الخضوع لغير الله ولا تلتمس الرجاء الا من عند الله « اياك نعبد واياك نستعين » ويدافع بها عن فكره لكي لا يشمله الخمول أو يرهقه الشذوذ أو تتبعه الحيرة والضيعان والتذبذب والتيهان « اهدنا الصراط المستقيم » ويدافع بها عن وجوده كله عن اعصابه لكي لا يشدها اليأس وهو يتمكن ان يدعو من خلالها قائلا « ربنا آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » وعن اعضاء جسمه لكي لا يضعفها الخمول او يوهنها الجمود فيبعث فيها الحركة باتباعه لرياضة الصلاة وتفاعلها الصالح مع كل عضو من اعضائه وله ان يعبر عن ذلك خلال تحركاته فيها قائلا « بحول الله وقوته أقوم وأقعد » .. نعم انها سلاح قوي لا غنى للانسان عنه ولهذا نجده يواكب حياة الانسان ليجعله دائما وابدا قويا في دينه ثابتا في عقيدته صلبا في ارادته وابعاد وجوده وانتهينا من الصلاة وكانت صلاتنا خلف المقام المبارك بمكان قريب والحمد لله وكان علينا ان نتوجه بعد ذلك للسعي وقد كنا نشعر بالتعب ولكن ومن جديد عرفنا .. كيف يتبلور التعب عن راحة ، وكيف يتفتح العناء عن طاقات سعادة ، عرفنا كيف يستحيل العذاب الى عذوبة وكيف تهب المرارة معنى الحلاوة ، كانت قلوبنا تخفق بشدة ولكننا لم نكن نعرف من تتابع خفقانها انها مرهفة ولم نكن نجد في تلاحق ضرباتها انها مجهدة . كلا . ولكننا كنا نحس بالشوق يستغذها ونستشعر الفرحة وهي تداعبها فنجدها وكأنها ضائعة بهذا الكيان الذي


( 337 )

يحبسها ويفرض عليها قيوده والتزاماته تواقة لأن تنطلق في رحاب هذا البيت لائذة بالحرم كالحمام الوديع او ملحقة في اجوائه كالملاك الطاهر او مرفرفة حول قواعده كالنسمات العذاب ، ولهذا لم نكن نريد ان نجلس لنستريح وانما ذهبنا تحت خطى الشوق واللهفة الى المسعى المبارك ..

ووقفنا بين الصفا والمروة ...
وهو رواق بنيت سقوفه وجدرانه من المرمر الخالص وامتد في وسطه صفان الدارابزون لا يتعدى الفاصل بينهما المترين تتخللهما بين كل مسافة قصيرة فتحة متوسطة الاتساع من أجل مرور المستطرقين وكان اعداد هذين الصفين من أجل حصر السعاة الراكبين بينهما حفاظا على راحة السعاة المشاة ، والسعي يختلف عن الطواف بحرية السير فيه أو الركوب فللانسان الساعي ان يختار الركوب اذا اراد حتى ومع تمكنه من السير وذلك ما لا يصح خلال الطواف الا عند العجز الكامل او الضرورة القصوى وكان هذا الرواق الطاهر يقع بين ربوتين او جبلين مجدبين احدهما وهو الصفا تعتليه قبة منبسطة العمق والثاني الذي هو المروة يكون سقفه مستويا الا من تعاريج البناء ويبلغ طوله حوالي الميل والنصف ومن الصفا كان يجب علينا ان نبدأ السعي فارتقينا هضبته المباركة وأدينا نية السعي قائلات « أسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط لعمرة التمتع الى حج الاسلام لوجوبه امتثالا


( 338 )

لأمر الله سبحانه وتعالى » ثم بدأنا نسير سيرا رتيبا يتخلله الدعاء والابتهال وكانت الاصوات من حولنا تتصاعد قائلة : « ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ».
فما اروع ان تصبح الخطوات وهي مسيرة مؤدية لشعائر الله وما اضخم الحقيقة التي يشترك في الانصياع اليها وجود الانسان بجميع ابعاده وجوارحه وأحاسيسه . انها حقيقة العبادة بشمولها الواسع لشخصية الانسان منها هو السعي لا يتطلب من الحاج سوى نقل اقدامه فوق ارض منبسطة ملساء ولكن ومع كل خطوة ترتسم صورة للعبادة وخلال كل شوط يسجل رقما لاداء الواجب . وبعد ان انهينا اشواطا اربعة جلسنا على مرتفعات الصفا لنسترد شيئا من الراحة لاجسامنا وأقدامنا التي ارهقها المسير ومن هناك انطلقنا نفكر .. فعدنا بافكارنا الى حيث سعت السيدة هاجر ام اسماعيل وهي تفتش عن ماء تروي به ظمأ وليدها الغالي فهي تنطلق تبحث لتعود .. وتعود لتنطلق من جديد وهي في كل هذا موزعة القلب بين طفل ضامىء وأمل في وجود ماء . نعم .. لقد لاقت هاجر الكثير من التعب والنصب وتعرضت لشديد محنة واذى ولكن وبما ان ما لاقته وما تعرضت اليه كان في سبيل الله ومن أجل الانصياع الى اوامر الله فلا زالت كل


( 339 )

هذه الملايين من الاقدام السائرة في كل موسم في كل عام ما زالت تتقصى آثار تلك الاقدام الطاهرة في مسيرتها المباركة ، ثم ألم تكن هاجر امرأة ؟ اذن أفلا يمكن لنا ان نعد هذا الجانب من الحج هو تخليد لجهود المرأة في عالم العبادة والفداء ثم ألا يمكن لنا ان نعرف من هذا ايضا ان المرأة قادرة على رسم خطوط بارزة في ميدان العمل والجهاد ؟ وعدنا الى اكمال اشواطنا السبعة بعد فترة استراحة وتفكير .. وانهينا الاشواط السبعة على هضبة المروة وكنا قد صحبنا معنا مقراضاصغيرا من أجل التقصير اذ يجب علينا عند الانتهاء من السعي ان نقصر قليلا من شعر رأسنا أو نقلم قليلا من أضفر يدنا . وقد احتطنا فجئنا بالتقصيرين وبذلك انتهينا من عمرة التمتع للحج .. فالحمد لله على ما هدانا والشكر له على ما وفقنا اليه ..

***

وقضينا ثلاثة ايام في مكة بين زيارة وطواف حتى عصر اليوم الثامن من شهر ذي الحجة الحرام حيث كان علينا ان نذهب الى عرفات .. ومع ان وجوب الوقوف في عرفات يبدأ من زوال اليوم التاسع وينتهي عند الغروب ولكن عادة الحجيج هي الخروج الى عرفات عصر اليوم الثامن اي يوم التروية . وذهبنا بعد الظهر الى الحرم المبارك وجلسنا امام الكعبة الشريفة ننتظر الغروب وسرح بي الفكر الى الواقع


( 340 )

الرائع الذي نعيشه أفتراها كانت حقيقة واقعية جلستنا تلك ؟ وراق لي ان اكتب بضع كلمات على ورقة صغيرة حاولت ان اصور بها ما اعيشه من افكار انها اعز كلمات كتبتها خلال سفرتي تلك لأنها كتبت عن كثب من الكعبة وانطلقت من اشرف بقعة في أقدس مكان وارتفع صوت اذان المغرب هاتفا بكلمة العزة الخالدة . الله أكبر . لا شيء اكبر من الله هذا الكبر الذي يقره الانسان لجبار السماء يشعره بالصغار امامه تبارك وتعالى ولكنه صغار تجاه الخالق وتواضع تجاه المخلوقين اذ انه عندما يعترف ان الله اكبر لا يعود يحس بكبر أحد سواه وهذا ما عناه الشاعر محمد اقبال في قوله « سجدة للاله تنجيك يا انسان من الف سجدة للعبيد » أية متعة هذه التي تسمو بروح الانسان فوق كل شيء لانه لا يعود يحتاج لشيء سوى الله ؟ واية صفة هي عنده التي ترتفع بمعنويات الفرد المؤمن حتى لا يعود يخضع لاحد او يتنازل لاحد لان الله وحد اكبر .. ومن هنا نعرف مدلول الحديث النبوي الشريف الذي يقول « من اعطى الذل من نفسه فليس منا » واستجبنا للنداء الخالد فتوجهنا للصلاة على مقربة من الكعبة وذلك لان البيت كان غير مزدحم لكثرة من خرج الى عرفات من الحجاج وبعد ان انتهينا من الصلاة عقدنا نية الاحرام للحج قائلات « نحرم لحج الاسلام اداءا قربة الى الله تعالى » .. وخرجنا من الكعبة متوجهات نحو البيت الذي ننزل فيه .. وهناك والى جوار المنزل كانت تقف سيارات النقل حيث سارت بنا نحو عرفات ..


( 341 )


كان الطريق الذي يفصل بين مكة وعرفة ليس بالطويل او البعيد ولعله لو اجتيز في الحالات الطبيعية لما استغرق اكثرمن نصف ساعة مع اكثر التقادير ولكنه وفي تلك الليلة المزدحمة بالحجاج كان لا يكاد يقطع الا بعد جهد جهيد وزمن طويل . ولهذا سلك السائق بنا طريقا ملتويا عله يكون أقل زحاما واكثر انفتاحا ولكن يبدو ان سائقنا لم يكن الوحيد الذي قصد هذا الطريق اذ وجدناه والحمد لله غاصا بالسيارات زاخرا بالحجاج . فدعونا الله ان يعظم شعائره ويزيد من هداية القلوب التي تهفو اليه . ووصلنا اخيرا الى عرفات .
وكان ظلام الليل يضاعف من هيبة تلك الصحراء التي لا يرى فيها سوى خيام بيضاء امتدت بينها شوارع رملية تتطلب الهداية اليها الى خبير ممن مارس طبيعة التربة ونشأ على بساطها الطاهر وتوقفت بنا السيارات الى جانب احد الشوارع ونزلنا منها نحمل في يد حقيبة ضمت ملابس الاحرام الاحتياطية والسجادة والمصحف وكتاب الدعاء ونحمل في اليد الثاني ابريقا فارغا لتهيئة الماء وسرنا وراء دليلنا نلف حول بعض الخيام وننعطف مع انعطاف الممرات التي بينها حتى وصلنا الى حيث الخيمة التي أعدت لنا ...
دخلنا الخيمة لنجدها مضاءة بالكهرباء ولكنها غيره مفروشة .. فتصاعدت من حولنا اصوات احتجاج قائلة ما


( 342 )

هذا ؟ كيف نجلس ؟ كيف سوف ننام ؟ هذا وضع عجيب ! فآلمنا ان نسمع كلمات الاحتجاج هذه بالنسبة لافتقاد مواد ترف لا تأثير لها على طهارة تلك البقعة او قدسية تلك الليلة . ولكننا تمكنا والحمد لله وبشكل غير مباشر ان نشيع في الخيمة جوا من الدعاء والابتهال ولم تمض مدة طويلة حتى فرشت لنا الخيمة بالسجاد والرياش ومع ما كان لهذا الفراش من راحة جسمية فقد شعرت بأنه شيء مرغوب فيه لواقع الحياة فهو يذكرنا من جديد بالحرص على نعومة العيش والتسابق على ما هو احسن من وسائل المادة ولكن « قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق » ..
وأصبح علينا الصباح ونحن في عرفات وهو الموقف الوحيد الذي يتحتم ان يؤمه الحجاج في وقت واحد وخلال ساعات معينة منذ الزوال وحتى الغروب .. فيا لها من حكمة في التشريع تهيىء للمسلمين فرصة اجبارية للاجتماع والتعرف على بعض فيتمكن الانسان المسلم خلال تلك الساعات ان يدرس عن كثب اخلاق اخوته المسلمين وعاداتهم وافكارهم ويتطلع على ما لديهم من جديد في مجالات العلم والعمل ثم ان المسلمين خلال ذلك ليتمكنوا وبسهولة ان يبحثوا مع بعضهم اهم مشاكلهم العامة ويضعوا لها حلولا مستقاة من حكمة الآخرين وتجاربهم .. هذا لو أديت شعائر العبادة في الحج بمضمونها المطلوب طبعا ، وقد جاءت عدة تفاسير للسبب الذي من أجله سميت هذه


( 343 )

البقعة بعرفات ومن بينها تعارف المسلمين على أرضها المقدسة ، ومنها انها البقعة التي تعارف عليها آدم وحواء بعد هبوطهما من الجنة ، ومنها انها البقعة التي نزل فيها جبرئيل على نبي الله ابراهيم وقال له اعترف لله بما لديك . وبما ان التفسير الاول هو اكثر الثلاثة صحة واقربه الى الواقع الذي تدل عليه سائر اعمال الحج . فنحن نأخذ به ولكن ومع كل الاسف .. مع وقف التنفيذ فلماذا ؟
.. لأن هذا المفهوم غير واضح في اذهان الحاج منهم لا يعرفون من عرفات سوى جانب الصلاة والدعاء من العبادة ، ولهذا فإن اي اقدام على ذلك يعد تطفلا غير مستساغ اللهم الا في مجالات خاصة جدا .. وانقضت ساعات النهار الاولى والجميع بين دعاء او صلاة او قراءة قرآن .. والحقيقة ان ساعات الحج في عرفات لاتكاد توازى بثمن لانها بجميع دقائقها عطاء حيث يحلق الانسان بروحه بعيدا عن عوالم المادة وخدعها وغرورها فيروح يعترف بآثامه تارة ويستغفر منها اخرى وهو يتضرع الى الله تعالى قائلا « اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك واسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك ».
وكيف يمكن لانسان ان يعبد ربا لم يره ؟ انه يراه بالدلائل فأن قصرت الباصرة عن رؤيته فيجب ان لا تقصر البصيرة عن ذلك ، وهل تعرف السعادة الا بتقوى الله .. ان تقوى الله هي التي ترسم للمتقي طريق الخير في الحياة وتحدد


( 344 )

له خطوط مسيرته الفاضلة حيث توجد منه فردا صالحا جديرا ان يكون نواة للمجتمع الصالح ثم ينطق بحقيقة الشد الذي يشده نحو مولاه ويعترف بانقطاعه التام لرحمة الله الواحد القهار اذ يبسط يده بالدعاء قائلا : « انت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها وتضيق بي الارض برحبها ولولا رحمتك لكنت من الهالكين » .. وهكذا هو الانسان ـ هذا الانسان التائه في عالم الغرور الراكض في حياته وراء السراب الذي خيل اليه انه سوف يخرق الجبال طولا .. هذا الانسان لا يشعر حماية الله له وحاجته الى الله الا عندما تعييه المذاهب وتضيق به الارض . عند ذلك يتوجه الى القوة الوحيدة القادرة بعد ان يستشعر عجز ما عداها عن حمايته . وقديما قال الامام امير المؤمنين عليه السلام .
« أدع الله في الرغبة كما تدعوه في الرهبة » ومن خلال هذه الدعوات يستشعر الحاج انقطاعه الى الله فيروح يدعوه بلسان أوبقه ذنبه واخرسه جرمه قائلا « فها أناذا يا الهي بين يديك يا سيدي خاضع ذليل حقير » شعور مطلق بالانقطاع الكامل التام لله تبارك وتعالى حيث لا مناص من الاعتراف بالذنب ولا فكاك من الشعور بالتقصير وحيث لا يعرف بهذا الشعور او بذاك الاعتراف سوى الله وحده .. ولهذا نجد ان ساعات الحاج في عرفات هي ساعات بناء للروح وصهر للافكار وتعقيم للقلوب وهي بالنسبة لمن هو في مستوى الحفاظ على مكاسبها الثرة واستند لها بالشكل الصحيح مرحلة انتقال من


( 345 )

الظلمات الى النور وطريق ارتقاء من الحسن الى الاحسن فيا لها من ساعات ومن العجيب ان نجد هناك من يحمل هما لطعام او شراب او فراش او مهاد ، الشيء المادي الوحيد الذي يحرص عليه الانسان هناك ويتمنى لو حصل على مزيد منه هو الماء نعم الماء . لانه الوسيلة الوحيدة الى الطهارة والطهارة هي من شروط صحة العبادة . والماء لم يكن وافرا بالشكل المطلوب لان المنطقة هناك لم يكن قد امتدت نحوها انابيب الاسالة .. وكان على متعهد القافلة ان يهيىء الماء للحجاج .. كان موضوع الماء مشكلة تثير الخوف لدينا من نفاذه .. والمشكلة الثانية كانت المرافق الصحيحة !! حيث يتعذر على الانسان الدخول اليها والخروج منها سالما من النجاسات وحيث كان حجاج ثلاثة او أربعة من المتعهدين يقفون في انتظار اخذ أدوارهم والمرافق لا تتعدى المرفقين او الثلاثة ..
وانقضى النهار وفي اخر ساعة منه باشر العمال في جمع الخيام مقدمة لنقلها الى منى وجلسنا كل الى جوار امتعتها تحت السماء وفوق الرمال وكنا خلال تلك الساعة نشعر بحسرة الوداع لهذه البقعة الطاهرة وتلفتنا حوالينا علنا نتمكن ان نحتفظ بأكثر مقدار ممكن من الذكرى وحان وقت الغروب فأدينا الصلاة وتناولنا شيئا من الاكل ثم نادى المنادي بنا قائلا ـ هيا نحو السيارات ـ فقد كان علينا ان نتجه من هناك الى « المشعر الحرام »

***


( 346 )

وسرنا نحمل امتعتنا يحدونا مساعد متعهدنا وهو يحمل بيده مكبرة للصوت يدنيها من فيه اكثر مما يجب فينبعث الصوت أجشا غير واضح الحروف . ولهذا فقد كنا نسير باتجاه مشرجة مكبرة الصوت غير فاهمات ما تعنيه تلك الحشرجة .. كانت كل واحدة منا تحمل بالاضافة الى امتعتها الخاصة ابريقا مملوءا بالماء لاننا كنا في طريقنا الى مزدلفة وأصل تحصيل الماء هناك يكاد ان يصبح معدوما ولهذا فقد اخطرنا من قبل المتعهد ان نحمل اباريقنا ملأى بدل ان نحملها فارغة !ومضينا نلف وندور بين الخيم والسيارات نبحث عن التي اعدت لنا فلا نتمكن ان نهتدي اليها لتشابه المواقف والمعالم وكانت ظلمة الليل تزحف نحو تلك البقاع بسرعة فتبعث في نفوسنا الرهبة والهيبة وتشعرنا بالخوف من الضلال في ذلك الليل الرهيب فنروح نحث الخط وراء مكبر الصوت لا نلتفت يمنة ولا يسرة لكي لا ننحرف عن الطريق ، وقد تجمعنا مع بعضنا وحرصنا ان لا نكون بعيدات كان صوت أحد مساعدي المتعهد يرتفع من ورائنا بين فينة وفينة وهو يقول ـ مزيدا من الانتباه الى الطريق ان الانحراف عن الخط يعنى الضلال ـ سيروا وراء الصوت الذي يحدوكم ـ .. نعم كان علينا ان نسير وراء الصوت الذي يحدونا وكان علينا ان نلم شملنا فلا نتفرق لكي لا نتعرض للضياع ولكن ألسنا دائما وابدا مدعوين لأن نسير وراء صوت الحق الذي يدعونا « والرسول يدعوكم لما يحييكم به » ..


( 347 )

نجتمع ونتقارب ونسير متكاتفين وراء صوت غير واضح الكلمات يخرج عن مثلنا لا يزيد عنا الا لقديم معرفته في الطريق ثم نصم آذاننا عن نداء الرسول .. هذا النداء الخالد الدائم في دعوته لنا للسير ورائه نحو الجنان .. مالنا نخشى الضلال لتحذير من انسان ولا نخشى التيه الذي يحدونا الى النار وقد حذرنا عن ذلك كل نبي أو وصي نبي ؟ وما لنا لا نلتفت يمنة ولا يسرة خشية ان تفتقد آثار الدليل ونروح خلال حياتنا العامة نتقلب يمينا وشمالا متجاهلين الامل الالهي الذي يقول « فاستقم كما امرت » .. وضلالنا هنا .. ما هي نتائجه يا ترى ؟ نحن مهما ضللنا او انحرفنا سوف نجد امامنا اناسا مثلنا لا تفرقهم عنا سوى الالوان او الجنسيات او الاخلاق والعادات .. اما ضلالنا عن مسيرة الحق فسوف يسلمنا الى ايدي ملائكة غلاظ شداد وسوف يعرضنا الى نار نورها ظلمة وشرابها الصديد وطعامها الزقوم .. فما أبعد الفرق بين الضلالين .. وما اجهلنا عندما نقتفي هذه الاثار ونتجاهل تلك الحقائق .
ووصلنا اخيرا الى موقف السيارات حيث سارت بنا نحو مزدلفة المشعر الحرام .
ووصلنا الى مزدلفة والليل يكاد ينتصف لالبعد في الطريق بل لازدحام في حركة المرور ومزدلفة ليست سوى ارض منبسطة قاحلة لا شجر فيها ولا ماء ولا شيء يعلو ارضها سوى الجبال حتى المخيمات التي تنتصب في منى وعرفات لم يكن في مزدلفة منها اثر والمزدلفة هي المشعر الحرام


( 348 )

الذي نزل فيه قول الله تعالى ( فاذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) وافترشنا البطانيات التي كنا نحملها بالاضافة الى ما حمله المتعهد من فراش معنا وجلسنا لكي نستريح قبل المباشرة بجمع الحصى . وكنا حينما نتجه بأبصارنا لا نجد الا اشباح الناس وهم بين منحني لجمع الحصى على ضوء مصباح صغير في يده .. وبين سائل يتحسس الطريق نحو جماعته .. وكانت ملابس الاحرام البيضاء هي الوحيدة التي ترى في تلك الصحراء الواسعة ومن خلال سواد العتمة .. وهنا ينبغي لي ان اعترف بالعجز عن تصور ساعات مزدلفة وارضها وسمائها وروعتها وعطائها وهيبتها وجلالها فهي وكما عشتها في تجربتي الخاصة فوق التصوير والتمثيل .. ولا يمكن لانسان ان يفهمها الا اذا عاشها عن فهم وادراك .. وبعد ان أرحنا اجسامنا من تعب الطريق باشرنا بجمع الحصى لاجل رمي الجمرات وكان علينا ان نجمع تسعة واربعين حصاة والمستحب ان نضيف اليها احدى وعشرين واحدة اخرى من اجل احتمال عدم اصابة الرمي ومضينا ننحني نحو الارض نطلب الحصى . كانت الحصاة الواحدة اثمن لدينا من حبة اللؤلؤ لانها من مكملات حجنا وشروط صحته .. اما حبات اللؤلؤ فلم تكن لتجدينا شيئا في ذلك المجال . ان هذه الحصيات التي نلتقطها من المشعر الحرام لكي نرمي بها الجمرات في منى ليست سوى رمز لسلاح من الايمان لنرمي به الشر والعصيان


( 349 )

والخروج عن طاعة الخالق هذه المعاني التي ترمز اليها الجمارات .. ولهذا اراد التشريع الاسلامي ان يعلمنا باننا عن طريق الايمان وحده نتمكن ان نحارب الشر ونقابل الجور .. فالايمان هو الذي يتكفل بتسليحنا للمجابهة وتحصيننا ضد الانهيار ومن هذا نعرف الحكمة التي فرضت ان يكون الحصى من المشعر الحرام الداخل ضمن الارض المقدسة وكانت كل واحدة منا تحمل معها كيسا صغيرا من الخام اعد خصيصا لحفظ هذه الحصيات الثمينة فجمعنا المقدار المطلوب وحرصنا ان نغلق عليها الكيس بدقة واتقان . ثم اضطجعنا لننام قليلا فإن تواصل التعب من حقه ان يؤثر على التفاعل الكامل مع العبادة وكانت جنطتنا الصغيرة هي وسائدنا خلال النوم بعد ان افترشت كل واحدة منا نصف بطانيتها وتغطت بالنصف الثاني وأباريقنا الثمينة جدا الى جوار رؤوسنا واستيقظنا قبل الفجر بساعتين فجددنا الطهارة وتوجهنا للدعاء وكان أروع ما قرأناه خلال تلك الساعات هي المناجاة السفرية المنسوبة الى الامام امير المؤمنين (ع) ففي هدوة ذلك الليل الرهيب وفي فضاء ذلك الافق الرحيب ومع الظلمة التي لا يلون سوادها سوى مصباح يدوي صغير كان من الرائع جدا جدا ان يرتفع صوت خاشع ليقول :

الهي لئن جلت وجمـت خطيئتـي * فعفوك عن ذنبي أجـل وأوسـع
الهي ترى حالي وفقري وفاقتــي * وانت مناجاتي الخفيــة تسمـع


( 350 )

الهي لئـن خيبتنـي وطـردتنـي * فمن ذا الذي أرجــو ومن ذا يشفع
الهي فآنسـنـي بتلقيـن حجتـي * اذا كان لي في القبر مثوى ومضجع
الهي اقلنـي عثرتي وامح حوبتي * فإني مقــر خائــف متضــرع
الهي لإن أقصيتـنـي وأهنتنــي * فما حيلتي يا رب ام كيف أصنــع
الهي وهذا الخلق ما بيـن نائــم * ومنتـبـه في لـيـلـه يتضــرع
وكلهم يرجــو نوالـك راجيــا * لرحمتك العظمى وفي الخلد يطمـع

... وحان وقت الصلاة فأديناها ودعونا لاخواننا من المؤمنين والمؤمنات .. ثم ارتفع اذان الصبح وكنا نلاحظ بوضوح الخيط الابيض وهو ينبلج من الخيط الخيط الاسود وهنا تبدو بوضوح الحقيقة العلمية التي ترمز اليها الآية المباركة « نولج الليل في النهار ونولج النهار في الليل » فإن الايلاج يعني التدخل التدريجي وهكذا هو الامر بانبثاق النهار عن الليل ودخول الليل على النهار ولهذا نجد الخط الابيض يلوح رويدا من وراء الافق الممتد . وكنا قد استصحبنا معنا بوصلة لتعيين القبلة ولهذا فقد اتجهنا نحو القبلة في ادعيتنا وصلواتنا وعلى هداها ايضا أدينا صلاة الصبح وبقينا ننتظر طلوع الشمس


( 351 )

لان التشريع لا يجيز للرجال مغادرة مزدلفة قبل ذلك . وهذا التشريع مما تختص به الشيعة دون الفرق الاخرى من المسلمين ولهذا كانت السيارات تمتلىء بالحجاج وتغادر المشعر عند منتصف الليل حرصا على سهولة السير وتلافي حرارة الشمس والتمكن من الوصول الى رمي الجمرات بسهولة .. وهنا أحب ان اقف امام هذه النقطة التي اجدها مهمة جدا بالنسبة لاعمال الحج وتنظيمه وتوفير الراحة لكل فرد مؤمن فالمرأة غير مجبرة شرعا على المكوث حتى الصباح كما حدثنا الرواة عن الامام جعفر الصادق (ع) : انه ارسل العلويات منذ الليل الى منى لكي يجتنبن مشقة الزحام ويوفر لهن المجال للرمي بسهولة . اذن فلماذا يفرض على كل امرأة ان تتحمل المصاعب التي تتولد عن التأخير من أجل الرجال وفي امكانها شرعا أن تؤدي واجبها وتأوي الى خيمتها في منى والشمس لم تشرق بعد ! نعم الا يجدر بالرجال ان يحرصوا على ذلك فيهيأ للنساء ركب خاص ينقلهن في الساعات الاخيرة من الليل الى منى ؟
وعلى كل حال فقد ركبنا السيارات وسارت بنا لا نقطع من الطريق نصف فرسخ الا وتقف نصف ساعة لانقطاع خط السير وكانت الشمس قد ارتفعت بحرارتها الكاوية والماء الذي معنا قد استنفذته الليلة الماضية وليس من السهولة بمكان ان يجتمع العطش والحر والتعب لولا احساس الانسان بأنه في طريقه الى عبادة وكان ذلك الصباح هو اليوم العاشر


( 352 )

من ذي الحجة الحرام . اي يوم العيد . عيد للروح التي بلغت مطلوبها من الحج ، وعيد للقلوب التي تعيش مفاهيم الحج ، وعيد للانسان الذي يشعر بالسعادة لانه وصل الى هذه البقاع وتمكن من العمل على ما يريده الله والا فإن اجسام الحجاج خلال ذلك اليوم تكون في قمة تعبها وجهدها وهي بعيدة عن العيد بالمفهوم السطحي الذي يتعارف عليه . ومن نظافة الجسم او جديد اللبس انه عيد بمفهوم العيد الصحيح عيد التكامل الروحي للانسان ... وارتفع النهار اكثر فاكثر والسيارة لا تتمكن ان تسير وكنا نجد الحجاج وهم يتركون ما يركبون لكي يقطعوا الطريق راجلين فوددنا لو تمكنا من السير ولكن ذلك كان يتطلب وجود دليل معنا ولم يكن في سيارتنا اي دليل اللهم عدى رجل واحد وكله المتعهد بمداراتنا ولكنه كان اعجز من ذلك بكثير وبعد لاي سمعنا صوت متعهدنا وهو يسألنا عن راحتنا في الطريق وكان قد وصل مع مجموعة الرجال فاقترحنا عليه ان يرسل معنا من يتكفل بايصالنا الى منى مشيا على الاقدام فهيأ لنا اثابه الله اثنين احدهما حاج من الحجاج والثاني احد المساعدين فنزلنا من السيارة وعرض على الباقيات النزول فامتنعن عن ذلك ولم تلتحق بنا سوى سيدتين منهن فأصبحنا بمجموعنا سبعة ورجلين . وسرنا وسط زحام الطريق يحدونا الامل في سرعة الوصول وقطعنا مسافة طويلة تخللتها الكثير من الصعوبات حتى وصلنا الى منى .. ومنى بلدة فيها البيوت


( 353 )

الصغيرة والعمارات الكبيرة ومنها المحلات المتنوعة والمساجد المتعددة ولكنها بلدة صغيرة لا يمكن لها ان تستقبل عشرا من معشار هذا الحجيج ولهذا فقد انتشرت على شوارعها الخيم واتسع نطاق الخيمات من يمين البلد ومن شمالها الى حيث يرمي البصر وكان الدخول الى منى من خلال شارع يسمى بشارع العرب وهو طويل وعريض يمتد من بداية منى حتى نهايتها ..
وتتشعب منها جميع الشوارع الفرعية الاخرى ، وسرنا في هذا الشارع نفتش عن موقع خيمتنا الذي قيل انه بالقرب من البريد وغير بعيد ايضا عن الجمرات . وبعد ان ارهقنا السير طلب الرجلان منا أن نقف ليذهبا هما لاستطلاع الطريق فوقفنا الى جانب بائع مرطبات وكنا قد بلغنا القمة من العطش والظمأ والتعب فطلبنا منه ماء . فلم يلتفت نحونا وبعد ان كررنا الطلب مرات عديدة قال : لا يوجد عندنا ماء اشربوا بارد . مع ان الماء موجودا والثلج كان وافرا لديه . ولكن البارد كان من حقه ان يعرضه لربح اكثر . ومع اننا كنا نشكو من اعراض الزكام والسعال ولكننا اضطررنا الى شراء البارد لنروي به بعض ظمئنا بعد ان تعذر علينا شرب الماء . وامرنا لله الواحد القهار .
ووصلنا اخيرا الى الخيمة وكانت قد هيئت وفرشت منذ الليل فارتخينا قليلا وتناولنا وجبة صغيرة من الاكل ثم جددنا الطهارة وتوجهنا نحو رمي الجمرات ووقفنا امام جمرة العقبة


( 354 )

يتعدى الامتار الخمسة والستة » ويرتفع بمقدار مترين تقريبا وقد قام هذا النصب فوق هضبة ترتفع عن الأرض بما يقارب الثلاث امتار يحيطها سياج منخفض وعلى مقربة منه كان يبدو شامخا راسخا جبل العقبة حيث تمت بيعتا العقبة عندما كان النبي (ص) يجتمع في شعاب الجبل مع الانصار من الأوس والخزرج اثناء موسم الحج وكان الواجب على كل حاج ان يرمي في حصياته السبعة متعاقبة نحو هذا النصب المرتفع فوق الهضبة ولهذا كانت الآلاف من الأيدي تمتد لرمي حصاها الواحدة تلو الأخرى .. ومن العجيب ان لا تشتبه الحصوات على الرماة ولا يجهل الرامي مكان حصاته حتى يجدها تستقر في المكان المقصود أو يجدها قد هوت قبل ان تصل اليه فيعود ليرمي بدلا عنها واحدة . ولم يكن الرمي مزدحماً جدا لعدم وصول الكثير من الحجاج ولهذا تمكنا ان نصل الى مقربة السياج المحيط ورمينا حصياتنا بشكل هادىء ومطمئن والحمد لله .
وبعد ان انتهينا من الرمي كان علينا ان نعود .. والعودة تعرضنا لان نكون في مواجهة الرماة وذلك يعني ان نصبح معرضات للاصابة بالحصى التي ترمى من بعيد فتصيب تارة وتخطىء اخرى ومن الطريف أن بعض الحجاج كانوا يعقبون حصاهم بما لديهم من أحذية مخرقة او نفايات متفسخة ولهذا فقد كان علينا ان نشق طريقنا بين الصفوف ونحن منحنيات تجنبا ان نكون مرمى لما يرمى به ( الشيطان ) وما ان تخلصنا


( 355 )

من منطقة الزحام حتى وجدنا عددنا قد نقص واحدة . فكدر ذلك علينا فرحتنا باتمام مهمة الرمي وتلفتنا يمنة ويسرة نبحث عنها بعيون حائرة وسط هذه الجموع الغفيرة العدد المتباينة اللون واللغة ثم حاولنا ان نفتش فمنعنا الدليل الذي كان معنا عن ذلك وذهب هو يفتش عنها وسط المجاميع وكنا نحن نساء قافلة اليعقوبي لدينا ما يميزنا عن الآخرين وهو قطعة قماش خضراء كتب عليها اسم المتعهد واسم المطوف . ومع ان صاحبنا المساعد لم يكن يعرف القراءة والكتابة ولكنه كان يشخصنا من طبيعة لون القطعة وصورة كتابتها فذهب لكي يجدها تقف في جانب من الجوانب وعاد يصحبها وهو يشعر بالانتصار لعثوره عليها بسهولة والحقيقة وحفاظا على الواقع نسجل شكرنا لهذا الانسان الذي استشعر مسؤولية حمايتنا لبضع ساعات هي من الصعوبة بمكان مع انه اجير لدى المتعهد لا اكثر ولا اقل أثابه الله على ذلك ووفقه للهداية في طريق الخير .. ولم نتمكن ان نعرف عنه سوى انه سائق سيارة استصحبه المتعهد مع سيارته الى مكة وانه ينادى بأبي حيدر . وعلى كل حال فقد عدنا نحو الخيمة لنجد ان الركب لم يصل بعد وكان الظهر قد حان فأدينا صلاتنا ثم وكلنا من يذبح الهدي بدلا عنا لتعذر ذلك بالنسبة لنا واوصيناه ان يحتسب ثلثها نيابة عن صديق كان قد وكلنا باحتسابه وثلثها الثاني نيابة عن فقير كنا قد طلبنا اذنه في ذلك قبال مقدار من المال والثلث الثالث نيابة عنا ثم توجهنا للنوم لأن اعراضا للحمى والزكام