيئة مقدمات بناء الدولة من خلال بناء الافراد علمياً وثقافياً قبل البلوغ ، ثالثاً : ان العلم بكل فروعه وألوانه يقرب المكلف من الله عز وجل ، ويجعله أكثر تطبيقاً للاحكام الشرعية وأكثر فهماً لدور الدين في النظام الاجتماعي.
وبطبيعة الحال ، فان التمييز بين الافراد في النظام التعليمي الاسلامي يجب ان يمحى اصلاً ؛ لأن ديناً كالاسلام يحاول تثبيت أسس العدالة الاجتماعية بقوة القانون ، لايمكن ابداً ان يحرم الافراد من حقوقهم
____________
(1) الزمر : 9.

( 110 )

المشروعة . فالتعليم حق مشروع لكل فرد ، والمساواة في تحصيله أصل من اصول العدالة الاجتماعية ، بل ان المساواة العامة التي أمر بها الاسلام في امتلاك الثروة واستثمارها في شتى مجالات الحياة العملية ، تعتبر دعماً حقيقياً للمساواة في نظام التعليم العام.
ولاشك ان المدرسة في المجتمع الاسلامي تساهم في تطوير النظام الاجتماعي ، من خلال نقل المعرفة الاسلامية والانسانية الى اذهان الطلبة من الجيل القديم الى الجيل الجديد ، ونشر الفكر الذي يوحد توجهات المجتمع ، وتطوير شخصيات هؤلاء التلاميذ الذين سيحملون مشعل المسؤولية مستقبلاً ، وتأهيلهم لتحمل التكليف الشرعي ، وتمرينهم على الاعمال التخصصية ، وتعليمهم قواعد النظام الاجتماعي التي تربط الاسرة وأفرادها بالمسجد والمدرسة والحكومة وساحة العمل المهني.
فعلى نطاق نقل المعرفة ، فان عملية التعليم لابد لها من الاستمرار عبر الاجيال المتعاقبة ، وهذا هو الذي يميز المجتمعات الانسانية عن غيرها من التجمعات الحيوانية . ففي كل حقبة زمنية تتراكم كمية هائلة من المعلومات الاجتماعية والتجريبية ، لابد وان تنقلها أيادي الجيل القديم الى نظائرهم من الجيل الجديد . وهذا الانتقال لايساهم في بقاء الحياة الانسانية في تطور مستمر فحسب ، بل يساهم في بقاء القيم الاخلاقية حية في الضمائر مهما طال زمن انتشارها . ولايمكن نقل هذه المعارف والافكار الانسانية الا عن طريق المدرسة والنظام التعليمي المعترف به اجتماعياً.
ولما كانت أرض الاسلام ساحة منسجمة تجمع الاقليات العرقية


( 111 )

المتعددة ، اصبح للمدرسة دوراً أعظم في توحيد توجهات أفراد المجتمع وتهذيب تطلعاتهم وآمالهم في حياة اسلامية رغيدة.
فلابد ان تدرس اللغة العربية الفصحى ومعارفها ـ باعتبارها لغة القرآن ـ لجميع أفراد الامة ، وكل ما يدرس في المدرسة العامة في النظام الاسلامي من علوم وتاريخ ودين يساهم في توحيد الدولة من الناحية الثقافية والسياسية والاجتماعية ؛ لأن عملية انصهار هذه العلوم في أذهان التلاميذ ستخلق منهم افراداً يملكون كل المؤهلات العلمية لبناء دولة علمية ، موحدة ، متطورة ، قائمة على أساس نظام اخلاقي وديني عظيم.
ولاشك ان دور المدرسة العامة في المجتمع الاسلامي لايتوقف عند معرفة اللغة وفهم العلوم التي تتعلق بها ، بل ان دورها يتعدى الى فهم دور الانسان في الحياة الاجتماعية ، وفهم علاقته بالكون والخالق ، وفهم الانسان لذاته من خلال العلوم الفلسفية والتطبيقية . ولابد لهذه المدرسة من فتح أبواب النقاش العلمي والنقد البناء ، فالرد على النظريات الفاسدة والآراء المنحرفة يوفر للطلبة فرصاً ثمينة لممارسة النقد البناء المستند على الاسس العلمية . بل ان المدرسة تستطيع ان تهيئ لطلابها جواً من العمل السياسي والاجتماعي ، حتى تؤهلهم لاحقاً لدخول المعترك الاجتماعي دون عراقيل .
ولابد لنا من معرفة حقيقة مهمة وهي ان المدرسة بكل تخصصاتها وفروعها العلمية والانسانية والمهنية ، انما هي ضمان لمستقبل الاسلام ، ونجاح التجربة الاسلامية في تكامل النظام الاجتماعي لقيادة البشرية المعذبة وايصالها الى شاطئ السلام . ولاشك ان المدارس والجامعات الاسلامية


( 112 )

ينبغي لها ان تساهم مساهمة فعالة في حل المشاكل العلمية والاجتماعية والاقتصادية التي يبتلي بها النظام الاجتماعي . فما فائدة المدرسة التي لاتساهم في التفاعل الاجتماعي ولا تفهم مشاكل الافراد ولا تحاول حلها ؟ ألم تكن الدراسات النظرية باباً من أبواب الدراسات التطبيقية وفرعاً من فروعها ؟ فما فائدة دراسة تركيب الذرة مالم تترجم هذه الدراسة الى تصنيع مواد كيميائية تنفعنا في التطبيب والتسميد والتنظيف ؟ وما فائدة دراسة الظواهر الاجتماعية والانحرافات مالم يوضع منهج واضح المعالم لترشيد توجهات المجتمع الاسلامي وطموحاته وآلامه ومشاعره ؟
واذا كانت النظرية السياسية الرأسمالية قد نجحت في فصل المدرسة عن الكنيسة في المناهج التعليمية ، وتركت للكنيسة تنصير الافراد وتعليمهم دينهم (1) ، فان النظام التعليمي الاسلامي ينبغي ان يؤسس في كل مدرسة مسجداً للصلاة ، وينبغي ان تندمج المدرسة بالمسجد اندماجاً حقيقياً يؤدي الى تهذيب المدرسة اخلاقياً ، والى رفد المسجد بالطاقات العلمية الشابة المؤهلة لا للعبادة والدعاء والتسبيح فحسب ، بل على أتم الاستعداد للدفاع عن الدين والوطن ، وحماية العقيدة بالعلم والسلاح.
____________
(1) ( جون كودلاند ) . مكان يسمى ( المدرسة ) : ابعاد مستقبلية . نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1984 م.

( 113 )

التعليم والعدالة الاجتماعية في القرآن

ولاشك ان اطلاق معاني العدالة الاجتماعية والقضائية في القرآن كقوله تعالى : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ) (1)، ( فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا ) (2) ، ( واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) (3) ، ( ان الله يأمر بالعدل والاحسان ) (4) ، يعكس شمولها لجميع المؤسسات الاجتماعية التي تهتم بشؤون الفرد ، لانها لم تقيد أو تخصص بمورد معين.
وتنعكس العدالة الاجتماعية التي نادى بها الاسلام وحث على تحقيقها بين جميع الافراد ، على النظام التعليمي بالخصوص . فبموجب الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشارع ، لابد للافراد القادرين من الناحية العقلية على التعلم وقطع اشواط المراحل الدراسية ، من المستوى الابتدائي وحتى المستوى التخصصي المهني أو العلمي . وفي المرحلة الاخيرة يلعب الجهد والذكاء دوراً أساسياً في مساعدة الافراد على حجز مقاعدهم الدراسية في الجامعات العلمية والأدبية والمعاهد الفنية . فالطلبة المتفوقون في العلوم البايولوجية والكيميائية يدخلون كليات الطب والعلوم المتعلقة بها.
____________
(1) المائدة : 8.
(2) النساء : 135.
(3) الانعام : 152.
(4) النحل : 90.

( 114 )

والطلبة المتفوقون في الرياضيات والعلوم الهندسية يدخلون كليات الهندسة والعلوم المتعلقة بها . والمتفوقون في الاجتماعيات يدخلون كليات العلوم الاجتماعية ، وهكذا . وهذا المقياس في حجز مقاعد الجامعات ، أعدل من مقياس الأنظمة الغربية التي تشترط العامل الطبقي ولون البشرة اساساً في دخول الجامعات العريقة كجامعات اكسفورد وكامبردج وهارفرد وييل وبرنستون (1) . فالنظام التعليمي الاسلامي يشجع الطالب الفقير على شق طريقه بنجاح الى أرقى الجامعات في الدولة بغض النظر عن لونه وطبقته الاجتماعية . بل يستطيع ان يتميز عن أقرانه الاغنياء ، لأن الفقر لايشغله عن التحصيل ، وهو على اطمئنان بأن عائلته المسحوقة سوف يعيلها النظام الاجتماعي أو الدولة عن طريق الحقوق الشرعية . فلا يصرفه الفقر ـ عندئذٍ ـ عن الدرس ، ولا تجبره حاجة العائلة الاساسية على ترك التحصيل . واذا ما ظهرت بوادر انحلال النظام الطبقي خلال مراحل التعليم ، أصبحت فرص انتعاش النظام الاجتماعي أوسع ؛ وأصبح المقياس في تسيير شؤون النظام الاجتماعي و الجهد والكفاءة والذكاء . ولا يختلف اثنان على ان الذكاء قدرة علمية تحصيلية تتواجد عند الفقراء كما تتواجد عند الاغنياء.
ومع ان الاسلام يقدم نظاماً عادلاً في توفير الفرص التعليمية لكل القادرين على التحصيل ، الا انه لاينكر وجود التفاوت في قابليات الفهم والادراك والابداع لدى الفراد . فالافراد عموماً متفاوتون في مستوى
____________
(1) ( جون ليولين ) وآخرون . الذكاء واختلاف الاعراق . سان فرانسسكو : فريمان ، 1975 م.

( 115 )

فهمهم العلمي وابداعهم وانتاجهم . ولما كانت هذه القابليات متفاوتة ، فان المكافأة على الجهد المبذول يجب ان تتفاوت حتماً من فرد الى آخر . ولكن هذا التفاوت في الاجور ينبغي ان لا يخلق طبقات اجتماعية متفاوتة ، بل طبقة واحدة مختلفة الدرجات . وهذا النظام التعليمي الرائع يضمن قضيتين اساسيتين ؛ الاولى : تنشيط فرص الابداع لكل فرد ، والثانية : العدالة الاجتماعية لكل الافراد . فلا يستطيع الذكي مهما أوتي من قوة عقلية ان ينشئ طبقة متميزة به عن الآخرين ، تماماً كما لا يستطيع الثري مهما أوتي من قوة مالية انشاء طبقة متميزة به وبأقرانه ، لأن ذلك يدعو الى الظلم الذي يرفضه الاسلام.
ولم يدع الاسلام الى جعل التعليم مطية رغبات طبقة دون اخرى لتحقيق التسلط على القوة السياسية ، وكسب الثروة ، وتحقيق الرفعة الاجتماعية ؛ بل اراد من التعليم فهم الانسان موقعه في الحياة الاجتماعية ، ومعرفة دور الدين في بناء النظام الاجتماعي لتحقيق سعادة الفرد وتثبيت أسس العدالة الاجتماعية . ولما كان العلم شريفاً في نفسه ، فان الشارع حث جميع الافراد على تحصيل المقدار المتميز منه ، كي يمنح الانسان فسحة للتفكير في موقعه الاجتماعي الحياتي وموقعه في الكون ، وما يترتب على ذلك من معارف ربانية توصله الى معرفة خالقه وصانعه العظيم ، وتحثه على تعلم الفنون والخبرات بشتى الوانها بما ينفع النظام الاجتماعي وافراده . ولاشك ان نظاماً تعليمياً كهذا لا يمنح امتيازاً لفرد دون آخر ؛ لأن عدالة نظام الاجور في الاسلام هي صمام الامان الذي يمنع بموجبه نشوء نظام طبقي


( 116 )

مشابه للنظام الطبقي الرأسمالي . ولما كانت الدولة في المجتمع الاسلامي مسؤولة عن رعاية الافراد وحمايتهم والاهتمام بهم ، فان لها الحق في تحديد الاجور وتعيين الحد الأدنى والحد الاعلى للمكافآت الاجتماعية : على عكس الفكرة الغريبة الرأسمالية التي تعين حداً أدنى للاجور ولكنها لا تضع علامة للحد الاعلى (1) ، مما يفسح المجال لنمو الطبقة الرأسمالية الظالمة المتحكمة بشؤون المجتمع والسلطة السياسية واستفحالها.
والخلاصة ، ان الاسلام لايقر نظام تكافؤ الفرص فحسب ، بل يهيئ الافراد تهيئة شاملة للمنافسة العلمية القائمة على اساس الجهد والذكاء . فيزيل اولاً كل اسباب التعويق الاجتماعي لطلب العلم من فقر وعدم اشباع الحاجات الاساسية ، فيأخذ حقوق الفقراء ويرجعها اليهم ، ويلغي النظام الطبقي العائلي ، ويشبع حاجات الافراد جميعاً ويوفر لهم مستوىً واحداً من التعليم الابتدائي والثانوي لا يختلف فيه الفقير عن الغني . ثم يضع هؤلاء المتسابقين في ميدان العلم على خط البداية ، ويهتف بهم : تسابقوا على بذل الجهد ، فان سبق أحدكم الآخر فانما يفوز بجهده وقابلياته . والاسلام بهذا النظام الرائع لايثبت عدالته الاجتماعية بين الافراد فحسب ، بل يبرز نظامه المنسجم مع طبيعة الحياة الانسانية التي خلقها الباري عز وجل ، ويربطها بالنظام التكويني المبني على اساس الدقة والتنظيم والعدل . ولاريب ان هذا النظام العادل يقف موقفاً معارضاً للنظام الرأسمالي الذي يزج بالمتسابقين في
____________
(1) ( كريستوفر جنكز ) وآخرون . من الذي يسبق ؟ العوامل الحاسمة في النجاح الاقتصادي في امريكا . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1979 م.

( 117 )

ميدان العلم غاضاً نظره عن المعوقات الاجتماعية التي وضعها للبعض منذ البداية ، كتراكم الثروة لدى طبقة وحرمان الطبقات الاخرى ، وتسليح الاغنياء بأفضل النظام العلمية وحرمان الفقراء منها ، وحصر الجامعات الراقية بالنخبة من أفراد الطبقة الرأسمالية من خلال رسم مستقبل مشرق لهم وهم في مهد الطفولة (1).
ويتبين لنا من كل ذلك ان النظام الاسلامي في التعليم ـ بلحاظ الاطار الاخلاقي للكتاب المجيد وروايات اهل البيت (ع) ـ هو من أعدل الانظمة التعليمية في العالم.
____________
(1) ( راندال كولينز ) . المجتمع الاعتمادي : لمحة تاريخية عن علم اجتماع التعليم وانعدام العدالة الاجتماعية . نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، 1979 م.

( 118 )

فلسفة التعليم في النظريات الغربية ونقدها

وتتناول ( النظرية التوفيقية ) أهم الأركان التي تبتني عليها ( المدرسة ) في النظام التعليمي . فهذه النظرية تؤمن بأن المدرسة والنظام التعليمي المشرف عليها تحفظ روحية النظام الاجتماعي الحضارية من خلال نقل معتقدات الآباء الى ابنائهم ، ونشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع ، وتطوير شخصيات الافراد ، وتأهيلهم للعمل التخصصي ، واثراء الثقافة الاجتماعية ، وتعلمي الافراد اطاعة السلطة السياسية (1).
فعلى صعيد نقل معتقدات الآباء الى ابنائهم ، فان هذه النظرية تؤمن بأن المجتمع لا يمكن ان يحيا حياة اجتماعية طبيعية دون ان تنتقل الثقافة والمعرفة من الجيل السابق الى الجيل اللاحق . فالمدرسة تغذي افراد المجتمع بشتى أنواع العلوم والمهارات والقيم ، التي يعتبرها النظام الاجتماعي من الأولويات الاساسية لبقائه ووجوده الحضاري . فتعلم لغة الوطن التي يتفاهم بها الفرد مع اقرانه ، وجغرافية الدولة التي يعيش فيها ، وتركيبتها السكانية والعرقية تعتبر من أهم مكاسب النظام التعليمي ؛ حيث تنعكس فوائدها على النظام الاجتماعي كلياً . وربما يعتبر الدفاع عن الدولة والنظام السياسي من أهم ثمار شجرة التعليم.
____________
(1) ( الكسندر آستن ) . الوصول الى الامتياز التعليمي . سان فرانسسكو : بوسى ـ باس ، 1985 م.

( 119 )

وعلى صعيد نشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع الفكرية ، فان المجتمعات الانسانية على الاغلب ، تتركب من أقليات عرقية ودينية متعددة تسكن ارضاً واحدة . فلايمكن توحيد توجهات هذه الأقليات مالم يتم صهرها تحت سقف نظام تعليمي واحد يستخدم لغة واحدة.
وعلى صعيد تطوير شخصية الفرد ، فان المدرسة تمنح الافراد فرصة تعلم المهارات المهنية التي تؤهلهم للاشتغال والاكتساب في مستقبل حياتهم ، حيث تساهم هذه المدرسة في منح الافراد فرصة استخدام ما منحهم الخالق عز وجل من نعمة التفكير وطاقة كامنة للإبداع والتطوير. ولكن المدرسة لا تضمن تخريج افراد مثقفين بل انها تسعى لتفتيح عقولهم اليافعة كما يساهم نسيم الربيع في تفتيح براعم الازهار ... وذلك من خلال مساهمتها في تعريف الفرد بنفسه وبالعالم المحيط به.
وعلى صعيد تأهيل الافراد للعمل التخصصي ، تساهم المدرسة في ضمان مستقبل الفرد المهني ورفد النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالمتخصصين في مختلف الحقول التي تحتاجها ، فتضبط المدارس المتخصصة ـ كالطلب والتمريض والهندسة والكيمياء ونحوها ـ عدد الطلبة الذين يحتاجهم المجتمع حتى لايحصل الاضطراب الفني بتراكم الطلبة على اختصاص دون غيره.
وعلى صعيد اثراء الثقافة الاجتماعية والعلمية ، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل اساسي في زيادة المعرفة البشرية حول الحياة


( 120 )

والكون والانسان ؛ وتساعد الطالب على فهم تاريخه الانساني وحضارته ومجتمعه ؛ وتفتح باباً للنقاش العلمي والنقد البناء ؛ وتعطي الاساتذة والباحثين فرصاً واسعة لانجاز مختلف البحوث العلمية في شتى المعارف البشرية . وتعتبر الجامعات أعمدة البحوث العلمية النظرية التي تساهم في وضع الفرضيات والنظريات واقامة البراهين والادلة على صحة أو فساد فرضيات أو نظريات اخرى أنشأها علماء طبيعيون آخرون . ولما كانت الفكرة الرأسمالية تؤمن بتطوير منتوجاتها الصناعية بشكل مستمر حتى تجد اسواقاً دائمية لاستهلاكها ، أصبحت الجامعات التجريبية الغربية العقل الرئيسي للمؤسسات الصناعية الرأسمالية العملاقة (1).
وعلى صعيد حقن الافراد بأفكار تمجد بأهمية النظام والسلطة السياسية ، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل فعال في ترسيخ فكرة النظام الاجتماعي وضرورة احترامه ، وأهمية السلطة السياسية واحترام القانون ، ووجوب الامتثال امام المحاكمة القضائية اذا طلب ذلك . وبالجملة ، فان المدرسة تنشئ اعتقاداً لدى الفرد بأن النظام السياسي انما صمم اساساً لخدمة افراد المجتمع جميعاً ؛ فلهم الحقوق التي أقرها القانون وعليهم الواجبات التي كلفهم بها النظام الاجتماعي.
ولاشك ان النظرية التوفيقية تطرح بديهيات النظرية التعليمية دون ان تتطرق الى دور الطبقات الاجتماعية المتصارعة في استخدام النظام التعليمي كمطية لتيسير عملية مسك زمام السلطة ، وكسب الثروة ، وتحقيق
____________
(1) ( هربرت هيمان ) وآخرون . التأثيرات الثابتة للتعليم . شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو : 1975 م.

( 121 )

الرفعة الاجتماعية . بمعنى ان النظرية التوفيقية تتجاهل الحقائق التي تدين النظام التعليمي في الدولة الرأسمالية ، خصوصاً فيما يتعلق بطبيعة التعليم وتصميم المناهج الدراسية . وتمضي هذه النظرية ، ممارسات النظام التعليمي الامريكي في القرنين الماضيين بخصوص حرمان الزنوج والهنود الحمر من حق التعليم (1) ؛ وهو تناقض واضح في مبتنيات تلك النظرية ، لأن التعلمي المبني على الاساس الطبقي والتمييزي لايوحد المجتمع على الصعيدين الثقافي والتاريخي ، كما تزعم تلك النظرية.
وقد تولت نظرية الصراع الاجتماعي نقد هذه النظرية التوفيقية وكشف افلاسها الفكري ، فقالت بأن التعليم عنصر مهم في وضع الفرد الطبقي ، لأن الفرد المتعلم يستطيع ان يحتل موقعاً أعلى في السلم الاجتماعي من خلال وظيفته التي تحتاج الى كمية معينة من العلوم والاختصاصات (2) . فالطبيب والمهندس مثلاً ، يحتلان موقعاً اجتماعياً أرفع من ذلك الذي يحتله العامل غير الماهر.
ولاشك ان الآباء الاغنياء من الطبقة العليا ينظرون الى مستقبل ابنائهم نظرة خاصة تضمن لهم الوصول الى الطبقة المسيطرة . ولذلك ، فانهم يمهدون لهم طرقاً خاصة لتحقيق احلامهم . ففي النظام التعليمي البريطاني مثلاً ، يدخل ابناء الطبقة الرأسمالية المدارس الخاصة المعدودة المسماة
____________
(1) ( ريجنالد كلارك ) . الحياة العائلية والتحصيل المدرسي . شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، 1983 م.
(2) ( كارل ماركس ) . المخطوطات الاقتصادية والسياسية لعام 1844 م . نيويورك : الناشرون الدوليون ، 1964 م.

( 122 )

بمدارس ( القواعد النحوية ) ، التي تضمن لخريجيها مستقبلاً سياسياً مشرقاً وعضوية دائمة في الطبقة الثرية . وفي روسيا ، يدخل ابناء الوزراء واعضاء الحزب الشيوعي المسيطرين على النظام السياسي لفترة قريبة ، مدارس خاصة بابناء الطبقة العليا . وفي امريكا تتلون المدارس التعليمية بلون الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها الفرد.
وتتهم نظرية الصراع ، الطبقة الرأسمالية بتكريس النظام التعليمي الطبقي للحفاظ على مصالحها الحيوية في السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي ، وتقدم دليلاً على ذلك ، وهو ان الطبقة الرأسمالية تحصل دائماً على أعلى مستويات التعليم ، لأن الآباء يصرفون جزءاً كبيراً من أموالهم على وسائل التعليم الخاصة بالطبقة الغنية ، وان الابناء متفرغون للدرس والتحصيل . وهكذا يمتص النظام الاجتماعي ابناء الطبقة الفقيرة كعمال ، بينما يستوعب ابناء الطبقة الرأسمالية كأفراد يحظون بأهمية عظمى في السلم الاجتماعي.
واخيراً ، فان النظام التعليمي في المجتمع الرأسمالي لايحافظ على الوضع الطبقي فحسب ، بل يجعل الطبقية مسألة شرعية ؛ لأن النظرية الرأسمالية ترى ان من حق الطبقة العليا السيطرة على النظام الاجتماعي لأنها تملك الثروة ووسائل الانتاج الاقتصادي . واذا ما نجحت المؤسسة التعليمية في اقناع الفقراء بأن حقوق الطبقة الرأسمالية في الثراء وما يترتب عليها انما هي حقوق عادلة ـ لأن امولهم قد جاءت عن طريق الجهد وعرق الجبين ، وان الفرص متاحة لكل من أراد الثراء ـ نجح الرأسماليون ـ عندئذٍ ـ في


( 123 )

السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بكل مافيه من خيرات ، والى أمد غير محدود.
ولكن نظرية الصراع الاجتماعي لا يتم الا بانشاء صراع جديد آخر مع الطبقة الرأسمالية . وتقع في خطأ آخر عندما تتصور انها تستطيع ـ مطلقاً ـ توحيد الاجور والمكافآت الاجتماعية للادوار التي يقوم بها الافراد في النظام الاجتماعي . وامام اخطاء هذه النظريات يقدم القرآن الكريم رسالته الدينية بأروع صورها ، وهي رسالة العدالة الاجتماعية القائمة على اصلين ، الاول : اصالة الاخوة الاسلامية بين جميع افراد النظام الاجتماعي : ( انما المؤمنون إخوة ... ) (1) . والثاني : اعادة توزيع الثروة الاجتماعية عن طريق فرض الضرائب الشرعية على اموال الافراد : ( ... وفي اموالهم حق للسائل والمحروم ) (2) . وتنضوي تحت راية العدالة الاجتماعية القرآنية العدالة التعليمية التي هي جزء لا يتجزأ من جوهر الفكرة الدينية . ولاشك ان رسالة القرآن اصلح للانسانية والنظام الاجتماعي من رسالة النظرية التوفيقية التي تركن للظلم الرأسمالي ، واصلح من رسالة نظرية الصراع التي تسلب فكرة الاخوة والتآخي من مباني النظام الاجتماعي للانسانية المعذبة .
____________
(1) الحجرات : 10.
(2) الذاريات : 19.