الفصل الرابع
النظام الصحي في القرآن


اهمية النظام الصحي * النظرية الطبية في القرآن : 1 ـ النظام الوقائي 2 ـ النظام الغذائي 3 ـ النظام العلاجي * النظام الصحي في الاسلام * العلاقة بين الطبيب والمريض * اهل الخبرة الطبية * فلسفة ( الطب ) في النظريات الغربية ونقدها.


( 126 )



( 127 )

اهمية النظام الصحي

لاشك اننا نستطيع ان نجعل محور النظام الطبي في الاسلام مستنداً الى اطلاق الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن حرمة قتل النفس الانسانية البريئة ، وتجعل افناء الفرد الواحد معادلاً لافناء البشرية جمعاء ، ثم تقول بعد ذلك : ( ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعاً ) (1) . وهذه الآية وان لم تشتمل على حكم تكليفي ، الا انها لاتخلو من تشديد في القضايا الاعتبارية والارتكازية . وعلى ضوئها سنتحدث عن اهمية النظام الصحي في الاسلام.
فلما كان المرض مشكلة انسانية تصيب الفرد وتؤثر على طبيعة المجتمع الانتاجية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بايجاد نظام صحي متكامل يحافظ من خلاله على صحة الافراد ، ويعالجهم معالجة تؤدي بهم الى الشفاء الكامل ، ومن ثم ارجاعهم مرة اخرى الى عجلة الانتاج والخدمات الاجتماعية . واذا لم يؤد العلاج الموصوف من قبل المؤسسة الرسمية الى شفاء الفرد شفاءً كاملاً ، فان النظام الصحي ملزم باعلان عجز الفرد عن احتلال دوره الطبيعي في المجتمع ، مشيراً الى ضرورة تحمل النظام الاجتماعي مسؤوليته في دفع تعويض مالي يحفظ كرامة الفرد العاجز ويسد حاجته وحاجة عائلته الاساسية.
____________
(1) المائدة : 32.

( 128 )

ويقصد بالنظام الصحي هنا ، بالاضافة الى الطبيب ، المؤسسة التي تضم ادواراً مهنية واجتماعية للعديد من المتخصصين والخبراء ، كالاطباء المتخصصين بالجراحة والباطنية والتخدير ، والصيادلة ، ومدراء المستشفيات وعمالها ، وشركات التأمين الصحية ، ومصانع الادوية والعقاقير ، وكليات الطب ، ومعاهد التمريض.
ومع ان المرض قضية شخصية تهم الفرد فحسب ، فهو وحده الذي يتألم ، الا ان الواقع يفصح بان المرض مسألة اجتماعية ؛ لانه لا يمكننا ان نتصور فصل الصحة والمرض والعلاج عن الصورة الاجتماعية الكلية.
فانتشار الامراض يهز الكيان السياسي ، ويؤثر على النظام الاجتماعي من خلال تعطيل طاقات الافراد في العمل والاستثمار والانتاج . ويساهم المرض في تقويض النظام الاجتماعي كما تساهم الظواهر الطبيعية والمادية في هدم ما بناه الانسان . فالزلزال المدمر ، والجفاف المؤدي الى المجاعة ، والحرب المؤدية الى خراب شامل تقوض النظام الاجتماعي كما يقوضه انتشار الامراض . وهذه الامراض التي يحتاج في معالجتها الى تدخل المؤسسة الصحية ، تقسم الى نوعين ؛ الاول : الامراض الحادة ، وهي التي تحتاج الى فترة علاجية قصيرة نسبياً تؤدي بالانسان اما الى الشفاء واما الى الموت مثل مرض الحصبة . والثاني : الامراض المزمنة ، وهي التي يحتاج العلاج فيها الى فترة طويلة ، ولكن ليس هناك ضمان بشفاء المريض شفاءً كاملاً ، امثال مرض السكري والتهاب المفاصل.
ويتعدى تأثير المرض الى عائلة المريض ومحبيه . فمع ان المريض يمر


( 129 )

بتجربة مريرة من الالام والقلق والانزعاج خلال فترة مرضه ، الا ان عائلته تعاني ايضاً من حالته الاستثنائية . فقلق العائلة على معيلها ، وخوفها من فقدان المورد المعاشي يساهم في اضطراب الوضع العائلي ، ويجعله مرتبطاً بصورة وثيقة بصحة المعيل . وعلى صعيد آخر ، فان انتشار الامراض ، يساهم ايضاً في اضطراب النظام الاجتماعي وإضعاف قواه الانتاجية ؛ خصوصاً اذا ما انتشرت الامراض المعدية في المجتمع انتشاراً واسعاً كالملاريا والجدري والكوليرا ، فانها تنزل ضربة ساحقة بالمؤسسة الاقتصادية والانتاجية للدولة . وهذا يفسر لنا تجاهل الحكومات الاستعمارية في معالجة الامراض والأوبئة الفتاكة في البلدان المستعمرة معالجة جدية ؛ لان هذه الامراض تفتح ابواباً لتدمير طاقة المجتمع الانتاجية واستهلاك مصادره وخيراته . واذا ضعف المجتمع على الصعيد الانتاجي تكاثر المستكبرون على اقتسام خيراته ونهبها . وقد سعت بريطانيا عند احتلالها الهند في القرن التاسع عشر الى استخدام عملية نشر الامراض كسلاح ضد العدو ، مستفيدةً من تجربتها التاريخية في واقعتين ؛ الاولى : في القرن الرابع عشر ، والثانية : في بداية القرن العشرين الميلادي ؛ حيث اكتسح الطاعون اوروبا في القرن الرابع عشر وسمي في وقته بالموت الاسود لإفنائه اكثر من ثلث سكان تلك القارة وتدميره البنية الاقتصادية والسياسية والدينية لدول القرون الوسطى الاوروبية . وفي سنة 1918 م قتلت الانفلونزا الاوروبية اكثر من عشرين مليون فرد (1).
____________
(1) ( روبرت غوتفراد ) . الموت الاسود : الكوارث الطبيعية والبشرية في اوروبا القرون الوسطى . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1983 م.

( 130 )

وفي حين يعرض الاسلام نظريته الصحية في اطار متكامل كما سنرى بعد قليل ، فان نظاماً كنظام الكنيسة النصرانية تبنى لاكثر من الف سنة النظرية الاغريقية في الطب (1) ؛ حيث تزعم هذه النظرية ان سوائل الجسم الانساني ـ التي تتكون من اربعة انواع هي الدم والبلغم والمرارة الصفراء والسوداء ـ هي سبب نشوء الامراض . فاذا نقص مستوى احد هذه السوائل الاربعة واختل توازنها ، نشأ المرض . ولم تسمح الكنيسة النصرانية الاوروبية في القرون الوسطى تطوير البحوث العلمية الطبية ، بل انكرت على المكتشفين من علماء الطبيعة والطب اكتشافاتهم بحجة ان الانسان الذي لن يتحقق له الخلود في الحياة الدنيوية لا يحق له البحث في الكيان الخالد للطبيعة التي خلقها الخالق سبحانه وتعالى . وكانت غاية الكنيسة من ذلك ، ربط المرضى بالطب الروحي الذي كان يمارسه الكهنة ويحصلون فيه على كمية غير قليلة من الاجور (2) . ولكن اكتشاف ( لويس باستور ) نظريته الجرثومية في القرن التاسع عشر ، ادى الى قلب نظرية الكنيسة النصرانية ، وتطور العلوم الطبية تدريجياً ووصولها الى ما وصلت اليه اليوم.
____________
(1) ( جون دوفي ) . الذين بيدهم الشفاء : بروز المؤسسة الطبية . نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1976 م.
(2) ( البرت ليونز ) و( جوزيف بيتروسيلي ) . الطب : تاريخ مصور . سانت لويس : موزبي | تايمز مرر ، 1978 م.



( 131 )

النظرية الطبية في القرآن الكريم

واستمر الانسان في حياته الاجتماعية منذ بداية الخليقة يتساءل ماذا أتناول من طعام حتى احافظ على حيويتي الجسمية ؟ وايهما أفضل لصحتي كثرة الطعام أم كفاية الغذاء ؟ ولو ترك الأمر للناس في اختيار نوعية الطعام على أساس انه شهي أو على أساس انه نافع ، لاختار الناس الطعام الشهي على الطعام النافع لأن الرغبة الشخصية للفرد هي التي تحدد نوعية الطعام الذي يأكل . فاذا أصبحت شهوة الفرد الحكم في اختيار الطعام أضحى الفرد عبداً لشهوته . ولا يختلف الحيوان في ذلك عن الانسان . فيخضع الحيوان لنفس المنهج المذكور لأن شهوته هي التي تحدد كمية الطعام التي يستهلكها حتى لو كان ذلك مضراً لجسمه . فلا غرابة ـ اذن ـ ان يشبه القرآن الكريم بعض الافراد بالدواب : ( ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون ) (1) ، ولاشك ان وصفهم بالدواب هو وصفٌ لسلوكهم ، مع انهم بشر بالتأكيد . ولكن العلم الحديث والنظام الرأسمالي أخضعا الحيوان لطعام مصنع يحتوي على نسبة محددة من الكاربوهيدرات والبروتينات والدهنيات ، حتى يستطيع المستثمر الذي يمتلك قطيعاً من الاغنام مثلاً ، جني أقصى الأرباح عند بيعه تلك الحيوانات الصحيحة المتعافية ، على
____________
(1) الانفال : 22.

( 132 )

عكس النتيجة فيما لو باع الحيوانات المريضة ، أو الحيوانات التي تستهلك علفاً لاينفع جسمها ، فتقل ـ عندئذٍ ـ الارباح التي يفترض جنيها من تلك الثروة الحيوانية.
ولكن هنا يبرز سؤال مهم ، وهو كيف يستطيع الانسان اختيار طعامه الصحيح وهو جاهل بمحتويات المواد الغذائية التي يتناولها ؟ وللجواب على هذا السؤال نقول ان للانسان طريقين ، وهما : اما ان يختار العلم التجريبي ليدليه على المواد الغذائية التي تنفع الجسم ، وهذا مالم يحصل في تاريخ البشرية الا في القرن الاخير.
واما ان يفتش عن نظام غيبي يدليه على اسرار الوقاية والغذاء حتى يتجنب الامراض النازلة بالافراد . ولاشك ان النظام الغيبي الذي نقصده هو الاسلام ، حيث جاء بنظام وقائي ونظام غذائي في غاية الدقة والكمال . ولو ان المائة سنة الأخيرة التي بحث العلم التجريبي فيها عن اسرار الطعام ومحتويات المواد الغذائية وعلاقتها بصحة الانسان ، صرفت على أحكام الأطعمة والأشربة في الاسلام لدفعت العلم البشري اشواطاً عديدة الى الامام ، ولاستغنى العالم عن ملايين الاطنان من الأدوية والحقن والامصال التي اريد لها ان تشفي الأمراض ، ولكنها لم تحقق الشفاء التام لحد اليوم.
ولو استطرد السائل الآنف الذكر مستفسراً عما يعمله الغذاء الجيد بجسم الانسان ؟ لأجبناه بأن الفرد الذي يتبع النظام الوقائي والغذائي الذي دعا اليه القرآن سيكون فرداً سليماً من الناحية الصحية . حيث ان المفترض ـ طبياً ـ ان يتمتع الفرد السليم بالصفات التالية :


( 133 )

1 ـ ان ظهوره العام ظهور صحي مصحوب بحيوية فائقة . وان تعبيرات الوجه ، ووضوح العينين ، وسرعة حركتهما ، وقوة ملاحظتهما ، تعكس الحالة الصحية الطبيعية لذلك الفرد.
2 ـ تركيبة العظام تركيبة جيدة . فيلاحظ ان السواعد والسيقان مستقيمة ، وان الرأس والصدر والاسنان ذات بناء قوي في المادة واعتدال في الاتجاه.
3 ـ ان عضلات الجسم قوية ونامية بشكل صحيح . ويظهر ذلك في القيام والجلوس والمشي ، والحركة الرياضية.
4 ـ ان الانسجة الشحمية تحت الجلد تغطي العظام والعضلات بشكل كافٍ بحيث يكون مظهر جسم الانسان مظهراً طبيعياً.
5 ـ ان وظائف الجسم تعمل بكفاءة . فيؤدي الجهاز الهضمي وظيفته في الهضم وامتصاص المواد الغذائية واخراج الفضلات . وكذلك الجهاز التنفسي . وان الفرد ينام باطمئنان ويستيقظ بنشاط.
وانسان بهذه الصفات يعتبر من الناحية الطبية كائناً طبيعياً وصحياً . فالفرد لايحتاج الى كمية كبيرة من الطعام حتى يكون قادراً على تأدية دوره الحياتي . بل انه ـ اذا وضع الشهوة الجامحة بأكل اللذيذ من الطعام جانباً ـ يحتاج الى الاساسيات فقط حتى يستطيع القيام بدوره الفعال في الحياة الاجتماعية . فهو يحتاج الى كمية كافية من البروتينات لاصلاح أنسجة الجسم ، وكمية كافية من المعادن والاملاح لتنمية العظام والاسنان ، وكمية كافية من الكاربوهيدرات للطاقة ، وكمية كافية من الفيتامينات لاعطاء


( 134 )

حيوية للاعصاب والدماغ وحفظ بقية الأنسجة ، وكمية قليلة من الدهنيات للحفاظ على ظاهر الجسم . وعندما يتم اكتمال بناء الجسم في العشرينيات من عمر الانسان ، تصبح كثرة تناول الطعام من هذه المواد بمثابة حقن الجسم بالسموم . ولذلك فان الرسل (ص) والائمة (ع) كانوا يكتفون بالخبز والتمر واللبن احياناً في وجباتهم الغذائية لأن الخبز ـ وهو يحتوي على الكاربوهيدرات ـ يمنح الجسم الطاقة ؛ والتمر ـ وهو يحتوي على سكر واملاح وفيتامينات ـ يحفظ حيوية الدماغ والاعصاب ؛ واللبن ـ وهو يحتوي على بروتينات وفيتامينات ـ يصلح الأنسجة ويحافظ على حيويتها . اما بقية الحبوب والفاكهة والخضار فقد ورد استحباب أكلها لأنها تحتوي على كل هذه المواد النافعة لجسم الانسان . وورد التأكيد على الاعتدال في أكل اللحوم . وهذه المواد الغذائية البسيطة ، هي الاساس في تقوية وتحريك الجسم ، وما عداها زائد ليست له قيمة حقيقية في بناء جسم الفرد صحياً.
1 ـ النظام الوقائي : ويعالج النظام الوقائي الحالة المرضية قبل وقوعها . فاذا كانت كثرة الطعام تسبب آلاماً في الجهاز الهضمي مثلاً ، فمن الوقاية ان يجتنب الفرد كثرة الأكل . وهذه القاعدة الصحية البسيطة لها تأثير فعال على صحة الأفراد ، لأن كمية الطعام ونوعيته مرتبطة بعدد كبير من الامراض التي تصيب الانسان . واذا نظرنا من وجهة نظر طبية ونفسية للتحريم الذي أوجبه الشارع على المأكولات تبين لنا ان للتحريم ـ اضافة الى معناه التعبدي ـ نتائج وقائية على مستوى عظيم من الأهمية . ويمكن


( 135 )

ترتيب النقاط التالية حول النظام الوقائي في القرآن الكريم :
اولاً : لما كان الفم الطريق الرئيسي لدخول الطعام الى جسم الانسان حيث تجري عليه مختلف العمليات الكيميائية من هضم وامتصاص وتمثيل وبناء خلايا ، فان نوعية الطعام الداخل لابد وان تؤثر على سير عمليات الجسم البيولوجية . ولاشك ان بعض المأكولات قد تسبب ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ امراضاً تختلف شدتها وقوة تأثيرها على الأجهزة المختلفة التي تتضافر على تسيير دفة حركة الجسم . وعلى ضوء ذلك فقد نظم الاسلام نوعية المواد الغذائية المأكولة فحرم تناول لحوم الخنازير ، والدماء ، والميتة ، وما أهل لغير الله ، كما قال تعالى في كتابه الكريم : ( قل لا أجد فيما أوحي الي محرماً على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولاعادٍ فان ربك غفور رحيم ) (1) . وحرمت الكلاب والسباع (2) ، والمسوخ (3) ، والطيور المخلبية على تفصيلٍ (4) . والحيوانات البحرية والاسماك التي ليس لها قشور (5) . وحرمت الخمرة ـ وهو مطلق ما يسكر ـ لقوله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ) (6) ، ( انما الخمر
____________
(1) الانعام : 145.
(2) الكافي ج 6 ص 245.
(3) الخصال ج 2 ص 88.
(4) الجواهر ج 36 ص 304.
(5) اللمعة الدمشقية للشهيد الاول ج 7 ص 300.
(6) البقرة : 219.

( 136 )

والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) (1) ، ( قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق ) (2) . والاثم ـ في عرف المفسرين ـ هو الخمر . و « تحريم الخمر من ضروريات الدين حتى ورد أنه أكبر الكبائر وانه لو صب في أصل شجرة ما أكل من ثمرها ، ولو وقع في بئر قد بنيت عليه منارة ما أذن عليها ، ونحو ذلك من الأخبار الدالة على المبالغة في تحريمها لكثرة مفاسدها » (3) . وحرمت ايضاً كل الاعيان النجسة ، والسوائل المتنجسة ، وألبان الحيوانات المحرمة . والمدار في التحريم قاعدة ( لاضرر ولاضرار في الاسلام ) (4) ؛ بمعنى ان أي طعام ينزل ضرراً معتداً به على الفرد يحرم تناوله الا في حالة الاضطرار ، كما ورد في قوله تعالى : ( ولاتلقوا بأيديكم الى التهلكة ) (5).
ثانياً : ولم توقف الاسلام على تحديد الأطعمة المحرمة ، بل اشار الى حلية الأطعمة المباحة كلحوم البهائم الاهلية مثل البقر والغنم والماعز والابل ، ولحوم البهائم البرية كالغزلان والابقار والحمير المتوحشة ، كما ورد في قوله تعالى : ( احلت لكم بهيمة الانعام ) (6) ، ( واحلت لكم الانعام الا ما يتلى عليكم ) (7) . والاسماك ذات القشور وبيوضها ، كما في قوله تعالى : ( احل
____________
(1) المائدة : 9.
(2) الاعراف : 32.
(3) قلائد الدرر للشيخ الجزائري ص 300.
(4) من لايحضره الفقيه ج 4 ص 243.
(5) البقرة : 195.
(6) المائدة : 1.
(7) الحج : 30.

( 137 )

لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ) (1) . والطيور بمختلف انواعها شرط ان لا تكون مخلبية ، وان يكون دفيفها أكثر من صفيفها ، وان تكون لها حواصل وقوانص وصيص : ( قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما امسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) (2) . ولما كانت اللحوم من أهم مصادر البروتينات التي لها علاقة عظيمة ببناء الخلايا الجسمية ، فان حليتها لابد ان يكون امراً حتمياً ، لأن الفرد يصعب عليه ان يحيا على النباتات فقط دون مصدر بروتيني غني كاللحوم . ولاشك ان حلية تناول الخضار والثمار وكل ما ينفع الجسم الانساني من مواد غذائية ، واضحة ولاتحتاج الى مزيد من التفصيل ، ولعل اطلاق الآية الكريمة التالية يشملها ، وهو قوله تعالى : ( يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالاً طيباً ... ) (3).
ثالثاً : الاعتدال في تناول الاطعمة المحللة ، وضرورة التركيز على نوعية الطعام لا كميته ، كما هو الظاهر من قوله تعالى : ( وكلوا واشربوا ولاتسرفوا انه لايحب المسرفين ) (4) . وقد أوصت الروايات بتقليل كمية الاطعمة الداخلة الى جسم الانسان والاقتصار منها على ما يقيم صلب الانسان . وأوصت بالاعتدال في تناول اللحوم ، وضرورة طبخها جيداً ، ويدل على ذلك قوله تعالى في ضيف ابراهيم : ( فما لبث ان جاء بعجل
____________
(1) المائدة : 96.
(2) المائدة : 4.
(3) البقرة : 168.
(4) الاعراف : 31.

( 138 )

حنيذ ) (1) ، أي محنوذ وهو الذي اجيد طبخه ونضجه . وقال تعالى في وصف الطيبات : ( وانزلنا عليكم المن والسلوى ) (2) والمن هو العسل ، والسلوى يعني اللحم ، سمي سلوى لأنه يسلى به على جميع الادام ولايقوم غيره مقامه ، والى ذلك اشار رسول الله (ص) : ( سيد الادام اللحم ) (3) . ثم قال تعالى بعد ذكر المن والسلوى : ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) (4) ، فاعتبر اللحم والعسل من طيبات مارزقهم .
وقد وردت أهمية الخبز باعبتاره اساس الوجبة الغذائية ، ومادته الكاربوهيدراتية هي التي تمنح الجسم الطاقة التي يتحرك بها . فعن رسول الله (ص) قال : ( اللهم بارك لنا في الخبز ولاتفرق بيننا وبينه ، فلولا الخبز ما صلينا ولاصمنا ولاأدينا فرائض ربنا ) (5) . ووردت ايضاً أهمية الخضار المطبوخة ، والفاكهة وخصوصاً التمور ، ومنتوجات الالبان بكافة انواعها واشكالها . وكل هذه المواد الغذائية ـ اذا تناولها الفرد باعتدال ـ تساعد الجسم على القيام بوظائفه الطبيعية وتساهم في تنظيم الجهاز الهضمي وتنشيط الدورة الدموية وتجنب الفرد أمراض المعدة والامعاء وتصلب الشرايين وأمراض الكلية والجهاز البولي.
رابعاً : ان الاصل في القاعدة الوقائية الاسلامية ، ان كل ما يعد فعله
____________
(1) هود 69.
(2) البقرة : 57.
(3) الكافي ج 6 ص 308.
(4) البقرة : 57.
(5) الكافي ج 6 ص 287.

( 139 )

في العرف الاجتماعي ضرراً فهو حرام . فالمخدرات الطبيعية والصناعية التي تسبب ضرراً جسيماً بعقل الانسان ، والسموم الطبيعية ، وما يقطع العلم بكونه سماً يحرم تناوله بأي شكل من الاشكال الا في حالة الضرورة.
خامساً : ان قاعدة الاضطرار ـ وهي ان الضرورات تبيح المحظورات ـ تعتبر من أكمل القواعد الصحية التي استهدفت التيسير والسعة وعدم الضرر ونفي الحرج على الفرد المضطر . فقد أعلن الاسلام ان الاصل في احكام الشريعة هو اليسر والسعة وعدم الضرر ، لقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (1) ، ( يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر ) (2) ، ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم ) (3) . والمشهور من قوله (ص) : ( لاضرر ولاضرار في الاسلام ) (4) . والرواية الواردة عن علي بن مهزيار عن الامام ابي الحسن العسكري (ع) قال : ( ... وكلما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر ) (5).
والمضطر ـ حسب تعبير الفقهاء ـ هو « الذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول المحرم أو يخشى حدوث المرض أو زيادته ، أو انه يؤدي الى الضعف والانهيار ، أو يخاف الضرر والأذى على نفس اخرى محترمة ، كالحامل تخاف على حملها ، والمرضعة على رضيعها » (6) . وقد اشتهر بين
____________
(1) الحج : 78.
(2) البقرة : 185.
(3) الانعام : 145.
(4) من لايحضره الفقيه ج 4 ص 243.
(5) من لايحضره الفقيه ج 1 ص 120.
(6) المسالك للشهيد الثاني ـ باب الاطعمة الاشربة.

( 140 )

الفقهاء بأن ( الضرورة تقدر بقدرها ) ويدل عليه قوله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ) (1) . ولاشك ان الخوف على تلف نفس الانسان أو زيادة المرض أو الخشية عليه من الضعف والانهيار ، هو الذي دعا الى تشريع هذه القاعدة العظيمة . ومعنى ( ان الضرورة تقدر بقدرها ) ، هو ان على الفرد وقت الاضطرار تناول المواد الغذائية المحرمة بشكل يؤدي الى اجتناب الضرر فقط ولا يتعدى الى مادون ذلك لأن الاصل في الاضطرار هو اصلاح الضرر أو الفساد المحتمل حدوثه على جسم الفرد ، وليس بناء الجسم على المادة الغذائية الفاسدة المحرمة شرعاً.
سادساً : ومن الواضح ان تأكيد الاسلام على السواك والتخلل ينسجم منطقياً مع دعوته الصحية في الوقاية من الأمراض ، خصوصاً فيما يتعلق بالفم كأمراض اللثة وتسوس الاسنان . ويمتاز خشب الاراك المنصوص على استحبابه في السواك ، باحتوائه على رائحة طيبة تطهر الفم من النكهة المتغيرة بالنوم أو بالطعام . وقد ورد عن رسول الله (ص) : ( ان افواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك ) (2) . وفي الرواية عن ابن عباس قال : ( بت عند النبي « ص » فاستن ) . وقوله : « فاستن من الاستنان وهو الاستياك ، وهو دلك الاسنان وحكها بما يجلوها . مأخوذ من السن وهو امرار الشيء الذي فيه خشونة على شيء آخر ومنه المسن الذي يشحذ به
____________
(1) البقرة : 173.
(2) المحاسن للبرقي ص 588.

( 141)

الحديد ونحوه » (1) . ولاشك ان السواك والتخلل وتأثرهما على الاسنان واللثة يعتبران اساس طب الاسنان الوقائي الاسلامي وما عداهما اساس طب الاسنان العلاجي.
سابعاً : ومن المسلم به ان الأرق والقلق النفسي يعتبران في النظام الصحي الغربي مشكلة طبية تستدعي علاجاً يقوم على أساس الدواء الكيميائي (2) . ولما كانت الحياة المبنية على التنافس الاقتصادي مصحوبة دائماً بالصراع النفسي والصخب والكدح المستند على حيازة أكبر قدر ممكن من المادة ، فان الأرق يصبح داء الفرد الرأسمالي ؛ لأن الاثارة التي تجلبها الحياة الرأسمالية لبعض الافراد تسلب عن أعينهم النوم . واذا أدخلنا عملية تطبيب النظام الاجتماعي التي يسعى النظام الصحي الغربي الى فرضها على المجتمع ، أصبح واضحاً لدينا ان الأرق في الحضارة الغربية يعتبر اليوم مرضاً توليه المؤسسة الطبية الغربية اهتماماً واسعاً ، وتزعم ان علاجه لايتم الا عن الطريق الكيميائي.
الا ان النوم وآدابه في الاسلام يعتبران شكلاً من اشكال التكامل النفسي الذي ينعم به الفرد في المجتمع الاسلامي ، كما يقول تعالى : ( وجعلنا نومكم سباتاً ، وجعلنا الليل لباساً ) (3) . فبالاضافة الى اطمئنان الفرد على حياته وعرضه وماله بسبب قانون العقوبات الاسلامي ، فان الاسلام
____________
(1) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني الحنفي ج 1 ص 953.
(2) ( نافارو فايسنت ) . الطب تحت ظل الرأسمالية . نيويورك : بروديست ، 1976 م.
(3) النبأ : 9 ـ 10.

( 142 )

يتحدث عن النوم باعبتاره قضية من القضايا التعبدية . فالطهارة الشخصية وذكر الله تعتبران من أهم ميزات خلود الفرد للنوم (1) ، دون الحاجة الى المواد الكيميائية التي يتناولها الفرد في الأنظمة الاخرى.
ثامناً : وتعتبر الطهارة المائية وغيرها من الطهارات ـ بالاضافة الى صورها التعبدية ـ من وسائل الوقاية الصحية ايضاً . حيث توجب الشريعة في الطهارة من الخبث ازالة البول والغائط والدم والمني بواسطة الماء المطلق ـ حكمية كانت النجاسة أو عينية ـ كما يقول تعالى : ( وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ) (2) ، ( وانزلنا من السماء ماءً طهوراً ) (3) . وفي الطهارة من الحدث يجب الوضوء أو الغسل أو التيمم ، كما ورد في الذكر الحكيم فيما يخص الوضوء : ( ... فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق ... ) (4) ، ( ولا جنباً الا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) (5) ، ( فاذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) (6) ، وفي التيمم : ( فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) (7) . وتعتبر الشمس من المطهرات ايضاً للأرض وما عليها . ولاشك ان تأكيد الاسلام على نظافة الشعر والأذنين والأنف والاسنان والاظافر ، وآداب دخول الحمام ونحوه ، والكثير
____________
(1) من لايحضره الفقيه ج 1 ص 123 . ومصباح المتهجد ص 114.
(2) الانفال : 11.
(3) الفرقان : 48.
(4) المائدة : 6.
(5) النساء : 43.
(6) البقرة : 222.
(7) المائدة : 6.

( 143 )

من المستحبات الخاصة بالتنظيف تعتبر من أهم اشكال الطب الوقائي التي تجنب الفرد الكثير من الأمراض المنقولة في الأوساط التي تفتقد الى النظافة والتطهير . ولعل حثه تبارك وتعالى لرسوله الكريم (ص) في أوائل الدعوة بتطهير الثياب ، رمزٌ لطهارة الفرد في الاسلام على الاصعدة الروحية والجسدية والمعنوية ، كما قال : ( وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) (1).
تاسعاً : وبطبيعة الحال ، فان صيام شهر كامل من أشهر السنة القمرية من طلوع الفجر وحتى الغروب يومياً يعتبر ـ بالاضافة الى صورته التعبدية ـ شكلاً من اشكال الطب الوقائي في معالجة الامراض المختصة بالجهاز الهضمي والدورة الدموية ، وشكلاً من أشكال الطب النفسي في الصبر وتقوية العزيمة والارادة . وقد وردت في ذلك جملة من الآيات القرآنية : ( يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) (2) ، ( وان تصوموا خيرٌ لكم ) (3) ، ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) (4) ، ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام الى الليل ) (5) . ويتضافر الشكل الطبي للصيام بالشكل الاجتماعي الذي يشجع الافراد على المؤازرة والمؤاخاة والتعاون على اطعام الآخرين ، فيضيف بعداً آخر للاطمئنان الاجتماعي بين الافراد في المجتمع الاسلامي.
____________
(1) المدثر : 4 ـ 5.
(2) البقرة : 183.
(3) البقرة : 184.
(4) البقرة : 196.
(5) البقرة : 187.

( 144 )

2 ـ النظام الغذائي : ولايمكن المواظبة على العمل والانتاج وطلب العلم مالم يقم الفرد باتباع نظام غذائي يبعث فيه كل ألوان الطاقة والنشاط والتفكير ، وعليه نبه رب العزة بقوله : ( كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ) (1) ، ( كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ان كنتم اياه تعبدون ) (2) . ومع ان تناول الطعام في نفسه يعد امراً ضرورياً ، الا ان الاحاديث الواردة في أهمية تناوله ، أكدت جميعاً على ضرورة تقليل كمية المتناول منه ، واشارت الى أهمية اقتصاره على الاساسيات التي تقوي صلب الفرد وتمنحه النشاط المطلوب . ومن أجل توضيح المنهج الاسلامي في التغذية ، لابد من ترتيب النقاط التالية :
أولاً : وجوب التذكية الشرعية ، وهو دليل قوي على ارتباط حلية المأكولات اللحمية بالقضايا التعبدية من جهة والصحية من جهة اخرى لثبوت المصلحة الشرعية التي تخص الفرد والنظام الاجتماعي . فلا يؤكل من الحيوانات الا ما كان قابلاً للتذكية الشرعية ، فتتحقق تلك التذكية بالذبح للحيوانات الاهلية : ( ولاتأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) (3) ، والصيد للحيوانات المتوحشة : ( واذا حللتم فاصطادوا ) (4) ، والنحر للابل :
____________
(1) المؤمنون : 51.
(2) البقرة : 172.
(3) الانعام : 121.
(4) المائدة : 2.

( 145 )

( فصل لربك وانحر ) (1) ، والاخراج حياً من الماء للاسماك : ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً ) (2) ، ( وما يستوي البحران هذا عذبٌ فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً ) (3).
ومن نافلة القول ان نقول : ان أخطر ما يواجه النظام الطبي اليوم من مشاكل صحية هي مشكلة اللحوم وما يتبعها من تذكية وحفظ وطهي ؛ فهي مصدر الكثير من الامراض المنتشرة في العالم المتحضر كأمراض القلب والدورة الدموية والجهاز الهضمي والبولي . ولاشك ان استبدال الاجهزة الحديثة في التبريد لحفظ اللحوم عن الطريقة القديمة السابقة التي كانت تستعمل التوابل ، لم يساعد على تقليل عدد الامراض التي تنتشر عادة عن طريق تناول تلك اللحوم , بل غير من نوعها وشدتها فقط . فبدل تعرض الفرد للتسمم بتناوله لحماً متفسخاً ـ بالطريقة القديمة ـ أصبح نفس الفرد يتعرض لامراض القلب وتصلب الشرايين جراء تناوله لحماً محفوظاً في الاجهزة الحديثة.
وليس لدينا ادنى شك من ان مشكلة اللحوم ستبقى من أخطر المشاكل التي يواجهها النظام الطبي في تعامله مع اسباب نشوء المرض ؛ لأن الحيوانات بكافة اشكالها وأنواعها تعتبر من أهم عناصر نقل الامراض الى خلايا الجسم البشري . ولكن الانسان يصعب عليه الاستغناء عن اللحوم
____________
(1) الكوثر : 2.
(2) النحل : 14.
(3) فاطر : 12.

( 146 )

المطبوخة في وجباته الغذائية . ولعل الطريقة الاسلامية في التذكية الشرعية ، تعتبر من أنشط العوامل في تجنب الامراض الناشئة عن تناول اللحوم.
ثانياً : اشرنا عند حديثنا عن النظام الوقائي الى ان الاسلام تناول باسهاب حلية الأطعمة المباحة . ونزيد هنا بذكر الآيات القرآنية الكريمة التي اشارت الى ذلك . ففي اللحوم قال تعالى : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ) (1) ، وفي الاسماك : ( ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها ) (2) ، وفي الفواكه : ( لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ) (3) ، وفي الجواب : ( كلوا من ثمره اذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) (4) ، وبالاجمال في أكل الطيبات : ( يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالاً طيباً ) (5).
ثالثاً : التأكيد على النظام الشفائي الغذائي المتمثل بالعسل ، وقد ورد في النص المجيد : ( وأوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شرابٌ مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لاية لقوم يتفكرون ) (6) . و« هنا فوائد منها ان في الآية دلالة على اباحة العسل واباحة التداوي به ، اما بنفسه واما مع التركيب مع غيره
____________
(1) النحل : 5.
(2) فاطر : 12.
(3) المؤمنون : 19.
(4) الانعام : 141.
(5) البقرة : 168.
(6) النحل : 68 ـ 69.

( 147 )

كالحمضيات ونحوها » (1) . وورد في الاثر انه « ما استشفى مريض بمثل العسل فان لعقة منه شفاء من كل داء . وكان يعجب رسول الله (ص) وأكله حكمة . قال تعالى : ( فيه شفاء للناس ) (2) » (3).
وبسبب احتوائه على نسبة كبيرة من الكلوكوز والفركتوز ، وهما نتاج آخر مراحل هضم المواد النشوية والسكرية التي تمتص في الدم ، فان العسل يعتبر طبياً من أفضل المواد الغذائية التي تساهم في شفاء الامراض الخاصة بالامعاء والمفاصل والعضلات ونحوها . ولما كان سكر الفاكهة ( الفركتوز ) أحد أهم نسب المواد السكرية في العسل ، أصبح تناول الفرد السليم أو المريض لهذا الغذاء القرآني امراً شفائياً ، لأنه لايزيد من نسبة السكر في الدورة الدموية للانسان.
رابعاً : ان تأكيد الروايات على آداب الطعام وتناوله ، واخلاقية النظام الغذائي في الاسلام ، والافكار التي تحملها هذه الروايات مساندة تماماً لما جاء في القرآن الكريم . وأهمها التأكيد على آداب الشيء المأكول خصوصاً تقليل كمية الطعام الذي يتناوله الفرد ، واعتدال درجة حرارته وقت التناول ، وتقديم الملح على الطعام ، ومص الماء مصاً ، والاعتدال في أكل اللحوم المطبوخة جيداً ، والاهتمام بتناول الفاكهة والخضروات والخبز ومنتوجات الالبان بكافة انواعها . وكذلك التأكيد على ادآب المائدة
____________
(1) قلائد الدرر ص 314.
(2) النحل : 69.
(3) الجواهر ج 36 ص 503.

( 148 )

ـ كاستحباب غسل اليدين قبل تناول الطعام وبعده ، والأكل بثلاث اصابع ، واطالة الجلوس على المائدة ، والمضغ الشديد ، وتصغير اللقمة المأكولة ، والأكل مجتمعاً مع الآخرين . واخيراً : التأكيد على آداب الأكل كاستحباب تناول الطعام وقت الاحساس بالجوع ، واكماله قبل الشبع ، وتفريغ البدن من الفضلات قبل النوم.
وهذا التأكيد الشديد على ضرورة التدقيق في نوعية المادة الغذائية التي يتناولها الفرد وآداب تناولها ، يؤدي ـ دون شك ـ الى تقليل عدد الامراض التي تصيب افراد المجتمع ، والى تبديل شكل وتوجهات المؤسسة الصحية . ومن أجل تفصيل ذلك ، نورد هذه الاشارات في فوائد النظام الغذائي الاسلامي :
1 ـ ان تطبيق النظام الغذائي الاسلامي يساهم في تقليل عدد وشدة الامراض التي تصيب الافراد ، وهي الامراض الناتجة من سوء العادات الغذائية ، خصوصاً فيما يتعلق بالمضغ ، وحجم اللقمة ، والسرعة في تناول الوجبة الغذائية ، أو كمية الطعام المتناولة ونحوها.
2 ـ ان اهتمام المؤسسة الطبية بنوعية الغذاء الذي يتناوله الافراد أنفع للنظام الاجتماعي ـ على الصعيد الانتاجي ـ وأكثر اقتصاداً من علاج الافراد عن طريق الأدوية والمعاجين الكيميائية المصنعة.
3 ـ ان الاهتمام بالمواد الغذائية يشجع الاقتصاد الزراعي على النمو والتطور مما يفتح فرصاً اخرى لاشباع حاجات الافراد الغذائية ؛ فبدلاً من


( 149 )

تطبيب النظام الاجتماعي كما هو الحاصل اليوم في النظام الغربي (1) ، يحاول النظام الاسلام تقوية صحة الافرد من خلال اتباع اسلوب غذائي سليم يتمثل في وجبات غذائية معتدلة كاملة يتناولها الافرد من سن الطفولة وحتى الشيخوخة والهرم.
4 ـ ان تقليل كمية الطعام المستهلك من قبل الفرد سيوفر للافراد الآخرين طعاماً يشبع حاجاتهم الاساسية . فبدلاً من تخمة البعض وجوع البعض الآخر ، يحاول النظام الغذائي الاسلامي إشباع جميع الافراد بكمية معقولة من الطعام تساعدهم على العمل والانتاج ، وفي الوقت نفسه تحافظ على حيوية اجسامهم ونشاطها الطبيعي.
5 ـ ان ارتباط العادات الغذائية بالجانب العبادي ، يهذب الفرد ويجعله أكثر استعداداً لاحترام النظام الصحي والتعاون مع المؤسسة الطبية لايجاد نظام غذائي متكامل لجميع الافراد . والدافع الاساسي في هذا التوجه هو الدافع العبادي المتجسد بالامتثال للاوامر الشرعية.
3 ـ النظام العلاجي : ولاشك ان نجاح النظرية التجريبية في علاج الامراض يرجع فضله الى تراكم الخبرة الانسانية لآلاف السنين . فقد حاول الانسان ـ منذ القدم ـ معرفة فسلجة الجسم الانساني باعضائه الدقيقية ؛ والمعت في افق الطب التجريبي اسماء متميزة من مختلف شعوب العالم امثال : ( هپوكراتيس ) و( كيلن ) الاغريقيين ، والرازي ( ت 923 م ) وابن سينا
____________
(1) ( صموئيل ايبشتاين ) . سياسة السرطان . سان فرانسسكو : كتب نادي سييرا ، 1978 م.

( 150 )

( ت 1037 م ) الاسلاميين ، واطباء اوروبا امثال : ( اندرياس فيساليوس ) 1538 م ، و( وليم هارفي ) 1602 م . و( لويس پاستور ) و( روبرت كوخ ) 1876 م . وقد تطور الطب الحديث بعد اكتشاف النظرية الجرثومية ، وما اتبعها من اكتشاف اسباب المرض ، والعدوى ، واستخدام اساليب التعقيم ، والتخدير في العمليات الجراحية . وقد جلب القرن العشرون تطورين مهمين على صعيد الطب العلاجي ، وهما : استخدام المضادات الحيوية ، وعملية نقل الاعضاء ، من فرد لآخر كالكلية والقلب . ولاشك ان اكتشاف البنسلين كان من أهم الاكتشافات التي حصلت في هذا القرن ايضاً (1) . وكل الأدوية التي اكتشفت لاحقاً وساعدت اما على شفاء الامراض أو على اجراء العمليات الجراحية ، ساهمت في تطوير النظام الطبي العلاجي للامراض (2) . ولاشك ان الاسلام شجع الطب الحديث على معالجة الامراض لسببين : الاول : الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشارع المقدس ، والثاني : احترام القرآن للحياة الانسانية ، كما ورد في اطلاق قوله تعالى : ( ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعاً ) (3).
____________
(1) ( البرت ليونز ) و( جوزيف بيتروسيلي ) . الطب : تاريخ مصور . سانت لويس : موزبي |تايمز مرر ، 1978 م.
(2) ( مارك زبورويسكي ) . الناس في ألم . سان فرانسسكو : جوسي ـ باس ، 1969 م.
(3) المائدة : 32.