الفصل السابع
النظام القضائي في النظرية القرآنية


اهمية القضاء في النظرية القرآنية * خصائص النظام القضائي في الاسلام * نقد النظام القضائي الغربي *


( 252 )



( 253)

اهمية القضاء في النظرية القرآنية

تنبثق اهمية القضاء في النظام الاجتماعي من النظر لحقيقتين في غاية الاهمية ، وهما : اولا : الاشراف على سلوك الافراد لمنع اي تعارض محتمل بين حق الفرد الشخصي وحقوق الاخرين ، عن طريق بسل السلوك المنحرف عن السلوك المتفق عليه اجتماعياً ودينياً . ثانياً : انزال عقوبة المقاطعة الاجتماعية ، او القصاص ، او النفي بحق المنحرفين . وهذان العاملان يحددان دور القضاء في المجتمع الانساني . فالقضاء بمعاقبته للمنحرف عن الخط الاجتماعي العام يدعم ـ بالدرجة الاولى ـ المصلحة الاجتماعية العليا ، و ـ بالدرجة الثانية ـ مصلحة الافراد باعتباراتهم الشخصية.
ولاريب ان اهم ما يميز النظام القضائي الاسلامي عن مثيله في الانظمة الاجتماعية الاخرى ، هو انشاؤه وتصميمه من قبل الخالق عز وجل لتحقيق العدالة الجنائية والحقوقية بين الافراد ، كما جاء في قوله تعالى : ( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ) (1) ، ( واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ) (2) ، ويتمثل ذلك بتقديم منصة القضاء للعارف باحكام الله ، المجتهد العادل الامين الثقة الذي يستطيع استرجاع الحق المغصوب من
____________
(1) النساء : 59.
(2) النساء : 58.

( 254 )

الظالم ، او انزال القصاص العادل بالجاني ، او اجبار المعتدي على تعويض الضحية مالياً . وفي كل ذلك يكون الجهاز القضائي ميزاناً للحق ، ووسيلة رادعة وفعالة لحفظ النظام الاجتماعي . فالقضاء لا يحل التنازع الشخصي بين المتخاصمين فحسب ، بل يؤثر في قراراته على النظام التجاري والاقتصادي والسياسي للدولة ، وعلى الحياة العائلية ، وعلى نقل الملكية ، والارث ، وتحصيل العلوم ، وعلى كل انواع العلاقات التي تعارف الاجتماع الانساني على الاقرار بها.
واذا كانت النظرية الرأسمالية الغربية ، لا تزال الى حد اليوم ، منقسمة على ذاتها في تشخيص من الذي يحدد الانحراف والمنحرفين (1) ؛ حيث يذهب الجناح اليساري الى القول بان الطبقة الرأسمالية الغنية هي التي وضعت القوانين الجنائية لحماية مصالحها ضد الفقراء ، ويذهب الجناح اليميني الى القول بان الارتكاز العقلائي في النظام الاجتماعي هو الذي وضع القوانين لحماية المصلحة الاجتماعية العليا . في جو هذا الاضطراب الفكري الرأسمالي يقف الاسلام ونظامه القضائي شامخاً في تحديد الانحراف وتعريف المنحرف على اصول وقواعد شرعية ثابتة ؛ حيث تصرح القواعد الدينية بان الخالق سبحانه وتعالى هو الذي يحدد الانحراف ، وهو الذي يعاقب عليه ، وهو الذي يضع لكل واقعة حكماً يؤخذ من خلاله حق المظلوم ؛ ذلك انه ارسل الرسل والانبياء (ع) لهداية الناس الى تعيين ميزان القضاء العادل ، كما يقول
____________
(1) ( والترميرفي ) و( هيرمان بريشت ) . المحاكم . القضاة ، والسياسة : مقدمة في الاجراءات القضائية . نيويورك : راندوم هاوس ، 1986 م.

( 255 )

تعالى في كتابه المجيد : ( لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (1) . فالقضاء الاسلامي لا يضمن حقوق الافراد الشخصية فحسب ، بل يربط الجهاز القضائي بما فيه من قضاة ، وشهود ، ودعاوى ومن يرتبط بها ، بالله سبحانه وتعالى ؛ لانه هو مصدر كل الاحكام الشرعية التي يتعامل بها القاضي مع المدعي والمدعى عليه والشهود . فاصبح القضاء الاسلامي وسيلة من وسائل التعبد لله عز وجل ، وليس وسيلة من وسائل الاثراء وجمع المال والسيطرة السياسية كما هو المعمول به في النظام الرأسمالي.
واذا كان من مهمة القضاء وضع الخط الفاصل بين الاعتدال والانحراف ، والتمييز بين السلوك الطبيعي والجنائي ، فان الاسلام باعتباره دين العدالة والمساواة اعتبر القضاء جزءًا من رسالته الكلية التي تمتد مع امتداد تطلعات الانسان ، ونظرته الشمولية حول الكون والحياة . فلا يحتاج الفرد في النظام الاسلامي الى خبراء يصممون له قوانين قضائية ، لتجعله اشد تماسكاً مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي ؛ فإن ذلك قد ترك للرسالة الاسلامية بأبعادها المختلفة لتعمل عملها بتغيير نفسية الفرد ، وتشكيله من جديد على اساس حب الخير والتعاون والتآزر مع النظام الاجتماعي ؛ بمعنى ان الجريمة اذا وقعت في المجتمع الاسلامي ، فانها لا تعتبر عاملاً من عوامل تماسك المجتمع ، بل لابد من استئصالها بانزال اقصى العقوبات التي شرعها الخالق عز وجل ، وهي عقوبات القصاص والحد والدية ونحوها . وهذا
____________
(1) الحديد : 25.

( 256 )

الرأي معاكس تماماً لرأي النظرية الرأسمالية ، التي ترى على ضوء افكار ( اميلي ديركهايم ) ، بأن الجريمة ضرورية لتماسك المجتمعات الانسانية ، لانها تعرف حدود السلوك المقبول (1) . وهذه الفكرة الرأسمالية الغربية يرفضها الاسلام رفضاً قاطعاً ، لأن هذه الرسالة السماوية حددت ابعاد السلوك المقبول اجتماعياً عبر النصوص الشرعية المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، دون ضرورة الرجوع الى تشجيع الجريمة في النظام الاجتماعي . فاذا كانت عقوبة جناية القتل واضحة للافراد وهي القصاص في حكم الله ، فكيف يكون وقوع هذه الجناية سبباً لتماسك النظام الاجتماعي ؟ الا تكفي جدية النظام الاجتماعي في انزال العقوبة بالمهالفين نظريا ، سببا في الردع والتماسك الاجتماعي ؟ واذا كانت ابعاد السلوك المقبول معرفة في الرسالة التي يؤمن بها افراد النظام الاجتماعي ، فكيف يكون ارتكاب الجريمة تعريفاً لحدود السلوك المقبول ؟ اليس هذا دليلاً على ضعف النظام الاجتماعي الذي لايتماسك افراده الا بمشاهدة الجريمة والتماس العقوبة التي تلحقها ؟
ومع ان الرسالة السماوية العظيمة ، قد حددت وعرفت السلوك المقبول شرعياً ، وعلى اساسه وضعت مباني الثواب والعقاب ، الا انها مع ذلك ، صممت نظاماً قضائياً فريداً لم تشهد له البشرية مثيلاً في تاريخها الطويل ؛ فوضعت شروطاً للقاضي ، والمدعي ، والمدعى عليه ، والشهود . اوجبت ، وأكدت وجوبها مراراً على اجتهاد وعدالة القاضي ، لان المظلوم
____________
(1) ( اميلي ديركهايم ) . الاشكال البدائية للحياة الدينية : دراسة في علم الاجتماعي الديني . نيويورك المطبعة الحرة ، 1947 م . الطبعة الاولى عام 1912 م.

( 257 )

يرى فيه صوت الحق ونور العدالة الالهية . واوجبت في المدعي العقل والبلوغ والرشد والاصالة والجزم . وفي المدعى عليه البلوغ والتعيين . وفي المدعى به المعلومية والشرعية . ووضعت اصولاً للاثبات كالاقرار ، والكتابة ، والقرائن الشرعية والموضوعية ، والشهادة ، والبينة ، واليمين ، واليد ، والعلم والاستفاضة . واوجبت في الشهادة الوضوح والمطابقة ، والعلم ، وعدم النفي . واوجبت في الشاهد العقل ، والبلوغ ، والاسلام ، والعدالة ، والضبط . وشجعت على الصلح بين المتخاصمين اذا كان لا يحل حراماً ولايحرم حلالاً . ونظاماً كهذا لابد له من تحقيق العدالة القضائية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية بصورتها الشمولية الواسعة . ولاشك ان الاسلام سعى بكل جد لتحقيق تلك العدالة الاجتماعية ، منذ ان ارعبت كلماته الصاعقة بطون مكة ونظامها الجاهلي الظالم.


( 258 )

خصائص النظام القضائي في الاسلام

ومن اهم خصائص النظام القضائي في الاسلام ، ان القضاء وظيفة شرعية الزامية يجب على القاضي القيام بها ، كبقية الوظائف الشرعية الاخرى . بمعنى ان مهمة القضاء مهمة كفائية اذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، وان تقاعس الجميع اثموا جميعاً . والاصل في القضاء هو احقاق الحق ، تعويضاً كان او ردعاً . وقد اجمع فقهاء الامامية علىان لله في كل واقعة حكماً ثابتاً ، لقوله (ع) : ( ما من شيء الا وفيه كتاب وسنة ) ، و( ان الله تعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء ، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج اليه العباد ، فلا يستطيع عبد ان يقول : لو كان هذا انزل في القرآن ).
وفي اللغة معنى القضاء هو الحكم ، ومنه قوله تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه ) (1) ، وفي الاصطلاح هو ولاية الحكم شرعاً لمن له الفتوى (2) . والاصل فيه كتاب الله ، وبالخصوص قوله تعالى : ( يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) (3) ، وفي السنة انه (ص) بعث علياً (ع) قاضياً الى
____________
(1) الاسراء : 23.
(2) التنقيع الرائع للسيوري الحلي ج 4 ص 230.
(3) ص : 26.

( 259 )

اليمن (1) ، وبعث علي (ع) عبدالله بن العباس قاضياً الى البصرة (2).
ومن اجل عرض اهم خصائص النظام القضائي الاسلامي لابد لنا من ترتيب النقاط التالية :
اولاً : يشترط الاسلام في القاضي شرطي العدالة والاجتهاد ، اضافة الى شروط اخرى مثل العقل والبلوغ والاسلام والذكورية والضبط . ولكن اهمية الشرطين الاولين تضع الاسلام على قمة الانظمة القضائية في التاريخ الانساني . فالعدالة تعني ائتمان الفرد على تطبيق جزئيات الشريعة ، باقامة علاقة حقيقية وثيقة بينه وبين الله عز وجل ، وبينه وبين بقية افراد النظام الاجتماعي . وقيل ان معنى العدالة مقابل لمعنى الطاغوت في قوله تعالى : ( ألم تر الى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك ، وما أنزل من قبلك ، يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به ) (3) . اما الاجتهاد ، فيعني القدرة على استنباط الاحكام الشرعية من مصادرها المقررة وتطبيقها على مواردها الخاصة ، وقد اكد عليه القرآن الكريم بقوله : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ) (4) ، وبهذين الشرطين ، يستطيع القاضي القضاء بين الناس بالحق على الصعيد الظاهري ، لان الواقع لا يحرزه الا الله سبحانه وتعالى ، ولان الوصول الى الحق المطلق مستحيل على الانسان ، الا
____________
(1) المبسوط للشيخ الطوسي ج 8 ص 82.
(2) المبسوط ج 8 ص 85.
(3) النساء : 60.
(4) التوبة : 122.

( 260 )

لفرد متصل بالمطلق . ولكن الشريعة اجازت لمجتهدين استخدام الادلة الظنية الموصلة للحق . وعليه فان المجتهد ، هو اكثر الافراد حظاً في اصابة الواقع واقامة العدل ، ولذلك أسند له دور القضاء.
ثانياً : ان حكم المجتهد في النظرية الاسلامية لا يغير الحكم الواقعي . فلو ظهر لمجتهد آخر خطأ المجتهد الاول بطريق القطع واليقين ، جاز له نقضه . لان المدار في الاجتهاد الدليل القاطع كالآية القرآنية الصريحة ، والاجماع المحصل ، والحديث المتواتر . والمعيار لنقض الحكم هو العلم اليقيني بمخالفته للواقع . بمعنى ان الحكم ينفذ ظاهراً لا باطناً . والاصل في ذلك ، ان كل القضاة المجتهدين يعتمدون على الادلة الظنية الموصلة للحق اولاً ، والاجتهاد الذي يحتمل فيه الخطأ والصواب ثانياً ، فلا يستطيع احدهم نقض حكم الآخر ، الا اذا ظهر لقاضٍ ثانٍ خطأ حكم القاضي الاول بطريق القطع واليقين . وعليه ، فان الاستئناف هنا ، استثنائي ومحدود جداً ، وليس الاصل في كل الاحكام الجنائية والحقوقية.
اما في النظام القضائي الغربي ، فان الاستئناف حق دستوري وليس قضية ثانوية (1) ؛ بل ان اول ما يلمح به محامي الدفاع امام هيئة المحلفين ، حق المتهم في محاكمة استئنافية اذا لم تحرز عدالة المحاكمة الاولى . ولكن اذا كانت هيئة المحلفين في المحاكمة الاولى بعيدة عن روح العدالة في حكمها على المتهم ، فمن الذي يضمن عدالة محاكم الاستئناف بهيئة محلفين جديدة او بقضاة آخرين يمتلكون نفس مواهب نظائرهم في المحاكم الدنيا ؟
____________
(1) ( بنجامين كاردزو ) . طبيعة العملية القضائية . نيويورك مطبعة جامعة ييل ، 1921 م.

( 261 )

والاختلاف هنا بين النظامين ، هو ان النظام القضائي الاسلامي يؤمن بأن الحكم على المتهم يجب ان يستند الى العلم بالاصول والقواعد الشرعية في المرافعات ، اي ابتناء الحكم القضائي على اساس القطع واليقين او الدليل الظني الموصل للحق . اما الاستئناف في النظام القضائي الغربي ، فهو محاولة لمعالجة الخطأ الذي حصل في ابناء الحكم القضائي المستند على ادلة باطلة من الاساس.
ثالثاً : اقرار المتهم في الجناية ـ حسب النظرية الاسلامية ـ حجة مقتصرة بالمقر وحده . فلا ينفذ بغير احد غير المقر . ولكن اقرار الجاني لا يخفف من العقوبة الثابتة بحقه ، لان تخفيف العقوبة هو سلب حق من حقوق الضحية . ولا يقبل الانكار بعد الاقرار الا في حالة الجناية الموجبة للرجم ، حيث يسقط الحد . و« الاصل في شرعية الاقرار بعد الاجماع من المسلمين او الضرورة ، السنة المقطوع بها » (1) ، لقوله (ص) : ( اقرار العقلاء على انفسهم جائز [ اي نافذ ] ) (2) . وهو لاشك مصداق للنص الحكيم : ( أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقرارنا ) (3).
رابعاً : بعد ثبوت الجناية ، ينفذ حكم الله ـ حسب النظرية الاسلامية ـ مباشرة ودون تأخير . ولا تؤمن الشريعة الاسلامية بفكرة ( تعليق الحكم ) او مجرد ( عقوبة الاشراف على سلوك الجاني لاحقاً ) ، لان في ذلك تضييعاً
____________
(1) الجواهر ج 35 ص 3.
(2) الوسائل ج 16 ص 133.
(3) آل عمران : 81.

( 262 )

لحق المجني عليه ايضاً ، وتشجيعاً للأفراد على السلوك الجنائي.
اما المدرسة القضائية الغربية ، فهي تمارس اسلوب تعليق العقوبة الصادرة بحق الجاني (1) . حيث يقوم الحاكم بارجاء تنفيذ العقوبة التي استحقها الجاني لارتكابه الجناية ، واطلاق سراحه ، ومراقبته لفترة محددة ، فاذا كان سلوكه الاجتماعي متناسباً مع الاعراف المقبولة ، أسقطت العقوبة عنه . ولاشك ان تعليق العقوبة ـ التي هي نتيجة من نتائج ما يسمى بـ ( المساومة على الاقرار بالذنب ) التي يعقدها محامي الدفاع مع الجاني وبالاتفاق مع النائب العام ـ تعتبر من اخطر مشاكل النظام القضائي الغربي لانها تهدر حقوق الضحية بشكل سافر.
خامساً : ان تحمل الشهادة واداءها واجب كفائي في الاسلام ؛ وشروطها : الوضوح ، والمطابقة ، والعلم . ولابد من الشاهد : البلوغ والعقل والعدالة والضبط .. ولابد ان تكون الشهادة مرآة علم الشاهد بالمشهود به ، بمعنى انها يجب ان تكون نتيجة علم يقيني حصل للشاهد ؛ لأن الاصل فيها المشاهدة ، وهي العلم بالمشهود . ولذلك كانت العدالة ـ وهي الائتمان على تطبيق احكام الشريعة ـ شرطاً اساسياً من شروط الشاهد . فان تيقن القاضي بعدالة الشاهد أخذ بشهادته دون تزكية ، وان جهلها بحث عنها . وان تبين فسق الشاهد ، سقطت شهادته .
والاصل في تشريعها ، قوله تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) (2) ،
____________
(1) ( ريتشارد بوسنر ) . المحاكم الفدرالية . بوستن : مطبعة جامعة هارفارد ، 1985 م.
(2) الطلاق : 2.

( 263 )

( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) (1) . وفي رواية انه (ص) عندما سئل عن الشهادة ؟ قال : ( هل ترى الشمس ؟ قال : نعم . فقال : على مثلها فاشهد أو دع ) (2).
واتفق الفقهاء على ان تحمل الشهادة واداءها واجب كفائي ، بمعنى انه اذا قام به البعض سقط عن الكل ، وان امتنعوا جميعاً اثموا . وتحمل الشهادة يعني دعوة فرد لآخر بالشهادة له . ولاشك ان تلبية الدعوة واجبة شرعاً ، فلا يجوز للشاهد الرفض من غير عذر شرعي ، للنص القرآني الكريم : ( ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا ) (3) . وقوله (ع) : ( اذا دعاك الرجل لتشهد له على دين أو حق لم ينبغ لك ان تتقاعس عنه ) (4) . واداء الشهادة يعني تأديتها امام القاضي ، وهو واجب ايضاً ، لقوله تعالى : ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه آثمٌ قلبه ) (5) ، ( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ) (6) ، وللمروي عن الامام العسكري (ع) : ( من كان في عنقه شهادة فلا يأب اذا دعي لاقامتها ، وليقمها ، ولينصح فيها ، ولا تأخذه فيها لومة لائم ، وليأمر بالمعروف ، ولينه عن المنكر ) (7) . بمعنى ان الفرد اذا حدثت له حادثة ،
____________
(1) البقرة : 282.
(2) علل الشرائع ص 338.
(3) البقرة : 282.
(4) التهذيب ج 6 ص 276.
(5) البقرة : 283.
(6) البقرة : 140.
(7) تفسير الامام العسكري ص 303.

( 264 )

وكان هناك من شهدها كان على الشاهد شرعاً تلبية دعوة المجني عليه ، والذهاب الى المحكمة أو دار القضاء لتأدية الشهادة ، حتى لو تحمل النصب والمشقة في ذلك.
سادساً : تثبت الجرائم الخلقية بشهادة اربعة شهود ، لنص القرآن الكريم : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) (1) ، ( ... لولا جاءوا عليه باربعة شهداء ) (2) . ولا تنحصر الشهادة بالرجال ، بل ورد في الرواية عن الامام الصادق (ع) انه : ( يجوز في الرجم شهادة ثلاثة رجال وامرأتين ) (3) . وفي الجلد فتثبت باربعة رجال ، او ثلاثة وامرأتين ، او رجلين واربع نسوة (4) . وفي اللواط والسحق تثبت باربعة رجال فقط ، ولا تقبل شهادة النساء.
اما في حقوق الافراد غير المالية فثبت بشهادة رجلين . وفي حقوقهم المالية كالديون ، والرهن ، والوصايا بالمال ، وعقود المعاوضات بشهادة رجلين ، او رجل وامرأتين ، او رجل ويمين (5) ؛ بينما تفتقد النظرية الغربية الى هذا التفصيل ، حيث يبتنى الحكم القضائي على عدد غير محدود من الشهود (6).
سابعاً : ينبغي ـ حسب النظرية الاسلامية ـ ان تكون تزكية وتجريح
____________
(1) النور : 4.
(2) النور : 13.
(3) التهذيب ج 6 ص 264.
(4) الكافي ج 7 ص 39.
(5) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 33.
(6) ( ماكلين فليمنك ) . ثمن العدالة الواقعية التامة . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1974 م.

( 265 )

الشهود من قبل المدعي والمدعى عليه سراً ؛ حيث لا يجوز التشهير بمساوئ الناس او اضهار عوراتهم في الاسلام ، كما ورد في قوله تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم ، وكان الله سميعاً عليماً ) (1) ، ( ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ، ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون ) (2) . وكان رسول الله (ص) قد واجه ( ماعز ) باخلاقية عظيمة عند اعتراف الاخير بالزنا : ( لعلك قبلتها ، لعلك لمستها ) (3) ، وهو « تعريض بايثار الاستتار » (4) ؛ بينما لا تعير النظرية القضائية الغربية اهتماماً للتزكية ولا للتجريح السري (5).
ثامناً : شدد الاسلام على تحريم شهادة الزور ، كما ورد في قوله تعالى في التعرض لصفة المؤمنين : ( والذين لا يشهدون الزور ) (6) ، لان من نتائجها اضطراب واضح للعدالة الاجتماعية وزعزعة لعدالة النظام القضائي . وحرم على القاضي الاخذ بتلك الشهادة ، اذا تيقن انها كانت زوراً . واذا ثبت الزور في الشهادة انتقض الحكم ـ قبل التنفيذ او بعده ـ لان الحكم سيكون مبتنياً على الباطل ؛ بل ان شاهد الزور يكون مسؤولاً عن ضمان ما اتلف في شهادته.
تاسعاً : اليمين الشرعية على المنكر وسيلة مهمة من وسائل القضاء في
____________
(1) النساء : 148.
(2) الحجرات : 11.
(3) نيل الاوطار ج 7 ص 104.
(4) شرائع الاسلام ج 4 ص 77.
(5) ( ابراهام بلوبرغ ) . العدالة الجنائية : القضايا والسخرية . نيويورك : فيوبوينت ، 1979 م.
(6) الفرقان : 72.

( 266 )

الاسلام ، لقوله (ص) : ( البينة على من ادعى ، واليمين على من ادعي عليه ) (1) . ويشترط فيها صيغة اليمين المقتصرة على اسم الجلالة ، واذن الحاكم ، وموضوع اليمين وهو الحق المحلوف من اجله . ويشترط في الحالف : العقل ، والبلوغ ، والاختيار ، وحق الاسقاط ، والتبرع . والاصل ان الحاكم وليٌ عن المنكر ( المدعى عليه ) ، فان امتنع عن اداء الحق ، وهو حلف اليمين او النكول ، قهره عليه الحاكم لصالح المدعي.
وقد ورد اطلاق معنى الحلف في القرآن الكريم . كما في قوله تعالى : ( وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ) (2) ، ( ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ) (3) . ولكن السنة الشريفة خصصت معنى اليمين الشرعية في القضاء.
عاشراً : الكفالة في قوله تعالى : ( فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب ) (4) ، معناه « ضمها الي واجعلني كافلاً لها والقائم بأمرها » (5) . وعقد الكفالة على الصعيد الشرعي ، هدفه الاستيثاق من حضور المدعى عليه وقت المحاكمة ، حيث يتعهد الكفيل للمكفول له باحضار غريمه . وهي جائزة الا في الحدود . وهذا العقد يتحقق بالايجاب من الكفيل ، والقبول من المكفول به ؛ وان يكون الكفيل قوياً وقادراً على احضار المكفول . واذا امتنع الكفيل
____________
(1) التهذيب ج 6 ص 229.
(2) التوبة : 42.
(3) المجادلة : 14.
(4) ص : 23.
(5) مجمع البحرين للطريحي ص 452.

( 267 )

عن احضار المكفول تمرداً ، حبس حتى يأتي بصاحبه . وان كان الكفيل عاجزاً عن احضار المكفول ، ولكنه كان قادراً على الوفاء بحق المدعى عليه مالياً بعد ثبوته ، يؤمر بذلك.
اما في النظرية الغربية ، فان الكفالة عبارة عن ضمان مالي يقنع المحكمة الجنائية او الحقوقية بامكانية حضور المتهم وقت المحاكمة (1) . وانحصار الكفالة بالمال ، يؤدي الى تفضيل الاغنياء على الفقراء ، حيث يطلق سراح المتهمين الاغنياء بكفالة مالية الى حين المحاكمة ، وهي فترة قد تستغرق وقتاً مديداً . اما المتهم الفقير الذي لا يستطيع تدبير مبلغ كافٍ لدفع الكفالة فانه يمكث في السجن لحين وقت المحاكمة.
والاختلاف بين النظرتين ، يبين ان المال هو الاصل في الاستيثاق من حضور المدعى عليه في النظرية الغربية ؛ وان الكفيل ـ كفرد ـ هو الاصل في الاستيثاق من حضور المدعى عليه في النظرية الاسلامية ؛ لان الزام الكفيل باحضار المدعى عليه يضمن العدالة القضائية بين جميع الافراد ؛ لان الفرد ـ بكيانه الاجتماعي وعلاقاته المتشابكة ـ لابد وان يجد الكفيل الذي يكفله لسبب من الاسباب . اما اذا كان المال هو المقياس في الكفالة القضائية ، اصبحت العدالة القانونية معلقة في الهواء ومالت كفة المنافع نحو الاثرياء . وبالتالي ، تصبح الطبقة الرأسمالية هي الطبقة الوحيدة المنتفعة في النظام الاجتماعي.
____________
(1) ( ستيورات نكال ) وآخرون . العلم السياسي للعدالة الجنائية . كاليفورنيا : جارلس تومس ، 1983 م.

( 268 )

حادي عشر : عقد الصلح ـ وهو عقد شرعي بين المدعي والمدعى عليه ـ يتم عن طريق التراضي بينهما قبل الترافع الى القاضي . وهذا العقد ـ حسب النظرية الاسلامية ـ مبني على التسامح ، وتنازل المحق عن بعض حقوقه طلباً للاصلاح . والاصل فيه التراضي وطيب النفس بين الطرفين . والدليل على شرعية الصلح منبثق من قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) (1) ، ( والصلح خير ) (2) ، ( ادخلوا في السلم كافة ) (3) . بل « تدل النصوص على كونه عقداً مستقلاً بنفسه ، لا يتوقف على سبق خصومة ، مثل البيع وغيره من العقود » (4) ، لقوله تعالى : ( وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً او اعراضاً فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير ) (5).
وليس هناك ما يشير الى اهتمام النظرية القضائية الغربية بعقد الصلح بين الافراد ، الا ما يختص بالتعويضات التي تدفعها شركات التأمين والشركات الصناعية الكبيرة (6).
ثاني عشر : ان علاج المنحرفين ـ حسب النظرية الاسلامية ـ يجب ان يبدأ قبل وقوع الجناية ؛ بمعنى ان نشر العدالة الاجتماعية بين جميع الافراد
____________
(1) الحجرات : 9.
(2) النساء : 128.
(3) البقرة : 208.
(4) الجواهر ج 26 ص 211.
(5) النساء : 128.
(6) ( لويد واينرب ) . التنكر للعدالة : الاجراءات الجنائية في الولايات المتحدة . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1979 م.

( 269 )

وتهذيبهم على اساس مفاهيم الدين والاخلاق يمنع وقوع الانحراف ؛ لان الاصل في وقوع الجنايات هو الحاجة والجهل . فاذا اشبعت الحاجة الانسانية ، وعلم الانسان احكم الشريعة ، اصبح الفرد عنصراً نظيفاً مساهماً في بناء مجتمعه الآمن الجديد.
وتهذيبهم على اساس مفاهيم الدين والاخلاق يمنع وقوع الانحراف ؛ لان الاصل في وقوع الجنايات هو الحاجة والجهل . فاذا اشبعت الحاجة الانسانية ، وعلم الانسان احكام الشريعة ، اصبح الفرد عنصراً نظيفاً مساهماً في بناء مجتمعه الآمن الجديد.
اما النظرية القضائية الغربية ، فتعتقد بأن علاج الجاني افضل للنظام الاجتماعي من معاقبته ؛ لان العلاج اقل كلفة من العقوبة الجسدية (1) . ولكنها تتناسى بأن العلاج يجب ان يبدأ من النظام الاجتماعي نفسه لا من المنحرف . نعم ، ان عدالة توزيع الثروات الاجتماعية تساعد على علاج الانحراف ؛ والمساواة بين الافراد ـ بغض النظر عن جنسهم ولونهم ومنشأهم ـ يساهم في علاج المنحرفين.
ثالث عشر : وتلعب شخصية الحاكم العلمية دوراً كبيراً في الحكم بين المتخاصمين ، في النظرية الاسلامية ؛ لان القاضي المجتهد مسلط على الاصول العقلية والشرعية ، وعالم باصول القضاء وموارده ، وباني قضائه على اساس العلم والقرائن الموضوعية ، وان عليه ان يكون شاهداً على الواقعة اولاً . وعندما تتبين الادلة والشواهد على الجناية ـ عندئذٍ ـ يحكم . ولعل الآيات القرآنية الشريفة تؤكد ذلك ـ على سبيل الاطلاق ـ كما في قوله تعالى : ( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ) (2) ، ( فاسألوا اهل
____________
(1) ( ابراهام بلوبرغ ) ، العدالة الجنائية : القضايا والسخرية . نيويورك : فيوبوينت ، 1979 م.
(2) النساء : 59.

( 270 )

الذكر ان كنتم لا تعلمون ) (1).
اما في النظام القضائي الامريكي ، فان الذي يحكم بالبراءة او التجريم هو اعضاء هيئة المحلفين الذين يتم انتخابهم من دفاتر الضريبة ، دون النظر لعلمهم بالقضاء والحكم (2) . فكيف نتوقع العدالة من هؤلاء ، وهم اجهل الناس بقضايا الحكم والفصل بين المتخاصمين ؟
رابع عشر : وينظم الاسلام نظام العقوبات على اساس الحقوق ، فيقسمها الى حقوق لله وحقوق للناس ، ويفرع على هذه الحقوق حقوقاً مالية واخرى غير مالية . ففي حقوق الله ينزل القصاص والتعزير والدية ، ويلزم المخالف بالدفع . وفي حقوق الناس يلزم المعتدي بالدفع او السجن ، حيث لا يجعل السجن ، العامل الاصيل في العقوبة ؛ لان الاصل في العقوبة انزال الاذى المماثل بالجاني او دفع التعويض للضحية ؛ على خلاف القضاء الغربي الذي يقسم العقوبات ضد الجاني الى اربعة اقسام وهي :الغرامة المالية ، وتعليق العقوبة ، واطلاق سراح الجاني مع مراقبته بشروط ، والسجن (3) . وعقوبة الموت استثنائية وتقع في حالات جنائية خاصة (4) . والاصل في العقوبة القضائية الغربية انها ليست ثابتة وغير محددة بالشكل الذي لاحظناه في الاسلام.
خامس عشر : ولا ينتقي النظام القضائي الاسلامي الجرائم الصالحة
____________
(1) النحل : 43.
(2) ( جون جينثر ) . هيئة المحلفين في امريكا . واشنطن : حقائق على الملف ، 1988 م.
(3) ( جارلس سلبرمان ) . العنف الجنائي والعدالة الجنائية . نيويورك : راندوم هاوس ، 1978 م.
(4) ( ارنست فان هاك ) و( جون كونراد ) . عقوبة الموت : مناقشة . نيويورك : بلينوم ، 1983 م.

( 271 )

للمحاكمة ويهمل الجرائم الاخرى ، بل ان كل قضية جنائية ترفع من قبل المدعي يجب ان يقضى بها ، مالم يعقد الصلح بين المتخاصمين قبل المرافعة . والمدعي فقط هو الذي اذا سكت سكت عنه ، باصطلاح الفقهاء . بمعنى ان رفع القضية الجنائية او الحقوقية المتنازع عليها بيد المدعي ، وليس بيد النائب العام ، كما في النظام القضائي الغربي.
فللنائب العام ـ حسب الفكرة القضائية الغربية ـ صلاحية اختيار وانتقاء الجنايات التي يرى في ملاحقتها مصلحة اجتماعية (1) ، دون ملاحظة الآثار التي اوقعتها الجناية على المجني عليه . فقد يحول انتقاء النائب العام للجنايات ، الى عدم تعويض الضحية ، او الى افلات الجاني من العقاب ؛ وهو أمر ترفضه النظرية القضائية القرآنية بكل حزم.
____________
(1) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) قضايا مشيرة للجدل في الجريمة والعدالة . كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.

( 272 )

نقد النظام القضائي الغربي

ولاريب ان العبارات البراقة التي يصف بها مناصرة والفكرة الرأسمالية ، النظام القضائي الغربي وخصوصاً الامريكي ويوسمونه بالعدالة والنزاهة والقوة في الحكم بين المتخاصمين واحقاق الحق ، ما هي الا عبارات يراد منها ايهام الناس بتكامل ذلك النظام القضائي حقيقة وواقعاً ، وخداعهم بان قضاءً عظيماً ـ كالقضاء الامريكي ـ لابد وان يكون وليد حضارة عظيمة ، كالحضارة الرأسمالية الغربية.
ولكن نظرة منصفة سريعة تبين لنا ان ذلك النظام القضائي بعيد عن التكامل والعدالة المزعومة . ولتوضيح القصد من قولنا هذا لابد من تبيين المؤخذات التي نؤاخذها على النظام القضائي الغربي وخصوصاً الامريكي في الموارد الآتية :
اولاً : يمنح النظام القضائي الغربي النائب العام صلاحية اختيار وانتقاء الجرائم يرى في ملاحقتها مصلحة اجتماعية (1) . بمعنى ان للنائب العام سلطة اهمال جرائم معينة بحجة ان كشفها للرأي العام ، وملاحقة المجرمين المتورطين في وقائعها ليس من المصلحة الاجتماعية . وهذا شرخ
____________
(1) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) . قضايا مشيرة للجدل في الجريمة والعدالة . كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.
( 273 )

خطير في العدالة القضائية . فاذا كان ادعاء النظام القضائي بان الانتقاء يرشح الجرائم الخطيرة ويوصلها الى اروقة المحاكم ، فمن الذي يعين ـ ودون مصلحة شخصية ـ حدود الجرائم الخطيرة عن غيرها ؟ واذا كان النظام القضائي لا يستطيع معالجة جميع الجرائم ، فاين العدالة في التمييز بين ضحايا الجرائم الصغيرة وضحايا الجرائم الكبيرة بدعوى ان النائب العام هو اعرف بالمصلحة الاجتماعية من غيره ؟ وهل هناك جرائم صالحة للمحاكمة واخرى غير صالحة ؟ أليس الانحراف اصلاً من الاصول الاجرامية التي تستحق عقوبة رادعة للجاني حتى يعيش المجتمع الانساني في امان وثقة بأن الحق سوف يرد حتماً فيما اذا اغتصب ؟
ثانياً : ان منصب النائب العام في النظام الرأسمالي ـ الذي يمثل الدولة في الاعتقال ، والاستجواب ، والمحاكمة ، واصدار العقوبة ـ يشغل من قبل فرد يعينه رئيس الجهاز التنفيذي على مستوى المحاكم الفيدرالية ، او يشغل عن طريق الانتخاب من قبل الناخبين على مستوى المحاكم المحلية (1) . وليس هناك من سبب يدعو النظام الغربي الى تعيين ضابط من ضباط المحكمة وهو النائب العام على المستوى الفيدرالي ، وانتخابه على المستوى المحلي ، الا تثبيت سلطة الطبقة الرأسمالية الحاكمة ، وذلك بمنح السلطة الفيدرالية قوة قضائية اعظم من قوة السلطة المحلية ؛ والا لو كان المقياس العدالة القضائية فلماذا لا يتم انتخاب النائب العام الفيدرالي ايضاً كما تم انتخاب النائب العام
____________
(1) ( جيمس كالفي ) و( سوسان كو لمان ) . القوانين الامريكية والانظمة التشريعية . نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1989 م.

( 274 )

المحلي ؟
ثالثاً : ويقف محامي الدفاع في القضية الجنائية الخطيرة موقفاً متناقضاً (1) . ففي حالة تمثيله المتهم في العملية القضائية ، فانه ينظر اولاً الى مساندة النظام القضائي حتى لو اوقعت تلك المساندة ضرراً على موكله . واذا كان المتهم جانياً في الواقع فكيف يحق له مساندة ذلك المتهم ، والدفاع عن قضيته ضد المجني عليه ؟ أليس هذا مناقضاً لمفهوم العدالة الجنائية ؟ واذا كان محامي الدفاع يعلم علم اليقين ان الشاهد الواقف الى جانب الجاني يشهد شهادة كاذبة ، فهل يحق لمحامي الدفاع ان يجد في اقناع المحكمة بتصديق تلك الشهادة ؟ بمعنى ان محامي الدفاع لو كان يعلم يقيناً ان موكله ارتكب الجريمة المتهم بها ، ولكن وقائع الحادث والشهود لا تنهض بمرافعة عادلة ، فهل من العدالة ان يقوم محامي الدفاع بالدفاع عن الجاني ، وانقاذ رقبته من سيف العدالة ؟
رابعاً : اقناع محامي الدفاع للمتهم ، بشتى الوسائل النفسية على الاقرار بالذنب . وهذه المساومة التي يحاول النائب العام ـ بالتعاون مع محامي الدفاع ـ ايقاع المتهم في شراكها قبل اجراء المحاكمة ، تتناقض مع ابسط مفاهيم العدالة القانونية ، وتعتبر من اكبر المظالم التي تدين النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة (2) . فيعتبر اقرار المتهم بالذنب ـ حتى لو كان
____________
(1) ( جارلس سلبرمان ) . العنف الجنائي والعدالة الجنائية . نيويورك : راندوم هاوس ، 1978 م.
(2) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) . قضايا مثيرة للجدل في الجريمة والعدالة . كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.

( 275 )

المتهم بريئاً ـ انتصاراً لمحامي الدفاع في اروقة المحكمة . بل ان الاقرار بالذنب غالباً ما يصمم وينظم من قبل محامي الدفاع ، بحيث يكون مناسباً لمتطلبات النائب العام ومتناسباً مع المصلحة الاجتماعية ! ولاجل ذلك يستخدم محامي الدفاع شتى الاساليب النفسية لا نتزاع الاقرار بالذنب من المتهم ، مستعملا الاساليب العالطفية السايكولوجية لكسر صمود المتهم ، الى ان يضمن امضاءه على لائحة الاقرار بالذنب عن طريق الايحاء بان العقوبة ستخفف الى ادنى قدر يسمح به القانون . واذا كان المتهم جانياً في الواقع ، وكانت الافادات والشهادات تثبت قيامه بارتكاب الجناية ، فما معنى تخفيف عقوبته مقابل اقراره بالذنب . أليس هذا ظلماً واجحافاً بحق الضحية ؟ واذا كان المتهم بريئاً في واقع الامر ، ولكن الافادات والشهادات لا تثبت براءته ولا تجريمه ، أليس من الظلم اقناعه او اكراهه بالاقرار بالذنب مقابل تخفيف العقوبة الصادرة بحقه ؟ واذا كان المتهم البريء يقبل المساومة على الاقرار بالذنب ـ لانه يخشى صرامة العقوبة الصادرة بحقه فيما اذا جرت المحاكمة ـ أليس هذا شرخاً في عدالة النظام الرأسمالي ؟ واذا كان المفترض في محامي الدفاع نزاهته وتفانية في الدفاع عن موكله ، فكيف يفسر النظام القضائي الرأسمالي لهث ذلك المحامي وراء اقناع موكله بالاقرار بالذنب ـ بريئاً كان او جانياً ـ أليس هذا مناقضاً لادعاءات النظام بأحقية المتهم في التمثيل القانوني العادل ؟ بل ما معنى التمثيل القانوني اذا كان لايصب في مصلحة المتهم البريء ؟ وما معنى التمثيل القانوني اذا كان يصب في مصلحة الجاني ضد المجني عليه ؟


( 276 )

خامساً : ان النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة لا يطلب من القاضي ان يكون حقوقياً او قانونياً او حتى حاملاً لاية شهادة جامعية (1) ؛ لان الذي يقوم بتحضير مستلزمات القضية الجنائية هو النائب العام مستعيناً بجهاز الشرطة والاستخبارات . اما الذي يحكم في القضية الجنائية فهم اعضاء هيئة المحلفين بالاجماع . وما على الحاكم الا قراءة الحكم الصادر بصورة شفهية . بمعنى ان الحاكم او القاضي الرأسمالي هو مجرد اداري يشرف على سير المحاكمة الجنائية وصياغة ألفاظ الحكم ، ولا يستطيع بحضور هيئة المحلفين ان ينشئ حكماً ضد المتهم ، بل له ـ فقط ـ تحديد العقوبة او تعليقها . والاصل في النظام القضائي الغربي ان المحكمة جهاز اداري يفصل بين الخصومات على اساس النظر الشخصي لأعضاء هيئة المحلفين ، او النظر الشخصي للحاكم (2) دون الاخذ بنظر الاعتبار درجة علمية هؤلاء الافراد بالقضايا القانونية والادارية . وهذه هفوة خطيرة اخرى في عدالة النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة.
سادساً : ان الكفالة المالية التي اقرها الدستور الامريكي في التعديل الثامن ، انما جاءت للتأكيد على ضمان اطلاق سراح المتهمين من افراد الطبقة الغنية لحين ورود موعد المحاكمة (3) . اما افراد الطبقة الفقيرة ، فليس لهم من يكفلهم ، لان اقرانهم وذويهم لا يملكون المال الكافي لدفع الكفالة المالية ،
____________
(1) ( ابراهام بلوبرغ ) . العدالة الجنائية : القضايا والسخرية . نيويورك : فيوبوينت ، 1979 م.
(2) ( والترميرفي ) و( هيرمان بريشت ) . المحاكم ، القضاة ، والسياسة : مقدمة في الاجراءات القضائية . نيويورك : راندوم هاوس ، 1986 م.
(3) ( ماكلين فليمنك ) . ثمن العدالة الواقعية التامة . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1974 م.

( 277 )

فيبقى المتهمون في السجون فترة غير قصيرة ، ينقطعون فيها عن الانتاج وإعاشة انفسهم وعوائلهم . والكفالة المالية اسلوب آخر من اساليب التمييز بين الفقراء والاغنياء ؛ لان المال هنا يستثمر كخط احمر يفصل بين الحرية والانعتاق ، والعبودية والتقييد . فالثري يخرج حراً مزاولاً عمله الانتاجي حتى يحين موعد المحاكمة ، والفقير يخسر عمله وحريته حتى يحين وقت المحاكمة . واذا كان النظام القضائي الرأسمالي يزعم بعدالة نظامه ، فاين هي العدالة بين الافراد في استخدام المال في كفالة المتهمين ؟
سابعاً : ان اختيار هيئة المحلفين من دفاتر الضريبة ، دون النظر لعلمهم بالقضاء والحكم (1) ، لايزال محل نقد شديد . فكيف يستطيع اثنا عشر فرداً من عامة الناس الحكم على قضية جنائية تتعلق بالقتل او الغصب او السرقة ؟ بل كيف يجلس هؤلاء عملياً ـ وقد يكون بعضهم لا يعرف القراءة ولا الكتابة ـ مجلس القاضي في الحكم بين المتخاصمين ، ويصدرون قراراتهم بتجريم المتهم او باعلان تبرئته ؟ اما الشروط التي تحدد انتقاء هؤلاء فهي لا تتعدى في الواقع الملكية الخاصة والقدرة العقلية العامة على الفهم الخارجي (2) ، وهل هذه الشروط العامة تنهض الى مقام القضاء الرفيع ؟ بل كيف يطمئن الفرد اذا اتهم وقدم الى المحاكمة بعدالة حكم هيئة المحلفين ، التي يستند عليها القاضي في اصدار العقوبة بحق المتهم ؟ وبالتالي من يضمن
____________
(1) ( لويد واينرب ) . التنكر للعدالة : الاجراءات الجنائية في الولايات المتحدة . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1979 م.
(2) ( جون جينثر ) . هيئة المحلفين في امريكا . واشنطن : حقائق على الملف ، 1988 م.

( 278 )

عدالة النظام القضائي بخصوص معاقبة الجاني وتعويض المجني عليه ؟
ثامناً : ان نظام العقوبات غير المحددة التي اقترحها اصلاحيو القرن الثامن عشر الميلادي امثال ( اينوخ ويانز ) و( زبلون بروكوي ) وادعوا فيها ان عقوبة السجن ينبغي ان تصمم لمقابلة حاجة الجاني المرضية والنفسية والشخصية (1) ، بعيد كل البعد عن نظام العدالة القضائية . فكيف يستطيع قضاة النظام الرأسمالي تحقيق العدالة بين فردين ارتكبا نفس الجناية ، ولكن احدهما عوقب بالسجن لمدة سنة واحدة ، والآخر بالسجن لمدة عشر سنوات ؟ ومن الذي يحدد حاجة الجناة الشخصية للعقوبة ؟ ثم الا يعد اعطاء حق القضاء للطب النفساني ظلماً واجحافاً بالجاني والمجني عليه ؟ ثم الا يعد عدم معاقبة الجاني معاقبة صارمة اضعافاً لقوة النظام القضائي وقدرته على مكافحة الاجرام والانحراف ؟ اضف الى ذلك ان هذا النظام الاصلاحي المزعوم يسلب حق العقوبة من النظام القضائي ، ويضعها بيد نظام آخر كالنظام الطبي النفساني ، على افتراض ان علم النفس هو الذي يحدد حاجة الجاني للعقوبة ، وهو اصلاح ينافي ـ بالتأكيد ـ كل معاني العدالة الاجتماعية والقضائية.
وفي الختام ، فان اهتمامنا بدارسة ونقد الانظمة القضائية والاجتماعية الغربية ونحوها يعطينا فرصة عظيمة لاكتشاف النظرية القرآنية والاهتمام ببلورتها ومعرفة مواطن الكمال في بنائها العلوي . ولاشك ان النظرية الاجتماعية الاسلامية التي لاحظنا ملامحها في كتاب الله الخالد هي اكمل النظريات الاجتماعية وادقها على وجه الارض.
____________
(1) ( بيتر كونراد ) و( جوزيف شنايدر ) . الانحراف والتطبيب . سانت لويس : موزبي ، 1980 م.