الفصل الثالث
أهل الحجاز يبكون الحسين عليه السلام عند مفارقته لهم
ولما عزم الامام الحسين عليه السلام على مغادرة مدينة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والتوجه الى العراق تلبية لنداءات ورسائل ورسل أهل الكوفة عز على أهل المدينة أن يفارقهم سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم في أمس الحاجة الى زعامته وإمامته وإرشاداته فتوسلوا اليه أن يعدل عن هذه الرحلة ذات المصير المجهول ، والاعداء ـ وخاصة الامويون منهم ـ مترصدون له وعازمون على قتله والفتك به وبأصحابه ، والقضاء على نهضته الاصلاحية التي بها احياء لدين جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهما كلفهم الأمر . ولكن الامام الحسين عليه السلام كان قد قر قراره على الرحيل لأمور كان هو أعلم بها . وفيما يلي بعض المرويات عن بدء الامام بهذه الرحلة المشؤومة :
1 ـ جاء في الصفحة «75» من المجلد الرابع من موسوعة « أعيان الشيعة » القسم الاول منها عند بيان تفاصيل كيفية خروج الحسين عليه السلام من المدينة يصحبه اخوته وأهله وشيعته يريد مكة ثم الكوفة قوله :
« وأقبلت نساء عبد المطلب فاجتمعن للنياحة لما بلغهن أن الحسين عليه السلام يريد الشخوص من المدينة حتى مشى فيهن الحسين عليه السلام فقال : أنشدكن الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله ، فقالت له نساء بني عبد المطلب : فلمن نستبقي النياحة والبكاء ؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، ورقية ، وزينب ، وأم كلثوم ، جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار


( 38 )

من أهل القبور .. » .
وكأن القدر كان أوحى لهؤلاء النسوة بأن الامام وأهل بيته ومن يرافقه في هذه الرحلة مستشهدون لا محالة .
2 ـ وفي الصفحة «42» من كتاب « المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية » لمؤلفه العلامة الامين العاملي عند ذكر اجتماع محمد ابن الحنفية ـ أخي الامام الحسين عليه السلام ـ في المدينة به قبيل مغادرة الامام لها ، ونصيحة محمد للحسين بأن يخرج الى مكة فان اطمأن الى أهلها وإلا فإلى اليمن ، وإلا اللحاق بالرمال وشعوب الجبال ، هرباً من تعقيب يزيد وزمرته الامويين له ، قال له الحسين : يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام وبكى فبكى الحسين عليه السلام معه ساعة ثم قال : يا أخي ، جزاك الله خيراً ، فقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج الى مكة .
3 ـ وفي الصفحة «45» من الكتاب نفسه ، ينقل المؤلف الجليل كيفية خروج الحسين عليه السلام من مكة وشخوصه مع أهله وأصحابه الى العراق في 8 ذي الحجة سنة 60 هـ ، واجتماع أخيه محمد ابن الحنفية به مرة أخرى ومنعه من السفر الى العراق والرحيل الى اليمن ، وامتناع الامام عليه السلام عن ذلك ، ثم يقول :
« وسمع عبد الله بن عمر بخروج الامام من مكة فقدم راحلته وخرج خلفه مسرعاً فأدركه في بعض المنازل ، فقال له : أين تريد يا بن رسول الله ؟ قال : العراق . قال : مهلاً ارجع الى حرم جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأبى الحسين عليه السلام فلما رأى ابن عمر إباءه فقال : يا أبا عبد الله اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله يقبله منك ، فكشف الحسين عليه السلام عن سرته ، فقبلها ابن عمر ثلاثاً وبكى ، وقال : استودعك الله يا أبا عبد الله فانك مقتول في وجهتك هذه ... » .

***


( 39 )

الفصل الرابع
الحسين عليه السلام يتنبأ الكارثة
لم يكد الامام الشهيد يغادر مكة يوم 8 ذي الحجة سنة 60 هـ قاصداً العراق إلا وأخذت الأنباء المحزنة تتوارد عليه فيما يلاقيه رسله وموفدوه من نشوز وظلم وبغي وخيانة من أهل الكوفة بعد وصول الوالي الجديد اليها عبيد الله ابن زياد . وقد أصبح الامام متأكداً من أنه وآله وأصحابه ملاقون أسوأ المصير فيما هم عازمون عليه . ولكن لاراد لإرادة الله . وفيما يلي بعض ما يؤيد ذلك :
1 ـ جاء في كتاب « المجالس السنية » صفحة «53» عند ذكر حادث مسلم ابن عقيل في الكوفة ، ومحاربته جلاوزة الوالي الغشوم عبيد الله بن زياد ، ثم مقتل مسلم ، ما عبارته :
« وفي رواية المفيد : أن مسلم أخذ بالأمان بعد أن عجز عن القتال ، فأتي ببغلة فحمل عليها ، واجتمعوا حوله وانتزعوا منه سيفه ، فكأنه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ثم قال : هذا أول الغدر . قال له محمد بن الاشعث ارجو أن لا يكون عليك بأس فقال : وما هو إلا الرجاء ، أين أمانكم ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى ، فقال له عبيد الله بن العباس السلمي : إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك . فقال : إني والله ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ، ولكني أبكي لأهلي المقبلين ، أبكي


( 40 )

للحسين وآل الحسين .. » (1) .
2 ـ وجاء في الصفحة «58» من نفس الكتاب بعد ذكر مجزرة مقتل مسلم ابن عقيل في الكوفة ما نصه :
« وفي أثناء لطريق منمكة الىالعراق لقي الفرزدق الشاعر الامام الحسين عليه السلام فسلم عليه وقال له : يا ابن رسول الله ، كيف تركن الى أهل الكوفة ، وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته ؟ فاستعبر الحسين عليه السلام ثم قال : رحم الله مسلماً .. » .
3 ـ وفي الصفحة «64» من ذاك الكتاب ورد ذكر قصة نزول الحسين عليه السلام في الثعلبية بطريقه من الحجاز الى العراق ، ووصول أحد الأسديين من الكوفة ورؤيته مقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في الكوفة ، وإخبار رجلين من الرحل الحسيني بهذا النباء المفجع ، ثم يستطرد الكتاب بعد ذلك ويقول : « فسكت الامام ، وارتج الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت الدموع عليه كل مسيل .. » .
4 ـ وجاء في الصفحة «73» من الكاتب المذكور بعد ذكر وصول ركب الامام الشهيد الى القرب من كربلاء يوم أول محرم سنة 61 هـ قوله : « فقال الحسين جواباً لمن اقترح عليه أن يبدأ بقتال الحر وجيشه : ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير : فسر بنا يا ابن رسول الله حتى ننزل كربلاء فانها على شاطئ الفرات فنكون هناك ، فان قاتلونا قاتلناهم واستعنا الله عليهم . قال : فدمعت عينا الحسين عليه السلام ثم قال : اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء .. » .
هذا ويستدل من الروايات المتواترة والأحاديث المتوفرة : ان الامام الحسين عليه السلام كان متأكداً من أنه قتيل آل أمية مهما حاول التملص من ذلك . وإن
____________
(1) ارشاد المفيد 2 : 59 .
( 41 )

تنبؤاته بهذا المصيرالمحزن كثيرة ، استناداً الى ما كان قد سمعه من جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومن أبيه الكرار عليه السلام ، وتطبيقاً منه لمجريات الحوادث التي كانت تمر عليه في كل يوم وليلة منذ أواخر عهد معاوية بن أبي سفيان وبعد استيلاء يزيد على الحكم . وفيما يلي بعض ماعثرت عليه في بطون الكتب في هذا الأمر :
5 ـ نقل كتاب « إقناع اللائم » في صفحته «189» عن مقال للمستشرق الالماني الشهير ( ماربين ) حول فاجعة كربلاء ، ما ترجمته تالياً .
« وأكبر دليل على أن الحسين عليه السلام كان ذاهباً لمصرعه ولم يقصد السلطنة والرئاسة أبداً ، هو أنه مع ذلك العلم ، وتلك السياسة والتجربة التي اكتسبها في عهد ابيه وأخيه في قتالهم مع بني أمية ؛ كان يعلم أنه لا يملك الاستعدادات اللازمة مع تلك القوة التي كانت ليزيد لتمكنه من المقاومة . وأيضاً فان الحسين بعد قتل أبيه كان يخبرعن نفسه أنه مقتول لا محالة ، ومن الساعة التي خرج فيها من المدينة كان يقول بصوت عال وبلا تستر : إنني ذاهب للقتل . وكان يصرح بذلك لاصحابه إتماماً للحجة ، وليبرئ نفسه من أنه يجاهد طمعاً في الجاه ، وكانت لهجته على الدوام : إن أمامي طريق المصرع . ولو لم يكن الحسين بهذه الافكار لم يكن ليستسلم للموت ، بل كان يسعى لاعداد جيش ، لا أن يفرق الجماعة الذين معه ، ولما لم يكن له قصد سوى القتل الذي هو مقدمة لتلك الأفكارالسامية ، وتلك الثورة المقدسة ، التي كانت في نظره أنها أكبر وسيلة لتلك الثورة التي سيفقد فيها الأنصار ويصاب بها بالقتل مظلوماً شهيداً ، لذلك اختارها لتكون مصائبه أشد تأثيراً في القلوب .. » .
ثم يستطرد الكاتب الالماني فيقول :
« إنه ـ أي الحسين ـ لم يتحمل هذه المصائب للحصول على السلطنة ، ولم يرد هذه المهلكة العظمى على غير علم ، كما تصور ذلك بعض مؤرخينا ، بدليل : أنه كان قبل هذه الواقعة بسنين متطاولة يترنم بذكر مصائبه التي ستقع على سبيل التسلية


( 42 )

لخواص أصحابه من ذوي الافكارالعالية والأدمغة الواسعة قائلاً : سيظهر الله بعد قتلي وظهور تلك المصائب المفجعة اقواماً يميزون الحق من الباطل ، ويزورون قبورنا ، ويبكون على مصائبنا ، ويأخذون الثار من أعداء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم . هؤلاء الجماعة يروجون دين الله وشريعة جدي ، ونحبهم أنا وجدي ، وسيحشرون معنا يوم القيامة .. » .
6 ـ جاء في الصفحة «29» من كتاب « لمعة من بلاغة الحسين عليه السلام » لمؤلفه السيد مصطفى محسن الاعتماد الموسوي الحائري من خطبة للحسين عليه السلام عند عزمه على المسير من الحجاز الى العراق قوله : « وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً . لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضا الله رضانا اهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجور الصابرين ... » .
7 ـ وجاء في الصفحة «32» من الكتاب نفسه في جواب الامام علي عليه السلام لأبي هرم ـ لما قال له : يا ابن رسول الله ، ماالذي أخرجك عن حرم جدك ـ قوله : « يا أبا هرم ، إن بني أمية شتموا عرضي فصبرت ، وأخذوا مالي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت : وأيم الله ليقتلونني فيلبسهم الله ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ...» .
8 ـ جاء في الصفحة «35» من هذا الكتاب ايضاً ـ مانصه ـ عند مخاطبة الامام أصحابه قوله : « قال الحسين عليه السلام : إن رسول الله قال لي : يا بني إنك ستساق الى العراق ، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين ، وهي أرض تدعى عجوزاً وإنك تستشهد بها ، ويستشهد معك جماعة من أصحابك تكون الحرب عليك وعليهم سلماً ...» .
9 ـ وفي الصفحة «37» منه جاء ضمن خطبة للامام عليه السلام يخاطب بها أصحابه ما لفظه : « وقد قال جدي رسول الله : ولدي حسين يقتل بطف كربلاء غريباً وحيداً عطشاناً ... » .


( 43 )

وورد في الصفحة «67» منه في جواب للامام الشهيد عليه السلام على كتاب عبد الله بن جعفر الطيار الذي يرجو فيه من الامام عدم مغادرة مكة الى الكوفة لأن فيها هلاك الامام وصحبه ما نصه : « إعلم أني قد رأيت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامي فأخبرني بأمر أنا ماض له . فو الله يا ابن العم لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني ... » .
11 ـ جاء في الصفحة «637» من كتاب« موسوعة آل النبي » للدكتورة بنت الشاطئ مانصه : « وكان الحسين ـ فيما يروي عدد من المؤرخين الاخباريين ـ يعلم منذ طفولته بما قدر له . كما كان دور أخته زينب حديث القوم منذ ولدت ، فهم يذكرون : أن سلمان الفارسي أقبل على علي عليه السلام يهنئه بوليدته ، فألفاه واجماً حزيناً يتحدث عما سوف تلقى ابنته في كربلاء . وبكى علي الفارس الشجاع ، ذو اللواء المنصور ، والملقب بأسد الاسلام » .
12 ـ جاء في الصفحة «685» من الموسوعة نفسها عند ذكرها إحضار والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان الحسين عليه السلام ليأخذ منه البيعة ليزيد ، وامتناع الامام عن ذلك ، وما حدث له في مجلس الوليد قولها : « خرج الحسين حتى أتى منزله وألقى الى أهله النبأ وأسر لهم بعزمه على الرحيل » .
ومر بمسجد المدينة . ويقال انه سمع اذ ذاك يتمثل بقول ابن مفرغ :

لا ذعرت والسوام في فلق الصبح * مـغيـرا ولا دعـيت يـزيدا
يـوم أعـطى من الـمهانة حيناً * والمنايا يرصـدنني إذ أحـيدا

13 ـ وفي الصفحة «702» من نفس الموسوعة عند الحديث عن منع عبد الله ابن جعفر الحسين عليه السلام من الشخوص الى العراق وامتناع الامام عن ذلك وإصراره على الرحيل الى الكوفة قولها : « ثم مشى الحسين في طريقه لا يلوي على شيء فزار قبر جده مودعاً وهو يقول :
وقد غسلت يدي من الحياة ، وعزمت على تنفيذ أمر الله » .


( 44 )

14 ـ وفي الصفحة «706» من نفس الموسوعة ذكر عن مثول الاسديين الآتيين من الكوفة بين يدي الحسين عليه السلام في الطريق وإخباره بمقتل مسلم بن عقبيل ، ثم تقول : « فساد القوم ـ أنصار الحسين ومرافقيه ـ وجوم حزين لم يطل . ثم أعولت النساء وضج الجميع بالبكاء ، وكانت مناحة في العراء .
وحين خفت ضجة النياح أراد الحسين أن يرجع بآله ، فوثب عند ذلك بنو عقيل وهم يصيحون :
لا نرجع والله أبداً حتى ندرك ثارنا أو نذرق ما ذاق أخونا ونقتل بأجمعنا .
فنظر الحسين الى الأعرابيين اللذين نصحاه بالرجوع وقال في جد وأسى : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، وأمن القدر على ما قاله بنو عقيل فلم يرجعوا بل قتلوا أجمعين ... » .

***


( 45 )

الفصل الخامس
الحسين عليه السلام ينعى نفسه ويبكي آله
تتابعت الروايات من المؤرخين وأرباب السير على أن الامام الشهيد عليه السلام قد أكد ما كان قد تنبأ به من قبل يوم التاسع من المحرم ـ أي قبل استشهاده بأربع وعشرين ساعة ـ بأنه مقتول لامحالة ، وأن الاسلام والمسلمين سيفجعون بمصرعه قريباً ،وأن خصومه وأعداءه مصممون على الفتك به وبأصحابه ، مهما كلفهم الأمر ، ومهما عملوا في سبيل ذلك من وزر ، وقد رويت في هذا الصدد روايات كثيرة نأتي على بعضها تالياً ونترك المكرر منها :
1 ـ جاء في ( إرشاد ) الشيخ المفيد :
« إنه في يوم الخميس 9 محرم سنة 61 هـ عصراً نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي وبالجنة ابشري ، فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر ، وحسين عليه السلام جالس أمم بيته محتب بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، وسمعت أخته زينب الضجة فدنت من أخيها فقالت : يا أخي ، أماتسمع الأصوات قد اقتربت فرفع الحسين رأسه وقال ، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الساعة في المنام فقال لي : إنك تروح إلينا . فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل . فقال لها : ليس لك الويل يا أخية ، اسكتي رحمك الله .. » (1) .
____________
(1) ارشاد المفيد 2 : 89 .
( 46 )

وقد قال بعض المؤرخين : إن هذا أول عويل في فاجعة الحسين عليه السلام .
2 ـ نقل الشيخ المفيد في « إرشاده » أيضاً الرواية التالية : « قال علي بن الحسين عليهما السلام : إني لجالس في تلك العشية التي قتل ابي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني ، إذ اعتزل أبي في خباء وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول :

يا دهـر أف لك من خـليل * كم لك بالاشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قـتيل * والـدهر لا يقنع بالـبديل
وإنما الأمـر الـى الـجليل * وكـل حـي سـالك سبيلي

فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أن البلاء قد نزل ، وأما عمتي فلما سمعت ما سمعت وهي امرأة ، ومن شأن النساء الرقة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة ، حتى انتهت إليه فقالت : واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن ، يا خليقة الماضي وثمال الباقي . فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال لها : يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان ، وترقرقت عيناها بالدموع وقال : لو ترك القطا لنام (1) ؛ فقالت : يا ويلتاه ! افتغتصب نفسك اغتصاباً ؟ فذاك اقرح لقلبي وأشد على نفسي . ثم لطمت وجهها وهوت الى جيبها فشقته وخرت مغشياً عليها .
فقام اليها الحسين فصب على وجهها الماء وقال لها : يا أختاه ! اتقي الله وتعزي بعزاء الله ، واعلمي أن أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه .. » (2) .
3 ـ جاء في الصفحة «95» من كتاب ( نهضة الحسين ) لمؤلفه العلامة السيد
____________
(1) يضرب مثلاً للرجل يستثار فيظلم . انظر جمهره الامثال للعسكري 2 : 194 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 93 ، مقتل الحسين لابي مخنلف : 110 ، تحقيق حسن الغفاري .

( 47 )

هبة الدين الحسيني الشهرستاني عند ذكرنعي الحسين نفسه قوله : إن زينبا باغتت أخاها الحسين عليه السلام في خبائه ليلة مقتله فوجدته يصقل سيفاً له ويقول : « يا دهر أف لك من خيل » الى آخر الابيات المار ذكرها .
ذعرت زينب عند تمثل أخيها بهذه الأبيات ، وعرفت أن أخاها قد يئس من الحياة ومن الصلح مع الاعداء ، وانه قتيل لا محالة ـ الى أن يقول المؤلف الجليل ـ :
« فصرخت أخت الحسين نادبة أخاها وقالت : اليوم مات جدي ، وأبي ، وأمي ، وأخي . ثم خرجت مغشية عليها ، إذ غابت عن نفسها ولم تعد تملك اختيارها ، فاخذ اخوها الحسين عليه السلام برأسها في حجره يرش على وجهها من مدامعه حتى أفاقت وسعد بصرها بنظرة من شقيقها وأخذ يسليها فقال : يا أختاه ، إن أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون ، فلا يبقى إلا وجهه . وقدمات جدي وأبي وأمي وأخي وهم خير مني ، فلا يذهبن بحلمك الشيطان . ولم يزل بها حتى اسكن بروحه روعها ، ونشف بطيب حديثه دمعها .. » .
4 ـ روى ابن قولويه في الكامل بسنده عنابن خارجة ، قال : « كنا عند أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام فذكرنا الحسين بن علي عليه السلام ، فبكى أبو عبد الله وبكينا ، ثم رفع رأسه فقال : قال الحسين بن علي : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلا بكى .. » (1) .
5 ـ جاء في الصفحة «98» من كتاب « مقتل سيد الاوصياء ونجله سيد الشهداء » لمؤلفه الشيخ عبد المنعم الكاظمي قوله : « إنه في ليلة العاشوراء ـ أي مساء الخميس ـ عندما كان الامام الحسين يصقل سيفه ويردد شعر « يا دهر أف لك من خليل » ... سمعته زينب ووثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت اليه
____________
(1) كامل الزيارات لابن قولويه 108 | 6 .
( 48 )

فقالت : واثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة . اليوم ماتت أمي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة المسلمين ، وثمال الباقين ـ الى أن قالت : يا ويلتاه ، أفتغتصب نفسك اغتصاباً فذلك اقرح لقلبي ، وأشد على نفسي . ثم لطمت وجهها ، وأهوت الى جيبها فشقته ووقعت مغشية عليها . فقام اليها الحسين وصب على وجهها الماء حتى أفاقت ، وذكرها المصيبة بموت ابيه وجده ، وبكت النسوة ، ولطمن الخدود ، وشققن الجيوب ، وجعلت أم كلثوم تنادي : وامحمداه ، واعلياه ، واأماه ،واحسناه ، واحسيناه ، واضيعتاه بعدك يا ابا عبد الله .. » (1) .
6 ـ جاء في الصفحة «78» من كتاب « المجالس السنية » المار ذكره بعد أن أشار الى قطع ماء الفرات عن الامام في اليوم السابع من محرم سنة 61 هـ وإرسال عمر بن سعد (500) فارس لمنع أصحاب الحسين من الوصول الى الماء ، وخطبة الحسين في تعريف نفسه الى جيش ابن سعد مخاطباً بها إياهم ـ يقول : « فلما خطب الحسين هذه الخطبة ، وسمع بناته وأخته زينب كلامه بكين وارتفعت اصواتهن ، فوجه اليهن أخاه العباس وعلياً ابنه ، وقال لهما : سكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن .. » .
7 ـ جاء في الصفحة «108» من كتاب « اقناع اللائم » المار الذكر ما لفظه :
« روى الكامل باسانيده الى جعفر الصادق عليه السلام انه قال : قال الحسين : أنا قتيل العبرة ، قتلت مكروباً ، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروب إلا رده الله وقلبه الى أهله مسروراً .. » (2) .
8 ـ ورد في الصفحة «35» من كتاب « لمعة من بلاغة الحسين عليه السلام » المار ذكره ما لفظه :
« ومن دعائه عليه السلام لما وصل أرض كربلاء ، انه جمع ولده وإخوته وأهل بيته
____________
(1) ارشاد المفيد 2 : 93 مع اختلاف فيه .
(2) كامل الزيارات لابن قولويه 109 | 7 .

( 49 )

ثم نظر اليهم وصلى ساعة ، ثم قال : اللهم إنا عترة نبيك محمد ، وقد أزعجنا وطردنا وأخرجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو أمية عليا .اللهم فخذ بحقنا ، وانصرنا على القوم الظالمين .. » .
9 ـ وجاء في الصفحة «718» من « موسوعة آل النبي » ما نصه :
« وفي خبر : إن أبا عبد الله الحسين خرج في جوف الليل يتفقد عسكره فتبعه نافع بن هلال ، فساله الحسين عما أخرجه ، قال : يا ابن رسول الله ، يعز علي خروجك الى جهة معسكر هذا الطاغية ، فتلطف الامام وقال له :
ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ؟
أجاب صارخاً :
ثكلتني أمي ، إن سيفي بألف وفرسي مثله ، فو الله الذي من بك علي لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري .
ثم دخل الحسين خيمة أخته زينب ووقف نافع بازاء الخيمة ينتظره ، فسمع زينب تقول لأخيها :
هل استعلمت من أصحابك ثباتهم ، فأني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، قال لها :
والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا من يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل الى محالب أمه .
فلما سمع نافع كلمة الامام لم يملك وضعه وذهب الى حبيب بن مظاهر فحكى له ما سمع . ثم تستطرد الموسوعة فتقول :
ومضى حبيب باصحابه حتى شارف خيام النساء فصاح : يا معشر حرائر رسول الله ، هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلى في رقاب من يريد السوء فيكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا في صدور من يفرق ناديكم .
فخرجت النساء اليهم ، فضج القوم بالبكاء حتى كأن الأرض تمور ... » .


( 50 )



( 51 )

الفصل السادس
النياحة على آل الحسين عليه السلام
أكدت الروايات الموثوقة على أن علي بن الحسين الأكبر كان أول قتيل استشهد يوم عاشوراء بين يدي والده ، وكان أول من تصايحت نساء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضجت في الوح عليه . وهاك بعض الروايات في ذلك :
1 ـ جاء في كتاب « نهضة الحسين » المار ذكره عند وصفه قتال علي بن الحسين واستئذانه أبيه في ذلك ، وأنه أول قتيل من آل الحسين عليه السلام في ذلك اليوم المشؤوم ما نصه :
« فأسرع علي نحو الأعداء وعين أبيه تشيعه وترسل دموعها الحارة مصحوبة بالزفرات ، والنساء على أثره تولول ، وتعول أمه بشجو ، فاقدة الاصطبار ، إذ فقدت مركز آمالها ، والامام ينادي بأعلى صوته يا ابن سعد ، قطع الله رحمك كما قطعت رحمي (1) ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله » .
2 ـ وجاء في « إرشاد » الشيخ المفيد عند ذكر مقتل علي بن الحسين عليه السلام ما عبارته :
« فصرع ـ اي علي بن الحسين ـ واحتواه القوم فقطعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين عليه السلام حتى وقف عليه ، فقال: قتل الله قوماً قتلوك ، يا بني ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول ! وانهملت عيناه بالدموع ثم قال : على الدنيا
____________
(1) اللهوف في قتلى الطفوف : 49 .
( 52 )

بعدك العفا . وخرجت زينب أخت الحسين مسرعة تنادي : يا أخياه وابن أخياه ، وجاءت حتى أكبت عليه ، فأخذ الحسين برأسها فردها الى الفسطاط ، وأمر فتيانه فقال : أحملوا أخاكم . فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه » (1) .
3 ـ ورد في الصفحة «107» من كتاب « المجالس السنية » عند ذكر قتال علي ابن الحسين الأكبر ما عبارته :
« فاستأذن علي اباه في القتال فاذن له ، ثم نظر اليه نظرة آيس منه وأرخى عينيه فبكى ، ثم رفع سبابتيه نحو السماء وقال : اللهم كن أنت الشهيد عليهم ـ الى أن يقول الكاتب ـ : إن علياً قال أثناء القتال : يا أبت ، العطش قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل الى شربة من الماء سبيل ؟ فبكى الحسين عليه السلام ... » .
وكان علي هذا أول قتيل يوم كربلاء من آل أبي طالب . كما أن عمره يوم قتله كان «19» سنة .
4 ـ جاء في كتاب « مقاتل الطالبيين » لمؤلفه أبي الفرج الاصفهاني طبع مصر عند ذكر خروج علي بن الحسين الاكبر للقتال ما نصه :
« قال حميد : وكأني أنظر الى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة ، تنادي : يا حبيباه ، يا ابن اخاه . فسالت عنها فقالوا : هذه زينب بنت علي بن أبي طالب . ثم جاءت حتى أنكبت عليه ، فجاءها الحسين فأخذ بيدها الى الفسطاط ... » (2) .
5 ـ ذكر مؤلف « أعيان الشيعة » في الصفحة «130» من المجلد الرابع القسم الأول منه عن مقتل العباس بن علي عليه السلام أخ الامام الحسين ما لفظه : « فلم يستطع العباس حراكاً بعد أن أثخن بالجراح ، فبكى الحسين عليه السلام لقتله بكاء شديدا .. » .
____________
(1) ارشاد المفيد 2 : 106 .
(2) مقاتل الطالبيين : 115 ، مقتل الحسين : 82 ، وابن الاثير 4 : 33 ، والطبري 6 : 256 .

( 53 )

6 ـ جاء في الصفحة «131» من المجلد نفسه عن حادث قتل جميع أنصار الامام وبقائه وحده يقاتل ما عبارته : « هل من موحد يخاف الله فينا ؟ ، هل من مغيث يرجوا الله في إغاثتنا ؟ هل من معين يرجوا ما عند الله في إعانتنا ؟ فارتفعت أصوات النساء بالعويل .. » (1) .
7 ـ ذكر كتاب « لمعة من بلاغة الحسين » ضمن الاشارة الىكلامه عليه السلام لما نظر كثرة من قتل من أصحابه ما يلي :
« ثم صاح الامام عليه السلام : أما من مغيث يغيثنا ؟ أو من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فبكت النسوة ، وكثر صراخهن ... » .
8 ـ جاء في الصفحة «704» من كتاب « موسوعة آل النبي » عند وصف مقتل علي بن الحسين وقول الامام الشهيد : قتل الله قوماً قتلوك يا بني . « قالوا : ولم يكد يتم عبارته حتى اندفعت من خيام النساء امرأة كأنها الشمس طالعة تنادي في جزع : ( يا حبيباه ، يا ابن أخاه ) (2) .
فسال عنها من لا يعرفها ، فقيل : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله .
اندفعت زينب حتى انكبت على الفتى الشهيد ، فجاءها الحسين فأخذ بيدها فردها الى الفسطاط ، ثم عاد الى ولده وقد اقبل فتيانه اليه ، فقال مفجوعاً : احملوا اخاكم ، فحملوه من مصرعه الى الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه ... » (3) .

***

____________
(1) اللهوف في قتلى الطفوف : 50 .
(2) اللهوف في قتلى الطفوف : 49 .
(3) راجع هامش 2 ص 44 .