النبوغ وسر النجاح في الحياة

النبوغ وسر النجاح في الحياة (1)
السيد عادل العلوي



    ما هو النبوغ (2) ومن هو النابغة ؟
    في كلّ عصر ومصر ، ومنذ الصدر الأوّل للتأريخ البشري ، يظهر على صفحة الوجود شخصيّة بارعة يشار إليها بالبنان ، ويفوق أقرانه وأترابه ، ويُخلّد في تأريخ العلم والأدب والفنّ والصناعة ، بعد ما كان في بداية حياته مغموراً مطموراً لا يعرف عنه شيء ، فيتلألأ كوكبه في سماء الحضارة والتمدّن ، ويصل إلى قمّة الشهرة والخلود ، فيترجم حياته ، ومن بين السطور يشعّ هذا الوسام بأ نّه ( نابغة ).
    ويُسئل حينئذ ما هو النبوغ ؟
    وقد بحث العلماء في الشرق والغرب ذلك ، واختلفوا في تعريفه وبيان حدّه ، بعدما وضع النبوغ والنابغة على طاولة التشريح ، وسلّط عليهما أضواء التحقيق. والتعاريف لم يكن من الحدّ التامّ المنطقي المطرد المنعكس الجامع للأفراد والمانع من الأغيار ، وذلك بالجنس القريب والفصل القريب ، بل هي من باب شرح الاسم ، والإشارة إلى ما هو مركوز في النفس من قبل ، والمتكفّل لبيانها معاجم اللغة ، فتدبّر.
    فمن علماء الغرب قال ( استفن تسوابك ) : النبوغ : شعلة في وجود النابغة تحرق أعماق وجوده.
    وقال ( كارلايل ) : النبوغ : قبل كلّ شيء تحمّل المشاقّ والصعاب في الحياة على نحو خارق للعادة.
    وقال ( أديسون ) : النبوغ : واحد بالمائة إلهام ، وتسعة وتسعين بالمائة عرق الجبين.
    وعند بعض : النبوغ : استعداد عجيب لتمركز الحواسّ في موضوع وهدف واحد.
    و ( زان بول ) يقول : التفكّر والتعقّل جوهر النبوغ ، فالنابغة من يفكّر في الموضوعات العلميّة والفنيّة.
    وعند ( هلوسيوس ) : النبوغ : نتيجة الدقّة الممتدّة.
    ويعتقد ( مايتو آونولد ) إنّ النبوغ : يتعلّق بالقوّة الخارقة للعادة.
    و ( بوفون ) يقول : لم يكن النبوغ سوى الصبر العجيب.
    و ( راسكن ) يرى النبوغ : نفوذ في جذور وأعماق الأشياء.
    و ( ميل ) يذهب إلى أنّ النبوغ : موهبة إدراك الحقائق أعمق ممّـا يراه الآخرون.
    و ( كلريج ) يراه : الاستعداد في الرشد والتكامل.
    و ( جان فاستر ) : القدرة على اشتعال النفس.
    و ( فلورانس ) : الرشد والتكامل في القوى العاقلة الإنسانيّة بحظّ وافر ، وعند بعض ; قدرة إدراك الشيء الذي يكون أساس في كلّ شيء ، وقبل أن يخلق النابغة المجتمع ، لا بدّ للمجتمع من أن يخلق النابغة ، وكلاهما مؤثّران في تمدّن البشر.
    وعند بعض : النبوغ : جلوة القوّة العصيبة ، والمحيط هو المؤثّر الأوّل في إيجاد النوابغ. وبعض يرى النبوغ : تجليّات الغرائز المكنونة في بواطن النابغة ، وقيل : الفرق بين النابغة والشخص العادي هو حدّة النظر ، فالنابغة يتأثّر بالحوادث والوقائع ، ولا زال الشخص العادي في رؤياه وغفلته.
    والدكتور ( آدلر ) يرى النبوغ نتيجة وجود نقص في التركيب الجسماني ، ويثبت أنّ من به نقص فإنّه يحاول رفعه بتشغيل قوى الدماغ بحدّ وافر في العلم أو الفنّ ، فهذه ( كهلن كلر ) العمياء الصمّاء الخرساء نبغت في عصرها ، وهذا ( بتهوفن ) نبغ في الموسيقى وهو أصمّ ، وما أكثر العلماء والفنّانين الذين نبغوا مع ما عندهم من نقص في التركيب.
    ولم يكن النبوغ وراثياً ، ولكن للوراثة تأثير في تحقّقها وتبلورها ، كما نشاهد ذلك في اُسر وعوائل نبغوا في العلوم والفنون ، وربما ينضج ويطبخ النبوغ قبل أوانه ، كما نرى ذلك في كثير من نوابغ العالم كالشيخ الرئيس ابن سينا.
    وكثيراً ما يبتلى النوابغ بالأمراض العصبيّة كالصرع ، كما يظهر النبوغ في الرجال أكثر من النساء ، وفيهم الخبط الدماغي أكثر.
    و ( باسكال ) يصرّ على أنّ النبوغ مثل الجنون ، وأنّ النابغة أقرب الناس إلى الأمراض الروحيّة ، وإصابتهم بالماليخوليا الجنونيّة.
    والنوابغ منذ الصغر ينجذبون إلى مكنونات بواطنهم من النبوغ ، وربما يتأخّر النبوغ بعد أوانه مثل ما نجد ذلك في ( بلزاك ) و ( كولد سميث ) ، ويعتقد البعض أنّ سبب ذلك عدم اعتناء المربّين ، أو من تأثير المحيط الفاسد ، أو الفقر المقيت المدقع.
    ويقال إنّ للنابغة دماغين : دماغ في خدمة نفسه ، ودماغ في خدمة نبوغه ، وربما يمنع الأوّل الثاني أو بالعكس ، وإنّما يتولّد النبوغ من البواطن وبعوامل خارجيّة ، ويعيش النوابغ حالة الانعزال عن الناس ، وكثيراً ما لا يعرف قدرهم في حياتهم ، ولكن عدم اعتناء الآخرين لم يزلزل ويثبط عزمهم ، بل دائماً هم في بوتقة العمل ، وبكلّ شوق وإخلاص ، فإنّهم يعيشون للأجيال القادمة لا لمعاصريهم ، ولم ينحصر ذلك في قوم أو شعب ووطن خاصّ ، بل هو للعالم أجمع ، ويسمع نداءهم جيلا بعد جيل ، ولم يدرك المعاصرون نوابغهم.
    ويختلف النابغة في حياته العلمية والعملية عن الناس ، فإنّ الناس يفكّرون بالمقام والمال واللذائذ الشهوانيّة ، ولكن النابغة يستغلّ الفرص وساعات الفراغ من أجل نبوغه ونشاطه العلمي أو الفنّي أو الصناعي ، يتعمّق في الفكر وإن لم يكن فيه المنافع المادّية بخلاف الآخرين ، فنوره من نفسه ، ومنار الآخرين منه ، فهو كالظاهر بنفسه والمظهر لغيره.
    وأمّا الفرق بين العالم والنابغة : فإنّ العالم يُتعلّم منه ما تعلّم واكتسب ، والنابغة إنّما يكسب منه ما ترشّح من فيض وجوده ، ولم يتعلّمه من الآخرين.
    والعالم كرامي السهم فإنّه يعلّم الهدف والرمي ، فيكرم عند الناس ، والنابغة أهدافه غير جليّة فهي في خبايا وجوده ، فلا يعرف قيمته ، ولا يجلّل ويحترم من قبل الناس إلاّ بعد ظهور رميته وأهدافه.
    ويختلف النابغة مع الناس في كلّ شيء حتّى الأخلاقيّات ، ويبقى عمله جديداً وطريّاً متى ما كان وأينما كان.
    والمطالعة المستمرّة للنوابغ موادّ أوّليّة لمكنوناتهم الباطنيّة وبنائهم الفكري ، ومجمل القول : أنّ النابغة عمله كنحلة العسل ، وباقي الناس كالنمل ، فهو يصنع وينتج بعد ما يجمع ، وهم يحافظون على ما يجمعون. فالنابغة يقدّم الشيء الجديد ، وباقي الناس يقدّمون ما كان قديماً ، فهو ذو بصيرة نافذة وحدّة نظر ، يرى ما لا يراه غيره ، فيكشف الستار عن المجهولات في لوحته الغنيّة ، وشعره الموزون وكتابه القيّم ، وغير ذلك.
    وإنّ إدراك العلوم والفنون يفتقر إلى بصيرة وقّادة يفقدها العوامّ ، والنابغة يدرك بعد ما ينسى نفسه ويدخل في عالم المثل والصور ، فعنده قدرة العقل والتفكّر أقوى وأعظم من قدرة النفس ، والناس عقولهم في خدمة نفوسهم وملذّاتهم ، والنابغة كلّ شيء في خدمة عقله ، ويضحّي بكلّ شيء من أجل عقله ، ولا يرى منافعه الشخصيّة ، ويعيش في العالم الأكبر المتبلور في وجوده ، النوابغ خلصت آثارهم من الماديّات فتلقاهم في عالم الوجود والانجذاب ولو في لحظات ، فهو كالشجرة اليانعة الخضراء تسرّ الناظرين ، وتنبسط النفوس في عالم الوجد والانجذاب ولو في لحظات ، وتنبسط النفوس بجوارها وفي دوحتها وظلّها.
    الناس يعيشون من أجل أهدافهم الشخصيّة ، ولهم أغراض في منافعهم وأعمالهم ، والنوابغ لما عندهم من العقل الكبير والفكر العملاق كأ نّهم في حياتهم المعاشيّة بلا غرض ، ويصابون بالعجز في إدارة أنفسهم حتّى في أعمالهم الفرديّة والشخصيّة ، وقد يصدر منهم ما يضحك الآخرون حتّى ينسب إليهم الجنون ، إذ هم في كشف أسرار الكون ، وينسون أنفسهم ، وينكرون الذات ، وعندهم العلم والفنّ الهدف ، وباقي الناس كلّهم يعتبرونها وسيلة لتحصيل الثروة والمقام والملاذ ، فالنوابغ عشّاق الفكر والعلم والتجربة والوصول إلى أسرار الخليقة والمعاني ، وربما يصل إلى مرحلة العجز في حياته الطبيعية ، ونجدهم قد حلّقوا في أجواء العلم وآفاق الأدب وسماء الفنّ ، ويستلذّون بذلك غاية اللذّة ، ولا ينتظر مدح الآخرين وإطرائهم وثنائهم.
    النابغة كالطفل يعيش في الوداعة والبساطة وعدم الاغترار بزينة الدنيا وزخرفها ، إذ تغلب على نفسه قوّة العقل ، وينمو عنده الجهاز العصبي أكثر من غيره ، ويعيش في عزلة ، وربما يصاب بالجنون ، وقد قال أرسطو المعلّم الأوّل : من نبغ في الفلسفة والسياسة والشعر والفنّ فإنّ له طبع ماليخوليائي ، ومن يراجع مستشفى المجانين يجد كثيراً منهم لديهم نوعاً من النبوغ ، وكثير منهم يصابون بعقدة الانتحار.
    النبوغ تربية القوّة الدرّاكة فوق الإرادة ، والنابغة يفكّر دائماً بما هو الأساس والخالد في الكون ، وغيره يفكّر باُمور آنية سريعة الزوال ، فهو ابن الوقت ، والنابغة ابن الزمن ، ولذّة النابغة من نبوغه ، وتجبر عزلته وتنسي همّه وغمّه ، فالناس سكون بلا حركة ، إرتجاع وتقليد من غير حجّة ، والنوابغ في حركة متواصلة من الاكتشافات والاختراعات والإبداعات ، وتزيد عندهم الإرادة والتصميم والعزم والعمل الدؤوب مع نفوذ البصيرة.
    فسقوط التفّاحة من الشجرة عند الناس لا تحكي عن شيء ، وعند النابغة ، تحكي عن جاذبيّة الأرض ، وينظر إلى الكونيّات معتبراً متعلّماً ، وينتفع ما ينتفع غيره ، فالقصّاب ينظر إلى جسد الشاة ينتفع منها المنافع الماديّة ، والنابغة ينظر إليها ليكشف أسرارها ، ويغفل عن نفسه في خضمّ تجاربه ، كما له قوّة التمركز على موضوع واحد ساعات وأيام وشهور وسنين ، وهو جديد في كلّ جديد ، ويطير في سماء التفكير حتّى يصل القمّة ، ولا قمّة في الأفكار ، وهذا الحبّ الدفين يدفعه بكلّ جدّ وإخلاص إلى الاكتشافات والاختراعات والتصنيف ، وينظر إلى العالم بإعجاب ودقّة ، فهو كالشمس نوره من نفسه ، وباقي الناس كالقمر نورهم من غيرهم.
    النابغة ينبوع الحياة ، ويتفجّر منه ما فيه الحياة والتطوّر ، ويطوي المسير الكوني والتأريخ البشري قبل غيره بقرون وسنين ، فهو وإن عاش منعزلا عن المجتمع ، ولكن يعيش في خضمّ الكون وأسراره وحقائقه المستورة ، فهو قوي الإحساس ومرهف الشعور ، ويعيش في حزن وكآبة ويتمنّى خلاص روحه من جسده الضيّق.
    وقيل : أكثر النوابغ من قصيري القامة ، كأرسطو وبانكور وأرخميدس وآتيلا وبتهوفن ونابليون وغيرهم ، والغالب على النابغة أ نّه نحيف الجسم يتألّم من محيط المدرسة في بداية عمره ، كآينشتاين وروسو وديكارت وفرويد وكالريج ، حتّى بعضهم ترك المدرسة كبرناردشو وهتلر وأديسون ، وحتّى برناردشو عندما كتب عن حياته رسم مدرسته خلف قضبان الحديد كناية عن السجن ، وقال : قضيت أفضل عمري في هذا السجن ، والغالب على أولاد النوابغ البلاهة ، فأرسطو له خمسة أولاد اشتهروا بالبلاهة ، وابن سيسرون كان دائم الخمر ، وابن والتركان يفتخر أ نّه لم يقرأ مزخرفات أبيه ، وعندما سألوا ابن موزارت أتحبّ الموسيقى ؟ ألقى مجموعة من النقود على الطاولة وقال : الموسيقى الوحيدة المفضّلة عندي هذه النقود ، وحتّى بعض أقارب النوابغ ابتلوا بالحماقة والجنون كصبية فيكتور هيغو.
    وكثيراً ما يورث النبوغ من الاُمّهات ، كسيسرون وكندرسه وبوفون كونة ونابليون وشوبنهاور ولامارتين وكنت والشيخ الرئيس ، وبعض من الآباء كشيللر وميلتون وبيكون وثاسو.
    ويندر نبوغ النساء ، إذ شرط النبوغ الابتكار ، وشرط الابتكار الشجاعة والتهوّر ، والنساء يفقدون ذلك في الغالب ، وشوبنهاور يعتقد أنّ المرأة ذاتاً تفقد النبوغ.
    والغالب على النوابغ التضحية والفداء من أجل الشعوب والأوطان وإصلاح المجتمعات. وهم غالباً في سفر ورحلات كثاسوا الشاعر والناو وادكار الن بو وروسو ، ويشتغلون بأشغال مختلفة ومهن عديدة ، كسويفت وروسو وكاردان وليوناردو دافنشي احترفوا الهندسة والتحقيق والرسم والعلم ، وابن سينا طبيب وفيلسوف وسياسي ، وأبو ريحان فيلسوف وأديب وطبيب ، ويغلب عليهم الحزن والغمّ ، حتّى أنّ ( فلوبر ) يكتب : إنّي لم اُخلق للفرح ، وشوبان حسّاس إلى درجة تبكيه الوردة الذابلة والذبابة الميّتة ، وكثيراً ما يبتلى النوابغ بالانتحار ويفكّرون بذلك.
    هذا خلاصة ما يقال في النبوغ والنوابغ وخصائصهم ، وإنّهم في الأعصار والأمصار يعدّون بالأصابع ، والمطلوب منّا أن نكشف سرّ النجاح ورموز الموفّقيّة في الحياة لجميع الناس على حدّ سواء.
    فما هي عوامل النجاح في الحياة ؟
1 ـ رسالة طبعت في مجلّة الذكر الصادرة بقم المقدّسة ، العدد 16 ، السنة الثانية 1415 هـ.
2 ـ النبوغ لغةً : من نبغ بمعنى خرج وظهر ، ونبغ الرجل نبغاً لم يكن في إرثه الشعر ثمّ قال وأجاد ومنه سمّي النوابغ من الشعراء نحو الجعدي والذبياني وغيرهما ، ونبغ فيهم النفاق إذا ظهر بعدما كانوا يخفونه منه. ( لسان العرب 11 / 24 ) و ( لغت نامه دهخدا 43 / 319 ).
    ويقال : نبغ في العلم وفي كلّ صناعة إذا أجاد ، ونبغ في الدنيا اتسع ، والنبوغ بمعنى الجديد تفوّق المرء في العلم والأدب والفنّ ، وبمعنى الذكاء المفرط والاستعدادات العجيبة ، والنابغة الرجل العظيم الشأن ( دائرة معارف وجدي 10 : 30 ).
النبوغ وسر النجاح في الحياة ::: فهرس