الفصل الخامس
النظام العائلي في النظرية القرآنية

العائلة في النظرية القرآنية * خصائص النظام العائلي في النظرية القرآنية * فلسفة ( العائلة ) في النظريات الغربية ونقدها *


( 172 )



( 174 )

العائلة في النظرية القرآنية

لاشك ان النظرية القرآنية تولي الاسرة عناية فائقة لادراكها اهمية الدور الذي ينبغي ان تلعبه تلك المؤسسة على الساحة الاجتماعية ، بخصوص ضبط السلوك الجنسي كما في قوله تعالى : ( ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (1) ، و( أحل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) (2) ، وتعويض الخسارة البشرية للمجتمع الناتجة بسبب الموت : ( لله ملك السماوات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ) (3) ، ( وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة ) (4) ، وحماية الافراد وتربيتهم واشباع حاجاتهم العاطفية : ( ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين ان اشكر لي والوالديك الي المصير ) (5) ، ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين احساناً وبذي القربى ... ) (6) ، ( وعاشروهن بالمعروف ) (7) ، ( ولاتقتلوا
____________
(1) الروم : 20 ـ 21.
(2) البقرة : 187.
(3) الشورى : 49.
(4) النحل : 72.
(5) لقمان : 14.
(6) النساء : 36.
(7) النساء : 19.

( 174 )

اولادكم من إملاق نحن نرزقكم واياهم ) (1) ، وتنميتهم للاختلاط والتفاعل الاجتماعي لاحقاً : ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الامور . ولاتصعر خدك للناس ولاتمش في الارض مرحاً ان الله لايحب كل مختال فخور . واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) (2) . وينضوي البناء التحتي للنظرية القرآنية على تحديد دوري الرجل والمرأة في المؤسسة العائلية ؛ او بتعبير ادق : تفصيل التكليف الشرعي فيما يخص واجبات الزوج وحقوق الزوجة اولاً ، وحقوق بقية الافراد في المؤسسة العائلية ثانياً.
ولاشك ان النظرية الاسلامية تؤمن بان الانسان ليس حيواناً اجتماعياً كما تزعم النظرية التوفيقية (3) ، بل تعتبره كائناً كريماً ، رفعه الخالق سبحانه وتعالى بالعلم والعقل والادراك والتفكير ، ومنحه قابلية الاستخلاف في الارض . بمعنى ان الانسان المفكر كلما ارتقى عن الحيوان بدرجة التفكير والادراك ، اختلفت ـ عندئذٍ ـ العلاقات والوظائف الاجتماعية بينه وبين الافراد كماً ونوعاً عن العلاقات الجمعية التي تجمع القطيع الواحد من الحيوانات ضمن مزرعة واحدة . فالحيوانات ضمن ذلك القطيع لاتعرف ضابطاً يضبط سلوكها الجنسي ، ولانظاماً يحدد من شهوتها الهائجة ، على عكس النظام الاجتماعي الانساني الذي ينظم العلاقة الجنسية
____________
(1) الانعام : 151.
(2) لقمان : 17 ـ 19.
(3) ( روبرت ميرتون ) . النظرية الاجتماعية والتركيب الاجتماعي . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1968 م.

( 175 )

بين الذكر والانثى عن طريق المؤسسة العائلية ، التي تعتبر من اهم المؤسسات الاجتماعية خدمة للانسان.
وبطبيعة الحال ، فان الاسلام لم ينظر للمؤسسة العائلية باعتبارها مؤسسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الافراد فحسب ، بل نظر لها باعتبارها محطة استقرار لعالم متحرك ، تنتقل من خلاله ممتلكات الجيل السابق للجيل اللاحق عن طريق الارث والوصية الشرعية ؛ ومحطة لفحص وتثبيت انساب الافراد عن طريق اعلان المحرمات النسبية والسببية الناتجة عن الزواج ، وجواز الاقرار بالنسب ؛ ومركز حماية الافراد بتقديم شتى الخدمات الانسانية لهم بخصوص الملجأ والمطعم والدفء والحنان . واذا كانت العائلة محطة لشحن الطاقات العملية ، وقاعدة لتنشيط الانتاج الاجتماعي ، فانها تعتبر ـ في الوقت نفسه ـ مركزاً لاشباع الحاجات العاطفية كالحب والحنان والعطف والرحمة ، ومكاناً لتهذيب السلوك الجنسي ، ومسرحاً لتعليم المعارف الاساسية قبل الخروج للساحة الاجتماعية كاللغة والاعراف والعادات والتقاليد والقيم الاخلاقية . فالعائلة ـ اذن ـ تساهم في خلق الفرد الاجتماعي الصالح للعلم والانتاج والمساهمة في بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع.
وصيانةً لكرامة المرأة ، فقد ألحق الاسلام المولود بالزوج بسبب الفراش اولاً ، ووطء الشبهة ثانياً ، وهو الوطء مع جهل التحريم . واصل الالحاق ينبع من قاعدة فقهية تسمى بـ ( امكان الالحاق ) التي تسالم عليها الفقهاء . ومن منطلق صيانة حقوق المرأة والمجتمع حرم الاسلام


( 176 )

ـ بالنسب ـ زواج الام ، والبنت ، والاخت ، والعمة ، والخالة ، وبنت الاخ ، وبنت الاخت . وحرم ـ بالسبب ـ زواج زوجة الاب على الابن ، وزوجة الابن على الاب ، وأم الزوجة على زوج ابنتها ، وبنت الزوجة ، والمطلقة ثلاثاً ، والمطلقة طلاق العدة ، ونكاح الشغار ، والزواج مع الارتداد والكفر ، والجمع بين الاختين ، وتحريم الزوجة اذا قذفها زوجها بالزنا دون اثبات البينة ، وفساد عقد زواج الرجل مع المرأة المتزوجة ، والمعتدة من وفاة او طلاق بائن او رجعي او شبهة . وفي كل هذه الاحكام الشرعية ، يكون الاصل حفظ حقوق وكرامة المرأة ككيان مستقل جدير بالاحترام ، لان عملية الزواج ليست عملية غريزية فحسب ، بل هي مسلك يؤدي بالمرأة الى طريق الامومة المتميز عرفاً وشرعاً . ولاسلطان للولي على المرأة البالغة ـ حسب النظرية الاسلامية ـ حيث ان لها الخيار في اختيار الزوج المناسب . وفي الطلاق ، فقد حفظت الشريعة كل حقوقها المالية والمدنية.
وعلى ضوء ذلك ، فان اتهام نظرية الصراع الاجتماعية المؤسسة العائلية بانها اول مؤسسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته (1) ، كان مجرد تشخيص لمشكلة اجتماعية اقليمية كانت تعيشها اوروبا في القرون الماضية وتعاني من آثارها السلبية ، ولايمكن تطبيقها على جميع المجتمعات الانسانية . فهل يستطيع ( فريدريك انجلز ) ان يحلل معنى الاضطهاد الاسري اذا كان للمرأة حق خيار الفسخ في العيوب الموجبة ، وحق الطلاق الخلعي ،
____________
(1) ( فريدريك انجلز ) . اصل العائلة ، الملكية الخاصة ، والدولة . نيويورك : الناشرون الدوليون ، 1942 م.

( 177 )

وحق الاشتراط في صيغة العقد ضمن الحدود الشرعية ؟ بل كيف يؤدي الاضطهاد الاسري الى الاضطهاد الاجتماعي ، كما يزعم ( انجلز ) ، وكلنا يعلم ان الاسر الرأسمالية الغنية اكثر نعومة في تعاملها مع النساء من الاسر الفقيرة ؟
ويعكس قول فقهاء الامامية بعدم اعتبار الحاجز الطبقي او العنصري في تحقق عملية الزواج ، عدالة الاسلام الاجتماعية . « حيث يجوز عندنا انكاح الحرة بالعبد ، والعربية بالعجمي ، والهاشمية بغير الهاشمي وبالعكس ، وكذا ارباب الصنائع الدنية كالكناس والحجام وغيرهما [ ان يتزوجوا ] بذوات الدين من العلم والصلاح والبيوتات وغيرهم » (1) . وقال اكثر الفقهاء بان شرط قدرة الزوج على النفقة ليست من شروط الكفاية لقوله تعالى : ( ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) (2).
ولاشك ان نظرة الاسلام الرحيمة تجاه العلاقة الشهوية بين الذكر والانثى وربطها بإصلاح المشاكل الاجتماعية ، تضع الاسلام على قمة المؤسسات العلاجية الهادفة لمعالجة الامراض التي تنشئها الدوافع الغريزية البشرية . فلكي يكون النظام الاجتماعي قادراً على علاج امراضه الاجتماعية ، لابد وان يطرح اشكالاً مختلفة من الزواج بحيث تلائم مشاكل الافراد المتنوعة . وعلى ضوء ذلك ، فقد اجاز الاسلام النكاح الدائم ، والمؤقت ، وتعدد الزوجات ، وملك اليمين . واعتبر ما وراء ذلك تعدياً على
____________
(1) الجواهر ج 30 ص 106.
(2) النور : 32.

( 178 )

الحدود الشرعية وظلماً اوجب على الافراد دفعه ـ على الصعيد الكفائي ـ . ولاريب ان اباحة هذا السلوك المتعدد كان الهدف منه معالجة المشاكل الاجتماعية التي تتركها الوحدة والحرمان . واذا كانت النظرية الاجتماعية الغربية تدعو بكل قوة الى الايمان بـ ( المذهب الفردي ) باعتباره طريقاً للعدالة الاجتماعية (1) ، فلا يحق للفرد ان يتزوج باكثر من زوجة واحدة .. فاذا كان الامر كذلك ، فنحن نرد على النظرية الغربية بالسؤال النظري التالي : ايهما افضل للنظام الاجتماعي : الزواج المتعدد او تعدد الزوجات ؟ فاذا كان الزواج المتعدد افضل ، فلماذا كل هذه العقد النفسية التي تحملها المرأة المطلقة اكثر من مرة ؟ ومن الذي يصبح مسؤولاً عن رعاية الاطفال المتكونين من اكثر من أب ، ومن يحفظ حقوقهم الاجتماعية ؟ بل اين الاستقرار النفسي الذي تعيشه العائلة اذا انكسرت الآصرة الجغرافية فابتعد الابناء عن آبائهم ، والبنات عن امهاتهن ، والاخوة عن اخوتهم ، والاخوات عن اخواتهن ، أليس هذا تمزيقاً لأواصر الاسرة الواحدة ؟
وفكرة تعدد الزوجات التي أقرها الاسلام فكرة استثنائية ، وليست أصلاً في التزويج الانساني ؛ فاغلب الافراد يكتفون بزوجة واحدة تشارك بشؤون البيت ، فتنهض الاسرة على اكتافها . اما في الازمات الانسانية ، وتغلب عدد النساء على الرجال ، فان تعدد الزوجات يصبح نظاماً يصب لمصلحة المرأة المحرومة اكثر منه لمصلحة الرجل ؛ خصوصاً اذا ما علمنا ان
____________
(1) ( سورن كيركيكارد ) . « المذهب الفردي والحقيقة الموضوعية » . فصل فلسفي في كتاب ( الاسئلة الثابتة في الفلسفة ) . تحرير : ميلفن رادر . نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، 1980.

( 179 )

تعدد الزوجات يستوجب العدالة الحقوقية والاجتماعية بينهم من قبل الزوج.
وتعتبر النظرية القرآنية ولاء الافراد تجاه بعضهم البعض في العائلة الواحدة اهم عامل من عوامل تماسك المؤسسة الاسرية . ولاشك ان احد مناشئ الولاء الشرعي ، هو التكافل المالي الذي أمر به الاسلام . فقد اوجبت الشريعة النفقة للاصول والفروع وهم الوالدان والاولاد ، واوجبت نفقة الزوجة مع ثبوت الطاعة والتمكين . حتى ان للمطلقة الحامل ـ طلاقاً رجعياً او بائناً ـ النفقة حتى تضع حملها . ولاشك ان للمرأة حقها المالي في الصداق ايضاً.
والاصل في ذلك ، ان يكون للاسرة وليٌ يدير شؤونها المالية والعاطفية ، او وصيٌ يدير شؤونها المالية ويرعى مصلحة افرادها . فقد تسالم الفقهاء على قاعدة ( امكان الالحاق ) ـ المذكور سابقاً ـ والتي تشير الى ان المولود لابد ان يلحق بالزوج ، حتى تنشأ فكرة ( الولاء ) من اليوم الاول الذي يرى فيه الطفل نور الحياة الانسانية . وما الرضاع والحضانة التي حدد الاسلام انظمتها ، الا شكل من اشكال القاعدة الاساسية للولاء الاجتماعي لاحقاً . وبالاجمال فان الاسلام ربى الافراد ـ في الاسرة الواحدة ومن خلال التشريع ـ على حب بعضهم البعض ، والتفاني في مساعدة احدهم الآخر مساعدةً تجعلهم كتلة واحدة امام الهزات الاجتماعية والاقتصادية . ولعل افضل تعبير يتفق عليه الفقهاء ويعكس حقيقة الولاء والحب والاخلاص في الاسرة هو ان الوصي المأذون على رعاية الاحداث


( 180 )

اذا خان ، انعزل تلقائياً وبطلت جميع تصرفاته حتى دون اذن الحاكم الشرعي . فلا عجب ـ اذن ـ ان نرى تماسك الاسرة الاسلامية حول محور المسؤولية الشرعية والالزام الاخلاقي والعدالة الاجتماعية ، على خلاف الفكرة الغربية الداعية لمذهب الفرد باعتباره اساس النجاح الاقتصادي والاجتماعي (1) ، وهو زعم كاذب ؛ لان تحقيق الطموحات الفردية دون الطموحات الاجتماعية يساهم في انعدام العدالة الاجتماعية ، وفي نشوء الطبقات الاقتصادي المتفاوتة ، وفي انحدار المستوى الاخلاقي ، وفي نشوء جيل من المشردين والمنحرفين الذين لايكترثون لمعنى الاجتماع الانساني ومعنى الحياة البشرية.
وبالاجمال ، فان النظرية الاجتماعية القرآنية تؤمن بأهمية الفرد في المؤسسة العائلية باعتباره انساناً شرفه الخالق عز وجل فرفعه من المستوى الدنيوي الى المستوى الذي يليق به ، ومن مستوى الحيوان الغريزي الى مستوى الانسان المفكر العاقل ، ومنحه الحقوق وفرض عليه الواجبات ، واوصاه بالتآلف والتآخي والتعاشر ضمن الدائرة الانسانية المتمثلة بالاسرة ، والدائرة الجغرافية المتمثلة بالبيت . ولولا جدية الاحكام الشرعية المتعلقة بحقوق الافراد في الاسرة الواحدة لانفرط عقد النظام الاجتماعي ، وانحلت الآصرة الانسانية التي ربطت الافراد ببعضهم البعض على مر العصور.
____________
(1) ( مي برودبك ) . « المذهب الفردي الطريقي : تعريف واختزال » . مقالة فلسفية في مجلة ( علم الفلسفة ) الامريكية ، مجلد 25 ، عدد 1 ، 1958 م.



( 181 )

خصائص النظام العائلي في النظرية القرآنية

ومن اجل فهم الابعاد الحقيقية للمؤسسة العائلية في المجتمع الاسلامي ودور القرآن الكريم في إحكام بنائها العلوي ، لابد لنا من دراستها تحت اطار النقاط التالية :
اولاً : اقرار الضمان المالي للعائلة في المجتمع الاسلامي . فتنصب مسؤولية الزوج على اعالة زوجته ووالديه وابنائه ؛ حيث قرر الشرع وجوب نفقة الزوجة الدائمة على زوجها ، حتى لو كانت الزوجة ثرية ، كما في قوله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم ) (1) ، ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ) (2) . وجعل المسؤولية مشتركة بينهما ؛ فعلية النفقة وعليها الطاعة والتمكين . ولاشك ان تحديد النفقة الشرعية مرهون بالعرف الاجتماعي ، الا ان الاصل فيها هو اشباع حاجاتها الاساسية من المأكل والملبس والمسكن والعلاج ونفقة الحمل والوضع والرضاعة والحضانة ، ولكن مع مراعاة الدخل المادي للزوج ، كما ورد في النص القرآني الشريف : ( لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً الا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ) (3) ، و( اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) (4) ، وقوله
____________
(1) النساء : 34.
(2) البقرة : 233.
(3) الطلاق : 7.
(4) الطلاق : 6.

( 182 )

في الاشارة الى حقها في السكن مع زوجها باستقلال : ( وعاشروهن بالمعروف ) (1) . ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ) (2) . وبطبيعة الحال ، فان وجوب الانفاق لايقتصر على الزوجة فحسب ، بل يجب على الاباء نفقة ابنائهم وان نزلوا ذكوراً واناثاً ، وعلى الابناء نفقة آبائهم وان علوا ذكوراً واناثاً ، وهو ما عبر عنه فقيهاً بنفقة الاصول والفروع ، حتى لو كان الاصل فاسقاً او كافراً بلا خلاف.
ثانياً : الضمان المالي للزوجة المتمثل بالصداق ، وهو الحق المالي الاولي الذي تتملكه بالعقد والدخول ، كما في قوله تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلةً ... ) (3) . وقد شرعه الاسلام لمصلحتها ، واعتبره حقاً من حقوقها المالية ـ ان كان مهراً مسمى ، او مهر مثل ، او مهر تفويض ـ وفي جميع الحالات ، يجب ان يكون المهر نقداً او عقاراً او منفعةً لها قيمةٌ معتبرة في العرف الاجتماعي والاقتصادي . فاذا طلقها قبل الدخول كان لها نصف المهر ، ولها المهر كاملاً بعد الدخول . ولاشك ان الصداق يعتبر ـ حسب النظرية الاسلامية ـ ضماناً مالياً كاملا للمرأة خصوصاً بعد الطلاق ، حيث تنقطع نفقة الزوج عليها . فلابد لها ـ حينئذٍ ـ من الاستقلال مالياً دون الحاجة الى مد يدها طلباً لسد حاجاتها الاساسية ؛ وهو تشريع تفتقده النظرية الغربية تماماً (4).
فاذا تم الطلاق ـ حسب النظرية الغربية ـ فان المطلقين يتقاسمان الثروة التي جهدا في تحصيلها خلال سنوات الزواج ؛ ولكن اذا بددت الثروة
____________
(1) النساء : 19.
(2) الطلاق : 6.
(3) النساء : 4.
(4) ( روبرت وايز ) . الانفصال الزوجي . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1975 م.

( 183 )

المالية خلال ايام الزواج لسبب من الاسباب ، او كان الزوج عاجزاً عن توفيرها ، اصبحت المطلقة ريشة في مهب الرياح الاجتماعية ، لاتملك لنفسها مالاً تشبع فيه حاجاتها الاساسية (1) . ولما كانت النظرية الغربية لا ترى في المهر حقاً من حقوق الزوجة الاساسية ولاشرطاً لها في صحة الزواج ، انحدرت اغلب المطلقات واولادهن الى مستوى الطبقة الفقيرة (2) . ولذلك ، فاننا نرى ان اغلب فقراء النظام الغربي الرأسمالي هم من المطلقات ، ولارامل ، والاولاد من العوائل المطلقة.
ثالثاً : ان الشروط الشرعية التي يشترطها الزوج او الزوجة ضمن العقد ـ في النظام الاسلامي ـ ليس لها ما يقابلها في الانظمة الاجتماعية الاخرى (3) . فالشروط الصحيحة التي لا تفسخ العقد يترتب عليها الالزام وصحة العقد ، كاشتراط الصفات الجسدية او الخلقية في احدهما ، فيثبت خيار الفسخ مع تخلف تلك الصفات لعموم ( المؤمنون عند شروطهم ).
اما الشروط غير الشرعية فهي اما ان تبطل العقد كالاقالة ، او تبطل الشرط ويبقى العقد صحيحاً كاشتراط عدم المس مطلقاً . وبالجملة ، فان الشروط الشرعية ضمن عقد الزواج ، توفر للزوج او الزوجة ضمانأً اخلاقياً او جسدياً يساهم في ادامة البيت الزوجي ، وتحقيق سعادته ضمن اطار النظام الاجتماعي.
رابعاً : لايصح الزواج ـ حسب الشريعة الاسلامية ـ الا بالخلو من
____________
(1) ( سار ليفيتان ) و( ريتشارد بلوز ) . ماذا يحصل للعائلة الامريكية ؟ بالتيمور : مطبعة جامعة جونز هوبكنز ، 1981 م.
(2) ( هيوكارتر ) و( بول كليك ) . الزواج والطلاق : دراسة اجتماعية واقتصادية . كامبردج ، ماساشوسست : مطبعة جامعة هارفرد ، 1976 م.
(3) ( هيلين كلارك ) . التشريع الاجتماعي . نيويورك : ابلتون سنجري وكروفتس ، 1975 م.

( 184 )

المحرمات النسبية والسببية للزوج والزوجة . والاصل في التحريم قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف انه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلا . حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم واخوتكم وعماتكم وخلاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت وامهاتكم اللاتي ارضعنكم واخواتكم من الرضاعة وامهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتهم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل ابنائكم الذين من اصلابكم وان تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف ان الله كان غفوراً رحيماً ، والمحصنات من النساء الا ماملكت ايمانكم . كتاب الله عليكم وأحل لكم ماوراء ذلكم ) (1) . ومع ان النظريتين الغربية والاسلامية تتطابقان في حرمة التزاوج بسبب المحرمات النسبية كالام والبنت والاخت والعمة والخالة وبنت الاخ وبنت الاخت (2) ؛ الا انهما يفترقان في المحرمات السببية . ففي حين توجب النظرية الاسلامية حرمة التزويج بسبب آثار المصاهرة كحرمة : زوجة الاب على الابن ، وزوجة الابن على الاب ، وام الزوجة على زوج ابنتها ، وبنت الزوجة على الزوج ؛ وحرمة التزويج بسبب آثار الزنا فليس لابيه ولالابنه العقد على الزانية التي زنى بها ؛ والحرمة المؤبدة للدخول بالمعتدة والمتزوجة ؛ وحرمة الجمع بين الاختين والمتولدتين من اب وأم ، او لأحدهما ؛ وحرمة الرجوع بعد التطليقة الثالثة مالم تنكح زوجاَ غيره ، ونحوها . ففي كل هذه الحالات تنفرد النظرية الاسلامية عن بقية النظريات الاجتماعية في الاهتمام بنظافة العلاقات الاجتماعية والاسرية المبنية على طهارة النسل وعدم
____________
(1) النساء : 22 ـ 24.
(2) ( وليام كيفارت ) . " الابعاد القانونية والاجرائية للزواج والطلاق " . مقالة علمية في كتاب ( الزواج والعائلة ) . تحرير : هارولد كريستنسن . شيكاغو : راند ميكنالي ، 1964 م.

( 185 )

اختلاط الانساب . وهذا يفضي بالتأكيد الى صلابة البنية التحتية للمجتمع الاسلامي ، حيث تشكل سلامة الاسرة وصحة مقوماتها ، سلامة النظام الاجتماعي كلياً.
خامساً : العيوب الموجبة للخيار بين فسخ العقد وامضائه ، وهي العيوب المكتشفة بعد تمام اجراء العقد كالاضطراب العقلي والخصاء والجب والعنن بالنسبة للرجل ، والاضطراب العقلي والبرص والجذام والعمى والعرج والقرن والعفل والافضاء والرتق بالنسبة للمرأة . فيثبت في هذه الحالات ـ حسب النظرية الاسلامية ـ خيار الفسخ على الفور . وكذلك الخيار بالتدليس وهو التموية باخفاء نقص او عيب موجود او ادعاء كمال غير متحقق قبل اتمام العقد . وكذلك الخيار لتخلف الشروط ، كأن تكون صفة عدم النقص من شروط العقد ، او كون عدم النقص وصفاً لاشرطاً ، او كون العقد مبنياً على اساس عدم النقص . ولكن اذا لم يبادر احدهما الى الفسخ لزمه العقد . وقد تولد هذه الحالات كراهية من نوع ما ، الا ان القرآن الكريم شجع الافراد على تخطي هذا الحاجز النفسي ، فدعا الى معاشرتهن بالمعروف : ( فان كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) (1) . ولاشك ان هذه التشريعات تعكس عدالة النظام القضائي الاسلامي بين الرجل والمرأة تماماً ، على عكس ما يروجه أعداء النظرية الدينية ويتهمون فيها الاسلام بعدم المساواة بينهما في القضايا الزوجية.
اما في النظام الغربي ، فان خيار الفسخ مرهون بحكم قضاة المحاكم البلدية ، حيث يرجعون الى العرف واهل الخبرة في تحديد ذلك (2).
____________
(1) النساء : 19.
(2) ( ارفينك مانديل ) . قانون الزواج والطلاق . نيويورك : اوشينا ، 1957 م.

( 186 )

ولايوجد في القانون الرأسمالي الاوروبي ما يشير الى دقة تفاصيل العيوب الموجبة للخيار بين فسخ العقد وامضائه ، كما هو معمول به في النظرية الاسلامية.
سادساً : ولاشك ان للعقد المنقطع الذي شرعه الاسلام ، أهمية كبرى في حل المشاكل الاجتماعية في المجتمع الصناعي ، بسبب انتقال الافراد المتمر بحثاً عن الاعمال . فللعقد المنقطع هدفان ، الأول : الاستعفاف به لمن لم يرزق النكاح الدائم لسبب من الاسباب . والثاني : محاربة الرذيلة والفجور في المجتمع الانساني . ولايختلف الزواج المنقطع عن الدائم الا في ذكر الاجل ، وتحديد المهر ، والعدة ، والتوراث ، والنفقة . بمعنى آخر ان الزواج المنقطع والدائم يشتركان في خلو الموانع النسبية والسببية ، وصيغة العقد ، ونشر الحرمة ، وحقوق الولد ولحوقه بالاب ، وقيمة المهر ، والعدة بعد الدخول ، والشروط السائغة في العقد . وهو يمثل نظرة الاسلام الرحيمة تجاه العلاقات الغريزية بين الرجل والمرأة ، وحلاً للمشاكل الاجتماعية التي يتعرض لها النظام الاجتماعي في الظروف الاستثنائية . ولما كان الشرع يسلط عيناً فاحصة على هذه العملية ، فان العديد من حالات العقد المنقطع تنتهي الى عقد دائم وسعادة اسرية . ولكن لابد من تأكيد نقطة مهمة واعادتها مراراً ، وهي ان العقد المنقطع يمثل استثناءً في عملية التزاوج الانساني وليس الاصل ، لان الاصل هو العقد الدائم في النظرية الاسلامية .
وقد اختلف فقهاء المسلمين في نسخ تشريع العقد المنقطع ، ولكنهم اتفقوا جميعاً على ان الاسلام شرعه في الاصل ، وان رسول الله (ص) أباحه ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن


( 187 )

فريضة ) (1) . فقد اتفقوا على ان المتعة « كانت مباحة في ابتداء الاسلام . وروي عن النبي (ص) لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة ، فشكا اصحاب الرسول (ص) طول العزوبة ، فقال : استمتعوا من هذه النساء ، واختلفوا في انها نسخت ام لا ؟ فذهب السواد الاعظم من الامة الى انها نسخت ، وقال السواد منهم : انها بقيت مباحة كما كانت . وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين (2).
اما النظرية الاجتماعية الغربية ، فانها تزعم بانها تهتم باحترام حرية الفرد في انشاء علاقات خاصة مع الجنس الآخر ، لكن دون توجيه الضابط الاجتماعي لفحص شرعية تلك العلاقات (3) . بمعنى ان ( المذهب الفردي ) والنظرية الرأسمالية تدعوان الافراد بشكل غير مباشر الى ممارسة الزنا والانحرافات الجنسية الاخرى ، خلافاً للفكرة الدينية التي تدعو الى التمسك بالزواج فيما يخص العلاقات الجنسية بين الذكور والاناث (4) . فليس غريباً ـ اذن ـ ان تعاني ثالثة ارباع الحالات الزوجية الامريكية في نهاية القرن العشرين من خيانات زوجية من كلا الطرفين في العائلة الواحدة بسبب ايمانها بالمذهب الفردي (5) . ولكن بسبب انتشار المصانع في رقعة جغرافية واسعة ، وانتقال الافراد بشكل مستمر نحو العمل ، وضعف الرقابة الاجتماعية على الافراد ، فان الاطار الشرعي الذي جاء به الاسلام في العقد المنقطع يعتبر اسلم الطرق نحو تحقيق السعادة الزوجية في المجتمع الصناعي
____________
(1) النساء : 24.
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي ج 10 ص 49.
(3) ( جيسي برنارد ) . النساء ، الزوجات ، والامهات : القيم والخيارات . شيكاغو : آلدين ، 1975 م.
(4) ( لوسلي دوبرمان ) . العائلة المعاد تركيبها . شيكاغو : نيلسون ـ هول ، 1975 م.
(5) ( ديفيد فنكلهور ) وآخرون . الجانب المظلم من العائلة . بيفرلي هيلز ، كاليفورنيا : سيك ، 1983 م.