الفصل الثاني عشر
نوح السبايا والصحابة يوم أربعين استشهاد الحسين عليه السلام
لقد تأكد بالروايات المتواترة أن السبايا والاسرى عرجوا بعد خروجهم من الشام على مجزرة كربلاء في اليوم العشرين من شهر صفر ، هو اليوم المصادف لمرور أربعين يوماً على مقتل الامام الحسين عليه السلام ومصرع آله وأصحابه ، وأقامت المناحات على الشهداء حول مصرعهم ومدفنهم بكربلا غير أن هناك خلافاً بين المؤرخين حول ان حضور ركب الاسرى والسبايا على قبول الشهداء في كربلاء هل كان في السنة نفسها ـ أي سنة 61 هـ ـ أو في السنة التي تلتها ، ـ أي سنة 62 هـ ـ ومعظم الروايات صريحة وكثير من الأدلة ناطقة بأن ذلك قد تم في العشرين من شهر صفر سنة 61 هـ وهي السنة التي صرع فيها الحسين وآله بكربلاء .
هذا بالاضافة الى أن بعض الصحابة من شيعة آل علي عليه السلام كانوا قد توافدوا أيضاً على ساحة المعركة في ذلك اليوم ، وأقاموا العزاء والنوح فيه على تلك القبور . وصادف أن التقى ركب السبايا والأسرى بوفود الصحابة في هذه الساحة الحزينة العزلاء ، فاقام الفريقان فيها مناحة على ضحايا البغي والظلم لم يسبق لها مثيل في ذلك العصر .
وانقل فيما يلي ماتوفر لدي من هذه الروايات .
1 ـ جاء في الصفحة «747» من « موسوعة آل النبي » عند وصف الرحلة من الشام الى المدينة ، وإلحاح دليل قافلة الأسرى والسبايا على قضاء حوائجهم


( 78 )

ما نصه :
« قالت زينب للدليل مرة : لو عرجت بنا على كربلاء فأجاب الدليل محزوناً : أفعل ، ومضى بهم حتى أشرفوا على الساحة المشؤومة ، وكان قد مضى على المذبحة يومئذ أربعون يوماً ، وما تزال الأرض ملطخة ببقع من دماء الشهداء وبقية من أشلاء غضة ، عفا عنها وحش الفلاة وناحت النوائح ، وأقمن هناك ثلاثة أيام ، لم تهدأ لهن لوعة ، ولم ترفأ لهن دمعة . ثم أخذ الركب المتهك طريقه الى مدينة الرسول ... » .
2 ـ ورد في رواية أخرى تنقلها أسناد الرواية المعتبرة مفادها : ان يزيد أمر برد السبايا والأسارى من الشام الى المدينة المنورة في الحجاز ، مصطحبين بالرؤوس ، تحت إشراف جماعة من العرفاء ، يرأسهم النعمان بن بشير الأنصاري ، فلما بلغ الركب أرض العراق في طريقه الى مدينة الرسول قالت زينب للدليل : مر بنا على طريق كربلاء ، ومضى بهم حتى أشرفوا على ساحة القتل المشؤومة وكان جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الجليل ، وجماعة من بني هاشم ، ورجال من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وردوا العراق لزيارة قبر الحسين عليه السلام . فيقول في ذلك علي بن طاووس في كتابه « اللهوف » : « إن الأسارى لما وصلوا الى موضع مصرع الامام الحسين ، وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام . فتوافدوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد واجتمع عليهم أهل ذلك السواد وأقاموا على ذلك أياماً » (1) .
3 ـ أما قصة الصحابي الاشهر جابر بن عبد الله الأنصاري فتتلخص في أنه بعد أن علم بمقتل الامام الشهيد ـ وكان قد كف بصره ـ توجه من المدينة نحو
____________
(1) اللهوف في قتلى الطفوف : 86 .
( 79 )

أرض كربلاء ، وعندما وصل الى قرية الغاضرية على شاطئ نهر الفرات ، اغتسل في شريعتها ، وتقمص بأطهر ثيابه ، وتطيب بسعد كان مع صاحبه عطاء ، ثم سعى نحو القبر الشريف حافي القدمين ، وعليه علامات الحزن والكآبة ، حتى وقف على الرمس الكريم ، ووقع مغشياً عليه . وعند إفاقته من غشوته سمعه عطاء يقول : « السلام عليكم يا آل الله ... » الخ .
4 ـ جاء في الجزء «1 : 151» من « المجالس السنية » ما عبارته : « لما رجع أهل البيت من الشام الى المدينة قالوا للدليل : مر بنا على طريق كربلاء ، فلما وصلوا الى موضع المصرع وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم (1) ورجالاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وردوا لزيارة قبر الحسين ، فتوافوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم ، واجتمع عليهم أهل ذاك السواد ، وأقاموا على ذلك أياماً .
وعن الأعمش عن عطيه العوفي قال : « خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه زائراً قبر الحسين ، فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ، ثم اتزر بإزار وارتدى بآخر ، ثم فتح صرة فيها سعد فنشرها على بدنه ، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى حتى إذا دنا من القبر قال : ألمسنيه ياعطية ، فألمسته إياه فخر على القبر مغشياً عليه . فرششت عليه شيئاً من الماء ، فلما أفاق قال : يا حسين ـ ثلاثاً ـ . قال : حبيب لا يجيب حبيبه . ثم قال : وأنى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك ، وفرق بين بدنك ورأسك . أشهد أنك ابن خير النبيين ، وابن سيد المؤمنين ، وابن حليف التقوى وسليل الهدى ، وخامس آل الكسا ، وابن سيد النقبا ، وابن فاطمة سيدة النسا . ومالك لا تكون هكذا » . الى آخر كلامه .
____________
(1) ينابيع المودة 2 : 353 .
( 80 )

ثم يستطرد الكتاب حيث يقول : « ومضى عبد جابر ليرى منهم القادمون من ناحية الشام فما كان بأسرع من أن يرجع وهو يقول : يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله ، هذا زين العابدين قد جاء بعماته وأخواته . فقام جابر حافي الأقدام مكشوف الرأس الى أن دنا من زين العابدين ، فقال الامام عليه السلام : أنت جابر ؟ قال : نعم يا ابن رسول الله . قال : يا جابر ها هنا والله قتلت رجالنا ، وذبحت أطفالنا ، وسبيت نساؤنا ، وحرقت خيامنا ... » .
5 ـ جاء في الصفحة «361» من كتاب « المدخل الى موسوعة العتبات المقدسة » لجامعه جعفر الخليلي عند ترجمة حال جابر بن عبد الله الانصاري الصحابي الجليل ما نصه : « وهو ـ أي جابر ـ أول من زار الامام الحسين في كربلاء بعد أربعين يوماً من وفاته . وزيارته هذه من الزيارات المشهورة » .
6 ـ أقول : ومنذ ذلك التاريخ ، ويوم «20» صفر من كل عام أصبح يوماً مشهوداً في التاريخ الاسلامي . كما أنه صار من أعظم أيام الزيارات لقبر الحسين عليه السلام وشهداء الطف في كربلاء ، إذ تحتشد فيه مئات الألوف من المسلمين في مدينة كربلاء ، ويقيمون فيه المناحات الحزينة عند قبر الامام ، ويسيرون المواكب العظيمة التي تمثل ركب الامام الشهيد عليه السلام وتعيد ذكراه المقرحة .
هذا ويحدثنا التاريخ بأن ركب السبايا والأسرى ترك أرض كربلاء بعد بقائه فيها مدة ثلاثة أيام أو أربعة ميمّمين شطر مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحجاز .

***


( 81 )

الفصل الثالث عشر
مدينة الرسول تندب الحسين عليه السلام وآله
أما في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيذكر التاريخ وتؤكد الروايات بأن عبيدالله بن زياد بعد أن كتب من الكوفةالى يزيد في الشام يخبره بمقتل الامام عليه السلام وتسلمه جواب يزيد بإيفاد الأسرى والسبايا ومعهم الرؤوس اليه في الشام ، بادر يزيد حالاً بارسال عبد الملك بن حارث السلمي الى عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق وكان والي المدينة ، وحاكمها ، وعامل يزيد فيها ، وأمره بأن يبشره بمقتل الامام الحسين عليه السلام وآله وصحبه . وفيما يلي بعض الروايات التي تحدثنا عن تفاصيل هذا الأمر :
1 ـ جاء في ( إرشاد ) المفيد ما نصه : « أنفذ يزيد عبد الملك بن أبي الحديث السلمي الى المدينة ليخبر عمرو بن سعيد بن العاص عامله على المدينة بقتل الحسين ، فيقول عبد الملك (1) :
لما دخلت على عمر بن سعيد قال : ما وراءك ؟ فقلت : ما يسرّ الأمير ، قتل
____________
(1) في المصد هكذا « ولما أنفذ ابن زياد برأس الحسين عليه السلام الى يزيد ، تقدم الى عبد الملك بن أبي الحديث السلمي فقال : انطلق حتى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة فبشره بقتل الحسين ، فقال عبد الملك : فركبت راحلتي وسرت نحو المدينة فلقيني رجل من قريش فقال : ما الخبر ؟ فقلت : الخبر عند الأمير تسمعه ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قتل ـ والله ـ الحسين » .
( 82 )

الحسين بن علي . فقال : أخرج فناد بقتله ، فناديت ، فلم أسمع (1) واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن علي حين سمعوا النداء بقتله .
ثم يستطرد فيقول : وخرجت أم لقمان زينب بنت عقيل بن أبي طالب رحمه الله حين سمعت نعي الحسين حاسرة ، ومعها أخواتها أم هاني ، وأسماء ، ورملة ، وزينب بنات عقيل بن أبي طالب تبكي قتلاها في الطف ، وهي تقول :

مـاذا تـقولون إن قـال النـبي لكـم * مـاذا فـعلـتم وأنـتـم آخـر الأمـم
بـعترتـي وبـأهـلي بـعد مـفتقدي * منهم أسـارى ومـنهم ضرجـوا بـدم
ما كان هذا جـزائي إذ نصحت لكـم * أن تخلفوني بسـوء في ذوي رحمي (2)

2 ـ تقول الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها « سكينة بنت الحسين » صفحة «68» عند الاشارة الى وصول السبايا الى المدينة عام 61 هـ ما نصه : « وضجت المدينة بسكانها وهي تستقبل بقايا الركب الحسيني الذي ودعته منذ قليل . وبرزت النساء ـ كل النساء ـ صارخات باكيات ، وخرجت عقيلات بني هاشم من خدورهن حاسرات الوجوه ، يندبن في لوعة : واحسيناه ، واحسيناه . ولم تبق في المدينة دار إلا وبها مأتم ، ولبثت مناحة الشهداء هناك قائمة أياماً وليالي ، حتى جفت المآقي من طول ما سكبت من دمع ، وحتى ضحل الحلق من طول ما أجهدها النواح ... » .
وتستطرد الدكتورة بنت الشاطئ فتقول : « وفي المدينة أقامت الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين المأتم عليه ، وبكت النساء معها حتى جفت دموعها . ولما أعلمتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة أمرت أن يصنع السويق ، وقالت : إنها تريد أن تقوى على البكاء ، وقد خطبها بعد الحسين الأشراف ، فأبت وقالت ما كنت لأتخذ حماً ـ أي أقارب الزوج ـ وهكذا بقيت الرباب سنة بعد
____________
(1) في المصدر زيادة ( والله ) .
(2) ارشاد المفيد 2 : 123 .

( 83 )

الحسين لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت » .
3 ـ جاء في الصفحة «508» من كتاب « أعلام النساء في عالمي العرب والاسلام » المار ذكره بعد وصف مسيرة السبايا من الشام الى المدينة ما نصه : « فلما دخلوا المدينة خرجت امرأة من بني عبد المطلب ، ناشرة شعرها ، واضعة كمها على رأسها ، تلقاهم وهي تبكي وتنشد : « ماذا تقولون إن قال النبي لكم .. » الى آخر الاشعار المارة ذكره .
4 ـ وقد نقل صاحب كتاب « إقناع اللائم » هذا الحادث بالنص التالي : « وفي تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي الحنفي قال الواقدي : لما وصل الرأس ـ رأس الحسين ـ الى المدينة والسبايا ، لم يبق بالمدينة أحد إلا وخرجوا وهم يضجون بالبكاء وخرجت زينب بنت عقيل بن أبي طالب تصيح : واحسيناه ، وا أخوياه ، وا أهلاه ، وا محمداه ثم قالت :

مـاذا تقولون إذا قـال النـبي لكـم * مـاذا فـعلتم وأنـتم آخـر الأمـم
بأهـل بـيـتي وأولادي أمـا لكـم * عـهد أمـا أنـتم تـوفـون بـالذمم
ذريـتـي وبـنو عـمي بمـضيعة * منهم أسارى ومـنهم ضرجوا بـدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحـت لكم * أن تخلفوني بسـوء في ذوي رحمي

5 ـ وفي الجزء «1 : 113» من « المجالس السنية » ما لفظه : « وكانت أم البنين ـ وهي فاطمة بنت حزام الكلابية ـ أم العباس واخوته : عبد الله ، وجعفر ، وعثمان ، الذين قتلوا مع أخيهم الحسين يوم عاشوراء ـ أم هؤلاء الاخوة الاربعة ـ بعد قتلهم تخرج كل يوم الى البقيع في المدينة ، وتحمل معها عبيد الله ابن ولدها العباس فتندب أولادها الأربعة خصوصاً اشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس يستمعون بكاءها وندبتها ، وكان مروان بن الحكم على شدة عداوته لبني هاشم فيمن يجيء
____________
(1) اقناع اللائم : 154 ، عن تذكرة الخواص .
( 84 )

فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي . فمما كانت ترثي به قولها في أولادها الأربعة :

لا تـدعيني ويـك أم الـبنيــن * تـذكـريني بـليوث العـرين
كـانت بـنون لي أدعـى بهـم * والـيوم أصبحت ولا من بنيـن
أربـعة مـثل نســور الـربى * قد واصلوا الموت بقطع الوتـين
تـنـازع الخـرصان أشـلاءهم * وكلهم أمـسى صريـعاً طـعين
يا ليت شـعري أكـما أخـبـروا * بان عـباساً قـطيع اليمــين

وفي الصفحة «109» من الكتاب نفسه ما عبارته : « وروي عن علي بن الحسين عليه السلام أنه نظر يوماً الىعبيد الله بن العباس بن علي فاستعبر ... » .
6 ـ جاء في الجزء «1 : 153» من كتاب « المجالس السنية » أيضاً ما نصه : « قال بشير بن حذلم ، وكان من جملة ركب الأسارى والسبايا ، ومعروفاً بقرض الشعر : بأنه حينما وصل ركب السبايا والأسرى ضواحي المدينة المنورة قال لي الامام زين العابدين عليه السلام : ادخل المدينة وانع أبا عبد الله الحسين عليه السلام . قال بشير : فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة ، فلما بلغت مسجد النبي رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشدت أقول :

يا أهـل يثرب لا مقام لـكم بها * قتل الحسين فـادمعي مـدرار
الجسم منـه بكـربلاء مـضرج * والرأس منه على القناة يـدار

ثم قلت : يا أهل المدينة ، هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه . قال بشير : فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن وهن يدين بالويل والثبور ، ولم يبق في المدينة أحد إلا وخرج وهم يضجون بالبكاء ، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمر على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله وسمعت جارية تنوح على الحسين وتقول :

نـعي سـيدي نـاع نـعاه فأوجـعا * وأمــرضني نـاع نـعاه فأفـجعا


( 85 )

فـعينيي جـودا بـالدموع وأسكـبا * وجـودا بـدمـع بـعد دمـعكما مـعا
على من دهى عرش الجليل فزعزعا * فأصـبح هـذا المجـد والديـن أجدعا
عـلى ابـن نـبي الله وابن وصيه * وإن كان عـنا سـاخطاً الـدار أثسـعا

ثم قالت : أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبد الله ، وخدشت منا قروحاً لم تندمل ، فمن أنت رحمك الله ؟ فقلت : أنا بشر بن حذلم ، وجهني مولاي علي بن الحسين وهو نازل بوضع كذا مع عيال أبي عبد الله الحسين ونسائه . قال : فتركوني مكاني وغادروني . فضربت فرسي حتى رجعت ، فوجدت الناس قد أخذواالطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطأت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط وكان علي بن الحسين داخلاً فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسي فوضعه له ، وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، وارتفعت اصوات الناس بالبكاء من كل ناحية يعزونه ، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة ، فأومأ بيده أن اسكتوا ، فسكنت فورتهم ، فخطب فيهم خطبة مؤثرة ثم دخل زين العابدين الى المدينة فرآها موحشة باكية ، ووجد ديار أهله خالية ، تنعى أهلها ، وتندب سكانها ... » ، وهكذا أقامت مدينة الرسول أياماً بلياليها تشهد المأتم الرهيب ، وتصغي الى النواح الفاجع .
7 ـ في الصفحة «218» من كتاب « سكينة بنت الحسين » السالف ذكره ما عبارته : « المؤرخون يقررون : أن المدينة كلها كانت في مأتم عام لسيد الشهداء ، وأن أمها الرباب ـ أي أم سكينة ـ قد أمضت عاما بأكمله حادة حزينة حتى لحقت بزوجها الشهيد ، وأن أم البنين بنت حزام بن خالد العامرية ، زوجة الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ، كانت تخرج الى البقيع كل يوم فتبكي أبناءها الأربعة .. » .
8 ـ روى الشيخ الطوسي في أماليه المجلد الأول الصفحة 322 بسنده عن عمرو بن ثابت ، عن أبيه أبي المقدام ، عن ابن جبير ، عن ابن عباس قال : « بينا أنا راقد في منزلي اذ سمعت صراخاً عالياً من بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرجت


( 86 )

يتوجه بي قائدي الى منزلها ، وأقبل أهل المدينة اليها الرجال والنساء (1) فقلت : يا ام المؤمنين مالك تصرخين وتغوثين ؟ فلم تجبني ، وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت : يا بنات عبد الطلب أسعدنني وأبكين معي ، فقد قتل والله سيدكن وسيد شباب أهل الجنة ، فقد قتل والله سبط رسول الله وريحانته الحسين . فقلت (2) : يا أم المؤمنين ومن أين علمت ذلك ؟ قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام الساعة شعثاً مذعوراً ، فسألته عن شأنه ، فقال : قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم ، فدفنتهم والساعة فرغت من دفنهم ، قالت : فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أعقل ، فنظرت وإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك واعطانيها النبي فقال : اجعلي هذه التربة في زجاجة أو قال : في قارورة ولتكن عندك ، فاذا صارت دماً عبيطاً فقد قتل الحسين . فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور .
قال : فأخذت أم سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها ، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين فجاءت الركبان بخبره وأنه قتل في ذلك اليوم .
قال عمرو بن ثابت ـ أحد رواة هذا الحديث ـ : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام فسألته عن هذا الحديث ، وذكرت له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبد الله بن عباس فقال أبوجعفر : حدثنيه عمرو بن أبي سلمة ، عن أمه أم سلمة .. » .
9 ـ قال سبط ابن الجوزي في كتابه « تذكرة الخواص » (3) : « ذكر ابن سعد عن أم سلمة : أنها لما بلغها قتل الحسين عليه السلام قالت : أو قد فعلوها ؟ ملأ الله قبورهم
____________
(1) في المصدر زيادة ( فلما انتهيت اليها ) .
(2) في المصدر ( فقيل ) .
(3) تذكرة الخواص : 240 .

( 87 )

ناراً . ثم بكت حتى غشي عليها » . وذكر هذا الحديث « الصواعق المحرقة » (1) أيضاً .
10 ـ ذكر ابن الاثير في تاريخه صفحة «38» مجلد «4» ونقلت ذلك « موسوعة آل النبي » صفحة «748» ما يلي : « قال ابن عباس : رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الليلة التي قتل فيها الحسين وبيده قارورة وهو يجمع فيها دماً . فقلت : يا رسول الله ما هذا ؟ قال : هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها الى الله تعالى فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين وقص عليهم رؤياه » .
وعلقت الدكتورة بنت الشاطئ في الصفحة نفسها من موسوعتها تلك على ذلك بقولها : « عندما نادى المنادي بقدوم علي بن الحسين الى المدينة ، وانتشر صدى النعي حتى بلغ سفح أحد ، ارتد الى البقيع ، فقباء ، خافتاً ممزقاً وما لبث أن تلاشى في صراخ الباكين وعويل المناديات . وبلغ العويل سمع أمير المدينة عمرو بن سعيد الأشدق فابتهج وقال :

عجت نساء بني زيـاد عـجة * كعجيج نسوتنا غداة الارنب

يوم بيوم عثمان ، وناعية بناعية عثمان . ولم تبق مخدرة في المدينة إلا برزت من خدرها نائحة معولة ... » .
أقول : لقد نقل أقوال عمرو بن سعيد كل من تاريخ الطبري ، وابن الأثير ، وغيرهما من كتب المقتل .
ثم تواصل الدكتورة بنت الشاطئ كلامها فتقول : « وأهل الركب الحزين على الجموع التي خرجت لاستقباله ، فما رأت مدينة الرسول افجع مشهداً ، ولا رأت مثل ذلك اليوم أكثر باكياً وباكية ... » .
وختمت الكاتبة قولها بما يلي :
« وأقامت مدينة الرسول أياماً بلياليها تشهد المأتم الرهيب ، وتصغي الى
____________
(1) الصواعق المحرقة : 297 قطعه منه ، تاريخ ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام : 63 و 65 .
( 88 )

النواح الفاجع ، وتتلقى في ثراها الطاهر دموع الباكين » .
11 ذكر كتاب « الأغاني » لأبي الفرج الاصفهاني نقلاً عن هشام الكلبي عن الرباب زوجة الحسين مانصه : « وخطبت بعد استشهاد الحسين فأبت وقالت : ما كنت لأتخذ حمواً بعد ابن رسول الله (1) . ثم قالت ترثي الحسين :

ان الذي كان نـورا يسـتضـاء بـه * بكـربلاء قـتيـل غـيـر مـدفون
سـبط النـبي جـزاك الله صـالحة * عنا وجنبـت خســران المـوازين
قد كنت لي جبــلاً صـعبـاً ألوذبه * وكنت تصحبنا بالـرحـم والديــن
من لليتامى ومــن للسائلين ومــن * يغني ويــؤوي اليه كــل مسكين
والله لا ابتغي صهــراً بصهــركم * حتى اغيــب بين الرمـل والطين (2)

12 ـ قال ابن الأثير في المجلد الرابع صفحة «45» من تاريخه ، عن الرباب زوجة الحسين ما عبارته : « وبقيت بعد الحسين سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً . وقيل : إنّها أقامت على قبره سنة وعادت الى المدينة فماتت أسفاً عليه ... » .
13 ـ جاء في الصفحة «85» من كتاب « مقاتل الطالبيين » لأبي الفرج الأصفهاني ما نصه عن نياح أم البنين :
« وكانت أم البنين أم هؤلاء الاربعة الأخوة القتلى تخرج الى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس اليها يسمعون منها . فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك ، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي » .
14 ـ روى الطبري في تاريخه المجلد 4 : الصفحة 358 ضمن حوادث سنة 61 هـ عن هشام ، بسنده عن عمرو بن عكرمة : قال : « أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة ، فاذا مولى لنا يحدثنا : قال : سمعت البارحة منادياً ينادي وهو يقول :
____________
(1) الاغاني 16 : 141 .
(2) الاغاني 16 : 142 .

( 89 )

أيهــا القاتلون جهلاً حسينــاً * أبشروا بالعــذاب والتنكيــل
كل أهل السماء تــدعو عليكم * مـن نبي ومليــك وقبيــل
قد لعنتم على لسـان ابـن داو * د موسى وحامــل الانجيـل

وقد روى ابن حجر (1) عن الملا هذا الحديث عن أم سلمة حيث أنها قالت : لما كانت ليلة قتل الحسين سمعت قائلاً يقول : « أيها القاتلون جهلاً حسيناً » . الى آخر الابيات .
ونقل الرواية والأبيات ابن الأثير (2) ايضاً . وكذلك نقلها « إرشاد » (3) المفيد ، و « بحار الانوار » (4) للمجلسي .
15 ـ جاء في الصفحة «147» من كتاب « نهضة الحسين » السالف الذكر ما نصه : « بلغ السبي النبوي المدينة ، ولكن بأية خالة تعرف مبلغ التأثير في أهل البيت ؟ خاطبت زينب المدينة قائلة :

مدينــة جدنــا لا تقبلينــا * فبــالحسرات والاحـزان جينا
خرجنا منك بالاهليــن جمعـاً * رجعنا لا رجــال ولا بنينــا
وكنا في الخروج بجمع شمـل * رجعنا حاسريــن مسلبينــا
وكنا في أمــان الله جهــراً * رجعنا بالقطيعــة خائفينــا
ومولانا الحسين لنــا أنيس * رجعنا والحسين بــه رهينا
فنحن الضائعات بلا كفيــل * ونحن النائحات على أخينـا
ونحن السائرات على المطايا * نشال على جمال المبغضينا (5)

____________
(1) الصواعق المحرقة : 293 .
(2) الكامل لابن الاثير 4 : 90 .
(3) الارشاد للشيخ المفيد 2 : 124 .
(4) بحار الانوار 45 : 199 .
(5) بحار الانوار 45 : 197 يروي هذه الابيات عن أم كلثوم .

( 90 )


ثم أخذت بعضادتي باب مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت بلهفة : يا جداه إني ناعية اليك أخي الحسين . ولا زالت بعد ذلك لا تجف لها عبرة ولا تفتر من البكاء والنحيب . وكلما نظرت الى علي بن الحسين عليه السلام تجددت احزانها وزاد وجدها ... » .
16 ـ وفي الصفحة «151» من الكتاب نفسه عند وصف وفود المعزين في المدينة على آل النبي للمواساة والتسلية يقول : « وكانت العائلة النبوية تجدد ذكراها في المدينة صباح مساء في حزن عميق ، وشجن عظيم .. وتبكي على الحسين رجالاً ونساء ... » .
ثم يستطرد فيقول : « وكان وجوه المسلمين والموالون لآل البيت يفدون على بيوت آل النبي بالمدينة معزين ومواسين ، وكان الواحد منهم يعبر عن مشاعره وأحزانه بأبلغ ما أوتي من روعة وقوة البيان ، وحسن المواساة لهذه المصيبة ، حتى تركوا ثروة أدبية رائعة في أدب التسلية والمواساة ... وبقيت بيوت آل البيت مجللة بالحزن والسواد ، ولا توقد فيها النيران .. » .
ويختم الكاتب الجليل كلامه بقوله : « فصارت المآتم منهم وفيهم تقام في السنة مرة بعد ما كانت مستمرة .. » .
17 ـ جاء في الصفحة «162» من « إقناع اللائم » عند ذكر أم البنين ونياحتها في المدينة على استشهاد أولادها الأربعة في فاجعة كربلاء ما عبارته : « وكانت تقول في ندبتها ، كما عن الأخفش في شرح كامل المبرد :

يا مــن رأى العبــاس كــر * على جمــاهيــر النقـــد (1)
ويلي علــى شبلــي أمــا * ل برأســه صــوب العمـد
لو كان سيفــك فــي يــد * يك لما دنــا منــك أحــد

____________
(1) النقد : جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه ، وزاد البيت حسناً ان العباس من اسماء الاسد .