المعاصر.
سابعاً : وحفظاً لسلامة الانساب وطهارتها ، فان الشريعة الاسلامية ، تلحق المولود بالزوج بسبب الفراش لامجرد العقد ، استناداً الى قاعدة ( امكان الالحاق ) التي تسالم الفقهاء على صحتها . وكذلك المولود بسبب وطء الشبهة ، فيلحق بالزوج ان كانت شبهة العقد مع الوطء ، أو شبهة الوطء من غير عقد . ولايكون الالتقاط ـ وهو ضم الفرد الملتقط الى الملتقط نسباً ـ ولا التبني ـ وهو نسبة ولد معروف النسب الى نفسه ـ عملاً شرعياً . فقد حرمت النظرية الاسلامية فسخ النسب الاصلي للفرد عن طريق التبني أو الالتقاط ، لان فيه تبعات اجتماعية واقتصادية واخلاقية كالتوارث المالي واكرام الفرد لنسبته الى ابويه البيولوجيين . فيقول تعالى : ( وما جعل ادعياءكم ابناءكم ذلكم قولكم بافواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، ادعوهم لآبائهم هو اقسط عند الله ) (1) . بمعنى ان « ما جعل الله من تدعونه ولداً [ بالتبني ] ، وهو ثابت النسب من غيركم ، ولداً لكم . ان قولكم : الدعي ابن الرجل ، شيء تقولونه بألسنتكم لاحقيقة له عند الله تعالى ، والله يقول الحق الذي يلزم اعتقاده وله حقيقة ، وهو ان الزوجة لاتصير بالظهار أماً ، والدعي لا يصير بالتبني ابناً . ادعوهم لآبائهم الذين ولدوهم ، وانسبوهم اليهم ، أو الى من ولدوا على فراشهم ، هو اقسط عند الله ، اي اعدل عند الله قولاً وحكماً » (2).
وهذا التشريع الاسلامي يناقض تماماً قانون النظرية القضائية الغربية في التبني ، حيث تقر تلك النظرية شرعية فسخ النسب الاصلي
____________
(1) الاحزاب : 4 ـ 5.
(2) مجمع البيان ج 8 ص 131.

( 189 )

للفرد ، وما يتبعه من توارث مالي ، فتزعم بان الابوة المعترف بها هي الأبوة القانونية وليست الابوة البيولوجية (1) . فلو وجد فردٌ طفلاً رضيعاً متروكاً عل قارعة الطريق مثلاً ، فله الحق في تبنيه ونسبته الى نفسه ، فيترتب على ذلك العمل ـ حينئذ ـ كل الآثار القانونية الملزمة للابوين القانونيين . اما المولود بسبب وطء الشبهة فان تشخيص نسبه عن طريق الجينات الوراثية اصبح عملاً ممكناً ـ من الناحية المختبرية الحديثة ـ ولذلك فانه ينسب الى أبيه البيولوجي . وبطبيعة الحال ، فان انتشار ظاهرة التبني ـ مع انها خففت عاطفياً واقتصادياً عن الاطفال المشردين ـ الا انها ساهمت من جانب آخر في تمزيق النظام العائلي والعشائري في المجتمع الصناعي بسبب ضياع الانساب اولاً ، واستحالة احتلال الاب القانوني دور الاب البيولوجي في شخصية الفرد المتبنى ثانياً.
ثامناً : النسب ـ حسب النظرية الاسلامية ـ هو حق ثابت لكل شخص . والاقرار به هو اعتراف صريح بذلك الحق . فالاقرار بالنسب هو ثبوت نسب الفرد الى فرد آخر . و« الاصل في شرعية [ الاقرار ] بعد الاجماع من المسلمين او الضرورة ، السنة المقطوع بها » (2) ، لقوله تعالى : ( أأقررتم واخذتم على ذلكم اصري قالوا أقررنا ) (3) ، وقوله (ص) : ( اقرار العقلاء على انفسهم جائز [ اي نافذ ] ) (4) ، وقوله (ع) : ( لا اجيز شهادة الفاسق الا على نفسه ) (5) . ويشترط في الاقرار ان يكون بين المولود والمقر
____________
(1) ( برنارد فاربر ) . العائلة والنسب في المجتمع الحديث . كلينفيو ، الينوي : سكوت وفورزمن ، 1973 م.
(2) الجواهر ج 35 ص 3.
(3) آل عمران : 81.
(4) الوسائل ج 16 ص 133.
(5) الكافي ج 7 ص 395.

( 190 )

تفاوت صحيح في السن ، كالتفاوت العرفي بين الأب والابن ، وان يكون الصغير مجهول النسب ، وان لا ينازع المقر في اقراره بنوة الصغير منازع آخر ، والا حكم بالوالد لصاحب البينة . ومن الطبيعي ، فان الاقرار بالنسب يعتبر شكلاً آخر من اشكال ترسيخ العلاقات الاسرية والاجتماعية بين الافراد ، وتأكيداً على رابطة الدم والولاء في النظام الاجتماعي الاسلامي.
تاسعاً : الرضاع في النظرية الاسلامية هو امتصاص الرضيع اللبن من ثدي أمه أو مرضعته . وآثاره الشرعية ، هو ان الرضاع من غير الام ـ ايضاً ـ ينشر تحريماً للزواج ، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والاصل في ذلك قوله تعالى : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) (1) . بشرط اولاً : ان تكون المرضعة متزوجة زواجاً شرعياً . ثانياً : وان تدره بسبب الحمل أو الولادة . ثالثاً : وان يمتص الرضيع اللبن من ثديها مباشرة . رابعاً : وان يؤدي الرضاع الى شد العظم وانبات اللحم ـ وهو اما خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد أو رضاع يوم وليلة ـ خامساً : واستيفاء المرتضع عدد الرضعات الشرعية قبل ان يكمل الحولين . سادساً : وحياة المرضعة عند جميع الرضعات . سابعاً : وان يكون اللبن لفحل واحد وهو زوج المرضعة . ولايوجد في النظرية القضائية الغربية ما يشير الى تفصيل الرضاع وآثاره الشرعية المذكورة آنفاً (2).
وقد حدد القرآن الكريم مدة الرضاعة بحولين ، واجاز نقصانها الى واحد وعشرين شهراً ، لقوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين
____________
(1) النساء : 23.
(2) ( هارييت بيلبل ) و( ثيودورا زافين ) . " القوانين الخاصة بالزواج والعائلة " . مقالة علمية في كتاب ( دائرة معارف السلوك الجنسي ) . تحرير : ألبرت أليس وألبرت أباربائيل . نيويورك : كتب هاوثورن ، 1961 م.

( 191 )

كاملين لمن أراد ان يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفسٌ الا وسعها ، لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ) (1) ، ( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) (2) . فاذا حملت به تسعة اشهر كما هو الظاهر كانت مدة الرضاع واحد وعشرين شهراً.
وللأم الحق في المطالبة بأجور إرضاع ولدها ، للنص المجيد : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن اجورهن ) (3) . وقد اتفق الفقهاء على ان الأم لا تجبر على ارضاع ولدها ، الا اذا تضرر الطفل من جراء ذلك ، فيجب عليها ـ حينئذٍ ـ الرضاعة . واذا كان الأب موسراً فعليه دفع اجرة الرضاعة ، واذا كان فقيراً فعلى الأم ان تتحمل مسؤولية ذلك.
عاشراً : الحضانة ، وهي رعاية مصلحة الصبي ، للأم والاب ما لم يقع الطلاق . فاذا وقع الطلاق اصبحت الأم أحق بالولد « لمزيد شفقتها ، وخلقها المعد لذلك » (4) . ويرجع في تحديد عمر مستحق الحضانة لأحد الابوين الى الحاكم الشرعي ، لانه هو القادر على تشخيص المصلحة الشخصية للصبي أو الصبية دون تحيز . ويشترط في الحاضنة ان تكون حرة ، مسلمة ، عاقلة ، وغير متزوجة بعد طلاقها من الزوج الأول . فاذا تزوجت سقط حضانتها ، لان الأهتمام بحقوق الزوج الجديد أولى من اهتمامها بولدها ، فتنتقل عندها حضانة الطفل الى الأب.
ولا تختلف النظرية الغربية عن الاسلامية في ذلك ، الا في مسألة زواج الحاضنة ، حيث يبقى الولد مع الأم حتى مع زوجها الجديد ، الا ان
____________
(1) البقرة : 233.
(2) الاحقاف : 15.
(3) الطلاق : 6.
(4) المسالك للشهيد الثاني ـ باب الحضانة.

( 192 )

يحدد القاضي ما يبرر وجوب انتقال الحضانة الى الأب (1).
حادي عشر : احكام الصبي في النظرية الاسلامية ، تشمل حقوقاً في الولاية والوصاية والمعاملات والعبادات فعلى صعيد العبادات ، فان عبادة الصبي عند فقهاء الامامية شرعية لا تمرينية ، ووصيته وصدقته جائزة وصحيحة اذا بلغ حد التمييز . على صعيد المعاملات ، فله ان يتملك ما يحوزه من المباحات ، ويغرم في ماله ما يحدثه في مال الغير من تلف أو عيب لأنه من الاحكام الوضعية . والصغير غير المميز يمنع من التصرفات المالية حتى يحصل له البلوغ والرشد ، وهو ما يسمى شرعاً بـ ( الحجر الشرعي ) . والى ذلك اشار القرآن الكريم بقوله : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم اموالهم ) (2) . وعلى صعيد الولاية الشرعية ، فان الحجر لايتم الا بوجود ولي يرعى مصلحة الصبي . وتثبت الولاية ـ اولاً ـ للاب والجد في مرتبة واحدة . واذا فقدا معاً تكون الولاية لوصي احدهما . ويشترط في الولي البلوغ والرشد والاتحاد في الدين ، وعليه مراعاة مصلحة القاصر مراعاة تامة . وان كان الولي فقيراً حق له ان يأكل من مال الصبي بالمعروف ، ولايحق له ذلك ان كان غنياً ، لقوله تعالى : ( ومن كان غنياً فليستعفف ، ومن كان فقيراً فليأ كل بالمعروف ) (3) . وعلى صعيد الوصاية العهدية ، فان الولي ينصب قبل موته وصياً قيماً على اطفاله لرعايتهم بعد الممات ، فتصبح الوصاية ملزمة
____________
(1) ( وليام كيفارت ) . " الابعاد القانونية والاجرائية للزواج والطلاق " . مقالة علمية في كتاب ( الزواج والعائلة ) . تحرير : هارولد كريستنسن . شيكاغو : راند ميكنالي ، 1964 م.
(2) النساء : 5 ـ 6.
(3) النساء : 6.

( 193 )

للوصي اذا علم بها ولم يعارضها ، ويشترط فيه نفس ما يشترط في الولي . وقد حبب القرآن الكريم ذلك بقوله : ( كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والاقربين ) (1) . ولكن اذا خان الوصي لسبب من الاسباب ، فقد انعزل تلقائياً وبطلت جميع تصرفاته دون تدخل الحاكم الشرعي . وعلى صعيد آخر ، فاذا مات الاب بلا وصية ، او مات الوصي ، ارجع أمر الاطفال الى الحاكم الشرعي ، لانه ولي من لاولي له.
ثاني عشر : الولاية الشرعية في الزواج ـ حسب النظرية الاسلامية ـ مختصة فقط بالصغير والسفيه والمجنون من الذكور والاناث . بمعنى ان البالغة الرشيدة والبالغ الرشيد يستقلان في زواجهما ولا ولاية لأحد عليهما ؛ لان الولاية والاستقلال في التصرف حق لكل انسان بالغ راشد ، ذكراً كان او انثى ، وقوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) (2) يدل على عموم اباحة الزواج وصحته دون الرجوع الى اذن الولي الا ما خرج بدليل . وهذا الاستقلال يعكس احترام الاسلام للمرأة ، واقرار رأيها في اختيار شريك حياتها . ولاشك ان الاطار الاخلاقي العام الذي جاء به الاسلام يضمن عفة المرأة ، ويجعلها في موضع اجتماعي افضل لخدمة حياتها الزوجية اللاحقة.
ثالث عشر : ان الوصية الشرعية تفويض الفرد بتصرف معين بعد موت الولي . وهي عهدية وتمليكية فالعهدية ايقاعٌ يوصي به فرد لآخر برعاية اطفاله ووفاء او استيفاء ديونه ونحوها . والتمليكية عقد يتم من خلاله تمليك فرد آخر بمال منقول او غير منقول . وشرعيتها ثابتة بضرورة الدين ،
____________
(1) البقرة : 180.
(2) النساء : 3.

( 194 )

لقوله تعالى : ( كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيراً الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف ) (1) ، وقوله (ص) : ( من لم يحسن عند الموت وصيته كان نقصاً في مروءته وعقله ) (2) . واجمع الفقهاء على استحباب الوصية ، وعليه يحمل قوله تعالى : ( كتب عليكم ) في الآية السابقة . ويشترط في الموصي ان يكون أهلاً للتصرفات المالية ، فلا تصح من الصغير ولا المجنون ولا المكره ولا السفيه ، لانهم ليسوا أهلاً لها ، لانعدام ارادتهم وفقدان قدرتهم على التمييز ما بين المصلحة والمنفعة الشخصية والعائلية . وتخرج الوصية من أصل التركة اذا كانت واجباً مالياً كالزكاة والخمس ورد المظالم والكفارات والديون ، او واجباً مالياً ـ بدنياً كالحج . وتخرج من الثلث فقط في الواجب البدني كالصوم والزكاة . واذا كانت الوصية على وجه من وجوه التبرع والمحابة ، فانها تنفذ بمقدار الثلث فقط مع وجود الوارث . وهذا التشريع يحفظ للورثة من المراتب الثلاث حقوقهم الشرعية في ثلثي الثروة المتروكة . فالزوجة تشترك في استلام جزء من الارث مع جميع المراتب ؛ وهو لاشك ضمان مالي آخر لها بعد وفاة الزوج . فهي تضمن المرتبة الاولى ـ التي تضم الاولاد والوالدين بالاضافة الى الزوجة بحجبها بقية المراتب ـ وعندها تستحق مبلغاً مالياً يعينها على العيش ما بعد وفاة رب الاسرة.
رابع عشر : ان احكام الارث في النظرية الاسلامية ، تعكس اهتمام الاسلام بالجانب الاجتماعي . فبعد اخراج مصاريف الكفن والغسل والدفن ، تخرج الديون الواجب وفاؤها ، ثم تقسم التركة بعد ذلك اثلاثاً . فتخرج
____________
(1) البقرة : 180.
(2) من لايحضره الفقيه ج 2 ص 267.

( 195 )

الوصايا بغير الواجب المالي من الثلث ، ويقسم الثلثان بين الورثة . فالقرابة او النسب لها مراتب غير متداخلة وهي اولاً : الابوان والاولاد . ثانياً : الاجداد والاخوة ، ثالثاً : الاعمام والاخوال . وفي السبب ، فان الزوجية تجتمع في الميراث مع المراتب . وقد فصلت ذلك الآيات القرآنية الكريمة في سورة النساء وهي 11 و12 و176 . واجملتها الاية 7 من سورة النساء وهي : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون ، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون ، مما قل منه او كثر نصيباً مفروضاً ).
ولاشك ان هذا النظام الدقيق في الارث يضمن قضيتين في غاية الاهمية في النظام الاجتماعي ؛ الاولى : حرمة كنز المال بين الاجيال المتعاقبة ؛ بمعنى ان الجهود التي يبذلها الجيل السابق لابد ان تصب في خدمة الجيل اللاحق ، اختياراً او اجباراً ؛ لان المال المتروك لابد وان يوزع على المستحقين من الورثة ، عن طريق الوصية والارث . الثانية : ان المراتب الثلاث في الارث والزوجية ، تحقق قدراً عظيماً من العدالة الاجتماعية بين الافراد في توزيع التركة المالية ، خصوصاً اذا ما لاحظنا ان المرتبة السابقة تحجب المرتبة اللاحقة في استلام الارث.
اما احكام الارث في النظرية الاجتماعية الغربية ، فانها متعلقة بالوصية الرسمية التي يتركها الفرد ؛ فله مطلق الحرية في محاباة من يشاء وحرمان من يشاء في وصيته (1).
خامس عشر : واحكام الطلاق في الشريعة الاسلامية ، لاتتم الا بشروط خاصة بشخصية المطلق وشخصية المطلقة . فيشترط في المطلق ان يكون بالغاً ، عاقلاً ، مختاراً ، قاصداً نية الطلاق . ويشترط في المطلقة ان
____________
(1) ( هيلين كلارك ) . التشريع الاجتماعي . نيويورك : ابلتون ـ سنجري وكروفتس ، 1957 م.

( 196 )

تكون زوجة دائمة ، معينة بالذات ، وفي طهر لم يواقعها فيه ، للنص المجيد : ( يا ايها النبي اذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) (1) . ولايقع الطلاق الا بحضور شاهدين عدلين من الذكور ، لقوله تعالى بعد ذكر انشاء الطلاق وجواز الرجعة : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة للـه ذلك يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) (2) . وبسبب اختلاف الاسباب الداعية لانفصال الزوجين فلابد ان ينقسم الطلاق الشرعي على ضوء تلك الاسباب . فالطلاق ـ في النظرية الاسلامية ـ رجعي ، وبائن خلعي ، وبائن مبارأة . فالرجعي ، هو الذي يملك فيه المطلق حق الرجوع الى مطلقته المدخول بها مادامت في العدة ، ولها الحق ان تكتحل وتتطيب ، لأن الله عز وجل يقول : ( لعل الله يحدث بعد ذلك امراً ) (3) ، أي لعلها تقع في نفسه فيراجعها (4) . والبائن الخلعي ، وهو الناتج عن ابانة الزوجة على مال تفتدي به نفسها بسبب كرهها له ، كما ورد في قوله تعالى : ( فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ) (5) ، ( فان طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ) (6) ، والبائن المبارأة ، وهو الناتج عن كراهية متبادلة بين الزوجين . ولابد للمطلقة من اتمام العدة الشرعية حتى تستطيع الزواج مرة اخرى ، وهي ثلاثة قروء للحائل : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) (7) ، والمقصود شرعاً بالقرء ، الطهر أو ما بين الحيضتين . ولاشك ان عدة الحامل
____________
(1) الطلاق : 1.
(2) الطلاق : 2.
(3) الطلاق : 1.
(4) الكافي ج 2 ص 108.
(5) البقرة : 229.
(6) النساء : 4.
(7) البقرة : 228.

( 197 )

هو وضع الحمل : ( واولات الاحمال اجلهن ان يضعن حملهن ) (1) . وعدة الوفاة اربعة اشهر وعشرة ايام : ( والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجاً يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشراً ) (2) ، ولاعدة قبل المس : ( اذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل ان تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) (3).
والاصل في العدة : طهارة الانساب في الحالات الطبيعية للطلاق ، واحترام الميت في حالة عدة الوفاة . ولابد للزوج من الانفاق على مطلقته الرجعية حتى انتهاء العدة . وهذه الاحكام الشرعية الخاصة بالطلاق ـ بالاضافة الى تنظيمها سلوك الافراد فيما يخص العلاقات الشرعية بين الرجال والنساء ـ تساهم في ضمان حقوقهم المعنوية والمالية في العلاقات الزوجية ، وتعطي الحق لكليهما في الانفصال والبدء بحياة جديدة سعيدة ، اذا فشلت الحياة الزوجية الأولى.
وتفتقر النظرية الاجتماعية الغربية تفاصيل مثل هذه الاحكام الشرعية . فلا تشترط في اجراء الطلاق شروطاً خاصة ما عدا شرط القصد بنية الطلاق (4) . لان الطلاق من مسؤولية الزوجين الفردية بإيمانها بشرعية الحرية الفردية في الحياة الاجتماعية.
سادس عشر : ان فكرة تعدد الزوجات التي شرعها الاسلام : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) (5) افضل للنظام
____________
(1) الطلاق : 4.
(2) البقرة : 234.
(3) الاحزاب : 49.
(4) ( جيمس هنسلين ) . الزواج والعائلة في مجتمع متغير . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1985 م.
(5) النساء : 3.

( 198 )

الاجتماعي من الزواج المتعدد ، التي نلاحظ مساوئه الاجتماعية في تمزيق العوائل المطلقة وما يتبعه من تشرذم للاطفال وتحطيم لنفسياتهم ولقابلياتهم الابداعية . ولكن فكرة تعدد الزوجات استثنائية في الاساس ، لان الاصل هو الزوجة الواحدة : ( فان خفتم الا تعدلوا فواحدة ) (1) . ولذلك فان فكرة التعدد تعتبر حلا اجتماعياً للمشاكل الاستثنائية التي تبتلي بها المجتمعات الانسانية.
____________
(1) النساء : 3.

( 199 )

فلسفة ( العائلة ) في النظريات الغربية ونقدها

وقد اولت النظريات الاجتماعية الاوروبية اهتماماً بالغاً بالعائلة ؛ لان هذه المؤسسة الاجتماعية الصغيرة تقوم بدور عظيم في احياء الحياة الاجتماعية ورفدها بالافراد المنتجين . فتعتقد النظرية التوفيقية بأن العائلة تقوم بدور مهم في تنظيم السلوك الجنسي بين الأفراد ، تحدد من خلاله نوعية الافراد المتزاوجين من حيث العمر والدخل والكفاءة (1) . وتقوم ايضاً برفد المجتمع بالافراد المنتجين جيلاً بعد جيل ، ولولا النظام العائلي لانقرضت البشرية والحياة الانسانية من على وجه هذا الكوكب . فتقدم العائلة المستقرة المتكونة من أب وأم للنظام الاجتماعي أفضل الخدمات الاجتماعية ، واهمها : سد الادوار الشاغرة التي يتركها الافراد حين مغادرتهم الحياة الدنيا خلال الموت . وتقوم العائلة بحماية الافراد ورعايتهم وتوفير الاجواء التي تسد حاجاتهم الاساسية في الخلود الى الراحة ، والاطمئنان للمستقبل ، وشحن طاقاتهم العملية ، فيكونون ـ بعدئذٍ ـ أهلاً للعمل والانتاج.
وبطبيعة الحال فان العائلة ـ حسب رأي المدرسة التوفيقية ـ تساهم في تحقيق طموح الانسان في التفوق والنجاح عن طريق الاختلاط الاجتماعي (2) . فالانسان كائن اجتماعي بالطبع ؛ ومنذ الولادة يسعى في اجواء الحب والحنان من قبل الابوين الى الانغمار بالنشاطات الاجتماعية ، فيتعلم
____________
(1) ( روبرت ميرتون ) . النظرية الاجتماعية والتركيب الاجتماعي . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1968 م.
(2) ( كريستوفر لاش ) . جنة في عالم لا قلب له : العائلة في حصار . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1977 م.

( 200 )

اللغة ، والقيم ، والدين والعادات الاجتماعية التي يقرها النظام الاجتماعي.
وعلى ضوء ذلك ، تقدم العائلة لأفرادها مقعداً اجتماعياً متميزاً ، يتناسب ـ اساساً ـ مع منزلة تلك العائلة الاجتماعية وثروتها . فالافراد جميعاً ينسبون الى عوائلهم من الناحية العرقية ، والدينية ، والمذهبية ، والاقتصادية ، والطبقية الاجتماعية ؛ بمعنى ان هوية الفرد المذهبية والعرقية تحددها العائلة اكثر مما يحددها الفرد نفسه . وبالتالي فان لهذه الهوية تأثيراً حاسماً على احتلال الافراد لأدوارهم الاجتماعية لاحقاً.
ولكن هذه النظرية لاتصمد امام الانتقادات التي توجه لها ، خصوصاً فيما يتعلق بظاهرة العنف التي تعيشها العائلة الرأسمالية الامريكية ، والتي قدرت في العقد الاخير من القرن العشرين باكثر من سبعة ملايين حادث عنف سنوياً يقع ضمن ستين مليون عائلة (1) ؛ علماً بان النظرية التوفيقية تساند ـ بقوة ـ تصميم العائلة الرأسمالية الغربية وتعتبرها من انحج التشكيلات الاجتماعية في العالم المعاصر . فكيف ينتج الحب والحنان في العائلة الغربية هذه المقدار من العنف والجريمة ؟ أضف الى ذلك ان تلك النظرية لم تستطع ان تقدم لنا تصوراً عاماً حول واجبات الزوجين وحقوقهما ، ومسؤوليتهما الشرعية أو القانونية تجاه بعضهما البعض اولاً ، وتجاه اليافعين في نظامهما العائلي ثانياً . ولم تتطرق النظرية ـ ايضاً ـ الى حقوق الافراد المنتسبين الى العائلة الواحدة في الارث والنفقة والتملك . ولم تتناول شكل العلاقة الزوجية ، ودور الطاعة والنفقة في تحديد العلاقة الغريزية بين الرجل والمرأة.
____________
(1) ( روبرت أمري ) وآخرون . الطلاق ، الاطفال ، والسياسة الاجتماعية . فصل علمي في كتاب ( السياسة الاجتماعية والابحاث الخاصة بنمو الطفل ) . تحرير : هارولد ستيفنسن والبرتا سيغل . شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، 1984 م.

( 201 )

ومع ان النظرية التوفيقية أكدت على دور الحب والحنان الاسري في بناء النظام الاجتماعي ، الا ان نظرية الصراع عارضت هذه الفكرة من الاصل ، وزعمت بأن العائلة هي أول مؤسسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية (1) . ولعل أخطر الأمثلة التي تقدمها هذه النظرية وتدينها من الاساس ، هي سيطرة الرجل على المرأة في النظام العائلي.
ولكن تفسير نظرية الصراع للاختلافات الطبقية وربطها الاضطهاد الاسري بالاضطهاد الاجتماعي هو مجرد عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حل بديل يعالج مشكلة الاضطهاد المزعوم . فهذه النظرية تقصر عن تحديد دور الزوجين في التعامل الانساني ، وتعجز عن تشخيص مسؤوليتهما المتبادلة في اشباع حاجاتهما الغريزية ضمن الحدود الطبيعية . وتعجز ايضاً عن تحديد مسؤولية الابوين تجاه القاصرين من الابناء والبنات ، والعاجزين من بقية أفراد الاسرة كالاجداد والجدات . ولم تتطرق النظرية الى الولاية الشرعية أو القانونية لأحد الأبوين ، ولا الى دور الوصي في حالة وفاة أحد الأبوين أو كليهما.
وبالجملة ، فان رأي نظرية الصراع الاجتماعي المتعلق بالفكرة القائلة بأن الزواج يمثل نموذجاً للعداوات التي ظهرت في التاريخ لايعكس الواقع الحقيقي للنظام الاسري الانساني ؛ بل ميثل جزءاً من واقع النظام الاسري الاوروبي في القرون الماضية وامتداده الى القرن الحالي . بل ان نظرية الصراع لم تقدم حلاً للمشكلة الاسرية ، وانما كان من أهداف روادها فقط ، ربط المشكلة الاسرية بمظالم النظام الرأسمالي ضد الطبقة العاملة.
____________
(1) ( فريدريك انجلز ) . اصل العائلة ، الملكية الخاصة ، والدولة . نيويورك : الناشرون الدوليون ، 1942 م.

( 202 )

ولاشك ان اتساع وتفصيل دقة النظام العائلي وشموله لجزئيات عديدة ومعقدة لايشجع أية نظرية وضعية على الخوض في غمار مناقشة الدور الاجتماعي للعائلة . وليست النظريات الغربية كالتوفيقية ، والرأسمالية ، ونظرية الصراع استثناءً من هذه القاعدة . فهي تفتقد الصورة الواضحة والمنهاج الدقيق الذي يعالج مشاكل المجتمع الرأسمالي الغربي أو الاشتراكي الشرقي الزوجية المتمثلة بالاسئلة التالية : أيهما أحق بالولاية القانونية العائلية : الزوج أم الزوجة ؟ وأيهما أفضل للنظام الاجتماعي : نظام تعدد الزوجات أم نظام الزواج المتعدد ؟ وأيهما أفضل للنظام الاجتماعي : زواج الاقارب أم زواج الأباعد ؟ وأيهما أكثر اقتصاداً وأكثر سعادة للأزواج الجدد : السكن مع عوائلهم أم انشاء وحدات سكنية جديدة بهم ؟ وأيهما أولى بالميراث : الاحفاد من جانب الأم أم الاحفاد من طرف الأب ؟ وأيهما أفضل وأكثر انتاجاً للمجتمع الانساني : العوائل الفردية الصغيرة أو العوائل الممتدة الكبيرة التي تضم ـ اضافة الى الزوجين ـ الاجداد والأولاد وأحفادهما ؟
وليس لدينا أدنى شك بأن النظرية القرآنية أجابت على كل هذه التساؤلات ؛ بل الأبعد من ذلك انهاجاءت بأكمل النظم الاجتماعية فيما يخص دور الفرد في الحياة العائلية على الأصعدة الحقوقية والمالية والعاطفية . وبذلك فقد هيأت الفرد ضمن اطارها الاخلاقي الرائع للدخول الى الساحة الاجتماعية وهو مسلحٌ بكل القيم والمفاهيم والمعاني السماوية العظيمة.