القسم الثالث

مواقف في قبال النزاع

ما هو الموقف الذي ينبغي اتخاذه إذا حاولت زوجتك فرض حالة النزاع عليك ؟ لسنا بصدد طرح الأسئلة ، خاصّة في قضايا حساسة كهذه ، لكننا نحاول البحث عن المواقف المطلوبة لتسوية النزاع أو التخفيف من حدّته أو محاولة تلافي وقوعه .
إن الحياة المشتركة تتطلب في البداية السعي لتصفية التناقضات التي تؤدي إلى وقوع النزاع ، ذلك أن علاج المسألة من جذورها هو الضمان الوحيد للقضاء عليها وعدم ظهورها أو تجددها في المستقبل .
ويعتبر هذا الإجراء مرحلة أولية في محاولة الحدّ من النزاع ، وفي المرحلة الثانية تتوفر لدى المرأة الشجاعة الكافية للاعتراف بالخطأ ، ذلك أن اعترافك بخطئك لا يعد ضرورة فحسب بل واجباً اجتماعياً يصب في مصلحة الأسرة ، ويحول دون وقوع كارثة محتملة .
كما أن تحملك وصبرك وتسامحك وتضحيتك ورغبتك في استمرار الحياة المشتركة هو خطوة إيجابية في طريق حل النزاع وإعادة روح الصفاء إلى جو الأسرة ؛ وإذا استعصى التفاهم فمن الممكن تحكيم طرف ثالث يتمتع بالمواصفات المطلوبة كالخبرة والنضج والجلوس معاً وحل النزاع بروح موضوعية هادئة .


(102)


(103)

الفصل الأول
تأمّل في بواعث النزاع

أن توقع حياة زوجية خالية من كل مشكلة أمر خاطىء وبعيد عن الواقع . إن الحياة المشتركة التي تعني اشتراك إنسانين في الحياة تحت سقف واحد بالرغم من الاختلافات العديدة في الذوق والرأي والفكر ، يهيىء الأرضية المناسبة لحدوث التّصادم ؛ ولذا فإن المطلوب من الزوجين إدراك هذه المسألة واحترام كل منهما لذوق وآراء الطرف الآخر .
أن على الزوجين ـ وأعتباراً من اليوم الأول لبدء الحياة المشتركة ـ أن يفكرا بهذا الجانب وأن يقدما التنازلات لكي يمكنهما الوقوف على أرضية مشتركة تكفل لهما التّعايش بصفاء .

مواقف خاطئة :
نشاهد ـ ومع الأسف ـ العديد يستخدمون أسنانهم بدل أصابعهم لحل عقد الحياة وينتخبون طريقاً خاطئة للوصول إلى الهدف بدل الطريق الصائب .
إن إستخدام سياسة العصا الغليظة في الحياة يعتبر في الواقع حماقة لا تؤدي الاّ إلى نهاية بائسة ؛ وإذا كان هناك أسلوب صحيح يضمن سعادة الحياة الزوجية فإنما يكون من خلال المواقف الخيّرة .
يظن البعض خاطئين أن أفضل أسلوب لحل المشاكل هو الأنتحار وعدم مواجهتها ؛ ولا يعتبر هذا بطبيعة الحال حلاً ، ذلك أن فرارنا لن يغيّر من الأمر شيئاً سوى ادخال السعادة على أعدائنا .


(104)

كما أن الانتقاد والإساءة في التعامل والنزاع والتناطح هو الآخر ليس حلاً للمشاكل ، إن أفضل الطرق لحل القضايا هو في قضاء ساعة من العمر في التأمل ومراجعة النفس والبحث عن الطريق الصحيح الذي يرضي الله سبحانه ، ذلك أن طريق الخير هو من أكثر الطرق يسراً وخلوّاً من العقبات .

البحث عن أهداف النزاع :
قبل اتخاذ أي موقف ينبغي السعي للبحث عن جذور وأهداف النزاع ، ذلك أن معرفة بواعث النزاع يساعد على اتخاذ الموقف الصحيح . إن المودة والحب المنشود في الحياة الزوجية لا يتحقق إلا بالقضاء على جذور النزاع ومعرفة البواعث والأسباب التي تكمن وراءه ، ومن ثم تقديم الحلول المناسبة .
كما أن بحث الأمر مع بعض الأصدقاء والمعارف ممن يثق برأيهم وعقلهم ، بل وحتى بحث ذلك مع الزوجة نفسها يساعد على حلحلة الكثير من المشاكل والعقد .
وللبحث في الأسباب والأهداف التي تكمن وراء النزاع يمكن تصنيفها في أربعة مجالات هي :
أ ـ ما يرتبط بك ، وعليه يتعين المبادرة لعلاج المسألة ذاتياً .
ب ـ ما يرتبط بزوجك وشريك حياتك ، وفي هذه الحالة يتعين عليك وعلى الآخرين الإقدام للإصلاح ومعالجة الأمر .
ج ـ ما يرتبط بالزوجين معاً ، وهنا ينبغي الإقدام سوية والعمل على تسوية النزاع من الجذور .
د ـ ما يرتبط بالأخرين وتدخلاتهم ، وفي هذه الحالة يتوجب اتخاذ ما من شأنه أن يمنع كل أشكال التدخل السلبي .
أ ـ ما يتربط بك :
تعج النفس البشرية بالكثير من العواطف والميول ، كما تموج بالعديد من الطموحات الخيالية ، ولذا ينبغي البحث دائماً عن جذور جميع المشاكل


(105)

في أنفسنا وأعماقنا ، وليس من حقنا أن نعتبر الطرف الآخر الذي يقاسمنا الحياة مسؤولاً عن كل ما ينشب من نزاع وكل ما يشتعل من عراك . لماذا لا نحاول أن نتأمل الأمور بموضوعية ؟ لماذا لا نبحث عن أخطائنا ؟ لماذا نغض الطرف عن مواقفنا ونطالب الآخرين بتنفيذ آرائنا والانصياع لنظرياتنا ؟ إن أوليات الحياة المشتركة تتطلب احترام الآخر ، احترام رغباته وميوله وأفكاره وإنه إنسان له شخصيته وكرامته وحقه في التعبير والمشاركة .
إن أقل الآلام التي تسببها للطرف الآخر قد يعصف بالحب الذي يربطك وإياه ، ذلك أنه لم يكن ليتوقع هذه الإساءة منك .
ينبغي أن تكون الممارسة بحيث لا تحرك غضب ، غيرة ، وحسد الطرف الذي يقاسمك الحياة .
إن ضبط النفس وصيانة اللسان عن الكلام الجارح من مقومات الشخصية الإنسانية ، خاصة في الحياة الزوجية .
دع البحث عن العيوب جانباً وابتعد عن الرغبات الخيالية ، وخذ حق بنظر الاعتبار واحترام آراءه : فهذه أوليات وألفباء الحياة الزوجية .
لا تحاول أبداً فرض نفسك على الآخرين ، ولا تتخذ من الممارسات السيئة أسلوباً في التعامل ، ولا تطرح نفسك ديكتاتوراً في الأسرة .
إن هذه الأمور تعمل عمل المعول في هدم الأساس الأسري
ج ـ ما يرتبط بالزوجين معاً :
وفي هذا اشتراك واضح في خلق النزاع أو المشكلات ، فالرجل يتحمل نصيبه في إثارة الصراع وكذلك المرأة مسؤولة في تغذية ذلك النزاع أو استفحاله أو بالعكس ، وإذا أردنا أن نبحث في بواعث النزاع نجده فيما يلي :
التساهل في مسائل العفة والتقوى ، عدم رعاية الضوابط الأخلاقية ، الفوضى في المعاشرة ، عدم رعاية الحقوق المتبادلة ، انعدام الاحترام المشترك ، التدخل في الشؤون الخاصة ، غياب التحمل الناجم عن الإرهاق في العمل اليومي ، غياب الخبرة المطلوبة ، إثارة العيوب أمام الآخرين ، ومحاولة إثبات القدرة .


(106)

ومما لا شك فيه ينبغي في مثل هذه الحالات على كل من الطرفين السعي لإصلاح عيوبه قبل أن يفكر بإصلاح عيب الطرف الآخر ، إن الحياة المشتركة تعني الالتزام ببعض التعهدات المتبادلة ، ولذا فإن رعاية جانب العفة والتقوى ليس أمراً منحصراً بالمرأة فقط بل إن هذا الجانب يشمل الرجل أيضاً ، وما أكثر النزاعات التي تنشب بسبب غضب المرأة حيال تصرفات وسلوكيات زوجها .
وهذه المسألة كثيراً ما تطرح من قبل الزوجات ، حيث يشكين غياب التزام أزواجهن ، كما أن التدخل في الشؤون الخاصة هو الآخر يثير بعض الحساسيات التي تؤدي إلى النزاع .
إن واجبنا أن نحترم الطرف الآخر وأن نقدره لا أن نصب عليه اللعنات أو نهاجمه ، فإذا كان أحدنا قليل التحمل أو متعباً بسبب عمله اليومي أو يحمل بعض عقد الماضي فليس لزوجته ذنب في ذلك .
د ـ ما يرتبط بالآخرين :
تناولنا في بحوث سابقة أن بعض الأفراد وانطلاقاً من حسدهم وجهلهم وميلهم إلى الانتقام يتدخلون في شؤون الأسر في محاولة لتقويضها ، بل أن بعض التدخلات تسفر عن نتائج سلبية بالرغم من النوايا الحسنة التي تدفع بعض الخيّرين لإصلاح ذات البين .

حديث مع الشباب :
ينبغي أن نذكر الشباب من الذين ولجوا عالم الحياة المشتركة ببعض النقاط المهمة ، واعتبارها كمعالم في طريق حياتهم الزوجية .
1 ـ إن اعتبار الرجل قيّماً على الأسرة ورئيساً للعائلة لا يعني منحه سلطة مطلقة تتحكم في مصير أفرادها .
2 ـ على المرأة أن لا تستغل هدوء الرجل أو سكوته وحلمه في كثير من الأمور فتدمر هذه الصفات السامية فيه .


(107)

الفصل الثاني
الاعتراف بالخطأ

في الحياة الاجتماعية يمكن لإنسانين أو حتى لفئتين اختلفتا وانفصلتا عن بعضهما البعض ، يمكن لهما الجلوس على مائدة واحدة والتحاور بينهما وتسوية ما حصل من نزاع بقليل من المحبة والتسامح . وقد يعقب هذا الحوار الهادئ ، ليس عودة العلاقة كما كانت عليه ، بل وربما عودتها أقوى وامتن من ذي قبل ؛ وهذا لا ينطبق على عالم الصغار والشباب بل يتعداه إلى دائرة أوسع وأكبر .
إن ما يبعث على الأسف حقاً وجود بعض الأفراد الذين يعيشون سوية ويشتركون في الحياة معاً ، ولكنهم يمضون حياتهم بالآلام والمتاعب دون أن يفكروا باتخاذ المواقف الصحيحة تجاه بعضهم البعض أو أن ينتهجوا السلوك السليم الصائب ، بل إنهم وبدل ذلك يزيدون الطين بلّة باتخاذهم المواقف الخاطئة ، وبعدها يتمنون الخلاص من هذه الحياة الجهنمية التي صنعوها بأنفسهم !
نعم إنه أمر يبعث على الأسف حقاً أن يقوم زوجان ، وفي مقتبل حياتهم المشتركة ، وبسبب جهلهم وانعدام خبرتهم في اتخاذ المواقف ، بتحويل عشهم الدافئ إلى جحيم مستعر . وبالرغم من ادعائهما النضج الفكري فإنهما يسدّان جميع الطرق التي تؤدّي إلى أن يعيشا بسلام وطمأنينة .
إن ارتكاب أحد الزوجين لخطأ ما لا يبرر للآخر إعلان « الحرب » وتحويل المنزل إلى ساحة للعمليات والقتال ؛ والمطلوب من الزوجين أن


(108)

يحلاّ مشاكلهما واختلافاتهما في جوّ من التسامح والمحبة والتضحية . . وهذا هو الطريق الذي يؤديّ إلى السعادة .

واجبات التربية :
لا تنحصر الواجبات الزوجية في تلك العلاقات المشتركة بينهما ومسؤوليتهما في تربية أبنائهما ، بل إن هناك من الواجبات الأخرى ما يفوق ذلك حجماً .
إن واجباتهما تجاه بعضهما البعض تربوياً وأخلاقيا مسألة جوهرية بالرغم من عدم وجود ما يشير إلى ذلك في عقد الزواج .
إن الرجل والمرأة مسؤولان عن إصلاح أفكار وآراء وسلوك بعضهما البعض . إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب على جميع المسلمين يشمل ـ أيضاً ـ الحياة الزوجية ، بل إن الحب الحقيقي يتجسد في موقف الرجل تجاه زوجته وموقف المرأة تجاه زوجها ومحاولة كل منهما إنقاذ شريك حياته من سوء العاقبة وهدايته إلى الطريق الذي يؤدي به إلى السعادة في الآخرة .
وإذن فإن الرجل هو المسؤول المباشر عن زوجته في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذا فإن المرأة هي الأخرى مسؤولة أيضاً .

أخطاؤنا :
كل ابن آدم خطّاء ، ليس هناك من لا يخطئ حتى أولئك الذين وصلوا المراتب العليا من الحكمة والعلم ، والقلة القليلة جداً من البشر التي تخلو حياتهم من الأخطاء .
إن الأخطاء التي تحدث في الحياة الزوجية هي بمثابة نقاط سوداء تشوّه وتعكّر صفو الحياة المشتركة ، بل وتهدد الأساس الأسري بالإنهيار . إننا ، وبسبب جهلنا ، وتربيتنا الخاطئة ، وعدم تحملنا ، وعقدنا المختلفة ، نتسبب في إيذاء أزواجنا من خلال كلام جارح أو وجه عابس أو إشعارهم


(109)

بالمنّ عليهم مما يعرض توازنهم النفسي إلى الخطر ويؤدي بهم إلى الشعور بالذل والمهانة .

مواقف مختلفة :
في قبال تلك الحالة هناك موقفان لا ثالث لهما وهما :

1 ـ المكابرة والعناد :
والتي تنطلق من أنانيتنا وغرورنا لا غير . إن ارتكابنا للخطأ ثم إصرارنا عليه باعتباره موقفاً صحيحاً وأسلوباً صائباً في التعامل هو في الحقيقة نرجسية لا جدوى من ورائها سوى إيذاء أزواجنا وشعورهم بالتأسف على مصيرهم .
إن هكذا موقف هو بعيد كل البعد عن الإنسانية عندما لا يرى المرء سوى نفسه فقط ولا يفكر إلا بنفسه بل لا يشعر بوجود الآخرين من حوله ؛ إن حياةً تقوم على هذا المنطلق ، وعلى هذه الرؤية ، حيث تكون السيادة للأقوى ، لا يكتب لها الاستمرار بل لا يمكن اعتبارها حياة إنسانية . . إنها أشبه ما تكون بالحيوانية .

مسألة الكرامة :
قد يفكر البعض بأن الاعتراف بالخطأ سوف يوجّه ضربة إلى كرامتهم ويحطّ من قدرهم أمام أزواجهم .
غير أن العكس هو الصحيح ، ذلك أن اعتراف المرء بخطئه لا يعدّ منقصة له أبداً ولن يجعله صغيراً أو حقيراً بل سوف يكبر في نظر الآخرين ، وسيضيف إلى شخصيته بعداً آخر يجعله مثلاً أعلى . وإذا افترضنا إن ذلك سيحطّ من شأنه أمام زوجه ولكنه سيجعله كبيراً أمام الله سبحانه .
إن عدم اعترافك بالخطأ سيعرضك إلى عذاب نفسي وروحي ينغص عليك حياتك ، فما هو الضرر إذن في أن تبادر إلى إرضاء ضميرك ووجدانك ، وسعيك إلى ضبط نفسك تجاه زوجك ومراعاة العدل والإنصاف في تعاملك مع شريك حياتك .


(110)

بعد النظر :
ينبغي على الزوجين أن ينظرا ويفكرا في المدى البعيد إلى آفاق المستقبل ، فإذا بادر أحدهما إلى الإعتذار عن خطئة فإن على الآخر أن يفتح له قلبه وذراعيه وأن لا يعتبر ذلك فرصة للتنكيل به والانتقام منه ، بل ينبغي غض النظر عن أخطائه تلك .
إن أقدام أحد الطرفين على الاعتذار من شريك حياته يحب أن يعتبر خطوة إيجابية تستحق التقدير لا اللوم والتنكيل .
إن الحياة الزوجية لا تنهض على الانتقام ؛ ما هي المصلحة التي تجنيها المرأة إذا اصبح زوجها رجلاً ضعيفاً محطّماً يتحمل أنانيتها وغرورها .

اعتذار المرأة :
كذلك نحذر الرجل فيما إذا أخطأت زوجته أن لا يلجئها إلى الاعتذار مما بدر منها من سلوك ، ذلك أن للمرأة كبرياءها وكرامتها وعاطفتها التي قد تأبى لها مثل هذا الموقف .
إن من المصلحة عدم الإصرار عليها ، فجرح كرامتها سوف تكون له انعكاسات وخيمة على تربية الأطفال ، إضافة إلى الفتور في علاقتها مع زوجها ؛ ذلك أن شخصية المرأة تكمن في تلك العاطفة المخزونة ، كما أن شخصية الرجل تكمن في ضبطه نفسه .
إنها زوجتك فدعها تشعر بالأمن في قربك . دعها تشعر بأنك ملجأها الوحيد الذي يحميها من تقلبات الزمن . دعها تضع رأسها المثقل بالهموم على رأسك لتشعر بالراحة وتغفو .
ولو جرحت كرامتها وحطّمت كبرياءها عندها لن تكون زوجة محبّة لك ولن تكون أيضاً حضناً دافئاً لأبنائك .


(111)

تجنب الاعتراف في غير موضعه :
ربما نشاهد بعض الأزواج الذين يبادرون ، ومن أجل وضع حد للنزاع والعراك ، إلى الإعتراف بأخطاء لم يرتكبوها ؛ وعلاوة على ذلك فإنهم يعتذرون إلى أزواجهم . ولعل هذا الإجراء فوائد آنية معينة ، ولكنه على المدى البعيد له آثاره التخريبية السيئة .
إننا نؤكد على الحفاظ على الدفء في الجو العائلي ، ولكنا لا نقول أن ينذر أحد الزوجين حياته من أجل الآخر ، ذلك أن كلاً منهما إنسان ، وهو مسؤول أمام ربه قبل أن يكون مسؤولاً أمام زوجه ، وأن عقيدتنا الإسلامية لا تسمح لنا باذلال أنفسنا إلى أي إنسان كائناً ما يكون ، فالقيم الإنسانية يجب أن تكون في مأمن من التدمير ، وأن تملّق الظالم ، حتى على مستوى الأسرة ، أمر لا يسمح به الدين ولا يتساهل فيه .
نعم ، هناك الإعتراف بالخطأ . . الإعتراف بالظلم . . وهو أمر لا يسمح به الإسلام فحسب بل ويحث عليه لما فيه من الشجاعة والشهامة وما فيه أيضاً من تكامل الشخصية .
أما إذا انتفى الخطأ فلا معنى للاعتذار ، وينبغي هنا الإصرار والسعي لإثبات البراءة .

السلوك الهادئ :
ينبغي على كلا الطرفين الالتزام بضبط النفس سواء في حالة الاعتذار أو في حالة سماع الاعتذار ، ذلك أن الهيجان وعدم فسح المجال للآخر بالاعتذار سيكون سباحة في وجه التيّار مما يفوّت الفرصة على عودة الصفاء العائلي .
إن السلوك الهادئ يبعث الشعور بالطمأنينة في القلب وينمّي القوى العقلية والفكرية في النفس ، فالرجل يطمح أن يرى في زوجته حضن الأم الدافئ ، كما أن المرأة تتمنى أن تجد لدى زوجها رعاية الأبوة وحنان الوالد .


(112)

ينبغي أن يكون سلوكك مع زوجتك عين ما تتمناه منها ، وأن تكون لها ملجأ آمناً يمنحها الشعور بالطمأنينة والسلام . إنك إذا أخفقت في ذلك فقد تفكر زوجتك وبدافع غريزة الخوف إلى البحث عن ملاذ آخر مما يعقد الحياة الزوجية ويعرضها إلى أخطار كبيرة .
وأن المرأة تتمنى أن تكون لزوجها ذلك الحضن الدافئ الذي يشعره بالحنان والحب فإذا أخفقت المرأة في ذلك خطر للرجل أن يفكر في البحث عن ذلك الحضن الذي افتقده لدى زوجته .
وفي كل تلك المراحل ، علينا أن ندعو جميعاً أن نكون أزواجاً طيبين نتحمل في سبيل أسرنا كل متاعب الحياة لينشأ أطفالنا في ظلال وارفة من الحب والمودّة والصفاء .


(113)

الفصل الثالث
التسامح والصبر

الحياة الزوجية ، كما عبروا عنها ، تآلف روحين وتجانس قلبين ، حيث يستعد كل منهما للتضحية بكل شيء في سبيل الآخر ، وبهذا تبدو الحياة الزوجية جميلة ورائعة ومملوءة بالأمل .
إن تحول الأسرة إلى ساحة للحرب والمنازعات والاشتباكات يجعل من الحياة مريرة تغتال أجمل شيء فيها وهو الأمل ، ذلك أنها تقف سداً يحول دون تكامل الإنسان ، كما أن عبادة الله سبحانه تستلزم شعوراً براحة البال واطمئنان الخاطر ، في حين يسلب النزاع العائلي ذلك ويشغل بال الإنسان بتلك الخلافات التي تقف عند حد وتأخذ من المرء جهده وأعصابه ووقته غافلاً عن كثير من واجباته في هذه الدنيا بل إنها قد تقوده إلى الهاوية والسقوط .

الحياة وتغيراتها :
إن بعض الناس يتصورون الحياة ـ عن جهل ـ عالماً وردياً جميلاً ، طافحاً بكلّ ألوان السعادة ، وبهذه الخيالات يقدمون على الزواج ، غافلين عن أن المرء لا بد وأن يواجه في طريقه ألواناً من المتاعب والمشكلات ؛ ولذا فإننا نراهم ينكصون على أعقابهم ويستسلمون لدى أول تجربة مرة في هذا الطريق وإذا بالأسرة التي تشكلت حديثاً تنهار وتتفكك وتنتهي إلى مأساة .
الحياة زاخرة بالمتاعب طافحة بالآلام ، وعلى الإنسان أن يشق طريقه


(114)

خلال طبق ضوابط معيّنة تكفل له تحمل كل ذلك ومقاومته لنيل السعادة المنشودة .
إن تصور الحياة خالية من الآلام والمتاعب هو تصور خيالي تماماً ، والقليل جداً من الناس ممن عاشوا تلك الحياة ومع ذلك فلا يمكن اعتبارهم سعداء ، ذلك أن تكامل الإنسان وتقدمه مرهون بمقاومته المتاعب واجتيازه الامتحان بنجاح .
وشخصية الإنسان تصنعها الحوادث وتصقلها المشكلات فيتخرج المرء وهو أقوى روحاً وأطول نفساً وأكثر تحملاً ومقاومة أما الأمواج والعواصف .

ضرورة الصبر :
لا تنسجم الحياة الزوجية مع الدلال أبداً . إنها تتطلب إنساناً صبوراً لكي يمكنه خوض التجربة بنجاح ، أمام أولئك الذين يفتقدون الصبر فإنهم لا بد وأن يخفقوا في ذلك لدى أول مشكلة تواجههم ، ينبغي عليهم أن يدعو الدلال جانباً لكي يمكنهم مواجهة المتاعب .
إن الذين أخفقوا في حياتهم الزوجية والذين غرقوا في خضم النزاعات والخلافات مع أزواجهم كان ينقصهم شيئاً واحداً وهو الصبر والتحمل .
وفي أدبياتنا ـ كمسلمين ـ نجد اهتماماً كبيراً بالصبر ، فالقرآن الكريم يحث على الصبر في نواحي الحياة ، ونبينا العظيم يأمرنا بالصبر ، وكذلك نجد هذه المسألة تأخذ جانباً واسعاً في أحاديث الإمام علي وخطبه .
قال رسول الله (ص) : « من صبرت على سوء خلق زوجها أعطاه الله مثل ( ثواب ) آسية بنت مزاحم » بحار الأنوار ج 103 ص 347 .

الحياة والتسامح :
لا يمكن للحياة الزوجية أن تستمر دون رعاية للحقوق الزوجية التي يحدّدها القانون والمجتمع ، وهي في كل ذلك تحتاج إلى التضحية والتسامح


(115)

والخلق الرفيع . ذلك أن عدم التسامح في الحياة يخلق العديد من المشاكل التي يكون المرء في غنى عنها .
إن قانون الحياة يقوم على الصبر وتحمل المشكلات خاصّة إزاء ما يصدر عن زوجتك من سلوك . إن غض النظر قليلاً ومعالجة الوضع بروح من الصبر والنفس الطويل هو في صالحك وصالح أبنائك وأسرتك ، ذلك أن الحياة لا يمكن احتمالها بغير ذلك .
كما أن الحد من طموحاتك تجاه زوجتك وتوقعاتك إزاءها يمنحك القدرة في استيعاب بعض ما ينجم عن الحياة المشتركة ، فلست علياً في مثال الكمال وزوجتك ليست فاطمة في سمو المقام ؛ وإذن فلا ينبغي التشدد مع زوجتك وأن يكون هناك نوع من التساهل إزاء ما يصدر عنها من أخطاء .
إن فن الحياة هو قدرتك على إرساء السلام وإشاعة الود في محيط الأسرة ، وهذا يتأثّى من قدرتك على ضبط النفس وأن يسبق عفوك غضبك وأن يكون التّسامح شعارك في كل ذلك ، وعندما تصبح بهذا المستوى فإن ثمار السعادة تكون في متناول يديك .

المرأة والدفء العائلي :
من الضروري هنا أن يكون لنا حديث مع السيدات وهو أن الدفء الأسري إنما ينشأ عن عطف وحنان المرأة وأن جمال المرأة الحقيقي إنما يكمن في تلك الأعماق المتفجرة بالحب لا بذلك المظهر الفارغ ، وأن الرجل إنما يهفو إلى هذا الجانب الزاخر بالعاطفة الفياضة .
وأن الأساس في دور المرأة كزوجة ناجحة أن تنفذ إلى قلب زوجها وروحه وأن تشعره بالحب والمودة ؛ فمن المتحمل أن يكون الزوج رجلاً يسيء معاملتها ولكن من الممكن تطويعه من خلال مرونتها معه وحسن سلوكها تجاهه .
إن على المرأة أن لا تشتكي سوء زوجها وأن تسأل نفسها أولاً هل هي أحسنت معاملته ؟ هل ألانت له القول ؟ وهل أجملت في الحديث ؟


(116)

إن الحياة العائلية إنما تتبلور في ظلال الحب والعاطفة ، وأن البيت إذا أقفر من الحب والصفاء فلا يمكن العيش فيه ، وأن الإنسان يعتبر نفسه قد أخفق إذا آل الأمر إلى ذلك المصير ؛ ولذا فإنك تكونين قد أخفقت في إشاعة الدفء في الأسرة والبيت الزوجي ؛ وإذا شعر الرجل بدفء الحب هوى قبله إليك وإلى لقائك في المنزل كما تهفو الطيور إلى أعشاشها .

المرأة وتحمل الحياة :
يحتاج الإنسان في تسيير شؤون حياته إلى قدر من المال ، ولكي يعيش سعيداً فإنه لا يحتاج إلى ثروة طائلة بل إلى قدر من الأخلاق الرفيعة ، ذلك أن الخلق الكريم يفوق في قيمته الثراء آلاف المرات ، وأن النجاح في الحياة إنما يتوقف على صبر الإنسان وتحمله ومواجهته أعباء الحياة بروح عالية .
إن شخصية الإنسان تصنعها الحوادث وتصقلها الشدائد ولا يتحمل ذلك سوى النساء اللاتي وصلن إلى درجة الملائكة وسوى الرجال المؤمنين الذين آمنوا بالأسرة وحرمتها ، ولذا فهم يتحملون في سبيل صيانتها كل المتاعب والآلام .
وهذا ليس مستحيلاً ، لأن الله قد خلق الإنسان ـ امرأة ورجلاً ـ ومنحه القدرة على الصبر والتحمل إزاء ما يواجهه من محن ومصائب .

مرونة الرجل :
تنشب النزاعات في بعض الأحيان بسبب إهمال المرأة بعض مسؤولياتها في الحياة الزوجية خاصة في الأيام الأولى ، ولذا نوصي الأزواج أن يبدوا قدراً من المرونة إزاء ذلك ، حتى إذا لمسوا بعض العناد . إن تسامح الرجل ضروري جداً في إرساء دعائم الأمن والسلام في الحياة المشتركة .
وقد أوصى نبينا الكريم بالإحسان في معاملة المرأة ، وكذلك وردت توصيات عديدة في أحاديث الإمام علي (ع) في مداراة والتجاوز عن أخطائها وهو يتبعها : « ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ؟ » .


(117)

عليكم أنتم أيها الرجال تحمل مسؤولياتكم خاصة في المنعطفات الخطيرة وأن تمارسوا نوعاً من ضبط النفس إزاء انفعالاتكم . إن الله قد منحكم قوة عضلية تفوق المراة ولكن ذلك لا يعني أنه يغفر لكم باعتدائكم على أزواجكم بالضرب والشتم .
إن حسن أخلاقكم من شأنه أن يقضي على كل جذور الفتنة قبل أن تنمو أشواكها . أما إذا أصبحت الحياة حجيماً لا يطاق ، جحيماً لا يمكن احتماله فإن الله قد فتح لكم عند ذلك باباً للخلاص .
انتظارنا من المرأة :
لا بأس من الإشارة هنا إلى انتظار شريعتنا وعقيدتنا من المرأة ، إذ ليس المطلوب منها تجنب النزاع مع زوجها فحسب بل ينبغي لها أن تكون ملاذاً له وسكنا يشعره بالطمأنينة والأمن والاستقرار . لقد كانت فاطمة الزهراء المثل الأعلى للزوجة المخلصة ، وكان زوجها العظيم يشعر بالسعادة وهو يجلس إلى جانبها ويتجاذب معها أطراف الحديث ، وكان قلبه المثقل بالهموم يهفو إلى المنزل كلما داهمته الكروب . لقد كانت عليها السلام تشارك زوجها السراء والضراء وتعينه على طاعة الله سبحانه ، فكانت مثالاً سامياً للمرأة فتاة وزوجة وأمّاً .

تصحيح الذات :
إننا ـ وفي بعض الحالات ـ نجد أنفسنا تحلّق عالياً في عالم الخيال ، نطمح إلى تحقيق رغباتنا بالرغم من صعوبتها . إننا لا نقول ينبغي أن نغض النظر عن جميع طموحاتنا وأن نطفىء شعلة الأمل المتوقدة في أعماقنا ، بل نقول يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار منطق الواقع في كل ذلك ، وحتى لو فرضنا إمكانية تحقق تلك الطموحات ، فإننا ينبغي أيضاً أن نأخذ بنظر الاعتبار قيمة ذلك وهل تساوي أن يضحي الإنسان من أجلها باستقرار الأسرة .
ينبغي على المرء أن يهذب نفسه ويمسك بزمامها وأن لا يدع الأهواء تسيطر عليه .


(118)

إن للتشاؤم وسوء الظن حداً أيضاً وتحمّل زوجتك هو الآخر له حدوده أيضاً ، فلا تحمّلها ما لا تطيق .
إن الدين هو أعظم مدرسة لتربية النفس وأن الخلوة مع الله سبحانه والتضرع إليه يهب النفس الشعور بالطمأنينة والسلام .


(119)

الفصل الرابع
التحكيم

إن الأصل في الحياة الزوجية هو رعاية الحقوق المتبادلة والعدل والمساواة والاحترام ، ولذا فإن استمرارها وديمومتها إنما يتوقف على هذه الأسس والمبادئ .
ولذا يحتاج الأمر إلى تفهم من قبل الطرفين إلى ذلك وإلى إدراك أحدهما أخلاق الآخر واحترام شخصيته كأنسان أولاً وكشريك في الحياة ثانياً ؛ ذلك أن أقل محاولة لفرض الرأي بالقوة وعدم مراعاة تلك الأسس سوف يضر بالحياة الزوجية ويعرّضها إلى القلق وعدم الاستقرار .
إننا نشاهد البعض وبسبب النزاعات الزوجية يقدمون على الطلاق الذي هو أبغض الحلال عند الله .
وبالرغم من شرعية الطلاق في الإسلام إلا أنه يعتبر آخر الوسائل التي يضطر المرء إلى استخدامها إنها آخر وأخطر عملية جراحية يقوم بها الزوج عندما تعجز جميع الوسائل الاخرى .
إن على الزوجين أن يمنعا نفسيهما ما أمكن من التفكير في الطلاق والانفصال وأن على الذين يمتلكون وسائل مؤثرة منع الزوجين من الإقدام على الطلاق ما أمكنهم في ذلك .

التنازلات :
ما أجمل الإنسان عندما يرى الأوضاع متأزمة في الأسرة وأن النزاع سوف ينفجر في المنزل وهو يقوم بالتنازل عن بعض حقوقه مقابل تثبيت


(120)

دعائم الأسرة . . ما أجمل الإنسان وهو يضحي في سبيل الله من أجل سعادة أبنائه .
ينبغي على الإنسان أن يتحمل وأن يكون طويل النفس . . بعيد النظر . . يغض النظر عن بعض الأخطاء التي يراها . . يتظاهر بعدم سماعه لكلمة جارحة . . يحتوي غضبه ويمنعه من الانفجار . . ذلك أن أكثر المسائل سوف تحلّ في المستقبل عبر التفاهم وعبر اصلاح الطرف الآخر وعودته إلى جادّة الصواب ، وعندها يكون المرء قد أحرز على نفسه انتصاراً كبيراً يكون أجره السعادة ورضوان من الله أكبر .
إننا ـ ومع الأسف ـ نشاهد البعض وقد مرّ على زواجه الأعوام والسنون ، ولكنه يجد نفسه عاجزاً عن تحمل شريك حياته عاجزاً عن ضبط نفسه في المنعطفات الحادّة والحساسة من حياته ، وعندما يقدم ـ وبسبب غضبه الأعمى ـ على ارتكاب خطأ يندم عليه فيما بعد ، وحينها لا ينفع الندم .

التفاوض :
إن من أنجح السبل في حل النزاع في الحياة الزوجية هو الجلوس للتفاوض حول المشكلة بأعصاب باردة وهدوء كامل ، والاستماع إلى الشكوى بقلب واسع رحيم لا يهدف سوى الخير والصلاح ، فربما كان هناك ما يدعو إلى الشكوى حقّاً أو ربما هناك ما كان خافياً عليك من الأمور وإذا بساعة من الحوار تكتسح جميع الغيوم من سماء الأسرة فتشرق شمس المحبة من جديد .
إن على الزوجين المبادرة إلى كسر الحاجز الذي يحول بين تفاهمهما وأن يذيبا تلك الثلوج التي تفصل بينهما ، فليس هناك ما هو أخطر من الغرور والتكبر في حلّ المسائل العالقة ، وأن يحل بدل ذلك التفكير بالسعادة ، فسعادة الرجل من سعادة زوجته وسعادة المرأة في سعادة زوجها .


(121)

فإذا حصل خطأ ما من أحد الطرفين فعليه أن يبادر إلى الاعتذار من صاحبه وعلى الآخر أن يقبل اعتذاره ويستقبله بالأحضان . على الزوجين أن يتجاوزا ذلك بسرعة ؛ إنها مجرد غيمة صيف عابرة ما أسرع أن تمر ويصحو الجو مرة أخرى .
إن الحياة المشتركة تعني المشاركة في كل شيء ، يعني تنوع الأذواق واختلاف المشارب وتعايش كل ذلك في جو من التفاهم والاحترام الكامل والمتبادل .
ينبغي أن يكون هناك تفاهم قبل اتخاذ أي قرار يهمّ الأسرة ، وينبغي أن يستشير أحدهما الآخر في كل شيء يهمهما معاً ، ذلك أن التفاهم والتشاور يعزز من أسس البناء العائلي ويشيع الدفء في الأسرة ويشعر الطرفين معاً بالقوة .

ضرورة التحكيم :
ربما ينشب النزاع ويعلو صوت العراك بين الزوجين حتى ليضيع صوت أحدهما أمام صراخ الآخر ويضيع صوت العقل بينهما ويختفي دوره تماماً ، وإذن فلابد هنا من انتخاب حكم يفصل بينهما بعدما طغت المشاعر والعواطف ، ولم يبق من أمل في التفاهم بينهما معاً بمعزل عن الآخرين ، فكل منهما يعتقد بأن الحق إلى جانبه وأن الآخر هو المعتدي .
ومهما بلغت تجربة الرجل وخبرته في الحياة فإنه يبقى جاهلاً بعض نواحيها ، وهو إذن يحتاج إلى من يرشده في بعض الأمور .
إن تحكيم إنسان مجرّب له خبرته في الحياة يهيىء فرصة ذهبية لحلّ النزاع واقناع الطرفين به ، وهذا ما أوصى به القرآن الكريم وأوجبه بعض الفقهاء كأمر ضروري قبل الإقدام على الطلاق الذي يعتبر في الواقع كارثة اجتماعية لها آثارها الوخيمة .

فكرة التحكيم :
إن فكرة التحكيم هي لجوء المرأة والرجل وبعد اشتداد النزاع ووصوله


(122)

حداً يستحيل فيه التفاهم بينهما إلى شخص يتمتع بالمؤهلات المطلوبة وذلك لفض النزاع والوصول إلى الحل المنشود .
إن اشتداد النزاع لا بد وأن يعمي الطرفين عن رؤية الحق والحقيقة ، واكتشاف الحل ، فلكل منهما قناعاته وأحكامه المسبقة في ذلك وكل منهما وبسبب توتر أحاسيسه وتأزم مشاعره يعتبر الحق إلى جانبه وأنه الطرف المظلوم في القضية ، ومن هنا تأتي فكرة التحكيم لتهيىء رؤية أكثر وضوحاً للمسألة وتوفر كذلك الموضوعية في وضع الحلول المطلوبة لاصلاح ما فسد من الأمور وإعادة المياه إلى مجاريها .
إن على من يقوم بهذه المهمة أن يكون ممثلاً حقيقياً للطرفين دون أدنى تحيز لأحدهما على حساب الآخر وأن يكون همهم الأول والأخير هو الإصلاح ووضع حدّ لكل أشكال الاستبداد في التعامل وأن يضع يده على أصل المشكلة ، فقد يعامل الرجل زوجته كما لو كانت جارية لديه ، أو تعامل المرأة زوجها كما لو كان خادماً لديها .
إن المرأة والرجل يجب أن يسلما لأوامر القرآن في تسيير حياتهما المشتركة ، وليس من حق أيّ منهما الاعتراض بعد ذلك على ما يصدر من رأي في حل خلافاتهما .
ولذا فإن فكرة التحكيم إنما تأتي من انسداد جميع الطرق الأخرى في حلّ النزاع ، وهذه المسألة تعكس مدى اهتمام الإسلام بالأسرة ككيان اجتماعي ينبغي صيانته من خطر التفكك والانحلال .

المقومات :
وفيما يخص من يقع عليه مسؤولية التحكيم ، وكما أشار إليه القرآن الكريم في انتخاب حكم من قبل الزوج يمثله في المفاوضات مع آخر يمثّل الزوجة بغية بحث أسس النزاع والتوصل إلى نتيجة ترضي الطرفين .
ولذا فإن من مقومات ذلك الحكم أن يكون محيطاً بالحوادث والمشاكل ، وعلى بيّنة من الأسباب وبواعث نزاع الزوجين وخلافاتهما وله


(123)

خبرة وتجربة في الحياة تؤهله لذلك العمل الحساس ، ذلك أن الحكم سيكون موضعاً لجميع الأسرار والعلل الحقيقية التي أدّت أو تؤدي إلى توتر العلاقات الزوجية .
وعلى الحكم أن يكون إنساناً جديراً عاقلاً وورعاً تقياً وموضوعياً في بحثه لا يبغي سوى العدل والحق وأن يكون همه الأول والأخير هو الإصلاح .

الخيارات :
وهنا يختلف الفقهاء في مدى صلاحيات الحكمين ودائرة تحركهما ، فالقرآن الكريم يشير إلى دائرة الإصلاح وهكذا كان تحرك الأئمة من أهل البيت في هذا المضمار ، ولذا فإن مهمة الحكمين هي التحرك في حدود ما يصلح الحياة الزوجية وترميم ما هدّمه النزاع من علاقات وما ضيع من واجبات وحقوق لكي تستأنف الأسرة مسارها الطبيعي مرة أخرى .
ولا تنحصر مهمّة الحكمين في بحث النزاع بينهما فقط بل وإقناع كل من الطرفين بأخطائه وضرورة تصحيحها لكي تعود الحياة إلى مجاريها الطبيعية ، ولذا فليس من حق الحكمين أبداً اتخاذ قرار بالطلاق دون علم الزوجين ، وإذا حدث وتوصل الحكمان إلى هذه النتيجة فعليهما إعلام الزوجين بذلك فقط ، ومن ثم الانسحاب وترك القرار لهما إلا إذا طلب الزوجان منهما ذلك .

تأخير الطلاق :
إن مهمة التحكيم هي السعي إلى اصلاح ذات البين ورفع الخلافات وحلّ النزاعات ، ولذا فإن على الحكمين أن يتمتعا بنفس طويل في هذه المهمة ، ذلك إن بعض الخلافات تستلزم وقتاً طويلاً من أجل حلّها وإزالتها .
ومهمة الحكمين بالدرجة الأولى تنصبّ على تأجيل الطلاق واقناع الطرفين باستبعاده عن دائرة تفكيرهما آخذين مصلحة الأطفال بنظر الاعتبار .


(124)

وإذا نجح الحكمان في هذه الخطوة فإنهما يكونان قد قطعا منتصف الطريق في حل الأزمة ، فالتريث في اتخاذ قرار الطلاق ودراسة ذلك من جميع الوجوه سوف يوفر فرصاً كبيرة للحلّ ، ولذا فإن الإسلام يؤكد على من يتم على يديه إجراء الطلاق أن يوضح للزوجين خطورة ما يقدمان عليه ويعرّفهما بواجباتهما وحقوقهما الزوجية وأن يتجاوزا خلافاتهما والعودة إلى بيت الزوجة .

قبول التحكيم :
إن مسألة التحكيم ، وكما أشرنا إلى ذلك هي انتخاب ممثل ينوب عن الزوجين ، وطرح مسائل النزاع على بساط البحث ، ولذا فإن على الزوجين قبول النتائج دون عناء ومكابرة . إن عليهما أن يسلما لحكم الشرع والعقل وأن لا يركبا رأسيهما عنادا وتكبّراً .
ينبغي أن يدع المرء في مثل هذه الحالات أنانيته وغروره جانباً وأن يترك للحكمين المجال ويفتح أمامهما الطريق في مهمتهما الإصلاحية ، وأن يقبل النتائج حتى لو جاءت في غير مصلحته ، بل حتى لو جاءت خلافاً لما هو واقع ، إذ ينبغي قبولها تأدباً واحتراماً .

حذار من الشيطان :
الخطر كل الخطر من الشيطان إذا ركب أحد الزوجين أو كلاهما وأعماهما عن الرؤية الواضحة ، ذلك أن تغير نظرة الرجل إلى زوجته ورؤية نفسه أعظم منها وأكرم لدى الله أو العكس سوف يجر وراءه المشاكل والمتاعب .
إن كلا الزوجين يتمتعان على حد سواء بكرامة الإنسانية وهما عضوان من أعضاء المجتمع وكلاهما أيضاً عبدان من عباد الله .
فدعوا المن والأذى ودعوا الجارح من الكلام واجتنبوا الضرب وابتعدوا عن حياة العراك ، إذ ليس من اللائق أن يترك الإنسان التفاهم بمنطق العقل واللجوء إلى التفاهم باليدين .


(125)

إن ضعف أحدكما لا يبرر استبداد الآخر وتحوله إلى دكتاتور وأن الله للظالمين بالمرصاد . أسأله تعالى أن يمنّ على الجميع بالعمر الهانئ الطويل والحياة الطبية النابعة من راحة الضمير .