وتختلف اشكال العلاقات الاجتماعية فيما يتعلق بالزواج والعائلة
والنسب من مجتمع لآخر ، فلكل مجتمع على الاغلب شفرة اخلاقية تشير
الى منع التزواج بين افراد العائلة الواحدة ، كحرمة التزاوج بين الاخوة
والاخوات والابناء والامهات مثلاً . ففي المجتمع الرأسمالي يحرم النظام
القضائي على الفرد التزوج من الام ، والجدة ، والبنت ، والاخت ، والعمة ،
والخالة ، وبنت الاخ ، وبنت الاخت . وفي تسع وعشرين ولاية من
الولايات المتحدة يحرم القانون الزواج بين ابناء وبنات الاعمام ويعتبره
غشيانا للمحارم (1) .
والقاعدة في التزاوج في المجتمع الصناعي ان قضية الزواج
والمعاشرة بين الرجال والنساء قضية شخصية مبنية على اساس الحب
الرومانتيكي ، فللفرد مطلق الخيار في البحث عن شريكة لحياته ، عن
طريق الاعجاب المتبادل بينهما . وعلى ضوء ذلك فان رواد النظرية
الرأسمالية يدينون الزواج المبني على اساس اقتصادي ، كما يحصل غالباً في
المجتمعات الريفية ويوصمونه بالتخلف والبدائية . ولكنهم يتجاهلون
تناقض فكرتهم التي تدعو من جانب الى التنافس الاقتصادي في الانتاج
وجمع الثروة ، ومن جانب آخر الى اهمال الجانب الاقتصادي الذي تدره
المؤسسة العائلية عن طريق التزاوج !
____________
1 ـ ( ميشيل غوردن ) . العائلة الامريكية : الماضي ، الحاضر ، والمستقبل . نيويورك : راندوم هاوس ،
1978 م .
(33)
وتتهم النظرية الاجتماعية الرأسمالية ، التزاوج في المجتمعات غير
الصناعية بالقصور والعجز عن تحريك العواطف الانسانية ، لان ذلك اللون
من التزاوج لايتولد نتيجة علاقة حب بين الرجل والمرأة قبل الزواج ، بل انه
ينشأ بسبب التقاليد والاعراف الاجتماعية . ولذلك ، فان زواجاً بهذا الشكل
لن ينتج حباً متبادلاً بين الزوجين بعد الزواج ايضاً . ولكن التزاوج المنعقد
بين الافراد في المجتمع الرأسمالي ـ حسب زعمها ـ غالباً ما يبنى على الحب ،
لان هذا المجتمع اكثر تطوراً من الناحية الاجتماعية والفكرية من
المجتمعات غير الصناعية ، ولذلك فان الزواج في المجتمع الرأسمالي اكثر
نجاحاً من الزواج في المجتمعات غير الرأسمالية . ويرد على هذا الرأي انه لو
كان هذا الزعم صحيحاً ، فلماذا اذن يعيش المجتمع الصناعي الرأسمالي اليوم
اشد ازماته العائلية ؟ فكيف تفسر النظرية الاجتماعية الرأسمالية انتهاء نصف
عدد الحالات الزوجية في الولايات المتحدة الى الطلاق (1) ؟ فلو كان الحب
والاعجاب الاساس في التزاوج ، فكيف يفسر انتهاء ذلك الزواج
الرومانتيكي بالانفصال ثم الطلاق ؟ ألا يناقض هذا الانفصال والطلاق
قواعد الزوجية السعيدة والحياة العائلية الطبيعية ؟
ويزعم رواد النظرية الاجتماعية الرأسمالية ايضاً ، ان من اعظم
خصائص النظام العائلي الرأسمالي هو اقرار النظام بحرمة تعدد الزوجات ،
اي انه لايجوز للفرد التزوج باكثر من امرأة في نفس الفترة . وهذا الزعم
يتناسب مع الفكرة الرأسمالية التي تؤكد على دور الفرد في الحياة الاجتماعية
والانتاجية ، لان اباحة تعدد الزوجات يناقض مفهوم « المذهب الفردي»
____________
1 ـ ( وليام غود ) . العائلة . انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنستون ـ هول 1982 م .
(34 )
الذي تنادي به النظرية الرأسمالية ، وتعتبره سر نجاحها الاقتصادي . ولكن
هذه النظرية تتجاهل الازمات الاجتماعية التي تمر بها الانسانية بعد الحروب
الطاحنة مثلاً ، وما يترتب عليها من خسائر عظيمة في عدد الرجال ، فيكون
نظام تعدد الزوجات من افضل الانظمة الاجتماعية التي تساعد على اعادة
بناء الاسر المحطمة بعد الحرب . وليس الاسلام الدين الوحيد الذي يجيز
تعدد الزوجات ، بل ان اليهودية وبعض المذاهب النصرانية تجيز تعدد
الزوجات ايضاً . وأهم المذاهب النصرانية التي تؤمن بتعدد الزوجات هو
مذهب المورمن النصراني المتمركز في ولاية يوتا الامريكية ، الذي يبيح
تعدد الزوجات دون حدود .
وهذا التعارض بين النظرية الاجتماعية الرأسمالية والنظرية اليهودية ـ
النصرانية في فكرة تعدد الزوجات ، ليس الاول ولا الاخير . لان النظريتين
متعارضتان ايضاً في قضية التغشي بين الرجل والمرأة قبل الزواج .
فالنصرانية تؤكد على ضرورة عذرية المرأة قبل الزواج تأسياً بمريم
العذراء ( ع ) ، بينما تدعو النظرية الاجتماعية الرأسمالية الى احترام حرية الفرد
في انشاء علاقات خاصة مع الجنس الآخر . وهذا الصراع بين العذرية
والحرية الغريزية يعكس التناقض الفلسفي ، بخصوص دور المؤسسة
العائلية ، بين الفكرة الدينية والمذهب الرأسمالي .
ولاشك ان اتساع وتفصيل دقة النظام العائلي وشموله لجزئيات
عديدة ومعقدة لا يشجع اي نظرية وضعية على الخوض في غمار مناقشة
الدور الاجتماعي للعائلة . وليست النظرية الرأسمالية استثناء من هذه
القاعدة . فهي تفتقد الصورة الواضحة والمنهاج الدقيق الذي يعالج مشاكل
(35)
المجتمع الرأسمالي الزوجية المتمثلة بالاسئلة التالية : ايهما احق بالولاية
القانونية العائلية : الزوج ام الزوجة ؟ وايهما افضل للنظام الاجتماعي : نظام
تعدد الزوجات ام نظام الزواج المتعدد ؟ وايهما افضل للنظام الاجتماعي :
زواج الاقارب ام زواج الاباعد ؟ وايهما اكثر اقتصاداً للازواج الجدد :
السكن مع عوائلهم ام انشاء وحدات سكنية جديدة بهم ؟ وأيهما اولى
بالميراث : الاحفاد من جانب الام او الاحفاد من طرف الاب ؟ وايهما افضل
واكثر انتاجاً للمجتمع الانساني : العوائل النووية الصغيرة او العوائل الممتدة
الكبيرة التي تضم ـ اضافة الى الزوجين ـ الاجداد والاولاد واحفادهما ؟
وهذا الفشل في الاجابة على هذه الاسئلة المهمة على الصعيد الاجتماعي
يعطي للعقيدة الدينية تفوقا واضحا على العقائد الوضعية في التعامل مع
القضايا العائلية .
(36)
ولم يكن التأثير الذي احدثته الفكرة الرأسمالية في القرن الثامن عشر
منحصرا بالجانب الاقتصادي من المجتمع الاوروبي ، بل تعدى بشكل
مباشر الى المؤسسة العائلية بكل تشكيلاتها الاجتماعية . فكان من اهم
التأثيرات التي عصفت بالمؤسسة العائلية الرأسمالية هو تغير ولاء الافراد
تجاه بعضهم البعض ؛ حيث اصبح الافراد يحصرون جل اهتماماتهم العملية
على تحقيق رغباتهم الشخصية دون الاكتراث لمسؤولياتهم الاجتماعية تجاه
عوائلهم الكبيرةواقاربهم وارحامهم . وهذا التغير في الولاء افرز نتائج لها
تبعات خطيرة على الحياة العائلية ، تصورها كتابة ( بتي يوربيرك ) في كتاب
« دور الغريزة الجنسية في التغير الاجتماعي » :
« يبحث الافراد عن فرص للعمل حتى لو كان ذلك البحث يكلفهم
كسر العلاقات الاسرية مع ارحامهم . النساء المتزوجات من الطبقة
المتوسطة والعليا يذهبن للعمل حتى مع معارضة ازواجهن . وبعد ذلك
يتركن زواجهن المليء بالتعاسة ، واحيانا يتركن اطفالهن مع ازواجهن
ويذهبن للبحث هن حياة جديدة فيها عمل وظيفي . الازواج يتركون
زوجاتهم اللاتي بذلن حياتهن كربات للبيوت . ووجود الاطفال لايردع
الزوجين عن التفكير بالطلاق ... والابن الاكبر لا يترك الجامعة لمساعدة
ابويه او اخوته المحتاجين ، بل يتركهم وحاجاتهم ويذهب لتأسيس
(37)
مستقبله بعيدا عن العائلة . الشباب يختارون حياة زوجية او حياة منحرفة
حتى لو عارض الابوان ذلك » (1) .
وهذه الحياة الجديدة التي افرزتها التجربة الرأسمالية غيرت النظرة
الانسانية في المجتمع الصناعي تجاه الزواج والاسرة . فالعوائل الكبيرة التي
كان يرأسها جد الاسرة تحولت الى عوائل صغيرة تضم الاب والام
وطفليهما ، ونظام تعدد الزوجات استبدل بنظام الزوجة الواحدة ، والبيوت
الكبيرة التي كانت تضم بين جدرانها عوائل متعددة استبدلت بوحدات
سكنية تضم عوائل صغيرة ، والتزاوج بين الاقارب استبدل بالتزاوج عن
طريق العمل والمؤسسات التعليمية . واصبحت القاعدة في الزواج في
المجتمع الرأسمالي ، الميول نحو الاختيار الشخصي القائم على الاعجاب ،
والكفاءة ، والثقافة ، والجمال . وبذلك انحسر العامل الاقتصادي الذي كان
محور التزاوج في المجتمع الريفي الاوربي .
وتبدل الشكل العائلي في المجتمع الرأسمالي من العصر الزراعي الى
العصر الصناعي له عوامله الخاصة التي جعلت فكرة التغيير سبباً اساسياً
حسماً في تثبيت اسس النظام الاقتصادي الرأسمالي . ولولا ضعف الاسرة
الكبيرة وانفراط عقدها لما نجح النظام الرأسمالي في تنويع وزيادة الانتاج .
فالاسر الصغيرة ايسر للانتقال الجغرافي من منطقة الى اخرى حسبما يقتضيه
العمل في حقول الانتاج . والعامل في المجتمع الرأسمالي ينتقل حيثما وجد
عملاً مناسباً يهيئ له عيشة رغيدة . فاذا كان ذلك العامل مرتبطاً باسرة
كبيرة ، اصبح ارتباطه عائقاً في التكسب : ولذلك مالت الكفة الاجتماعية نحو
____________
1 ـ ( بتي يوربيرك ) . دور الغريزة الجنسية في التغير الاجتماعي . نيويورك : وايلي ،1974 م . ص 53 .
(38)
انشاء العوائل الصغيرة القادرة على الانتقال الجغرافي بيسر بحثاً عن ظروف
انسب للعمل .
وطالما كان المجتمع الرأسمالي يوفر فرصاً اكبر للعمال لتطوير
شخصياتهم وفرصاً اكبر للنجاح والصعود الى الطبقات الاجتماعية العليا ،
فان الافراد الطامحين للصعود الاجتماعي لا يلزمون انفسهم بالالتزام بالقيم
والتقاليد التي تفرضها عليهم الاسر الكبيرة ؛ لان الاسرة الكبيرة المتكونة
من اجيال متعددة تحترم لوناً معيناً من القيم الاجتماعية الصارمة . ولكن
الحركة الاجتماعية التي تنقل الفرد من طبقة الى طبقة اعلى تحمل في طياتها
قيماً تختلف عن قيم الطبقة الاخرى نحو العلم والتحصيل والاخلاق والمورد
المالي . والاصل في الفكرة التي تعتنقها النظرية الرأسمالية ، هو ان الدرب
الاساس نحو الصعودالاجتماعي الى طبقة اقتصادية ارقى من الطبقة الاولى
للفرد ، لايتم الا عن طريق تحطيم الاواصر الاجتماعية مع العائلة الكبيرة .
وعندما بدأ النظام الرأسمالي بتقديم شتى الخدمات الاجتماعية التي
كانت العوائل الكبيرة تقدمها لافرادها ، بدأت الحاجة الى استمرار وجود
تلك العوائل الصغيرة تنتفي تدريجياً ، حسب زعم النظرية الرأسمالية .
فالنظام الرأسمالي يقدم لافراد العوائل الصغيرة الخدمات التعليمية ،
والطبية ، واعانة العجزة ، ورعاية الاطفال ، وكوبونات الطعام للمحتاجين .
واذا كان النظام الرأسمالي يقدم كل هذه الخدمات ، فما هو الداعي في الاعتماد
على الاقارب او الارحام بخصوص المساعدات المالية وقت الازمات ؟
وماهو اللزوم في عيش الزوجين مع آبائهما اذا كانت الحاجة المالية
والاخلاقية منتفية ؟ وهذا التوجه نحو تغير الولاء من العشيرة والاقارب الى
(39)
الدولة والنظام ساهم في انشاء وانتشار العوائل الصغيرة القائمة على قاعدة
« الزوجين واطفالهما » فقط . وبذلك تحقق حلم النظام الرأسمالي بزيادة
الانتاج الصناعي عن طريق تحطيم الاواصر العائلية في العشيرة والعائلة
الكبيرة ، واستبدالها بنظام العوائل الصغيرة التي تستطيع الانتقال جغرافيا
بسرعة من مكان لآخر حسبما تتطلبه العملية الانتاجية .
ومن اسباب التبدل في شكل الاسرة الرأسمالية ايضاً ، ان الابناء
الذين كانوا في المجتمع الزراعي رصيدا اقتصادياً للعمل والانتاج ، اصبحوا
في الاسرة الرأسمالية عبئاً اقتصادياً على الابوين . فالابوان مكلفان باطعام
وكسوة وتعليم ابنائهما من الطفولة وحتى البلوغ . وبعد البلوغ ، وعندما
يصبح الفرد قادرا على التكسب والاستقلال ، يمسي همه الاكبر الانفصال
عن ابويه لانشاء اسرة صغيرة جديدة . وهذا التوجه العام يفسر سبب
ميول الابوين نحو انشاء اسر صغيرة ذات عدد محدود من الابناء ، لان كثرة
الابناء ليس لها مردود اقتصادي على الاسرة ، فالابناء المنتجون ينفصلون
عن ابويهم بعد بلوغهم ومباشرتهم العمل خارج البيت . وهذا التوجه
الرأسمالي الحديث يناقض الفكرة الكاثوليكية القائلة بحرمة تحديد النسل .
وفوق كل ذلك ، فان السبب الرئيسي الحاسم في تبدل شكل الاسرة
الرأسمالية هو فكرة « الحرية الفردية » ، فالفرد مكلف باشباع حاجاته
وتحقيق طموحاته الشخصية ، وليس مكلفاً باشباع حاجات الآخرين .
وهذه « الفردية » هي اساس الفكرة الرأسمالية في العمل والانتاج . فالفرد هو
محور كل الافكار والتوجهات الاجتماعية . بل ان كل الخدمات الاجتماعية
ينبغي ان تتوجه ـ حسب رأي النظرية الرأسمالية ـ نحو تسهيل حياة ذلك
(40)
الانسان وترفيهه حتى لو كان ذلك على حساب التقاليد والالتزامات
الاجتماعية . فان كانت القضية التي تواجه الفرد قضية مالية او عناية صحية
او قضية زواج او طلاق ، فذلك الفرد الرأسمالي غالباً ما يسأل : « ما هو نفعي
وربحي من هذه القضية ؟ » على عكس الفرد في المجتمع غير الرأسمالي الذي
يسأل : « ماذا يتوقع ارحامي واخواني مني ان اعمله لهم ؟ » وهذا الفارق في
السؤال يعكس الفارق بين المذهب الفردي الذي جاءت به الرأسمالية ،
والفكرة الجماعية التي كانت سائدة في العالم قبل مجيء الرأسمالية .
ولاريب ان شكل العائلة الصغيرة ، التي هي احدى ثمار سيكرة
النظام الرأسمالي على المقدرات الاجتماعية ، لها مساوئها وعيوبها . فقد كان
الفرد في العوائل الكبيرة يستند على دعم عائلته في الازمات الاجتماعية
والاقتصادية ، فوجود العائلة الكبيرة هو مولد اطمئنان الفرد نحو سد
حاجاته اقتصادياً وعاطفياً دون الاضطرار الى استجداء الآخرين من
خارج الحدود العائلية . اما الفرد الرأسمالي فانه لايملك الا زوجته وقت
الازمات ، واذا كانت الزوجة لاتعمل الا في حدود واجباتها البيتية ، فان
الاسرة لا تصمد امام الهزات الاقتصادية التي تعصف بالفرد المعيل ،
كالبطالة ، وترك العمل ، والعجز الصحي ، والتقاعد .
بمعنى ان الفرد في الاسرة الكبيرة اذا عجز عن احتلال دوره الطبيعي
في النظام الاجتماعي والاسري ، فان بقية افراد الاسرة يساهمون في اشغال
ذلك الدور دون ان يؤثر ذلك على وضع الاسرة اقتصادياً او اجتماعياً . اما في
الاسر الصغيرة فإن عجز احد الابوين عن اداء دوره الانتاجي قد يؤدي الى
تحطيم الاسرة من الناحية الاقتصادية . وتتحقق نفس النتيجة اذا مات رب
(41)
الاسرة ، او مرض مرضاً مزمناً ، فان كل ذلك يضع الاسرة الصغيرة في ازمة
اقتصادية واجتماعية خانقة .
وفي الاسر الكبيرة ، يكون الزواج قضية طبيعية لا يتوقع الفرد منها
ان تخلق المعجزات . فالزوجة تساهم في عمل البيت وتربية الاطفال ، وقد
تضطر للعمل احياناً خارج البيت ، ولكن كل ذلك يخضع للحدود والقيم
والتعليمات التي تلتزم الاسرة الكبيرة بها . وهذا كله يساهم في استقرار
النظام الاسري ، حتى لو كان المردود العاطفي بين الزوجين ضعيفاً . اما على
مستوى الزواج في المجتمع الرأسمالي ، فقد يتوقع الزوجان ، من احدهما
الآخر ، اموراً بعيدة عن الواقع بسبب الصورة الحيالية المسبقة الموضوعة في
ذهنيهما قبل الزواج . واذا فشل الزوجان في تحقيق الصورة الخيالية التي
رسماها في مخيلتهما ، انفرط عقد الزواج ، واصبح الطلاق المنفذ الوحيد
لاعادة ترتيب اولويات حياتهما الاجتماعية والاقتصادية . ولا شك ان هذه
المشكلة تعتبر من اخطر مشاكل التغير في المؤسسة العائلية الرأسمالية .
(42)
ولاشك ان ايمان العائلة الامريكية بالنظرية الرأسمالية كان قد اوقعها
في وضع مأساوي خطير ، بسبب افتقاد النظرية لمنهج موضوعي ينظم الحياة
العائلية ويساهم في بنائها العلوي . وبطبيعة الحال ، فان الاحصاءات
الحكومية تعكس واقع هذاالوضع الاجتماعي . فعشرين بالمائة من مجمل
الولادات فيامريكا في العقود الاخيرة من القرن العشرين لاتحصل نتيجة
الزواج الشرعي المتفق عليه اجتماعياً ، وربع حالات الحمل تنتهي
بالاجهاض ، ونصف عدد الزيجات في امريكا تنتهي بالطلاق (1) ، وعشرين
بالمائة من البالغين الامريكان يعيشون حياة العزوبيةاختياراً (2) ، علما بان
وسائل الزواج ميسورة . وهذه الصورة الاجتماعية القاتمة دليل على فشل
النظرية الرأسمالية الغربية في تقديم حل اجتماعي مقبول لمعالجة مشاكل
الانسان الحياتية ، خصوصاً في عصر تدعي فيه النظرية الرأسمالية نجاحها
الباهر في كل الميادين العلمية والتقنية والاقتصادية .
واذا كانت صورة الحاضر تعيش ضمن هذا الاطار المنحل ، فان
صورة الماضي انما اختلفت في الشكل لا الجوهر . فخلال الحرب الاهلية
الامريكية ، على سبيل المثال ، كان القانون الرأسمالي الامريكي يمنع الزنوج
من التزاوج فيما بينهم ويسمح لهم بممارسة عملية الجماع دون زواج شرعي
____________
1 ـ ( سار ليفيتان ) و ( ريتشارد بلوز ) . ماذا يحصل للعائلة الامريكية ؟ بالتيمور : مطبعة
جامعة جونز هوبكنز ، 1981 م .
2 ـ ( بيتر ستاين ) . العزوبية . انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1976 ،
(43)
لغرض انجاب العبيد وبيعهم في اسواق النخاسة . لان العبد ، في العقيدة
الرأسمالية ، ملك للسيد المالك حتى في القضايا الخاصة وليس له الحرية في
اختيار الشريك في عملية الزواج او في اي عمل آخر . وبذلك تدر عملية
الجماع هذه اموالاً على المالك ، دون الاكتراث لشرعية الزواج او الاهتمام
بحق الانسان في التزواج الطبيعي والتأهيل العائلي . وكان معتنقو مذهب
المورمن النصراني يمارسون عملية تعدد الزوجات لحد 1896 م .
والذي منعهم قانوناً من ذلك ، شرط الحكومة الفيدرالية لولاية يوتا التي
يسكنونها ، بعدم السماح للهم الدخول في الاتحاد الامريكي ما لم يعلنوا
صراحة توقفهم عن ممارسة عملية تعدد الزوجات ، وذلك لمعارضته لاصل
الفكرة الرأسمالية حول مفهوم « الفردية » التي تحترم ارادة الفرد وتعتبر فكرة
تعدد الزوجات اهانة لكرامة الزوجات جميعاً !
ولاشك ان تعنت النظرية الرأسمالية في رفض فكرة تعدد الزوجات
لم يحل المشكلة الاجتماعية التي تواجهها الاسرة الرأسمالية . فثلاثة ارباع الحالات
الزوجية الامريكية تعاني من خيانات زوجية من كلا الطرفين في
العائلة الواحدة (1) . وازدياد عدد حالات التشرد بين النساء المطلقات
والفتيات من العوائل المنحلة لا يساعد مفهوم النظرية الرأسمالية الزاعم بان
الحب في المجتمع الحضاري الصناعي يخلق الزواج المثالي ، وان التمتع بزوجة
واحدة يجني الفرد الخيانة الزوجية . ولو كان زعم النظرية الرأسمالية
صحيحاً ، فَلِم انحدر اذن ثلاثة ارباع المجتمع في مستنقع الرذيلة بممارسة
الخيانة الزوجية عن طريق الزنا ؟ وليس هناك ادنى شك من ان الاقرار
____________
1 ـ ( ديفيد فنكلهور ) وآخرون . الجانب المظلم من العائلة . بيفرلي هيل ، كاليفورنيا : 1983 م .
(44)
بالانحراف عن الحياة الزوجية السليمة من جهة ، ورفض قبول الحلول
الاجتماعية التي يقدمها الفكر الديني المتمثل بالاسلام بخصوص نظام تعدد
الزوجات من جهة اخرى ، يعتبر تعنتاً واستكباراً لامبرر له ، من قبل
النظام الاجتماعي الرأسمالي .
واذا كان الحب العذري الكائن في المجتمع الصناعي كأساس للزواج
الناجح هو الذي يساعد الزوجين ـ كما تزعم النظرية الرأسمالية ـ على بناء
علاقات زوجية حميمة بعد الزواج ، فلماذا اذن ، تنتهي نصف الحالات
الزوجية الرأسمالية الامريكية المفترض قيامها اساسا على قاعدة الحب
العذري ، الى الطلاق ؟ اليس هذا تناقضاً مع الفكرة القائلة بان نجاح اي
قضية نسبياً يتوقف على حل ثلاثة ارباع اجزائها على الاقل ؟ فكيف نعتبر
الزواج في المجتمع الرأسمالي نجاحاً للفكرة الرأسمالية ؟ وكيف نعتبر نصف
الحالات الزوجية التي تنتهي الى تهديم الاسس الاسرية نجاحا للفكرة
الاجتماعية الرأسمالية ؟
ويتساءل الفرد ما هو الحب العذري ، الذي تزعم النظرية الرأسمالية
اعتباره من اهم اركان النظام العائلي في المجتمع الانساني ؟ وللجواب على
هذا السؤال فلنفترض انه الشعور الذي يتملك الفرد ، فتظهر عليه اعراضه .
وهذه الاعراض تنقسم الى قسمين ؛ اولاً : اعراض جسدية ، وهي الشهوة
وخفقان القلب ، وثانياً : اعراض نفسية ، وهي تنشيط الملكة الوجدانية
بالتركيز على فرد معين ذي مواصفات جذابة ، ثم المجازفة في سلوك اي
طريق يوصل ذلك المحب الى حبيبه . وهذا النوع من الحب يشجعه النظام
الرأسمالي وتوصي به الثقافة الغربية المرئية والسمعية والكتيبة . هنا ، قد
(45)
يتساءل المرء لماذا تتحمس النظرية الرأسمالية الى نشر هذا النوع من الحب
بين افراد المجتمع ؟ ولماذا تحاول النظرية الرأسمالية تقديس هذه الظاهرة التي
غالباً ما تحصل بين فردين ينجذب احدهما الى الآخر ، ثم يتطور هذا
الانجذاب الى علاقة شخصية تنتهي بالزواج ؟
وللجواب على ذلك تدعي الفكرة الرأسمالية ان الحب العذري مهم في
انشاء حياة عائلية في عالم صناعي رأسمالي ، لاسباب منها :
اولاً : ان الحب العذري يساعد الفردين المتحابين على نزع
ارتباطاتهما العائلية مع العائلة الكبيرة ، وهذه الخطوة مهمة في تنشيط
الانتاج الرأسمالي وتشجيع المتزوجين الجدد على الانتقال الى اي منطقة او
مدينة تحتاجها العملية الانتاجية . اما ، لوكان الحب العذري منعدما وكانت
الاسرة كبيرة ، فان الزواج سيأخذ مساره الطبيعي دون الانغماس بالناحية
النفسية والعاطفية للحب والتركيز على شهوات الفرد بشكل مطلق وتناسي
العالم والواقع الخارجي المحيط بجدران ذلك الشعور .
ثانياً : ان الحب العذري يساهم في اشباع الناحية العاطفية التي حرمها
انكسار وتحطم الاسر الكبيرة . ففي وقت الازماتتساهم الاسرة الكبيرة
في التخفيف عن الآلام التي يتعرض لها الانسان المصاب بازمة من تلك
الازمات ، وتساهم ايضاً في تقديم المساعدة العاطفية والمادية : في حين ان
الاسر الصغيرة تفتقد الى هذا النوع من الحنان والتعاون الجماعي : ولذلك
فان الرأسمالية تشجع الافراد على ممارسة الحب العذري حتى يساهم ذلك
الحب في رأب الصدع الذي سببته لهم العملية الرأسمالية الانتاجية .
ثالثاً : وخوفاً من تناقص النسبة المئوية السنوية للمواليد ، فان الفكرة
(46)
الرأسمالية تشجع الافراد على ممارسة الحب العذري لانه يؤدي الى الزواج
وبقاء فكرة الذرية مستمرة في النظام الاجتماعي . فلو عرض الخيار لافراد
النظام الرأسمالي بالزواج او عدمه لاختارت نسبة ملحوظة منهم العدم تخوفاً
من تحمل المسؤولية المالية والاجتماعية التي تفرضها الاسرة ، وتوافقاً مع
فكرة « المذهب الفردي » في الاستمتاع الشخصي بالحياة دون الاهتمام
بالمسؤولية الجماعية التي يفرضها التزواج النساني .
ومجمل القول ان النظرية الرأسمالية تشجع الافراد على تحطيم القيود
الاسرية التي يشجعها النظام الديني ، وتحفزهم على التزواج عن طريق
الاختلاط والاعجاب المتبادل وتخفيف القيود الاجتماعية على علاقة الرجل
بالمرأة قبل الزواج . ولاريب ان السبب المباشر الذي يدعو النظرية
الرأسمالية الى التبشير ـ بكل حماس ـ لفكرة انشاء الأسر الصغيرة ، هو
اعتقادها بان الأسر الصغيرة التي تفتقد العلاقات المتينة مع اقاربها
وعشيرتها ، تعتبر اكثر نفعاً واوفر انتاجاً واعظم خدمة للنظام الرأسمالي من
الأسر العشائرية الكبيرة .
(47)
ويشجع النظام الرأسمالي الافراد ، على اختيار شركاء حياتهم بحرية
ايمانا منه بقوة « المذهب الفردي » في زيادة الانتاج . فتتم طريقة الاختيار
هذه ، عن طريق التقاء الرجل بالمرأة ، ثم بعد رحلة طويلة يتم في نهاية
المطاف الاتفاق على الزواج . ومع ان هذا الوصف مشترك في اغلب
الحالات ، الا ان هناك خصائص ومميزات تتحكم في عملية الانجذاب
والزواج : منها : العمر ، والدين ، والمنزلة الاجتماعية ، والثقافة ، والاصل
العرقي ، ومكان العمل .
فعلى صعيد العمر ، فان التزواج يحصل بين فردين من ذوي عمر
متقارب . فالرجال غالباً ما يتزوجون نساءً تقل اعمارهن عن اعمارهم
بحوالي سنتين الى اربع سنوات . ولا يشجع النظام الرأسمالي التزاوج بين افراد
تتفاوت اعمارهم تفاوتاً كبيراً لان ذلك يسبب تقليل العمل الانتاجي للاسرة .
وعلى صعيد الدين ، يتم التزواج غالباً ضمن افراد معتنقي الدين
الواحد . ولما كان التزاوج بين ابناء الديانات المختلفة لايؤثر على انتاجية
النظام الاقتصادي الرأسمالي ، فان النظام لا يعارض التزويج بين افراد من
ديانات متغايرة .
وعلى صعيد الطبقة الاجتماعية يتم التزاوج ضمن افراد الطبقة
الواحدة ، لان جذور الزوجين وعلاقاتهما الاجتماعية مرتبطة بظروف الطبقة
ووضعها المالي والسكني . ولما كان من مصلحة الزوجين العيش بسلام ضمن
(48)
اطار الطبقة الواحدة ، وعدم الدخول في صراع اجتماعي مع الطبقات
الاجتماعية الاخرى ، فان اغلب الشباب يبحثون اولاً عن شريكات حياتهم
ضمن طبقتهم الاجتماعية . ولكن اذا حصل التزاوج بين فردين من طبقتين
مختلفتين فان المرأة غالباً ما تتزوج رجلا من طبقة اعلى من طبقتها
الاجتماعية .
وعلى صعيد الثقافة والتحصيل العلمي ، فان النظرية الرأسمالية
تشجع الافراد على الزواج من اقرانهم في المعاهد الدراسية كالجامعات
والكليات والمدارس العامة . فالجامعات تعتبر ـ حسب النظرية الرأسمالية ـ
من افضل الاماكن للالتقاء والنقاش واكتشاف الافراد . ولاشك ان الاسرة
المكونة من فردين مسلحين بشهادات جامعية ويعملان في حقول الانتاج
تدر على النظام الرأسمالي اموالاً اكثر ، لان الزوجين ينتجان ويستهلكان
اكثر من اقرانهما خارج الدائرة العلمية ، اولاً . وثانياً : ان اجتماع طاقاتهما
العلمية سيولد ابداعاً للحقل الصناعي . ثالثاً : ان احتمال حذو ابنائهما نفس
الطريق العلمي ، اقوى مما لو كانت الاسرة مؤلفة من فردين غير جامعيين .
وعلى الصعيد العرقي ، فان حكومات الولايات المحلية في امريكا
كانت لا تسمح قانوناً بالتزاوج بين الزنوج والبيض لحد العقد السادس من
القرن العشرين . ومع ان القانون قد تم الغاؤه ، بسبب نشاط حركات الحقوق
المدنية ، الا ان المجتمع لايزال حتى اليوم يستنكر الزواج بين العرقيات
المختلفة . والقاعدة ان الزواج يجب ان يتم بين الافراد ضمن العرق الواحد ،
فالافراد السود ينبغي على الصعيد العرفي ان يتزوجوا نساءً من نفس العرق ،
والنساء البيض ينبغي ان يتزوجن رجالاً من نفس العرق ايضا .
(49)
اما موقع العمل ، فهو من الاماكن التي يحصل فيها التعارف بين
الرجل والمرأة ثم الاتفاق على الزواج اذا ما تم الاعجاب . وبعد أن اكمل
النظام الرأسمالي ازالة الحواجز العرفية بين الرجال والنساء القائمة لقرون
عديدة ، اصبحت عملية الزواج طريقة طبيعية لا تقيدها الضوابط
الاجتماعية . فقد صفق الكثير من دعاة التحرر الاجتماعي لفكرة هدم
الضوابط الاجتماعية التي تقيد عملية الزواج و « الحرية الفردية » فيما يخص
قرار اختيار الزوج او الزوجة . ولكن نسبة الطلاق العالية التي يشهدها
المجتمع الصناعي الرأسمالي اجيرت هؤلاء على الاقرار بعجز النظام
الرأسمالي في انشاء نظام اسري يسعد المجتمع الانساني ، وينقله الى شاطئ
الامان كما نقلته التقنية الحديثة الى مستوىً ارقى في التعامل الانساني .
وتعتبر نسبة الطلاق في ارقى المجتمعات الرأسمالية في العالم المتمثلة
اليوم بالولايات المحتدة اعلى نسبة طلاق في التاريخ الانساني : حيث ان
نصف الحالات الزوجية الامريكية تنتهي الى الطلاق كما ذكرنا ذلك
سابقاً ، بعد اقل من سبع سنوات فقط من بدء الزواج ؛ وهذا دليل على تحلل
النظام الاسري في المجتمع الرأسمالي . فالطلاق وثيقة اجتماعية دامغة تظهر
فشل عملية التزاوج بين فردين اتفقا على انشاء اسرة كريمة لم يشتد عودها
بعد : تماماً كمن يبذر بذرة آملاً في شجرة مثمرة ولكنه يترك شجرته بعد حين
دون سقي في صحراء قاحلة . ولا تكمن مشكلة الطلاق في الاختلاف بين
الطرفين المتخاصمين المتمثلين بالزوج والزوجة بل تتعدى الى ذرية الفرد
وهم الاطفال ، فيقع عليهم الطلاق موقعاً مؤثراً وربما يؤدي الى تحطيم
مستقبلهم . فالمشاكل التي تسبق الطلاق غالباً ما تترك تأثيراتها النفسية
(50)
على هؤلاء الاطفال ؛ علماً بان الاضطراب العاطفي يعتبر من اهم اسباب
نشوء الانحراف الاجتماعي . ولما كانت الحياة الرأسمالية مصممة على اساس
استيعاب العائلة الصغيرة المكونة من ابوين وطفل او طفلين مثلاً ، فان التغير
الناتج من اثر الطلاق ، يجعل حياة الاسرة بعد الانفصال شاقة من ناحية
الوحدة والانعزال ، والاحساس بالعجز في مواجهة مشاكل الحياة
الاقتصادية والاجتماعية . وغالباً ما تتدهور الميزانية المالية للعائلة بعد
الطلاق ، خصوصاً ميزانية الام المطلٌقة واطفالها (1) . ومع ان القانون الرأسمالي
يلزم الزوج بالنفقة على اطفاله ، الا ان اكثر من نصف عدد الآباء المطلقين
يتهربون من دفع النفقة المالية بسبب ارتباطهم بالتزامات عائلية جديدة (2) .
وهكذا يصبح الاطفال عرضة للحرمان الاجتماعي بسبب انعدام وجود
المعيل ، فلا عجب اذن ، ان نجد الاطفال والاحداث في المجتمع الرأسمالي من
اكثر الافراد حرماناً من الناحية المعيشية مقارنة ببقية المجاميع من الاعمار
الاخرى كالشباب والشيوخ .
وتقع اشد حالات الطلاق عنفاً ووحشية بين الازواج الساكنين في
المدن الصناعية الكبيرة ، وبين المتزوجين بسن مبكرة ، وبين الذين تزوجوا
على الرغم من معارضة عوائلهم . والسبب في هذا التمزق ، هو ان هذه العوائل
الصغيرة ليس لها من يوجهها ويأخذ بايديها بحكمة ، الى حل المشاكل
الزوجية والاقتصادية التي تواجهها لاحقا في حياتها الاجتماعية : لان دور
____________
1 ـ ( اندريو جيرلن ) . الزواج ، الطلاق ، والزواج مرة اخرى . كامبردج ، ماساشوست : مطبعة جامعة
هارفرد ، 1983 م .
2 ـ ( هيو كارتر ) و ( بول كليك ) . الزواج والطلاق : دراسة اجتماعية واقتصادية . كامبردج،
ماساشوست : مطبعة جامعة هارفرد ، 1976 م .
(51)
الشيخ الكبير السن كان قد أُلغي تقربيا من الحياة الاجتماعية الرأسمالية .
والقاعدة ان الزوجة اذا كانت قادرة على العمل والكسب المادي فانها
ستترك ، حتماً ، البيت الزوجي الذي لا يوفر لها السعادة التي تتوقعها في
حياتها الجديدة .
ويرجع علماء الاجتماع تحطم النظام العائلي في المجتمع الرأسمالي الى
عدة اسباب منها : الاسرة الصغيرة ، وسراب الحب العذري ، ودور المرأة
المتغير في الساحة الاجتماعية ، والانحلال الخلقي .
فعلى صعيد الاسرة الصغيرة ، وجدنا سابقاً ان النظام الرأسمالي
يشجع الافراد على تحطيم تقاليد الاسر الكبيرة ، ويحث على التركيز على
انشاء اسر صغيرة مكونة من اب وام وطفليهما كي تسهل حركة الاسرة
طلباً للعمل ، وهذا العامل يساعد على زيادة الانتاج في المجتمع الرأسمالي .
ولكن من اعظم مساوئه ، هو ان هذه الاسرة تكون اكثر تعرضاً للهزات
الاقتصادية والاجتماعية من الاسرة الكبيرة المكونة من اجيال متعددة
تعيش مع بعضها البعض . فاذا تخلى القيم على الاسرة عن قيمومته المالية
انهارت اركان الاسرة تماماً . اما في الاسر الكبيرة فاي كثرة الافراد وتنوع
اعمارهم وخبراتهم يمنح كل عضو من اعضائها دعماً وسنداً معنوياً
للاستمرار في الحياة الاجتماعية ، ومواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية
بكل ثقة واطمئنان : علماً بان اكبر الافراد سنا في الاسرة الكبيرة يقدم
للاسرة الخبرة والنصيحة التي تحتاجها في شق طريقها بين الامواج
الاجتماعية المتلاطمة .
وعلى صعيد سراب الحب العذري ، فان هذا الشعور المفترض ان
(52)
يعيش طويلاً بعد الزواج سرعان ما تخف وطأته بمرور الايام ، خصوصاً اذا
انشغل الزوجان بشاكل الحياة اليومية من خلال عمل الزوج خارج البيت ،
وترتيب الزوجة لشؤونها البيتية . واذا ما علمنا ان الجزء الاكبر من الحب
العذري يتمثل بالشهوة الغريزية الجنسية والتركيز النفسي على المحبوب ،
تبين لنا سبب فشل صمود الحب العذري بعد الزواج ، لان اشباع الشهوة
الغريزية والقرب المستمر من المحبوب يساهم في ارجاع الفرد الى واقعه
الحقيقي بدل العيش في عالم الخيال والاوهام . والواقع ان العلاقة النفسية بين
الزوج والزوجة اذا كانت قائمة على اساس المنطق والعقل والتفاهم
والاحترام المتبادل ، نجح الزواج في بناء الاسرة الكريمة الاكثر انتاجاً في
النظام الاجتماعي . اما اذا كان الزواج قائماً على اساس الحب العذري وما
يتبعه اليوم في العائلة الرأسمالية للمجتمع الامريكي .
وعلى صعيد دور المرأة في سد الشواغر الاجتماعية ، فان المتوقع من
المرأة في كل الازمنة وفي كل المجتمعات الانسانية القيام بوظيفتها البيتية في
تربية الاطفال ، ومساعدة زوجها في الشؤون البيتية . وما وراء البيت فهو
على الرجل ، حيث ينبغي عليه السعي طلباً للرزق . ولكن المرأة في المجتمع
الرأسمالي اليوم ترفض هذا الدور متحدية النظام العائلي الذي اقره النظام
الاجتماعي : وهذا التحدي لايشمل البيت والزوج فحسب بل يشمل دور
المرأة من الناحية البيولوجية . فالعديد من النساء في النظام الرأسمالي
لايعتبرن بيت الزوجية فحسب ، بل يعتبرن الحمل والولادة
والرضاعة قيوداً ، عليهن رفضها : لان هذه القيود تؤثر على حريتهن في
(53)
العمل ، والتمتع بالشباب والحياة والجمال . وطالما كان اهتمام المرأة بالعمل
خارج البيت قائماً ، كانت عملية الطلاق اكثر يسراً لان النساء يشعرن
بالاكتفاء من الناحية الاقتصادية ، وبالاستغناء عن الرجال . فلا ريب ان
ابسط مشكلة بيتية اذن ، تؤدي الى الانفصال ثم الطلاق .
وعلى صعيد الانحلال الخلقي ، فان النظام الرأسمالي بتصنيعه وسائل
منع الحمل على شكل واسع ، ساهم في نشر الانحلال والعلاقات غير
الشرعية بين الرجال والنساء . لان استخدام وسائل منع الحمل يوفر على
المرأة والرجل الفضيحة ويمنع تخليق ولد الزنا . وقد ساهم اضمحلال دور
الدين في المجتمع الرأسمالي على تغيير السلوك الجنسي قبل الزواج ، وحتى
بعد الزواج مع نساء اخر . ولاشك ان انتشار المصانع في رقعة جغرافية
واسعة ، وانتقال الافراد بشكل مستمر طلباً للعمل ، ساهم هو الآخر في
اضعاف الرقابة الاجتماعية على الممارسات الغريزية غير الشرعية بين
الرجال والنساء . وهذه الممارسات غير الشرعية تضع الزواج في موضع
خطر ، لان عدم قناعة احدهما بالآخر سيؤدي الى البحث عن شريك
جديد ، وهذا السلوك ينزل بالمؤسسة العائلية ضربة قاصمة بسبب انعدام
العفة والنظافة السلوكية بين الرجال والنساء في نظام يؤمن بكل قوة
بشرعية « المذهب الفردي » وما يترتب عليه من هدم لاصل التصميم الالهي
للنظام الاجتماعي وعلاقاته الانسانية .