الفصل الأول
الاُسرة قبل التكوين في المنهج الإسلامي

    يطلق لفظ الأسرة في اللغة على عشيرة الرجل ورهطه الأدنون وأهل بيته لأنه يتقوى بهم(1).
    أما في الاصطلاح فإنّ مفهوم الاُسرة يتطور عبر الزمان ويتأثر بالمكان ، ويطلق في الإسلام على الجماعة المكونة من الزوج والزوجة وأولادهما غير المتزوجين الذين يقيمون معاً في مسكن واحد ، وعندما نقيّد الاُسرة بقولنا : الاُسرة المسلمة ، فلا بدّ لأفرادها من أن يكونوا في أفكارهم وعواطفهم وسلوكهم من الملتزمين بأحكام الإسلام (2).
    فالدين الإسلامي ـ باعتباره منهجاً شاملاً لجميع جوانب الحياة الإنسانية ـ أولى الاُسرة أهمية خاصة في مفردات منهجه المتكامل ، ذلك لما لها من دور فعال يسهم في بناء إنسان صالح يشارك في خدمة المجتمع ورقيه وتنمية قدراته.
    ومن هذا المنطلق يمكن القول بأنَّ الإسلام يقدّم نظرته المثلى قبل تشكيل
____________
1) الصحاح | الجوهري 2 : 579، لسان العرب | ابن منظور 4 : 20 مادة ـ اُسر..
2) راجع : نظام الاُسرة في الإسلام | باقر شريف القرشي : 18 ، والاُسرة والحياة العائلية| الدكتورة سناء الخولي : 35 ـ الاسكندرية ـ 1986 م.

( 10 )

الاُسرة ، كخطوة استباقية لما يجب أن تكون عليه الاُسرة المسلمة ؛ تنحرف عن مسارها الذي رسمه لها كمؤسسة تربوية أساسية في المجتمع ، وسوف نتناول هذا الموضوع من خلال المباحث التالية :

المبحث الأول
أساليب الإسلام في التشجيع على الزواج

    يمكن تحديد المنهج الإسلامي في التشجيع على الزواج باعتباره النواة الاُولى لتكوين الاُسرة المسلمة أُسلوبي الترغيب على الزواج والترهيب من تركه الواردين في الكتاب الكريم والسنة المطهّرة.

أولاً : أُسلوب الترغيب :
    قال تعالى : ( وأنكِحُوا الأيامَى مِنكُم والصَّالِحينَ مِنْ عِبَادِكُم وإمائكُم إن يكُونُوا فُقَراءَ يُغنِهِم اللهُ مِن فَضلِهِ واللهُ واسعٌ علِيمٌ ) (1).
    فهذه الآية تدل على أمرٍ إلهي في التشجيع على الزواج والوعد بتذليل العقبات الاقتصادية التي تعتريه.
    كما كشف لنا القرآن الكريم ـ وفي معرض الامتنان على البشرية ـ عن أنّ الزواج آية من آياته الرحمانية التي تعمُّ جميع الناس ، سواء منهم المسلم أو الكافر ، ينعمون من خلاله بالسكينة والاطمئنان في أجواءٍ من المودة والرحمة ،
____________
1) سورة النور : 24 | 32.
( 11 )

    فقال عزَّ من قائل : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أنفُسِكُمْ أزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).
    وإذا طالعنا السُنّة المباركة نجد أنَّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد وضّح لنا الرغبة الالهية للبناء الاسري القائم على أساس الزواج وله صلى الله عليه وآله وسلم : « ما بني بناء في الإسلام أحبُّ إلى الله من التزويج »(2)
    وحرص صلى الله عليه وآله وسلم على إبراز المعطيات الإيجابية للزواج تشجيعاً للشباب من أجل الإقدام عليه عندما قال صلى الله عليه وآله وسلم : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباه فليتزوج ، فإنّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج.. » (3).
    وبصرف النظر عما ورد في النقل ـ من آيات وروايات ـ بخصوص الترغيب في الزواج فإن العقل يحكم بضرورته لكونه السبب المباشر وراء تشكيل أول خلية اجتماعية ، هي الأسرة ، التي ترفد المجتمع بأفراد صالحين يسهمون في بنائه وتطويره وفق أُسس سليمة بعيدة عن أسباب الانحراف والابتذال.
    ومن هذه الجهة يكشف لنا الإمام الرضا عليه السلام ضرورة الزواج الاجتماعية يستقل بادراكها العقل بغض النظر عن الشرع ، فيقول عليه السلام : « لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة منزلة ولا سُنَّة متبعة ، لكان فيما جعل لله فيها من برّ القريب وتآلف البعيد ما رغب فيه العاقل اللبيب ، وسارع إليه الموفق المصيب... »(4).
____________
1) سورة الروم : 30 | 21.
2) مكارم الأخلاق | الطبرسي : 196.
3) مكارم الأخلاق : 197.
4) مكارم الأخلاق : 206.

( 12 )

    كما أنَّ الزواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في تاريخ النوع الإنساني إلى هذا اليوم ، وهو دليل على كونه سنة فطرية حافظت على بقاء النوع الإنساني ؛ ذلك لأن الأنواع تبقى ببقاء نسلها ، ناهيك عن أنّ الذكر والاُنثى مجهزان بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل والتوالد.. وكلاهما في ابتغاء ذلك شرع سواء ، وإن زيدت الاُنثى بجهاز الارضاع والعواطف الفطرية الملائمة لتربية الأولاد ، وقد أودع تعالى كلا الجنسين غرائز انسانية تنعطف إلى محبة الأولاد ورعايتهم ، وتنقضي بكون كلّ منهما مسكناً للآخر ، وبلزوم تأسيس البيت ، إذن فالفحشاء والسفاح الذي يقطع النسل ويفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة الإنسانية القاضية بالنكاح (1).
    وممّا يدل على أن الزواج أمر فطري سول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « من أحبّ فطرتي ، فليستنَّ بسنتي ، ومن سنتي التزويج » (2).
    وعليه فالزواج يقف سداً منيعاً يحول دون الانحراف الجنسي ، وهو من أفضل الوسائل الوقائية التي تحصن الناس من الانزلاق إلى هاوية الرذيلة ، وبالتالي الوقوع في الفتنة.
    روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال : « نزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد إنّ ربّك يُقرؤك السلام ويقول : إنَّ الأبكار من النّساء بمنزلة الثمر على الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلاّ اجتنائه ، وإلاّ أفسدته الشمس، وغيرته الرّيح ، وإنّ الأبكار إذا أدركن ما تدرك النّساء فلا دواء لهن إلاّ البعول ، وإلاّ لم يؤمن عليهن الفتنة ، فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر ، فجمع
____________
1) تفسير الميزان | العلاّمة الطباطبائي 4 : 312 ـ 313.
2) مكارم الأخلاق : 197.

( 13 )

الناس، ثمّ أعلمهم ما أمر الله عزَّ وجلَّ به » (1).
    ولم يكتف الإسلام بتشجيع الشباب من الجنسين على الزواج ، بل دعا المسلمين إلى تحقيق أعلى درجة من المشاركة والتعاون ومد يد العون لكلِّ من تضيق يده عن تهيئة الوسائل اللازمة للزواج ، ووعد كل من يساهم في هذا العمل الخيري بالثواب الجزيل ، وثمة شواهد نقلية على هذا التوجه ، منها.
    قال الإمام زين العابدين عليه السلام : « ... ومن زوَّجه زوجة يأنس بها ويسكن إليها، آنسه الله في قبره بصورة أحبّ أهله إليه » (2) وقال حفيده الإمام الكاظم عليه السلام : « ثلاثة يستظلون بظل عرش الله يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه : رجل زوّج أخاه المسلم ، أو خدمه أو كتم له سراً » (3).
    وفي هذا الإطارة ملحة لتوسيع المشاركة الاجتماعية في هذه القضية الحيوية دفع المسلمين للقيام بدور الوساطة بين الشباب المؤهلين للزواج وفتح قنوات الاتصال والتعارف بين عوائلهم وكذلك مدّ جسور الفهم والتفاهم بين العروسين ، وهي أمور لابدّ منها حتى يكون الزواج عن قناعة ورضا وطيب نفس ، وعلى نحو مدروس ، وليس قراراً ارتجالياً قد تترتب عليه عواقب لا تحمد عقباها.
    ثم إنّ الوسيط أو الشفيع يساهم مساهمة فعّالة في تذليل الصعوبات ورفع الموانع والعقبات التي تعترض الجانبين ، ومن أشاد أمير المؤمنين عليه السلام بدور الشفيع أو الوسيط فقال : « أفضل الشفاعات أن يشفع بين اثنين في نكاح ،
____________
1) وسائل الشيعة 14 : 39 كتاب النكاح.
2) ثواب الأعمال ، للصدوق : 175 ـ 176.
3) الخصال | الصدوق 1 : 141 باب الثلاثة.

( 14 )

حتى يجمع شملهما » (1).

المعطيات الإيجابية للزواج :
    ومن ضمن أُسلوب «الترغيب» نجد من خلال نظرتنا الفاحصة للنصوص أنّ الإسلام يبرز ـ بوضوح ـ المعطيات الإيجابية للزواج ، ويمكن تبويبها في النقاط التالية :
1 ـ الدخول في ولاية الله :
    فلاشك أنّ من أقدم من الشباب على الزواج أو من قدّم خدمة في هذا الشأن ، امتثالاً لأمر الله تعالى ، ورغبة في رضاه ، سوف يدخله الله تعالى في ولايته ، وقد ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « من نكح لله وأنكح لله استحق ولاية الله » (2).
    ويفهم من ذلك بالدلالة الالتزامية أن من يُحجم عن الزواج بدون سبب شرعي ، أو من يضع العراقيل في هذا السبيل ، فسوف يكون أقرب إلى ولاية الشيطان. ولعل ذلك ما يفسر قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « أيّما شاب تزوج في حداثة سنّه عجّ شيطانه : يا ويله ! عَصَمَ مني دينه » (3).
2 ـ امتثال سُنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
    وهي سُنَّة هادية راشدة تدفع من عمل بها نحو الصلاح ، وتؤدي إلى الفوز والفلاح ، وقد تجسدت بأقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العديدة ، التي حث فيها الشباب
____________
1) مكارم الأخلاق | الطبرسي : 196.
2) المحجة البيضاء | الكاشاني 3 : 54 مؤسسة الأعلمي ط2.
3) كنز العمال 16 : 276 | 44441.

( 15 )

على نبذ حياة العزوبية ، كما جسدت في أفعاله ، فقد تزوج مرات عديدة ، وزوج بناته أيضاً ، كما تمثلت في تقريره ، فلم يكتف بالسكوت عمن يتزوجون ، بل كان يسأل أصحابه ومن يحيط به عن أخبار الزواج ، فيبارك لمن تزوج منهم ويدعو له ، كما ويسأل العزاب منهم عن سبب عزوفهم عن الزواج ، و يحاول حل مشاكلهم ويشفع أو يتوسط لتسهيلها ، وقد زوج « جويبر» مع فقره المدقع من « الزلفاء » مع ما هي فيه من الجاه والثراء.
    فالزواج ـ إذن ـ اضافة إلى أنّه آية ربانية فهو سنّة نبوية يتوجب اتباعها ، والعمل بها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « النكاح سنتي ، فمن رغب عن سنتي فليس مني... » (1).
    وانطلاقاً من هذا التوجه النبوي ، قال أميرالمؤمنين عليه السلام موصياً : « تزوجوا ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ماكان يقول : من كان يحبُّ أن يتّبع سنّتي فليتزوج ، فإنَّ من سنّتي التزويج » (2).
3 ـ إكتساب الفضيلة العالية :
    فالمتزوج أفضل عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الأعزب درجةً ، وأجزل ثواباً ، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « المتزوج النائم افضل عند اللهم من الصائم القائم العزب » (3).
    وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « ركعتان يصليها متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب » (4).
____________
1) جامع الأخبار : 271 | 737 ، كنز العمال 16 : 271 | 44407.
2) تحف العقول : 105.
3) جامع الأخبار : 272 | 741.
4) ثواب الاعمال : 62.

( 16 )

    وعن أبي الحسن عليه السلام قال : « جاء رجل إلى أبي جعفر عليه السلام فقال له : هل لك من زوجة ؟ قال : لا ، فقال أبو جعفر عليه السلام : لا أحب أن لي الدنيا وما فيها وأن أبيت ليلة وليس لي زوجة ، ثم قال : إن ركعتين يصليهما رجل متزوج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره » (1).
    ولعلَّ الوجه في هذا التفاضل أنّ الأعزب يكون عرضة لضغط الغريزة الجنسية فيشغل الجنس حيزاً كبيراً من تفكيره ويكون محوراً لاهتمامه ، الأمر الذي ينعكس ـ سلباً ـ على عبادته ، التي تكتسب فضيلتها وكمالها من التوجه الكلي نحو المعبود ، والابتعاد عمّا سواه.
    وهناك من تضيق عدسة الرؤية لديه أو يفهم الدين فهماً قاصرا ، فيرى أنّ الرهبانية تكسب الإنسان فضلاً وكمالاً ، كما هو الحال عند بعض النصارى وأهل التصوف ، ولكن أهل البيت عليهم السلام يرفضون هذا الفهم القاصر ، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام : « إنَّ امرأة سألت أبا جعفر عليه السلام فقالت : أصلحك الله إنّي متبتلة، فقال لها : وما التبتل عندك ؟ قالت : لا أريد التزويج أبداً ، قال : ولِمَ ؟ قالت : ألتمس في ذلك الفضل ، فقال : انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة عليها السلام أحقُّ به منك ، إنّه ليس أحد يسبقها إلى الفضل » (2).
4 ـ الطهارة المعنوية :
    فممّا لا ريب فيه أنّ الزواج عامل مساعد على التطهّر من الآثام كالزنا واللواط وسائر أشكال الانحراف عن الطريق المستقيم ، ومن أجل ذلك قال
____________
1) مكارم الأخلاق : 197.
2) أمالي الطوسي 1 : 380. وبحار الأنوار 103 : 219.

( 17 )

الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « من سرّه أن يلقى الله طاهراً مطهّراً ، فليلقه بزوجة صالحة » (1).
    فالزواج هو الطريق الطبيعي لرفد الاُمة بعناصر شابة ، تجدد حيويتها ، وتقوم على أكتافهم نهضتها وصيرورة تقدمها ، ولذلك نلاحظ أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أفصح أكثر من مرّة عن رغبته في كثرة أفراد أمته ، ومن ذلك قوله : « تناكحوا تكاثروا فإنّي أُباهي بكم الاُمم يوم القيامة حتى بالسقط » (2).
5 ـ زيادة الرزق وحسن الخلق :
    لقد طمئن الله تعالى الذين يخشون الدخول في عش الزوجية خوفاً من الفقر وما يوجبه من النفقة ، قائلا : (وأنكِحُوا الأيامَى مِنكُم والصَّالِحينَ مِنْ عِبَادِكُم وإمائكُم إن يكُونُوا فُقَراءَ يُغنِهِم اللهُ مِن فَضلِهِ واللهُ واسعٌ علِيمٌ ) (3).
    ( وهو وعد جميل بالغنى وسعة الرزق ، وقد أكّده بقوله ( واللهُ واسعٌ عليمٌ ) والرزق يتبع صلاحية المرزوق بمشيئة من الله سبحانه ) (4).
    وفي حديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ما يقشع غيوم الهموم التي تتراكم في النفوس خوفاً من أعباء الزواج ، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : « التمسوا الرزق بالنكاح » وأيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « تزوَّجوا النساء ، فإنهنَّ يأتين بالمال » (5).
    وفي حديث ثالث يكشف لنا فيه عن معطيات اُخرى معنوية للزواج إضافة
____________
1) مكارم الأخلاق : 197.
2) المحجة البيضاء 3 : 53.
3) سورة النور : 24 | 32.
4) تفسير الميزان 5 : 113.
5) مكارم الأخلاق : 196.

( 18 )

    إلى المادية عندما قال صلى الله عليه وآله وسلم : « زوّجوا أياماكم (1) فإنَّ الله يُحسن لهم في أخلاقهم ويوسّع لهم في أرزاقهم ويزيدهم في مروّاتهم » (2).
    وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام : « من ترك التزويج مخافة الفقر فقد أساء الظن بالله عزَّ وجلَّ » (3) إنطلاقاً من الآية المتقدمة التي تتضمن وعداً جميلاً بالمدد والمعونة.

ثانياً : أُسلوب الترهيب :
    وبالاضافة إلى أُسلوب « الترغيب » الذي أشرنا إليه ، فقد اتّبع الإسلام أُسلوب التنفير من العزوبة والتحذير من عواقبها ، من أجل كسر أسوار العزلة ، وقطع الطريق على الذين يخلعون حزام العفة ، ويريدون التنصّل من المسؤولية الاجتماعية ، فالملاحظ أنه يشنّ على هؤلاء حملات شديدة ، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : شراركم عزّابكم ، وأراذل موتاكم عزّابكم (4).
    فالامتناع عن الزواج بلا عذر صحيح مذموم ومكروه ، ويجعل الفرد في زمرة المذنبين ، ويقرّبه من دائرة الشيطان ، إذ لا ربانية في الإسلام كما هو معلوم ، ومن الشواهد على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سأل رجلاً اسمه عكّاف : « ألك زوجة ؟ قال : لا يا رسول الله ، قال : ألك جارية ؟ قال : لا يارسول الله ؟
____________
1) الأيامى : جمع أيّم ، وهو الذكر الذي لا اُنثى معه والاُنثى التي لا ذكر معها ، تفسير الميزان 5 : 112 ـ 113.
2) نوادر الراوندي : 36 ، بحار الأنوار 103 : 222.
3) مكارم الأخلاق : 197.
4) كنز العمال 16 : 277 | 44449.

( 19 )

قال : أفأنت موسر ؟ قال : نعم. قال : تزوّج وإلاّ فأنت من المذنبين ». وفي رواية « تزوّج وإلاّ فأنت من إخوان الشياطين » (1).
    ولقد بلغ الترهيب والتحذير لمثل هؤلاء الممتنعين عن التزويج مخافة العيلة إلى أقصى حدوده حين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منّا » (2).

المبحث الثاني
أنواع الزواج

    ينقسم الزواج إلى قسمين : دائم ومنقطع ، وكل منهما يحتاج إلى عقد مشتمل على إيجاب وقبول دالين على إنشاء المعنى المقصود والرِّضا به «النكاح المنقطع سائغ في دين الإسلام ، لتحقق شرعيته ، وعدم ما يدل على رفعه »(3).
    وروي عن جابر قال : تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر ، وم زلنا نتمتع حتى نهى عنها عمر (4).
    وعن عبدالله بن مسعود ، قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معنا نساء ، فقلنا : يا رسول الله ، ألا نستحصن هنا بأجر ؟ فأمرنا أن ننكح المرأة بالثوب (5).
____________
1) جامع الأخبار : 272 | 743.
2) كنز العمال 16 : 279 | 44460.
3) شرائع الإسلام | المحقق الحلي 2 : 528 كتاب النكاح.
4) وسائل الشيعة | الحر العاملي 14 : 441 كتاب النكاح ـ أبواب المتعة.
5) وسائل الشيعة 14 : 440.

( 20 )

    ويدل عليه قوله تعالى : ( .. فما استَمتَعتُم بهِ مِنُهنَّ فآتوهُنَّ أُجورهُنَّ فَريضَةً.. ) (1).
    يقول العلاّمة الطباطبائي في معرض تفسيره للآية المتقدمة : ( والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلاشك ، فإنّ الآية مدنيّة نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها ، وهذا النكاح ـ أعني المتعة ـ كان دائراً بينهم معمولاً عندهم في هذه البرهة من الزمن من غير شك ، وقد أطبقت الأخبار على تسلّم ذلك ، وأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسمع منه لاشكّ فيه ، وكان اسمه هذا الاسم ، ولا يعبّر عنه إلاّ بهذا اللفظّ ، من كون قوله تعالى : ( فما استَمتَعتُم بهِ مِنُهنَّ ) محمولاً عليه مفهوماً منه هذا المعنى.. وجملة الأمر أنَّ المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة ، وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين كابن عباس وابن مسعود وأُبيّ بن كعب وقتادة ومجاهد والسدّي وابن جبير والحسن وغيرهم ، وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام ) (2).
    ويمكننا أن ننظر إلى هذا النوع من الزواج ـ الذي يحاول البعض إثارة الجدل حوله ـ من زاوية العقل ، فالملاحظ أنّ الناس ليس كلهم بقادر على الزواج الدائم سيّما في هذا العصر لأسباب اقتصادية ، أو اجتماعية ، أو نفسية أو غيرها. فيدور الأمر بين ثلاثة أمور : إما الكبت الجنسي الموجب لأمراض خطيرة ، وأما الفساد والرذيلة الذي يؤدي إلى تفكك بناء العائلة والمنظومة الاجتماعية وامتهان الكرامة الإنسانية ، وانعدام النسل السليم وانتشار الأمراض ، وأما
____________
1) سورة النساء : 4 | 24.
2) تفسير الميزان 4 : 271 ـ 272.

( 21 )

العمل وفق الشريعة الإلهية والسُنّة المحمدية القاضية بتحليل المتعة كاسلوب شرعي يعالج جذور المشكلة ويمنع الفساد والعزوبة.
    ومن أجل ذلك شرّع زواج « المتعة » صوناً للشباب من الوقوع في شباك الشيطان وممارسة الزنا واللواط وما إلى ذلك من مظاهر الشذوذ والفساد ، وعليه لم يتجاوز الإمام علي عليه السلام الحقيقة عندما قال : « لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنا إلاّ شقي » (1)
    وكيفما كان فإنّه لا فرق بين الزواج الدائم والمنقطع في أنّ كلاًّ منهما لايتم إلاّ بعقد ومهر ، وفي نشر الحرمة من حيث المصاهرة ، وفي وجوب التوارث بين أولاد المرأة المتمتع بها وبين أولاد الزواج الدائم وأيضاً سائر الحقوق المادية والأدبية ، وتبقى فروق معدودة يراجع للوقوف عليها كتب الفقه.

المبحث الثالث
مقدمات الزواج في المنظور الإسلامي

أولاً : أُسس اختيار الشريك :

    لا يخفى بأنّ الإسلام يرشد الزوجين إلى الأُسس السليمة عند الاختيار ، ويكشف عن المواصفات التي يجب مراعاتها ، فهو يحث كلا من الزوجين على بذل الوسع واستنفاذ الجهد بغية التعرف على أوصاف شريك العمر المشورة مع الأقارب وغيرهم لكون القضية حيوية لا تقتصر على سعادتهما بل
____________
1) وسائل الشيعة | الحر العاملي 14 : 436 كتاب النكاح ـ أبواب المتعة.
( 22 )

تنعكس آثارها على النسل.
    وكان عباد الله الصالحون يطلبون المدد والعون من الله تعالى لكي يوفقهم لحسن الاختيار ، وأن يهب لهم الزوجة والذرية الصالحة ( والَّذِينَ يَقُولُونَ ربَّنا هَب لنا مِنْ أزواجِنَا وذُرِياتِنَا قُرَّةَ أعيُنٍ واجعَلنَا لِلمُتَّقينَ إمَامَاً ) (1).
    وسوف نستعرض بإيجاز المواصفات المثالية التي حددها الإسلام لكلِّ من الزوجين.
1 ـ مواصفات الزوجة الصالحة :
    في ضوء قراءتنا الفاحصة للنصوص الواردة في هذا الشأن ، نجد أن الاسلام يقدّم الارشادات المناسبة للزوج أسس اختيار الزوجة فيضوء معايير سليمة.
    إنَّ الإسلام يرى أنّ الوقاية خيرٌ من العلاج ، لذلك يُسدي نصائحه بسخاء للزوج يحثه فيها على التثبت والتأني عند الاختيار حتى لا يكون كحاطب ليل لا يدري ما يجمع في حزمته ، وقد كشف له عن خطأ النظرة الأحادية الجانب التي تركّز على الجمال أو المال فحسب ، مؤكدا على النظرة الشمولية التي تتجاوز الظواهر المادية ، بل تغوص نحو العمق لتبحث عن المواصفات المعنوية من دين وأخلاق وما إلى ذلك.
    وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام : « إنّما المرأة قلادة فانظر ما تتقلّد، وليس للمرأة خطر ، لا لصالحتهنَّ ولا لطالحتهنَّ : فأما صالحتهنَّ فليس خطرها الذّهب والفضة ، هي خير من الذهب والفضة ، وأما طالحتهن فليس خطرها التراب ، التراب خير منها » (2).
____________
1) سورة الفرقان : 25 | 74.
2) وسائل الشيعة 14 : 17 كتاب النكاح.

( 23 )

    وقد أولى الأئمة من عترة المصطفى عليهم السلام عناية خاصة لمسألة اختيار الزوجة ، وكانوا مع سموّ مقامهم ورجاحة عقلهم وكثرة تجاربهم ، يستشيرون الآخرين في هذا الشأن ، ومن الشواهد الدالة على ذلك ، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة فاطمة عليها السلام : ( لما أراد أن يتزوّج قال لأخيه عقيل : « انظر لي امرأة قد أولدتها الفحولة من بني العرب لأتزوَّجها فتلدُ لي غلاماً فارساً ». وفكَّر عقيل قليلاً ثم قال لأخيه : تزوج أمُّ البنين الكلابية ، فإنه ليس في العرب على وجه الإطلاق أشجع من آبائها.. وصار عقيل يُعدِّد أمجاد أعمام وأخوال أمُّ البنين ، فخطبها الإمام وتزوَّجها.. وأنجبت أمُّ البنين من الإمام أربعة ذكور.. هم : العبّاسُ وعبدالله ، وجعفر ، وعثمان ) (1).
    وكان أهل البيت عليهم السلام يسدون النصيحة المخلصة لكلِّ من استشارهم في هذا الشأن ، فعندما استشار داود الكرخي الإمام الصادق عليه السلام قائلاً له : إنَّ صاحبتي هلكت وكانت لي موافقة وقد هممت أن أتزوج ، قال الإمام عليه السلام : « اُنظر أين تضع نفسك ومن تشركه في مالك وتطلعه على دينك وسرّك ، وأمانتك فإن كنت لابدّ فاعلاً فبكراً تنسب إلى الخير وإلى حسن الخلق » (2).
    وما يبدو مثيراً للاهتمام أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليه السلام يقدمون رؤيتهم المعرفية للشباب التي تكشف النقاب عن طبائع النساء ، وسوف نسلط الضوء على هذا المطلب قبل الخوض في تفاصيل مواصفات الزوجة الصالحة :
____________
1) العباس بن علي ـ سلسلة عظماء الإسلام ، محمد كامل المحامي : 20 ـ 23 منشورات المكتب العالمي للطباعة ـ بيروت 1980 م ط3.
2) من لا يحضره الفقيه 3 : 244 باب اصناف النساء.