المرأة مع النبي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة


( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيباً ) النساء | 21
صدق الله العلي العظيم .


إن الاسلام هو الدين الوحيد الذي أعطى المرأة حقوقاً ومزايا لم يعطها من قبله ولا من بعده تشريع أو نظام أيا كان هذا التشريع أو النظام . فمهما بلغت معرفة المخلوق فهي ناقصة أمام علم الخالق الذي جعل الرجل والمرأة من نفس واحدة وميزهما بخصائص ـ لا تعد نقصاً في جانب دون جانب ـ يترتب عليها واجبات والتزامات ليست من باب المفاضلة ولكنها من قبيل الشيء يتمم


( 240 )

بعضه ويحتاج إليه ، وفي ذلك حكمة من الله سبحانه وتعالى لإعمار هذا الكون ، وإذا كان هناك مجال للتفضيل فقد بينه الإسلام في القرآن الكريم في كثير من آياته منها قوله تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وإنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) الحجرات | 13 .
والسنة النبوية الشريفة خير دليل وأوضح برهان في معاملة الرجل للمرأة ، والرسول الكريم الذي يتجسّد فيه الإسلام هو القدوة الصالحة لنا جميعاً حيث مارس الحياة مع المرأة زوجاً وأباً وهو الذي يقول : « ما أكرم النساء إلا كريم ، وما أهانهن إلا لئيم » .
ولا أريد أن أطيل في الكلام بل أترك للقارئ الكريم فرصة للأطلاع على ما كتبته الكاتبة الإسلامية الشهيدة السعيدة والسيدة الفاضلة آمنة الصدر « بنت الهدى » عن المرأة في حياة النبي وشريعته ليحكم بنفسه بأن الإسلام هو الذي أنصف المرأة ورفع مكانتها ويكشف زيف المتشدقين من أصحاب النوايا السيئة الذين يتباكون على حقوق المرأة متهمين الإسلام بشأنها ليغرروا بها


( 241 )

ويجعلوها متعة وأداة عمل وآلة انتاج تحت شعارات العلم والتقدم ويجرّدوها من كل القيم والمثل التي ميزها بها الإسلام الحنيف .
فالله نسأل أن يسدد خطانا ، ويوفقنا للسير عل نهج النبي والأئمة عليهم السلام في كل مجالات حياتنا هو مولانا عليه توكلنا وإليه المصير .
الدار الاسلامية



( 242 )


( 243 )

بسم الله الرحمن الرحيم

نساء في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

كان عصر الظلام ، وإن كان لها عصر النور ، وكان عصر الجهل ، وإن كانت فيه أعرف ما تكون . كان عصر الوحشية البغضية ولكنها كانت مثالاً للإنسانية الكاملة . فهي عقيلة خيرة شباب عصره عبدالله بن عبد المطلب ، ومن الذي ينكر عبدالله أو ينكر من فضله شيئاً ، وهو حلم عذارى قريش ومرمى آمال الفتيات ، وقد تخيرها هي دون سواها لتكون له زوجاً ولنسله اُماً ، فمن أجدر من آمنة بنت وهب وهي المتحدرة من أعرق الأسر ، والمتقلبة في أعز أحضان ، أن تحتل هذه المكانة الفذة .
نعم كانت صاحبتنا هذه هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ، وقد جلست إلى ظل شجرة وارفة الظلال لتستعيد ذكرى أيام عذاب وسويعات هناء وصفاء ، وتنصت إلى صدى الزمن


( 244 )

الفائت ، وهو يتردد في أعماقها كأروع ما يكون الصدى ، وتستمد من ذكرى حبيبها الغائب رصيداً من الشجاعة يساعدها على مر الفراق ، فأنى لها الآن بذلك الزوج البار الذي فارقته مرغمة وفارقها مرغماً أيضاً ، وما أحوجها إليه في أيامها هذه التي توشك أن تستقبل فيها قادماً جديداً ووليداً عزيزاً . . . ما أحوجها إلى ذلك الحبيب الغائب ليهدهدها بحنانه ويشاركها آمالها وأمانيها وينتظر معها ابنهما البكر ، فها هي تكاد تستمع إلى دقات قلب جنينها الغالي وهي سعيدة لذلك لولا سحابة من ألم ظللت سعادتها لبعد الأب الحبيب ولكنها تعود لتقول عسى أن يكون اللقاء قريباً ، وهي تأمل أن يصلها خبر قدوم الغائب المنتظر في غضون هذه الأيام .
فعبدالله كما لا تشك آمنة لحظة سوف لا يألو جهداً في الإسراع بالرجوع ، وسوف يبذل كل محاولة ممكنة لإنجاز مهمته في أسرع وقت ، وقد خلف وراءه في مكة زوجة عروساً تحمل له في أحشائها جنيناً وتضم له في قلبها حباً وحنيناً ، ولهذا فلا تشك آمنة في رغبة زوجها بالأبوة السريعة وفي أنه لن يماطل في سفره ولن يتقاعد عن اللحوق بأهله سريعاً مهما طاب له المقام في الخارج ،


( 245 )

فهي لا تنسى أبداً ساعة إذ أقبل إليها مودعاً ، وقد أوشكت القافلة على المسير .
وهي لا تنسى أبداً أيضاً تلك الخطوط العريضة الواضحة من الحب والعطف ، وهي مرسومة على وجهه المشرق المضيء ، ولا تنسى أبداً كيف أنه مكث معها ، وكأنه لا يريد أن ينصرف ، أو كأنه لا يتمكن من الإنصراف حتى انتزعه إخوته من أمامها انتزاعاً ، وهم يهونون عليه مدة البعد ، ويمزحون معه ويتضاحكون وهي لا تنسى أيضاً كيف أنه كان يلتفت نحوها ، وهو سائر إلى حيث تنتظره العير .
وفي كل لفتة من لفتاته كانت تقرأ معنى من معاني الحب حين يلتهب ، ويشد إنساناً إلى إنسان . كان زوجها المسافر يحس بأنه مخلف وراءه شيئاً لم يسبق لغيره من المسافرين أن خلف مثله . . .
وكان يشعر أن آمنة وهي تحمل له جنينه الغالي ، قد بدت لعينيه في تلك اللمحات داخل إطار من نور مقدس ، ووسط هالة من الإشعاع السماوي ، ولكنه كان مضطراً إلى السفر فسافر وهو على أمل لقاء قريب .


( 246 )

وهكذا تستمر آمنة بنت وهب سارحة مع أفكارها وأحلامها ، وتستمر أفكارها وأحلامها معها أيضاً ، عنيفة بها مرة ، ورفيقة بها اخرى حتى تنتزعها من انطلاقتها الحلمية .
تلك أصوات غريبة وصلت إلى سمعها من صحن الدار ، وحركة غير طبيعية أخذت تدب في أرجاء البيت فتهتز لهذه الظاهرة الجديدة لحظة ، ويخامرها قليل من أمل وتساورها لمحة من رجاء .
ماذا لو كان الحبيب الغائب قد عاد هو ومن صحبه من الإخوان ، وماذا لو كان ما تسمع رجع صدى قدومهم على غير ميعاد .
ماذا لو كان عبدالله قد اختصر المدة ورجع إلى أهله وإليها ، وإلى جنينها الحبيب ، ثم تنهض متعجلة وهي بين اليأس والرجاء وتذهب متلهفة الخطى وقلبها يكاد يسبقها في المسير ، وتذهب لتسأل عن الخبر اليقين ، وتلقى سؤالها بصوت كأنه حشرجة روح . . .
ماذا هل قدم عبدالله ! ؟ . .


( 247 )

فهي تشعر أن هناك واردين جدداً ، وهي تحس أن الدار ليست على هدوئها الاعتيادي ، ولكنها لا ترى عبدالله . وكانت تتوقع أن تبصر به قبل السؤال ، ولكنها حينما لم تر عبدالله ، وحينما وثقت من قدوم المسافرين الذين صحبوا زوجها في السفر انبعثت آهاتها كلمات سألت فيها عن عبدالله ، وتسمع الجواب وهي لا تكاد تفهم منه إلا القليل فقد أذهلتها الصدمة ، وشلت حواسها المحنة التي شعرت بها قبل أن تسمعها وعرفتها بدون أن تخبر بواقعها وكان الجواب . . لا لم يجئ عبدالله ولكنهم الآخرون ، فتعود تسأل وهي لا تعلم أنها تسأل وتستفهم وهي في غنى عن الاستفهام . إذن فأين عبدالله وما الذي قعد به عن متابعتهم في السير . . . فيقال لها : أنه مريض وقد أفاء إلى قوم في منتصف الطريق يستضيفونه حتى يقوى على السفر وهي تسمع الجواب وتفهم منه غير الذي قيل فتنطلق روحها من فمها إلى كلمات مرة وتقول :
آه من لي بعبدالله ومن لوليدي بأبيه . وهكذا تتلاشى أحلام آمنة وينهار صرح أمانيها فنراها وقد تسربلت بأبراد العزاء بعد أن انطفأت شعلة السعادة المتوهجة في صباها الريان فهي رابضة بعيداً عن اللذات والرفيقات . .


( 248 )

منصرفة عن الدنيا وما فيها من مباهج . . عاكفة على آلامها الممضة ، منطوية تحت سماء الحزن القاتم وفي إطار من الآلم المرير . . فهي لا تحيى إلا للذكرى ولا تعيش إلا على حطام السعادة المفقودة بعد أن افترقت عن رفيق دربها السعيد ، وأصبحت وهي الزهرة الناظرة رهينة الثكل الممض والحزن القاتل . فآمنة كادت بعد فجيعتها بعدالله أن تزهد في الحياة فما عادت تشعر للحياة معنى وهي خلو من عبدالله ، وعبدالله كان لها الحياة الروحية بكل معاني الحياة ، ولكن بارقة من أمل وشعور لا إرادي أخذ يشدها للحياة التي أنكرتها ، وأخذ يشعرها بوجودها حية مع الأحياء ، ويذكرها أنها لم تمت يوم مات عبدالله ، فقد أخذت تشعر أن عليها تجاه عبدالله واجباً يجب عليها أن تؤديه ، وأن في أحشائها وديعة لفقيدها الغالي ، لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تنساها ، أو تتناساها . وأحست أن رسالتها بالنسبة لعبدالله لم تنته بعد ، فما دام طفله معها فهي مسؤولة أن تعيش ، ولهذا فقد أقامت على لوعة مريعة وألم ليس فوقه ألم ، وما أكثر ما كانت تسترجع ذكرى أيامها مع الزوج الغالي وأيامها قبل أن يدخل حياتها وتدخل حياته ، وكيف أنه اختارها هي دون سواها مع كثرة


( 249 )

الإغراء الذي أحيط به من فتيات قريش ، ولهذا فما أكثر ما حسدت عليه وما أكثر ما اعتزت به وفرحت فلم يكن عبدالله بن عبد المطلب بالعريس الهين ، فهو غصن بني هاشم ، ومنار فتيان قريش فماذا لو لم يفرق الموت بينهما ، وماذا لو تركهما يتذوقان الهناء ، ولو إلى مدة قصيرة ، وماذا لو أمهله الموت حتى يرى وليده العزيز ، وماذا لو رحم الموت هذا الجنين الذي سوف يستقبل الدنيا أو تستقبله الدنيا ، وهو يتيم وحيد ، وهي لا تزال تذكر ساعة الوداع ولا تنسى وصايا عبدالله لها أن تحافظ على جنينها ما وسعها الحفاظ ، ولكن أين هو الآن وقد آن للعزيز المنتظر أن تبصر عينه نور الحياة ، وفعلا فقد استقبلت الدنيا محمد بن عبدالله وهوم يتيم يكفله جده وتحضنه اُمه الثاكلة آمنة بنت وهب ، وهي المرأة الأولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم تمضي الأيام تتبعها الأسابيع والشهور وآمنة عاكفة على وليدها الغالي تفديه بالنفس والنفيس حتى بلغ السن الذي يتحتم به عليها أن تدفع به إلى المراضع ؛ فقد كان المفهوم السائد في ذلك العصر أن الطفل الذي ينمو في البادية ويترعرع في جوها الطلق يكون أشد عوداً ، وأقوى


( 250 )

عزيمة من الطفل الحضري ، وعلى هذه القاعدة المتبعة دفعت به اُمه إلى حليمة السعدية ، وهكذا أصبحت حليمة المرأة الثانية في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رجعت حليمة وزوجها إلى أحياء بني سعد ، وهي تحمل معها طفلاً يتيماً لم تتمكن أن تحصل على غيره في الوقت الذي حصلت فيه باقي المرضعات على أطفال أغنياء استلمتهم من أيدي أبويهم محملين بالزاد والمال الوفير . . .
ومنذ أن ضمت ساعداها هذا اليتيم أحست أنه أصبح لها كل شيء وأحست أنها تود جادة أن تصبح له كل شيء أيضاً ، وما أن سافرت به حتى بدأت تتعشقه وتفنى فيه ولم يستقر بها المقام إلا وهي تشعر بأنها تحمل معها كنزاً ثميناً دونه الكنوز ، وعرفت بدافع من أعماقها بأنها هي الرابحة الحقيقية دون سواها من المرضعات ؛ وقد بدأت تلوح لها بوادر تؤيد عندها هذا الشعور فقد عمت البركة جميع الحي وتزايد الخير بالزاد والمال ، وقد أفضت بما تراه لزوجها ونبهته إلى بوادر الخير التي أخذت تلوح لهم .
فقال لها : عسى أن يكون لهذا الغلام شأن وأوصاها


( 251 )

بالعناية به والحرص عليه ؛ ولكن حليمة لم تكن تحتاج إلى أي توصية فقد ازدحمت في قلبها جميع عواطف الأمومة تجاه هذا الطفل الصغير ، وتفجر في فؤادها ينبوع من الحنان لا يمكن له أن ينفد أبداً . وقد كانت تقدمه على أولادها ، وتحله في أعلى منزلة من قلبها ورعايتها وبرها وكرمها . وقد اختلقت كثيراً من المعاذير والحجج لتتمكن من استبقائه عندها أكبر مدة ممكنة فما كانت تتمكن أن تنفصل عنه أو أن يفارق أحضانها ويبعد عن ساعديها ، فقد كان بالنسبة لها ينبوعاً للخير والبركة السعادة والهناء .
وكذلك كان محمد بن عبدالله أيضاً فهو يحبها ويركن إليها ويحترمها صغيراً وكبيراً ، ويحفظ لها جميلها بكل احترام ، وقد عاشرها سعيداً وفارقها غير قالٍ ، ولا عاتب ، وقد بقي يذكرها بالخير والاعزاز حتى بعد النبوة ، فقد كان صلوات الله عليه يناديها بيا اُمي ، وإذا أقبلت إليه أفسح لها مجلساً إلى جواره ، وقد يتفق أن يهوي على صدرها فيقبله وهو أكثر ما يكون براً بها وحدباً عليها . .
ثم يرجع محمد بن عبدالله إلى كنف اُمه وجده لكي يحظى برعاية الاُم في أوائل صباه ولكي ينشأ في ظل جده


( 252 )

وتوجيهاته . ولكن القدر سرعان ما يقف معه مرة اخرى لينتزع منه اُمه ، وهو لا يزال طفلاً طري العود . . يصحبها في سفرةٍ تقصد بها أخواله ومعهم وصيفتها الأمينة أم أيمن ؛ وفي وسط الطريق ، وبين أميال مترامية وصحراء لا متناهية يمد القدر يده لينتزع منه آخر ركيزة له في الحياة فتلحق العلة باُمه وينتزعها الموت من بين يديه .
ويعود محمد الصغير يتيماً مرة اخرى أو بعبارة اخرى يتيماً مرتين ولا تمهله يد الزمن حتى تفقده جده البار الذي كان يعوضه بحنانه عن حناه الأبوة وبعطفه عن عطف الأمومة . وعند هذا يكفله عمه أبو طالب ويفتح له بيته وقلبه ويفسح له في مكانه وحنانه .
وتكفله فاطمة بنت أسد زوجة عمه الكريمة كأحسن ما تكون الكفالة . تحله في المحل الرفيع من قلبها ورعايتها وتمد له يد العون والحدب بكل ما تستطيع .
وفاطمة هي المرأة الثالثة في حياة الرسول العظيم فلم تكن تحس أن محمداً يختلف بقليل أو كثير عن أولادها الباقين ، بل إنها كانت تحس بأن لمحمد شأناً يخوله أن يحتل الصدارة في قلبها ، وعواطفها ، وكانت


( 253 )

تتابعه بعينها وهو ينمو إلى الشباب الزاهر ، ثم يكتمل شبابه ويغدو رجلاً ملء السمع والبصر .
كانت ترى فيه حصناً ورصيداً روحياً لها في مستقبل أيامها وكانت تستمد من وجوده العزيمة والمضاء . ولشد ما كانت تعتز بأن تراه وهو يحتضن وليدها الغالي علي فهي فخورة بهذا الاحتضان الروحي ومتفائلة به خيراً .
فمحمد هو أول شخص ابتسم له ابنها علي بعد إذ خرجت به من الكعبة ، وهي تحمله بين ساعديها الحنونين ، فهي لا تنسى أبداً أن علياً ولد في الكعبة وفي أشرف بقعة فيها ، وها هو عليُّها العزيز ، وقد أخذ ينمو ويترعرع تحت رعاية وتوجيهات ابن عمه الصادق الأمين محمد بن عبدالله ومحمد رسول الله أيضاً بعد إذ غدا شاباً .
وفي أوج شبابه لم يكن لينسى لفاطمة بنت أسد حبها ولم يكن ليتنكر لحنانها مطلقاً ، فهو لها كولدها في كل أدوار حياته وفي كل أحواله ، وقد استخلص لنفسه ولدها علي بعد إذ عمت المجاعة في مكة .
وكان عمه أبو طالب كثير العيال مرهقاً بتكاليف


( 254 )

العيش ، وكان رسول الله قد استقل في ذلك الحين ببيته ومع زوجه خديجة ومنذ أن فتح لابن عمه بيته وقلبه لم يفترق عنه يوماً واحداً في كل الظروف والملابسات .
وكانت فاطمة بنت أسد ترى هذا الامتزاج العاطفي بين ابنها وابن عمه فتسر له ، وتفرح فيه فهي تكبر محمداً وتعجب فيه وتعتمد عليه ، وتركن إليه ، وكان الاثنان يحلانها محل الأم لا فرق بين ابنها وابن عمه .
فقد جاء في الروايات أن الإمام علي بن أبي طالب لما أخبر رسول الله بوفاة اُمه قال : إن اُمي قد توفيت يا رسول الله ، فيرد عليه رسول الله بل اُمي أيضاً يا علي . . وناهيك عما تحمل هذه الكلمة من تسلية للابن الفاقد اُمه ، وما تعطي للاُمة من دروس في الوفاء والإخلاص ، وحفظ الجميل ، وقد أعطاها ثوبه المبارك لتلف به مع كفنها كي يكون لها ستراً ومعاذاً ، وجلس على قبرها بعد أن انفض الجمع ، وأخذ يدعو لها ويسأل الله أن يجزيها عنه خيراً ويستعيد في فكره أيامها معه ، إذ هو طفل صغير ، وحنانها عليه حينما كان يتيماً وحيداً ، ورعايتها له وهو شاب فتي . وأخيراً قام عن قبرها وهو حزين كئيب .


( 255 )

فقد كانت هي المرأة الثالثة التي دخلت في حياته صلوات الله عليه والتي نشأ في ظلال عواطفها إلى حين استقر به المطاف عند قرينته خديجة بنت خويلد .
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد كانت سيدة نساء عصرها كمالاً وجمالاً ومكانة ، وكرامة ، فهي سليلة دوحة ثابتة الفروع ، وفرع شجرة عميقة الجذور ، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية ، وثبات الفكرة وصواب الرأي ، وقد كانت مع كل هذه الثروات المعنوية والأدبية ثرية في مالها أيضاً ، وقد كانت تفتش عمن تستودعه المال ليتاجر لها به على أن يكون أميناً صادقاً مخلصاً . فهي جادة في طلب ضالتها من بين شباب قريش وشيوخها ، وبما أنها امرأة لا تتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكن أن تودعه مطمئنة مرتاحة .
ومحمد بن عبدالله كان يفتش بدوره أيضاً عمن يدفع له مالاً يتاجر له به . فهو وإن كان فتى قريش الأول ومحط أنظارهم جميعاً ، ولكنه لم يكن ليستغني عما