النظام الصحي في الاسلام

ان الاسلام بحثه على العمل ، ومباركته للجهد الانساني ، وربطه العمل الانتاجي في الارض بالثواب والأجر في الحياة الآخرة ، أراد لكل الافراد في النظام الاجتماعي اداء أدوارهم المرسومة بكل جدية ونشاط ؛ لأن الانسانية لايمكن ان يتكامل نظامها الاجتماعي ولا أن يتطور بناؤها الفكري والفلسفي ، مالم يساهم الافراد جميعاً بالعمل الانتاجي المؤدي الى اشباع حاجاتهم الاساسية . ونزول المرض بفرد ما ، يعطل جهده الطبيعي في تأدية الدور الاجتماعي المناط به ؛ مما يؤدي الى تحرك النظام الاجتماعي للتعامل مع ذلك الاستثناء حتى يتم اصلاحه وعلاجه طبياً واجتماعياً.
فاذا كان المرض مؤقتاً ويمكن علاجه بالطرق الطبية المعروفة ، خلد المريض الى الراحة ، وتدخل النظام الاجتماعي الاسلامي لمساعدته على ثلاثة محاور ؛ المحور الاول : العلاج ، فيقدم له كل اسباب التطبيب والعلاج دون النظر لدخله السنوي أو طبقته الاجتماعية . والمحور الثاني : المساعدة المادية له ولعائلته اذا كان فقيراً ، فيحتسب مقدار حاجته وحاجة عائلته ، فيدفع له ذلك المقدار حتى يحين وقت الشفاء . والمحور الثالث : تدخل النظام الاجتماعي لسد دور المريض الشاغر في الحقل العملي . فاذا كان المريض عاملاً في مؤسسة صناعية ، فان المؤسسة ملزمة باستئجار عامل آخر يحل


( 152 )

محل العامل المريض ، وهذا يتم عادة في الامراض التي يستلزم علاجها فترة زمنية قصيرة كالانفلونزا والجروح والكسور وامراض الجهاز الهضمي والبولي.
اما اذا كان المرض مزمناً ، كالشلل التام ، وامراض السرطان ، وامراض نقص المناعة الحادة ، والامراض القلبية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بالتدخل ايضاً لمساعدة المريض طبياً ومالياً وايجاد من يسد دور المريض الشاغر في الحقل الاجتماعي بصورة دائمية . ولايختلف تدخل النظام الاجتماعي في المرض المزمن عن المرض المؤقت الا بفارق الزمن ، حيث يتعين على ذلك النظام تخصيص معاش ثابت للمريض ولعائلته يفترض ان يستقطع من بيت المال ـ كما في الرواية المروية عن الامام امير المؤمنين (ع) مع الشيخ النصراني ـ وتعيين برنامج علاجي مستمر للمريض . بل ينبغي ان يستمر هذا المعاش والعلاج حتى آخر لحظة من حياة ذلك المريض . وهذا على خلاف رأي النظرية الرأسمالية التي تعتبر المريض عنصراً مستهلكاً لاقدرة له على الانتاج (1) . ولكن نظرة الاسلام الشمولية واحترامها للحياة الانسانية أوجبت اكرام الانسان المعاق جسدياً ، حتى لو كان عاجزاً عن الانتاج ؛ وقد ورد في الروايات المروية عن اهل البيت (ع) ان الامام علي (ع) عندما صادف النصراني ـ المذكور آنفاً ـ والذي كان يمد يده استجداءً لعدم قدرته على العمل ولكبر سنه ، تألم لحالته وانكر على عماله سلوكهم تجاهه وقال لهم : ( استعملتموه ، حتى اذا كبر وعجز منعتموه ) ، وأمر
____________
(1) ( اليوت فريدسون ) . المهنة الطبية نيويورك : دود وميد ، 1970 م.

( 153 )

ان يصرف له من بين المال (1).
ويجعل الاسلام الولاية الشرعية ، مصدر المسؤوليات الاجتماعية . فولي الاسرة مسؤول عن رعاية من يتولاهم من القاصرين ونحوهم . وفي انعدام الولي يتحمل الامام أو نائبه ( أي الدولة ) مسؤولية الولاية لمن لا ولي له . وعليه ، فان القاصر عن التحصيل لمرض ونحوه يضمن اما من قبل الولي العام أو الولي الخاص . بمعنى ان الانسان القادر على الانتاج يستطيع ان يسد حاجته الاساسية وحاجة الافراد الذين يتولاهم اصحاء كانوا أم مرضى . واذا عجز الوي بسبب المرض عن اعاشة عائلته ، وجب ـ حينئذٍ ـ على الامام اعالتهم لحد الكفاية ، وهذا الاسلوب يضمن تكامل النظام المعيشي لكل الافراد في المجتمع الاسلامي . وقد جاء هذا الايمان بكرامة الفرد وصيانته من الاهمال ضمن اطار المسؤولية الجماعية والاخوة الانسانية التي دعا اليها الاسلام.
ولاريب ان تأكيد الاسلام على ربط العمل الانتاجي في الحياة الدنيوية بالثواب الاخروي ، وحثه على التزام الصدق والثقة المتبادلة والاعتدال ونهيه عن الكذب وشهادة الزور والجشع ، وجزمه في تثبيت أسس العدالة الاجتماعية سهل دور المؤسسة الصحية في تحديد ( من هو المريض ؟ ) . فمع تضافر هذه العوامل ، تجد من الصعوبة بمكان ان يجد المتمارضون ساحة لكسلهم ومجالاً لعيشهم عبئاً على بيت المال ؛ لأن المؤسسة الصحية تستطيعع تحديد ( من هو المريض ؟ ) عن طريق علامات
____________
(1) التهذيب ج 2 ص 88.

( 154 )

واعراض المرض ، وعن طريق دراسة شخصية وتاريخ المريض والتزامه بالاخلاق الدينية وتمسكه بالصدق والنزاهة والاستعفاف.
ان امراض الحضارة الحديثة يفترض ان لاتجد لها مكاناً في المجتمع الاسلامي ، لأن الاسلام حرم شرب الخمر وأكل الميتة والدم والخنزير ، وهذه هي اساس امراض الكبد والجهاز الهضمي وامراض القلب . وحرم تناول كل ما يضر بالجسد ومنها استعمال المخدرات والتدخين الشديد التي هي المصدر الاساس في امراض سرطان الرئة والبلعوم والاضطراب العقلي . وأوصى بالاعتدال بأكل اللحوم الحمراء ، خصوصا لحوم البقر والضأن وهذه هي مصدر أمراض القلب وتصلب الشرايين . وأوصى باستعمال المسواك لتنظيف الاسنان وتطهير الفم ، وهو تمهيد لممارسة طب الانسان الوقائي . ولاشك ان للدولة الاسلامية مبدأ حق التدخل للحفاظ على البيئة الطبيعية من التلوث الصناعي ، لأن التلوث يعتبر أحد مصادر امراض السرطان وامراض الرئة بأنواعهما المختلفة . وحرم الاسلام الاجهاض والانتحار وقتل النفس البريئة فأكفى الطب الدخول في هذا الحقل الذي يستنزف طاقات المؤسسة الصحية . وأوجب الاسلام التذكية الشرعية ووضع شروطاً للصيد والذباحة ، وهذا الوجوب جنب النظام الصحي العديد من الامراض المتعلقة بالقلب وجريان الدورة الدموية . ولاريب ان الاطمئنان النفسي والراحة الشعورية التي ينزلها النظام الاسلامي على قلوب الأفراد من حيث محو نسبة الجرائم والاعتداءات والسرقات ، يساهم بشكل فعال في ازالة الأرق والقلق النفسي والقرحة والامراض العقلية التي


( 155 )

يعاني منها أفراد الحضارة الحديثة.
ومن نافلة القول ان نذكر : ان صحة المتقدمين وتعميرهم تلك السنين الطويلة لم يكن نتيجة لمعاينة طبية أو نتيجة فهم للنظرية الجرثومية أو استخدام للعقاقير الطبية ؛ بل ان الوقاية وتنظيم النظام الغذائي كانتا من أهم اسباب العيش السليم من الأمراض . وقد ورد في بعض الكتب التاريخية ان سلمان الفارسي (رض) عاش أكثر من ثلثمائة سنة . ولو صحت هذه الرواية لكان الاجدر بالجهاز الطبي دراسة هذه الظاهرة الطبيعية وفهم منشأها واسبابها.
ولا يمكننا الاعتماد على العلاج الكيميائي والشعاعي في جميع الحالات المرضية ، بل لابد ان نترك فسحة لتقدم العلاج الطبيعي والروحي ، لأن الكثير من الأمراض النفسية والأمراض الجسدية الناشئة عنها لايتم علاجها الا بالعلاج الغيبي . وقد ورد في النص المجيد الى ما يشير الى ذلك : ( وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين ) (1) ، ( أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء ) (2) ، ( واذا مرضت فهو يشفيني ) (3) . والعلاج الطبيعي مهم في شفاء الجروح العضلية والغضروفية . ولما كان الاسلام ولا يزال يهاجم النظام الطبقي ويدعو الى توزيع عادل للثروة الاجتماعية ، فان النظام الصحي الاسلامي سيجعل الانشطة الطبية جميعاً
____________
(1) الاسراء : 82.
(2) فصلت : 44.
(3) الشعراء : 80.

( 156 )

أنشطة يهمها العلاج الحقيقي للافراد ، لاتجارة تجني ارباحاً على حساب الفقراء والمستضعفين.
ولا تتوقف وظيفة الطب على تحديد ( من هو المريض ؟ ) بل تتعدى الى قاعدة المحافظة على صحة الافراد عموماً ، حتى يستطيع النظام الاجتماعي تنشيط منهجه الاقتصادي في الانتاج وعدالة التوزيع . وبطبيعة الحال ، فان المؤسسة الصحية الاسلامية مسؤولة عن صحة الافراد في المجتمع الاسلامي على مستويين ؛ المستوى الاول : تثقيف افراد المجتمع تثقيفاً عاماً فيما يتعلق بفهم منشأ وسبب الامراض ، والتركيز على نظامي الوقاية والغذاء في تنمية الجسم البشري ، حيث يتم ذلك من خلال النشر والاعلام والتبليغ الفردي والجماعي . والمستوى الثاني : معالجة الافراد معالجة فردية في الظروف الطبيعية ، ومعالجة جماعية في الظروف الاستثنائية ؛ ومن ذلك توفير الحقن المضادة للأوبئة المعدية ، وتنقية مياه الشرب من الجراثيم ، والسيطرة على أنظمة المجاري العامة ، والتدقيق في الفحص الصحي للاسواق ومراكز بيع اللحوم والمواد الغذائية الاخرى والمطاعم والفنادق ، والسيطرة على الكائنات الناقلة للجراثيم كالذباب والبعوض والقمل.
وبطبيعة الحال ، فان المؤسسة الطبية تساهم بشكل حاسم في تنظيم الحالة الاجتماعية من حيث منح شهادات الميلاد والوفيات حتى يتم توزيع الثروة الاجتماعية بشكل عادل . وتساعد على فصل التخاصم في الارث والحقوق بين الافراد من خلال تشخيص الجينات الوراثية . وكذلك تساعد


( 157 )

في السيطرة على الامراض ، واثبات أحقية المعوقين باستلام المساعدات المالية ، ودراسة الساحة الصحية الميدانية حتى يتم تحديد الطاقة الانتاجية للنظام الاجتماعي الاسلامي . ولذلك ، فان المؤسسة الطبية تعتبر ركناً هاماً من أركان النظام الاجتماعي والديني والاخلاقي ايضاً.
ولما كانت المنافسة الاقتصادية في الاسلام مرتبطة بالمعنى العبادي وبمفهوم تعمير الأرض ـ على خلاف المبدأ الرأسمالي الذي أقحم المؤسسة الطبية في المعركة الاقتصادية فأفقدها مفهومها الانساني ـ أصبحت الرعاية البدنية مرتبطة بالثواب والعقاب أيضاً ؛ لأنها من الضروريات التي يحتاجها الفرد بالخصوص ، والنظام الاجتماعي عموماً . ولاشك ان الدولة مكلفة بسد هذه الحاجة الاساسية من شتى المصادر المتوفرة لها ، حتى تقوي في الفرد روح الانتاج والعبادة ، وحتى تبعد النظام الصحي عن المنافسة الاقتصادية الرأسمالية وما تجر معها من ويلات ومظالم بحق الفقراء.
ولاشك ان مناداة الاسلام ـ ايضاً ـ بالعدالة الاجتماعية وتضييق الفوراق الطبقية بين الافراد ، سيساهم في ازالة الامراض العقلية وغير العقلية بين الفقراء . فيشترك الفقراء ـ حينئذٍ ـ مع أقرانهم في ادارة النظام الاجتماعي . وكذلك فان مشاركة الطبقة الفقيرة في رفد المؤسسة الصحية بالاطباء في النظام الاسلامي سيخفف من حدة الفوارق الطبقية بين الافراد.


( 158 )

العلاقة بين الطبيب والمريض

وتستند العلاقة بين الطبيب وكل ما يمثله من منتجات دوائية وأجهزة طبية ورأي شخصي من جهة ، وبين المريض وما يمثله من قوة شرائية من جهة اخرى ، الى النظام الاخلاقي الاسلامي ، الذي يرتكز على ثلاثة عناصر مهمة هي : الخبرة ، والثقة ، والاستعفاف عن المال . فالخبرة الطبية علامة حاسمة في تعريف الطبيب وتشخيصه عن غيره من الخبراء كالصيادلة والممرضين والكيميائيين . والثقة عنصر مهم في التعامل الطبي ؛ وتعني هنا صدق الطبيب في تشخيص المرض . اما الاستعفاف فهو الاطار العام الذي يبلور شخصية الطبيب الاخلاقية ويمنحها فهماً وشفافيةً في التعامل مع المرض والموت ؛ بمعنى ان دور الطبيب ينبغي ان يفهم على انه يمثل رسالة رحمة لعلاج امراض الناس ، وليس تجارة يتصيد بها الحالات الاستثنائية لتجميع الثروة على حساب الآخرين . وليس غريباً ان يقوم القرآن مقام الطبيب في علاج امراض الناس الروحية ، كما قال عز وجل : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) (1) ، ( قد جاءتكم موعظة من ربكم
____________
(1) الاسراء : 82.

( 159 )

وشفاءٌ لما في الصدور ) (1) ، ( أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء ) (2) . وما الفارق بين الطبيب والمريض في المجتمع الاسلامي الا في امتلاك الخبرة وعدمها . فالطبيب خبير ، والمريض فرد يبحث عن استثمار تلك الخبرة لتصحيح وضعه الصحي.
ولما كان الطبيب مسؤولاً عن ربط الاعراض المرضية التي يظهرها المريض باسم طبي معروف ، فان دوره كخبير يتجاوز مجرد وضع العلاج الطبي ، ويذهب الى حد التدخل بشؤونه العبادية الشخصية كقضايا الطهارة مثل الوضوء والغسل ، وقضايا التعبد مثل اقامة الصلاة وتأدية الصيام ، والتدخل بشؤون الافراد مثل تصرفات المريض الذي يؤدي به مرضه الى الوفاة ، وما يترتب عليها من احكام تجاه الهبة والشركة والوصية . فالطبيب هو الذي يحدد المرض المتصل بالموت فيترتب على حكمه احكام تصرفات المريض . وقد يمنع الطبيب مريضه من الصوم ، ولكن يجيزه على الغسل للصلاة الواجبة . وقد ينهاه عن السفر بقصد الحج ولكن يجيزه على الصيام . وقد يحكم على ان مرضه ليس متصلاً بالوفاة . وفي هذه الحالات يتصرف الطبيب من وحي واجبه الشرعي كخيبر ، فيتجاوز بذلك الدور الذي وضعته له المؤسسة الصحية الى الدور الذي وضعه له الدين . وخبير له هذا الدور الخطير يجب ان يكون على اعلى مستويات الثقة حتى يطمئن الناس الى ممارسة اعمالهم العبادية ، حينما يتعلق الامر وينحصر بخبرته الطبية.
____________
(1) يونس : 57.
(2) فصلت : 44.

( 160 )

ويتدخل الطبيب في شؤون المريض الخاصة ، فله الحق في سؤال المريض حول أدق شؤونه الحياتية ، وواجب الطبيب هنا ان يحفظ للمريض ثقته به ، فلا يتعدى في السؤال الى ما يضر بمصلحة المريض أو ما يشبع شهوة الطبيب من معلومات . والمدار في كل ذلك هو الاطار الاخلاقي الاسلامي الذي يدعو الى الاعتدال وحصر الاستفسار بما يتعلق بالحالة المرضية.
وينبغي على النظام الاجتماعي الاسلامي تقسيم الطب ومؤسسته الى قسمين : قسم يتعلق بالنساء وامراضهن ، من ولادة وحمل ، وأمومة وطفولة . وقسم آخر يتعلق بالرجال وامراضهم.
فالقسم النسائي يتحمل مسؤولية الاشراف عليه والعمل فيه النساء من طبيبات وممرضات ومديرات ، وينبغي تخصيص أجنحة أو مستشفيات خاصة بالامراض النسائية ، محددة بدخول النساء الخبيرات في الطب والتمريض . وفي هذا ، تشجيع للمرأة على تأدية دورها الاجتماعي في التطبيب والعلاج ، وتخفيف عن عبء الرجل في علاج النساء ، خصوصاً في الامراض النسائية.
واذا أرادت المؤسسة الطبية تقليص الفجوة الواسعة بين الطبيب كخبير وبين المريض كفرد من عامة الناس ، فما عليها الا ان ترفع مستوى الافراد علمياً في القراءة والكتابة وفهم اسباب نشوء الامراض ؛ وذلك عن طريق نشر الموسوعات الطبية الميسرة بين الناس ، واذاعة المعلومات الطبية المبسطة التي لا تضر بعمل الطبيب أو اختصاصه . ولابد ان يدرك الطبيب ، ان تبسيطه المعلومات الطبية للمرضى لا يقلل من قيمته العلمية او المهنية ،


( 161 )

بل ان ذلك يضفي احتراماً وتقديراً لعمله . فالطبيب المتواضع الذي يحاول بذل جهده في تبسيط المعلومات الطبية لمرضاه يساهم بشكل من الاشكال في تقليل آثار الالم والمعاناة التي يمر بها المريض ، ويساهم ايضاً في رفع المستوى العلمي والثقافي على مستوى افراد الامة الاسلامية جميعاً.


( 162 )

اهل الخبرة الطبية

ودفعاً للمشاكل التي يواجهها المجتمع في تمييز الطبيب القادر على العلاج من بين المشعوذين والمنتحلين للصفات الطبية ، فان المؤسسة الطبية مكلفة بحصر تعليم الطب في الكليات والجامعات الطبية ، التي يحدد مستواها وكمية المعلومات الواجب تدريسها اكثر الخبراء علماً وتجربة في العلوم الطبية . ولاشك ان هذه العلوم متغيرة بتغير البحوث التجريبية ، ولذلك فان اي تطور في هذه العلوم يجب ان ينعكس على المواد المنهجية التي تدرس في هذه الكليات . ولابد من التأكيد على الجانب القرآني والفقهي الطبي في المنهج الدراسي بقسميه الغذائي والوقائي ، ودراسة آثار المحرمات كالخمرة والدم والميتة والخنزير والمسوخ ، وآثار التدخين والمخدرات وتلويث البيئة ، وآثار كثرة تناول اللحوم الحمراء وشحومها ، واحكام الصيد والتذكية الشرعية ، واستحباب السواك والتخليل . وهذه الموارد كلها تساهم بشكل فعال في تحليل اسباب نشوء امراض الحضارة الحديثة . ولاشك ان فكرة الوقاية ـ التي تجنب المجتمع الاسلامي العديد من الامراض التي ابتلي بها صانعو تلك الحضارة ومناصروها ـ يجب ان تحتل موقعاً متميزاً في المواد التدريسية.
ولابد في تقييم العمل الطبي ـ قضائياً ـ من اشتراك الحاكم الشرعي ،


( 163 )

والبينة ، والقرائن الموضوعية . فأذا اخطأ الطبيب في علاج المريض ، وثبت الخطأ شرعاً ، ألزمه القاضي الشرعي العادل بالضمان . ولابد في نفس الوقت من تصميم نظام خاص ـ ضمن النظام القضائي ـ يحفظ فيه حق المريض اذا اصابه الخطأ ، ويحفظ سمعة المهنة الطبية ، ويقيم العدل بين افراد النظام الاجتماعي في هذا الحقل بالخصوص.
وقد تتولى الدولة تحديد اجور الطبيب ، حتى لايتجاوز الحد الشرعي فيكون مدعاة انشاء طبقة رأسمالية جديدة في مجتمع يرفض الظلم الاجتماعي . ومع ان تحديد الاجر يتم على ضوء نوعية العمل المنجز ، الا ان رفع اجور العمل الطبي بشكل يؤدي الى تكديس المال في طرف وحرمان طرف آخر منه لايمثل اي شكل من اشكال العدالة الاجتماعية . وامام هذه المشكلة يقف الاسلام موقف الحكم . فالهدف من المهنة الطبية ـ كما يؤكد الاسلام ـ ليس جمع المال وكسب القوة السياسية والاجتماعية ، بل الخدمة الانسانية . وعليه فان اجر الطبيب ينبغي ان يتناسب مع نوعية ذلك العمل وكمية تلك الجهود المبذولة ولكن بشكل لا يسبب حرماناً للفقراء والمعدمين . وعلى ضوء ذلك تحدد الدولة اجور الطبيب في المعاينة والعمليات الجراحية ، وتحدد اجور بقية العاملين في الحقل الطبي.
ولاريب ان رأي اهل الخبرة الطبية حاسم في فصل القضايا القانونية امثال تشخيص الاضطراب العقلي بنوعية الادواري والمطبق ، وتقرير عجز الفرد عن القيام بالعمل الانتاجي ، وتحديد مقدار الجروح او الكسور في الديات . بل لايستطيع احد انكار اهمية دور الطب الجنائي في الكشف عن


( 164 )

اسباب الجريمة ومنشأها . ومع ان هذه العوامل تشكل مادة الحسم في الحكم الصادر ضد المتخاصمين في الامور القضائية ، الا ان وظيفة الطبيب تبقى مقيدة بحدود تقديم الخبرة الطبية ، ويبقى للقاضي اصدار الحكم الشرعي على طرفي النزاع بالاستناد على المصادر الشرعية والقضائية.
ولما كان الطب يتعامل مع الانسان تعاملاً مباشراً ، فان الخطأ الذي يقع سيسبب للمريض اضراراً بالغة . ولذلك ، فان الطبيب لابد وان يتحمل جزءاً من المسؤولية في ضمان ما يتلفه بالعلاج . فقد اتفق فقهاء الامامية ـ باستثناء ابن ادريس ـ ان الطبيب يضمن لو مات المريض بسبب العلاج . وينطبق نظام الديات في تلف النفس والاطراف على ذلك . ولما كان الضامن في الخطأ المحض عاقلة الجاني ، فان الضامن في الفعل الشبيه بالعمد ، الفاعل ـ وهو الطبيب نفسه ـ « لحصول التلف المستند الى فعله ، ولايبطل دم امرئ مسلم ، ولانه قاصد الى الفعل مخطئ في القصد . فكان فعله شبيه عمد ، وان احتاط واجتهد واذن المريض » (1).
____________
(1) شرح اللمعة ج 1 ص 108.



( 165 )

فلسفة ( الطب ) في النظريات الغربية ونقدها

ولاشك ان للنظام الاجتماعي الانساني مصلحة حقيقية في انشاء نظام صحي متكامل لعلاج الامراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الاوبئة والامراض المعدية ، حتى يتم استثمار طاقات العمال الاصحاء بطريقة يكون مردودها الانتاجي متناسباً مع حجم قابليات ذلك النظام . وعلى هذا الاساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً ، تحديد : ( من هو المريض ؟ ) ، ومن مصلحة النظام الاجتماعي ايضاً معرفة من يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يهرب فيه من اداء الواجبات الاجتماعية المناطة به.
وهذه الفكرة دعت ( تالكوت بارسنز ) ، وهو احد رواد النظرية التوفيقية ، الى القول بان المرض ليس ظاهرة بيولوجية فحسب ، بل انه ظاهرة اجتماعية ايضاً (1) . فالمجتمع الانساني لايتطور تطوراً طبيعياً مالم يقم الافراد جميعاً باداء ادوارهم الاجتماعية في كل الاوقات . فاذا تعرض احدهم لمرض من الامراض اصبح دوره الاجتماعي شاغراً لانه لايستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعياً . والنتيجة ، اما ان يحال ذلك الدور الى فرد سليم من الناحية الصحية ، واما ان يبقى شاغراً دون شاغل يشغله . وهذا التبدل في الادوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد ارباكاً ضد الحركة
____________
(1) ( تالكوت بارسنز ) . بحوث في النظرية الاجتماعية . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1954 م.

( 166 )

الطبيعية للنظام الاجتماعي . وبما ان المرض عامل اجتماعي سلبي على الانسان ، فان نزوله بعضو من اعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض . ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب ان تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي ، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.
ولكن هذه النظرية لاتخلو من مفارقات واخطاء ، فهي تصب جل اهتمامها على الامراض غير المزمنة كالانفلونزا وامراض الجهاز الهضمي والبولي ؛ وهذه امراض يتم علاجها في فترة قصيرة نسبياً ، ولكنها تهمل امراضاً مزمنة يصعب علاجها بفترة قصيرة كأمراض تضخم الانسجة ( السرطان ) ، وامراض نقص المناعة الحاد ، والامراض المؤدية الى فشل القلب في تأدية نشاطه الطبيعي ؛ حيث لايستطيع المريض في هذه الحالات المزمنة ايجاد شفاء عاجل لمرضه . وازدياد عدد الامراض المزمنة يؤدي الى استهلاك موارد النظام الاجتماعي ، بشكل لا يرتضيه النظام الرأسمالي لنفسه ؛ لان الفكرة الرأسمالية تستند بالاصل على الربح والخسارة . وأية خسارة تتجاوز الخطوط المرسومة لايحتملها النظام الاجتماعي.
أضف الى ذلك ان نظرية ( تالكوت بارسنز ) تركز على الطب العلاجي وتهمل فرضية الوقاية التي اشار الى بعض مواردها القرآن المجيد ، كما تناولنا ذلك في النظام الوقائي في الاسلام . ونضيف ثالثاً ، بان المجتمع الرأسمالي لو امتثل للمقولة المأثورة ( الوقاية خيرٌ من العلاج ) لانقذ حياة


( 167 )

الملايين من الافراد الذين يموتون بسبب مخالفتهم هذه القاعدة الصحية . ففي العقد الاخير من القرن العشرين يموت في الولايات المتحدة بسبب عادة سيئة واحدة يمكن الوقاية منها ـ وهي التدخين وما يترتب عليها من امراض ، كسرطان الرئة والفم والبلعوم ـ اكثر من 350 الف فرد سنوياً (1) . ويكلف هؤلاء النظام الصحي الامريكي ، من ادوية وعناية طبية قبل موتهم مبلغاً يقدر باكثر من عشرين بليون دولار (2) . ولكن لو طبق نظام الوقاية لوفر على ذلك المجتمع هذا المبلغ الكبير من المال ، وأرجع قسماً من هؤلاء الى اعمالهم وانتاجهم.
اما نظرية الصراع الاجتماعي ، فانها اعتبرت المعافاة الصحية مصدراً من مصادر القوة الاجتماعية التي اهتم بها الرأسماليون (3) . ولما كان المجتمع الرأسمالي مبنياً على المنافسة الاقتصادية ، فان المنافسة للسيطرة على النظام الصحي تحمل معها كل معاني المنافسة الاقتصادية ، لان النظام الصحي يدر على الطبقة الرأسمالية مقداراً هائلاً من الثروة ؛ ناهيك عن اندماج قادة النظام الصحي في العملية الرأسمالية ، وخصوصاً عمليات الاستثمار وما يصحبها من قدرة على تحويل القوة الاقتصادية الى قوة سياسية . واذا كان توزيع الثروة في المجتمع الرأسمالي محصوراً في الطبقة الرأسمالية القوية ، فان النظام الصحي ـ بكل ما يجلبه من خيرات سيكون حتماً ـ في قبضة اليد
____________
(1) ( وليام كوكرهام ) . علم الاجتماع الطبي . نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1986 م.
(2) ( ديفيد ميكانيك ) . قراءات في علم الاجتماع الطبي . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1980 م.
(3) ( هاورد ويتكن ) . المرض الثاني : تناقضات العناية الصحية الرأسمالية . شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، 1986 م.

( 168 )

الرأسمالية ؛ لان هذا النظام الصحي يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.
ولكن النظرية تتجاهل دور المؤسسة الصحية في التعامل مع الامراض على مستوى جميع الطبقات الاجتماعية . فتلك المؤسسة هي التي تقوم بتلقيح جميع الافراد باللقاحات الطبية قبل انتشار الاوبئة ، وهي التي تقوم بتنظيم قوانين الصحة العامة كتعقيم الحليب ضد الجراثيم ، وتنقية مياه الشرب ، وفحص الطعام المطبوخ في المطاعم العامة ، والسيطرة على الحشرات الناقلة للامراض كالبعوض والذباب والقمل . وهذه الانشطة الصحية لاتختص بطبقة دون اخرى بل تشمل كل الطبقات الاجتماعية الفقيرة والغنية.
وفي ختام هذا الفصل لابد ان نؤكد على فشل النظريات الغربية في التعامل مع المرض والنظام الحياتي والاجتماعي للفرد . ولايبقى لنا لمعالجة هذا الامر الا النظرية القرآنية التي تتعامل مع جسم الانسان عن طريقي الوقاية والغذاء ، فنقول :
ان التقدم العلمي المعاصر في الطب ، لم يقلل عدد الامراض التي يعاني منها المجتمع الغربي الرأسمالي ؛ حتى ان ( النظرية الجرثومية ) التي أبهرت العالم في القرن التاسع عشر لم يعد لها رصيد امام امراض الحضارة الرأسمالية الحديثة مثل السرطان ، وامراض القلب ، وانتفاخ الرئة ، والشلل ، وامراض نقص المناعة المكتسبة . بل أصبح النظام الصحي الرأسمالي بكل تقدمه العلمي الجبار عاجزاً عن علاج هذه الامراض الحديثة لان هذه


( 169 )

الامراض الخطيرة التي يعاني منها الفرد الغربي تقاوم وتتحدى الطب الحديث بكل قواه ومؤسساته وإمكانياته الكبيرة . وعلاج امراض السرطان والقلب والقرحة تكلف مالاً اوفر ، وتتطلب وقتاً اطول . ومن المؤكد ان امراض الحضارة الحديثة تبقى ما بقيت الحضارة الرأسمالية تستثمر الارض بشكل جنوني لاعتصار اقصى قدر ممكن من الخيرات . فمصانع الحديد والصلب والكيميائيات ومصانع الذرة تلوث البيئة الانسانية ، مسببة امراضاً بشرية لم يعرف لها الانسان القديم اسماً ولاشكلاً . بل ان هذه الحضارة جلبت للانسانية امراضاً واوجاعاً لم تأت بها اية حضارة انسانية اخرى على مر التاريخ.
ان امراض القلب ـ مثلاً ـ تعتبر من امراض الحضارة الحديثة . وسببها ؛ اولاً : كثرة تناول اللحوم الحمراء وهي لحوم الغنم والبقر والخنزير الحاوية على نسبة عالية من الشحوم الحيوانية ؛ وثانياً : ان شره الافراد في المجتمع الرأسمالي لتناول هذه اللحوم لا يحدها حد طبي او قانوني ، لان اختيار الطعام مسألة متعلقة بالحرية الشخصية ، التي هي اساس المبدأ الرأسمالي . فلا يحق لأية جهة طبيةٍ التدخل قانونياً لتنظيم حرية الافراد الشخصية . ولذلك فان امراض القلب التي تؤدي الى الوفاة ، تعتبر من اكثر الامراض انتشاراً في الولايات المتحدة في القرن العشرين (1) . ولكن آية قرآنية واحدة تستطيع ان تقضي على هذه المشكلة الصحية الخطيرة بكل بساطة . هذه الآية تدعو الى الاعتدال في الاكل والشرب وبضمنها
____________
(1) ( ري ايلنك ) . دراسة قومية حول الانظمة الصحية . نيوجرسي : الكتب التجارية ، 1980 م.

( 170 )

الاعتدال في أكل اللحوم ، فتقول : ( وكلوا واشربوا ولاتسرفوا انه لايحب المسرفين ) (1) . وكل من يشذ عن هذه القاعدة يدخل في متاهات الادمان والاضطراب الصحي التي تؤدي الى الموت.
والخلاصة ، ان المؤسسة الطبية الراسمالية تساعد على تخفيف آلام العديد من الامراض ، ولكنها لاتستطيع محو نتائجها المتوقعة التي تؤدي في النهاية الى الوفاة . ولانشك ان الطبقة الرأسمالية المتحكمة تعلم ان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء أسلم وأرخص الطرق لتكامل المجتمع الانساني صحياً : الا انها لاتريد تغيير نظامها الصحي ، لان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء لاتدر عليها ارباحاً هائلة كما يدرها النظام الصحي القائم اليوم . اضف الى ذلك ان انصار الفكرة الرأسمالية متمسكون بالمبدأ الرأسمالي الذي يترك للفرد حرية تقرير المصير ـ فيما يتعلق باشباع الشهوات الفردية ـ حتى لو كانت اضرار ممارسة تلك الشهوات ـ طبياً ـ واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
____________
(1) الاعراف : 31.