القسم الرابع

نتائج النزاع

تحدثنا في فصول سابقة عن البواعث التي تكمن وراء النزاع ومواقف الزوجين تجاه بعضهما البعض ، وفي هذا القسم سنتحدث عن نتائج النزاع وما يترتب على ذلك من آثار نفسية وأخلاقية وأخروية .
كما سنتحدث عن الطلاق وآثاره الخطيرة وما ورد من روايات وأحاديث تحذر من الإقدام عليه ، وما يترتب على ذلك من نتائج خاصة على الأطفال الذين يجدون أنفسهم بعيدين عن حنان الوالدين خاصة حنان الاُم الذي لا يمكن التعويض عنه بشيء آخر .


(128)


(129)

الفصل الأول
مرارة الحياة

الزواج طموح بالسعادة يسعى الزوجان من خلال ارتباطهما معاً إلى تحقيقه على أرض الواقع ، ذلك أن الحياة دون زواج معناها القلق والشعور بالوحدة والحرمان .
فالحياة المشتركة في ظلال الزواج توفر شعوراً عميقاً بالاستقرار ، غير أن الاختلاف في وجهات النظر بين الزوجين وسعي أحدهما أو كلاهما إلى فرض نفسه ومحاولة السيطرة على الآخر يؤدي إلى فشل هذه المؤسسة ومن ثم انتفاء الثمار المتوخاة من ورائها .
إن فشل الزواج لا يعني فشل مشروع اجتماعي فحسب ، بل يؤدي إلى إخفاق إنساني أيضاً يحوّل الرجل والمرأة إلى مجرد هيكلين ميتين تحركهما أمواج الحياة ؛ ربما يعيش الزوجان في أيامهما الأولى مشاعر السعادة ذلك أنهما ما يزالان يعيشان رؤاهما وأحلامهما ولكن وبعد أن تمر الأيام وبسبب تصادمهما لسبب أو آخر تظهر بعض الإنحرافات وتتحول تلك الجنة الصغيرة إلى جحيم لا يطاق .
وعندما يكون الإنسان جاهلاً فإن بإمكانه أن يحوّل جو الأسرة الهادئ إلى مسرح رهيب مليء بالمرارة واليأس ، يفقد الإنسان خلالها إقباله على الحياة بل وحتّى ميله للطعام ويحول المنزل إلى مكان يضم أناساً غرباء منسحبين على أنفسهم يعالجون أحزانهم ويعيشون معاناتهم .


(130)

آثار النزاع :
إن النزاع بين الزوجين يختلف تماماً عن أي نزاع آخر ينشب بين شخصين غريبين حيث ينتهي كل شيء بعد ساعة ويمضي كل منهما في طريقه ، أما في الحياة الزوجية التي تعني حياة مشتركة تحت سقف واحد بين شخصين اختارا تلك الحياة معاً فإن أي نزاع قد ينشب بينهما يترك مضاعفات خطيرة ومريرة في عدة أصعدة يمكن الإشارة إلى بعضها كما يلي :
1 ـ في شكل الحياة :
إن النزاع يترك آثاره في شكل الحياة داخل المنزل ويتحول الزوجان إلى شخصين غريبين يعيشان معاً كما يشعر الصغار بالقلق وإحساس بالخوف من نشوب معركة بين الوالدين لا تعرف عواقبها ، وهكذا يخيم صمت ثقيل في جنبات المنزل ينزوي فيه الأطفال خائفين في جو يشوبه الحذر .
2 ـ في قوة العلاقات :
يسيطر نوع من البرود القاتل على العلاقات الزوجية إثر نشوب الخلاف بينهما وينظر كل منهما إلى الآخر على أنه السبب في شقائه وتعاسته ، فتزول مشاعر الثقة بينهما ويحل مكانها شعور بالعداء حيث يحاول كل منهما تحقير الآخر وإذلاله ؛ كما يذهب ضحية النزاع ذلك الشعور بالاستقرار والطمأنينة حيث تحل مشاعر القلق والتحفز للنزاع والمواجهة ، ومحاولة كل من الطرفين إلحاق الأذى بالآخر .
3 ـ في الجانب النفسي :
من الطبيعي أن يخلّف النزاع في الحياة الزوجية آثاراً خطيرة في الجانب النفسي ، وقد يبدو النزاع نوعاً من التنفيس عن بعض العقد النفسية ولكنه في الواقع يغطي عليها ويزيدها تجذراً في الأعماق مما يضاعف من خطرها في المستقبل .


(131)

إن النزاع لا يؤدي إلى تصدع العلاقات الزوجية فحسب بل تتعدى آثاره إلى إحداث تصدع فكري وتمزق نفسي .
وبالرغم من إحساس أحد الزوجين بأنه يرد اعتباره أو أنه يحقّق وجوده من خلال إيذاء الآخر إلا أنه في الواقع يؤذي نفسه أيضاً ، وأنه يوجّه إليها طعنات نجلاء سوف تظهر آثارها في المستقبل ، ذلك أنه يقضي على مشاعر الحب وينابيع المودّة في أعماقه ، والتي هي أساس السعادة في الحياة .
4 ـ تأنيب الضمير :
وقد يصل الإيذاء والظلم الذي يمارسه أحد الزوجين بحق الآخر حداً يدفعه لارتكاب عمل ما يتصور خلاصه فيه ، وعندها تحدث هزّة عنيفة يستيقظ فيها الضمير ، فيعيش حالة مأساوية من عذاب الوجدان وتأنيب الضمير بسبب ما ارتكبه من خطأ فادح بحق شريك حياته ؛ وقد تتضاعف الحالة لتتخذ شكل مرض نفسي خطير .
إن النزاع الزوجي الذي يؤدي إلى ظلم أحد الطرفين أو تعريض سمعته للخطر سوف يحدث آثاراً لا يمكن تفاديها أبداً ، قد تقوده إلى الانتحار ووضع حدّ لحياته أو إلى إحداث شرخ خطير في شخصيته يهدد سلامته النفسية ، وهو أمر لا بد أن يجر من ورائه عقوبة الله بحق الظالم عاجلاً أم آجلاً .
5 ـ خلق حالة التشاؤم :
النزاع في الحياة الزوجية يخلق حالة من التشاؤم في الحياة ويجعلها سوداء خالية من كل المعاني الجميلة ، وفي تلك الأثناء يرى أحدهما الخلاص عن طريق البحث عن إنسان آخر يشاطره الحب ، وعندما يعثر على ضالّته تلك ، نلاحظ استمرار حالة التشاؤم لديه ، إذ لا يمكن التخلص منها بسهولة مما يجعل الحياة في رأيه خواء في خواء .
وإذن فإن النزاع في الحياة الزوجية وإن انتهى إلى بعض الحلول إلاّ أن آثاره النفسية تستمر مدة طويلة وقد لا تنتهي إلا مع انتهاء الحياة .


(132)

6 ـ تدمير القابليات :
ينمو الإنسان في الجو الآمن المطمئن وتنمو لديه قابلياته وتنفجر في داخله الاستعدادات والمواهب ، ذلك أن حاسّة الإبداع تترعرع في الحياة المستقرة الهادئة في حين أنها تتراجع وتذبل وتموت في الحياة المضطربة القلقة .
وما أكثر الأفراد الذين انحدروا بعد زواجهم وانحطّت قابلياتهم وتدنّت مواهبهم وذبلت استعداداتهم وانتهت قدراتهم . . كل ذلك بسبب حالة النزاع والمواجهة التي تسيطر على حياة الزوجين حيث يبقى الفكر مشغولاً والخاطر مبلبلاً والنفس مشوّشة لا تعرف الطمأنينة والراحة والاستقرار ، وقد تصل الأمور إلى حالة من الهذيان المستمر الذي يفقد الحياة معانيها الجميلة .
7 ـ الحرمان :
صحيح أننا لا نعيش من أجل أن نتمتع ونلهو في هذه الحياة ، وأن هدف الحياة أسمى من كل المتع الدنيوية ، وأن واجب الإنسان هو آداء واجبه في الحياة النزيهة بعيداً عن الآثام والمعاصي ، ولكن هذا لا يعني الحرمان ، فالحياة الإنسانية زاخرة بكل ألوان المتع البريئة ، زاخرة بكل ألوان السعادة ، وأن على الإنسان أن لا ينسى نصيبه في هذه الدنيا .
إن عمر الإنسان هو رأسماله في الدنيا والآخرة ، وعلى هذا فينبغي عليه أن ينفق عمره في ما ينفعه في دنياه وأخراه وأن لا يسمم حياته بعمل يجرّ وراءه القلق هنا والعذاب هناك .
إن من يخلو قلبه من حبّ الله لا بد وأن يتيه في دروب الضياع التي تقوده إلى السقوط والانحلال المادي والمعنوي ، وبالتالي العذاب في يوم القيامة .
8 ـ العقاب الأخروي :
وأخيراً فإن من آثار النزاع ونتائجه هو العقاب الأخروي الذي ينتظر الظالم ، فالله للظالمين بالمرصاد .


(133)

إن كل ظلم في الحياة الزوجية يعني ظلماً اجتماعياً بحق إنسان له كرامته ، وهو أمر لا يمكن تلافيه بالتوية ، ذلك أن الله سبحانه قد يتجاوز عن الذنوب التي يرتكبها الإنسان بحق نفسه كشرب الخمر مثلاً ، ولكن عندما يشمل الذنب إيذاء الآخرين وظلمهم فإن المسألة هنا في غاية التعقيد .
ولذا ، فإن على الإنسان أن يحسب لذلك اليوم حسابه ، إذ لا يسوغ لأحد ، كائناً من يكون أن يستغل موقعه وقدرته في سحق الآخرين وإذلالهم ثم يكون في مأمن من عقاب الله .
قال رسول الله (ص) : ألا وأن الله ورسوله بريئان ممن أضرّ بامرأته حتى تختلع منه .
وقال أيضاً : من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها .
وقال أيضاً : إني لأتعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها .
وقال علي (ع) : لا يكن أهلك أشقى الخلق بك .

عندما ينشب الخلاف :
من الطبيعي أن يصطدم الزوجان وأن يشتعل النزاع بينهما ، إلا أن من الضروري جداً ، عدم تجاوز الحدّ الطبيعي خلال ذلك ، أي أن لا يكون الهجوم ـ إذا صح التعبير ـ قاسياً بحيث يسحق الزوجة ـ على سبيل المثال ـ ويحطّم قلبها ، وبالتالي يصعب إصلاح الأمور وإعادتها إلى ما كانت عليه سابقاً .
ففي بعض الأحيان يكون النزاع من العنف بحيث يحطم صورة الحياة ويدمّر السعادة لدى المرأة ؛ وحتى لو كان هناك نيّة في الطلاق ، لمنافاته مع الجانب الإنساني ، ذلك أن الله خلق الإنسان وأودع لديه قدرة على بيان ما يبغيه أو يريده من خلال المنطق السليم ؛ ولذا ينبغي على الإنسان ، وحتى في أشدّ الساعات حراجة أن يتمالك نفسه وأن لا ينطق لسانه إلاّ بما يرضي الله ورسوله .


(134)

السعي من أجل إعادة الصفاء :
إن الأصل في الجو العائلي هو أن يسوده الصفاء ، فإذا حصل سوء تفاهم فينبغي عدم تصعيده إلى حالة من النزاع ، فإذا نشب النزاع فيتوجب أن يكون في مستوى بحيث يكون من السهل إصلاح ما فسد من الأمر ، إن من واجب الإنسان هو أن يعيش دنياه بسلوك يليق بإنسانيته ، لا أن يظلم ويفسد ويتهم الآخرين بالباطل ، ذلك أن الإنسان هو الذي يمنح الحياة جمالها من خلال إحسانه وهو الذي يسلبها تلك الصورة الجميلة إذا ما أساء في سلوكه وسيرته .
إن واجبنا الاخلاقي والشرعي يحتم علينا أن نسعى دائماً للحيلولة دون وقوع ما ينغص الحياة الزوجية ، وأن على الزوجين السعي إلى التفاهم دائماً ، فهو الأسلوب الوحيد لحل جميع المشاكل ، وأن يكون شعارهما دائماً العمل على اجتثاثها من الجذور قبل أن تستفحل وتشتد أشواكها وتكون عقبة كأداء في الطريق .
إن الحياة المشتركة تكشف للزوجين أخلاقهما وتعرّف أفكارهما ، ولذا فإن الرجل ، ومن خلال معرفته تلك . يمكنه العمل على تنمية الجانب الإيجابي في زوجته واحتواء جانبها السلبي في نفس الوقت ؛ وهذا الأمر ينسحب على المرأة ـ أيضاً ـ من خلال مداراة زوجها وتعاملها الحسن معه .

دعائم السلام :
ما هو الضرر الذي يلحق الرجل إذا ما أقدم على مصالحة زوجته ؟ ما هو الذي يمكن أن يلحق به لو غض النظر عن الإساءة ، وخطا الخطوة الأولى في المصالحة ؛ فقد تفعل الابتسامة ما لا تفعله جميع الوسائل في تحقيق وتثبيت دعائم الحب في الأسرة والعائلة .
إن الهدف من وراء الزواج هو الإلفة والإتحاد والاستقرار ، وبتعبير القرآن ، السكن . وإذن فإن ما يحقق تلك الأهداف هو الحب والمودّة والصبر والتحمل وكل المواهب الإنسانية السامية ، أما النزاع والمواجهة والغضب فلا عاقبة لها سوى الخسران .


(135)

الفصل الثاني
الشجار

من الطبيعي جداً أن يصطدم الزوجان في أفكارهما وأذواقهما ، على أن هذا ليس مدعاة للشجار والنزاع ، بل ينبغي أن يتخذا مواقف مناسبة في علاج وحلّ المشاكل التي تنجم جرّاء ذلك الإختلاف الفكري أو الذوقي ، ولو حصل النزاع الذي لا مفرّ منه فيتوجب على كلا الزوجين عدم تصعيده ليشمل دائرة أوسع وحدوداً لا يمكن السيطرة عليها ، وأن يكون التفاهم نصب أعينهما دائماً .
إن وسائل حل النزاع الذي يهدد الحياة الزوجية ينبغي أن ينطلق من قاعدة الحب والصميمية ، أما إذا استمر الزوجان في عنادهما ولجاجتهما فإن زوبعة النزاع سوف تتحول إلى عاصفة مدمرة تقتلع البناء الأسري من جذوره .
الحياة صراع ، نعم ، هذا صحيح ، ولكنه صراع مع الحرمان ، صراع مع البؤس ، صراع مع الشر . . وفي كل ذلك تقتضي الضرورات أن يتّحد الزوجان وأن يضعا أيديهما في أيدي البعض ويشقّا طريقهما معاً في الحياة .

أساس المشكلة :
وأساس المشكلة هو في تفكير أحد الزوجين وشعوره بالتفوق على صاحبه والسعي من أجل قهره والسيطرة عليه ؛ وعندما يشعر المرء بأنّ من يشاركه حياته هو إنسان يتمتع بكرامته الإنسانية وأنه لا ينقصه أو يزيده شيء عندها تنتفي أغلب دوافع وبواعث النزاع في الحياة الأسرية .


(136)

فالبحث عن ذريعة النزاع ، والجدل وعدم تحمل الآخر ومحاولة سحقه أو الانتقام منه لا يؤدي إلا إلى التعقيد وتهديد حاضر الأسرة ومستقبلها ، وخلال ذلك لا يجني الطرفان سوى المرارة والألم والعذاب .
إننا نطلب من كلا الزوجين أن يتضامنا وأن يحمي كل منهما الآخر لا أن ينتقم منه .

اللوم :
لعلنا ننسى أو نتناسى بأن الكلام والقدرة على النطق واحدة من نعم الله التي لا تحصى ، وأن من موجبات الشكر أن يسعى الإنسان دائماً للإستفادة من هذه النعمة في ما يرضي الله سبحانه .
وإذن ، فليس من اللائق ولا من المفيد أن يلوم المرء زوجه أو يصب عليه ألواناً من التقريع والكلام الذي لا طائل من ورائه . فما أكثر الكلام الذي ينتهي في لحظات ، ولكن آثاره المريرة تبقى في القلب ، وما أكثر الكلام الذي يبني السدود الرهيبة والحواجز التي يتعذر هدمها بين الزوجين ، فإذا التقيا حدثت المواجهة وبدأ النزاع .

الهجران :
يؤدي النزاع في بعض الحالات إلى أن يهجر أحد الزوجين رفيقه ويتركه وحيداً ، وكان الأجدر بهما حل النزاع عن طريق الحوار والتفاهم ؛ ويمكن القول بأن هذه الحالة من السلوك هو امتداد لمرحلة الطفولة ، حيث « يزعل » الصبي أو البنت ثم يدير ظهره وينصرف ضارباً عرض الجدار اعتبارات الصداقة أو الزمالة غير آبه بما تتركه لدى الآخرين من الآثار والآلام .
إن القطيعة في الحياة الزوجية لا تعبّر عن نضج في السلوك إلا في بعض الحالات عندما تكون إجراء يوفّر للآخر فرصة لمراجعة نفسه ومواقفه ، أما أن تتحول إلى نوع من الضغط وممارسة للتعذيب فأمر يتنافى وأبسط المبادئ الزوجية .


(137)

تضييق الخناق :
لا يسفر النزاع في الحياة الزوجية إلاّ عن الألم والعذاب للطرفين ناهيك عن التقصير في أداء الواجب وضياع الحق ، وإذا بالمنزل الذي ينبغي أن يتحوّل إلى عش دافىء يصبح جحيماً يحرق الزوجين ويدفعهما إلى الفرار والخلاص ، وما أكثر الذين دفعهم هذا الإحساس إلى الإقدام على أعمال هي في حقيقتها ردود فعل متشنجة لا تخلّف سوى المرارة والألم .

تقاليد جاهلية :
بالرغم من التقدم الذي أحرزته البشرية في عصرنا الراهن ، إلا أننا ما نزال نشهد في السلوك الإنساني عادات جاهلية ومظاهر متخلّفة تدعو إلى التأمل ، فما زال البعض يتصرف انطلاقاً من قانون الأقوى أو قانون الغابة أو البقاء للأقوى ، إلى غير ذلك من العادات الجاهلية .
ويتجلّى قبح مثل هذه التصرفات في محيط الأسرة عندما يتحول الرجل ـ مثلاً ـ إلى جلاّد أو سجّان أو حاكم مستبد ، وعندها تنزوي كل الأشياء الجميلة في البيت الذي يتحول إلى مجرد سجن أو قفص يحلم ساكنوه بالخلاص منه ؛ ولا ننسى هنا المواقف المتشنجة التي يبديها الضحية والتي تزيد من تعقيد الأوضاع وتزيدها مأسوية .
وإذا كنا مسلمين حقاً فيجب أن نجعل ديننا مثلاً أعلى لثقافتنا ، وأن نزيح عن طريقنا كل العادات الجاهلية التي تصطدم مع السنن الإلهية والأخلاقية السامية .

الضرب :
إن ما يدعو للتأسف والمرارة هو وجود بعض الأزواج من الذين يفتقدون الشعور بالمسؤولية والذين لا يجدون أو يجيدون وسيلة للتفاهم مع شركاء حياتهم سوى الضرب جاعلين من البيت حلبة للملاكمة.
إن هذه التصرفات تتنافى مع إنسانية الإنسان ، إضافة إلى تناقضها مع ديننا كمسلمين لنا في رسول الله والأئمة من أهل بيته أسوة حسنة .


(138)

قال رسول الله (ص) : « إني لأتعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها » .
البيت دنيا المرأة ومملكتها التي تحيى فيها ومن أجلها وهي التي يمكنها أن تبثه دفئاً وتملأه عاطفاً وحناناً وتجعل منه عشاً .
إنك بضربك زوجتك إنما تسحق جميع تلك الأحاسيس وجميع تلك العواطف وتجعلها تحت قدميك ، وتجعل من شريكة حياتك إنساناً شقيّاً بائساً . وماذا يجديك من وجود امرأة مقهورة في بيتك ؟ وأي مجد تحصل عليه من وراء سحق كائن اختار الحياة معك وإلى جوارك ؟
إن المرأة ـ ذلك المخلوق الحساس ـ هي في حقيقتها أم تضم بين حناياها أطفالك ، فهل تدرك ماذا يفعل الضرب بأمومتها ؟ وأي آثار مدمّرة يلحق بها كزوجة تشاطرك هموم الحياة ؟

نتائج الضرب :
لا يسفر الضرب إلاّ عن قلوب محطمة ومشاعر جريحة وعواطف ممزقة ، كما أنك بضربك زوجتك تقضي على الاحترام المتبادل بينكما وتدق إسفينا في علاقتكما الزوجية الحميمة ، التي قد تتدهور وتنتهي إلى الطلاق .
ينبغي أن يتحول البيت الزوجي إلى عش دافىء وسكن وارف الظلال لا إلى حلبة للمصارعة والعراك أو غابة رهيبة يسودها قانون الأقوى . إنك بسلوكك هذا تنسف ذلك السكن الآمن والمأوى المطمئن وتمزّق ذلك الوجه الجميل للحياة الزوجية لتبدأ حالة من التشرد والضياع .

تعاليم الإسلام :
إن السلوك الفظ والمعاملة المذلّة تتناقض وتعاليم الإسلام الذي يأمرنا بالإحسان إلى المرأة ، فكيف إذا تعدى الأمر ذلك إلى الاعتداء عليها بالضرب ؟! أليس من القبح أن يضرب المرء زوجه وشريك حياته ورفيق دربه ؟!


(139)

قال رسول الله (ص) : « لا يخدم العيال إلا صدّيق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة » .
وقال (ع) : « اتّقوا الله في الضعيفين : اليتيم والمرأة ، فإن خياركم خياركم لأهله » .
وقال (ص) : « من حسن برّه بأهله زاد الله في عمره » .
ويعبر الإمام علي (ع) عن المرأة أنها ريحانة وليست قهرمانة .
إن الإسلام يأمرنا بمداراة المرأة والإحسان إليها وغض النظر عن بعض أخطائها .

العقاب الإلهي :
لا يختلف النزاع في الحياة الزوجية عن أي نزاع آخر إن لم يكن أسوأ منه ، وهو يعني وجود قضية معينة ووجود ظلم وظالم وبريء . وفي هذه الحالة فإن للشرع القول الفصل في ذلك .
الحق هو أسمى قيم الإسلام الحنيف كما أن القوة لا تبرر أبداً تجاوز المرء حدّه والاعتداء على الآخرين بالضرب والشتم .
فهذا رسول الله (ص) . يحذّر من الإساءة والعدوان على المرأة : « ألا وأنّ الله ورسوله بريئان ممن أضرّ بامرأة حتى تختلع منه » .
وفيما يخص عدوان المرأة على زوجها قال رسول الله (ص) : « من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها » .
وإضافة إلى كل ذلك فإن الظلم يتسبب في تعذيب الضمير وقلق الوجدان وهو أمر يسلب من المرء إحساسه وبالسعادة وراحة البال واطمئنان الخاطر .

الاكتشاف :
وإذا كان للنزاع الزوجي من حسنات فإنها تكمن في وضع الزوجين


(140)

على المحك في اختبار دقيق يكشف أخلاقهما وتوجهاتهما وقيمهما وما تنطوي عليه من دوافع ، فالرجل يكتشف امرأته ، والمرأة تكتشف زوجها وتعرف إلى أي مدىّ يمكنها الثقة به والاعتماد عليه واللجوء إليه .
وما أكثر النزاعات التي تهبّ كأنّها عاصفة مدمّرة ولكنها تغادر بسرعة ، وتسفر عن استقرار نفسي مدهش ، حيث يولد حب عنيف يربط الزوجين بعلاقات وعرى وثيقة ، ولا ننسى ـ أيضاً ـ أن النزاع يساعد الزوجين على ترتيب مواقعها وإعادة حساباتهما ، ومن ثم التصرف بقدر من الحكمة أكثر ، مما يوفّر فرصة للتفاهم في المستقبل .

في طريق الإصلاح :
إنني أوصي جميع الأزواج رجالاً ونساءً بعدم الاختلاف والتنازع ولكن لو حصل ذلك فإني أؤكد على عدم توسيع رقعة النزاع لما في ذلك من الأضرار المدمّرة التي تؤثر في البناء العائلي من الأساس .
فإذا حصل وتأزّمت الأوضاع وتوتّرت الأجواء في البيت الزوجي فليحاول المرء أن يجعل من تلك البروق والرعود ، ومن تلك الغيوم مطر من الرحمة ، يغسل بمياهه آثار تلك العاصفة .
علينا أن نسعى دائماً لرفع الاختلاف وأن نصلح ذات بيننا ونرسي دعائم الحب وأن نرفع من شخصيتنا ونسمو بها إلى مراتب الكمال . وهل هناك ما هو أعظم من الإسلام طريقاً ومن الإسلام مدرسة تعلمنا أسلوب العيش وطرق الحياة .


(141)

الفصل الثالث
الطلاق

الإنسان كائن اجتماعي بالطبع ، وهو يشعر بالحاجة إلى فرد من نفس نوعه يبثه همه ويرافقه في رحلته عبر الحياة أو يقف إلى جانبه وقت الشدائد فيحس فيها بالراحة والطمأنينة ؛ وهو بعد كل هذا حاجة طبيعية للتكامل الإنساني ، وبدون ذلك يراوح الإنسان في مكانه أو يتراجع إلى الوراء .
وعلى هذا ، فإن حياة المرأة أو الرجل ستكون في غاية الصعوبة بدون الزواج ، فحالة العزوبية هي حالة القلق وعدم الاستقرار ، ولذا فإن نداء الزواج نداء ينبعث من أعماق الإنسان وأن الإقدام عليه هو تلبية لحاجة فطرية وطبيعية موجودة في التكوين البشري .
وبالرغم من كل ذلك فإن التعايش في الحياة المشتركة للزوجين قد تخلق بعض التصادم وعدم الانسجام ، ولذا فينبغي إرساء العلاقة على أساس من معادلة الحقوق والواجبات المتبادلة ، كما أن عقد الزواج يختلف عن غيره من العقود فهو يمتاز بقدسية خاصة تجعله في منزلة سامية حتى أن العرش الإلهي ليهتز لدى إلغاء هذا العقد بالطلاق لما في ذلك من الآثار والأضرار والخسائر المدمّرة التي تنجم عنه أو تترتب عليه

مسألة الطلاق :
يؤدي النزاع بين الزوجين في بعض الأحيان إلى التفكير بالإنفصال والطلاق ، وقد يحدث أحياناً أن يكون التفكير في ذلك من جانب الرجل أو المرأة أو باتفاق الاثنين معاً .


(142)

ولو كانت الحياة المشتركة عقداً غير قابل للفسخ إلى الأبد فإن حالة النزاع المستمرة وغياب الانسجام سوف يحوّل الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق ، وعندها سوف يجد أحد الطرفين نفسه محطماً تعصب بآماله وأحلامه رياح الزمن فتبددها هنا وهناك وستحيله إلى إنسان خاو خال من العاطفة والإحساس ؛ وقد تتصاعد حدّة الاختلاف والتوتر إلى موت أحد الطرفين عمداً أو خطأ أو بطيئا ، مما يوسع من دائرة الألم لتتعدى محيط الأسرة إلى المعارف والأقرباء ، حيث تبقى آثار ذلك مدّة من الزمن .

هواجس الطلاق :
قد يكون الطلاق في بدايته حلاً جذرياً للعديد من المشاكل الزوجية ، ولكن الطلاق ينطوي على شرور ومآس لا يمكن إسقاطها من الحساب .
إن اعتبار الطلاق حلاً مثالياً هو خطأ كبير يرتكبه العديد من الأزواج حتى بعد إقدامهم على الزواج مرّة أخرى . وقد أشار مسح ميداني أجري على مئة حالة طلاق اعتبر الغالبية فيها الطلاق أكبر خطأ ارتكبوه في حياتهم وأكد أكثرهم أيضاً على أنهم شعروا بالارتياح قد خامرهم في الأيام الأولى من الطلاق ولكن سرعان ما تبدد ذلك ليحل محله شعور عميق بالندم ؛ ذلك أن الطلاق لم يحل المشكلة أبداً حتى مع تجدد زواجهم .

وساوس الانفصال :
وبعد أن يتم الطلاق ويفترق الزوجان تبدأ مراجعة النفس ، ويبدأ تأنيب الضمير والتفكير في العوامل التي أدّت إلى انهيار ذلك البناء ، وفي أولئك الذين حوّلوا الأسرة إلى مجرد أنقاض ، وعندها تصبّ اللعنات تلو اللعنات على الذين وسوسوا لهما بذلك وحببوه إليهما .
حتى أولئك الذين اندفعوا لحماية الزوجة أو الزوج ومن نوايا حسنة ، لن يسلموا من تحمل المسؤولية وتحسين الطلاق في ذهن المرأة أو الرجل ، خاصة إذا كانت الحالة في زيجة عمرها شهور فقط ؛ فالشباب مهما بلغوا من النضج ليست لديهم التجربة الكافية ، فلا ينبغي لأيّ كان أن يتدخل في


(143)

شؤونهم الخاصّة ويشجعهم على اتخاذ قرار خطير كالطلاق .
ومسكينة تلك الفتاة وذلك الشاب عندما تصور الوساوس لهما بأن الطلاق فكاك من القيود وتتحول كلمات الآخرين المسمومة في خيالهم إلى طريق للحل ونافذة للخلاف .
تنطوي الاستهانة بالزواج كرباط مقدس إلى استسهال الطلاق ومن ثم ضرب كل الاعتبارات الإنسانية عرض الجدار ، ولذا فإن مثل هؤلاء الافراد لا يرون سوى أنفسهم ومصالحهم دون أدنى اهتمام بالآخرين ، ناهيك عن أن جنوحهم نحو الطلاق سيلحق الضرر بانفسهم هم أيضاً بالرغم من عدم إدراكهم ذلك إلاّ بعد فوات الأوان .
إن الإقدام على الطلاق إنطلاق من الأهواء النفسية فقط ، لا يتناقض مع الدين والعقل فحسب بل مع النمو والتكامل الإنساني ، ذلك أن الأهواء النفسية لا يمكن أن تكون طريقاً لبناء شخصية الإنسان .

مبغوضية الطلاق :
قال رسول الله (ص) : « ما أحلّ الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق » .
وبالرغم من حلّية الطلاق إلا أن الأحاديث والروايات تحذر من الطلاق وتعتبره عملاً شائناً لا ينبغي القيام به حتى لو تم الأمر برضا الزوجين . وإذن فإن الحسابات الإليهة لا دخل لها برضا الطرفين أو عدمه ، فالطلاق يبقى إجراء لا يحظى برضا الله سبحانه أبداً ، ذلك أن الزواج يعني اتحاداً كاملاً بين الرجل والمرأة . . اتحاداً يصل حد الاندماج والانصهار في بوتقة واحدة . ولذا فإن إجراء أو عملا يفكك من هذا الاتحاد المقدس ويقضي عليه سوف يكون مبغوضاً ومؤلماً .

آثار الطلاق :
قد يبدو الطلاق في نظر الزوجين بابا للخلاص من الجحيم الذي صنعاه بأيديهم ، ولذا نراهما يتنفسان الصعداء عند افتراقهما ، ولكن هل يمكن أن تمضي الأمور بهذه السهولة ؟ هل يمكن للزوجين أن ينسيا كل


(144)

تلك الذكريات واللحظات الجميلة التي عاشاها معاً والأماكن التي زاراها معاً ؟!
إن الحياة الزوجية ليست تجربة عادية . إنها تجربة شاملة يعيشها الإنسان بكل جوارحه ومشاعره .
وإضافة إلى كل ذلك فإن الطلاق لا يمكن اعتباره شأنا شخصياً كما هو الزواج الذي تم بمباركة وسعي العديد من الأصدقاء والأقرباء ، وإذن فإن الطلاق سوف يمسهم جميعاً ولا يمكن ضرب عواطف ومشاعر من يهمهم الأمر عرض الجدار .
إن الطلاق يضع المرء أمام المسؤولية وجهاً لوجه ، وعليه أن يقدم جواباً مقنعاً لأبنائه ، وهو الضحية الأولى لقرار كهذا .
ولا ننسى ـ أيضاً ـ أن الطلاق لا يضع خاتمة للمشاكل بل إنه في أغلب الأحيان بداية سيئة لمشاكل ومتاعب أكثر تعقيداً من ذي قبل .

وصايا في ترك الطلاق :
تزخر الروايات والأحاديث الشريفة بالنهي عن الطلاق ، ويصب أغلبها في نصح الرجل بعدم الإقدام على الطلاق ودعوته إلى مداراة المرأة والإحسان إليها وعدم الإساءة في معاملتها .
قال رسول الله (ص) : « إن الله يبغض ـ أو يلعن ـ كل ذوّاق من الرجال وكل ذوّاقة من النساء » .
ولا يقتصر هذا الحديث ، كما هو واضح ، على الرجال فحسب بل ويشمل النساء أيضاً .
إن هذا التشديد الذي نلمسه في الإسلام بعدم الطلاق يعود إلى الاعتقاد بقدرة الزوجين على تجاوز خلافاتهما وقلب صفحة الماضي والبدء بحياة جديدة . . حياة مفعمة بالحب والتفاهم والإيمان ، إن الإسلام يؤمن بقابلية الإنسان وانطوائه على قدرات لا محدودة في حل ما يواجهه من


(145)

المشاكل والمتاعب ، فكيف إذا كانت المسألة تخص الأسرة وقد أودع الله في هذا الرباط المقدس نبعاً من المودة والحب ؟!

حلّية الطلاق :
بالرغم من التشديد الذي نلمسه في الشريعة الإسلامية بعدم الطلاق ، إلا أنها لم تحرّمه أبداً وأبقت الباب مفتوحاً إذا تعذرت الحلول وعجزت العلاجات ، ذلك أن الإسلام يمنح الآصالة لكرامة الإنسان امرأة كانت أو رجلاً ؛ وإذن فإن جميع تلك النواهي والتحذيرات تتوقف إذا تعلقت المسألة بالدين لأنه القيمة العليا في حياة الإنسان ، فإذا كان استمرار الزواج يعني انهياراً اخلاقياً وسقوطاً دينيّاً فإن الباب مفتوح للخلاص والنجاة ، وإذن فإن الطلاق يعني هنا نوعاً من العمليات الجراحية التي لا بد من إجرائها وبتر العضو الفاسد من أجل حماية الجسد من سراية المرض .
ومهما بلغ الزواج من قدسية فإنه لا يعني قدراً محتوماً لا يمكن لإنسان الخلاص منه ، فعندما يشعر المرء باستحالة الحياة الزوجية وأنه لسبب أو لآخر لا يمكنه الاستمرار في ذلك فإن الله سبحانه قد فتح الباب لمن يعيش مثل هكذا حالة أعلن أن ذلك لا يبرر للرجل أو المرأة انتهاج الأساليب الملتوية لحمل الطرف الآخر على طلب الطلاق ، فأما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
وإذن فلا يسوغ للرجل أو المرأة أن يؤذي أحدهما الآخر أو محاربته أو التشهير به من أجل حمله على الطلاق . وفي مثل هكذا حالة على المرء أن يتحلى بالشجاعة والشهامة والإنسانية .

المرأة والطلاق :
إذا كانت حلاوة الزواج قابلة للوصف فإن مرارة الطلاق أمر لا يمكن إدراكه إلاّ من قبل أولئك الذين خاضوا تلك التجربة المرّة .
لقد أصبح الطلاق ظاهرة اجتماعية خطيرة تهدد أمن وسعادة المجتمعات اليوم ، ولذا نرى اهتماماً بمعالجة هذه المشكلة من كافّة


(146)

المستويات ، فالدول والحكومات تسعى من أجل وضع حدّ لتنامي هذه الظاهرة لما لها من الآثار السيئة في البناء الاجتماعي ، ذلك أن الأسرة هي حجر الأساس في هذا البناء وعليها تتوقف متانته واستقامته .
فالطلاق هو بداية الانحراف والسقوط في الهاوية المخيفة ، حيث الفساد الأخلاقي والأمراض النفسية والضياع الشامل للإنسان .
وما أكثر أولئك الذين سقطوا وتاهوا في دروب الحياة فعاشوا الضياع وبقوا على هامش الحياة إلى أن لفظتهم كما يلفظ البحر البحثث الهامدة .
وإذا كان الجميع خاسرين في الطلاق فإن المرأة تعتبر الخاسر الأكبر ذلك أنها أكثر عاطفة ، فهي مرهفة الإحساس ، عميقة المشاعر ، تحتاج إلى من يمنحها الشعور بالأمن والسلام.
ولذا فإن على المرأة أن تكون أكثر وعياً لهذه المسألة وأن تكون أكثر صبراً ومقاومة وسعياً من أجل استمرار الحياة الزوجية بأي ثمن ، وعليها يتوقف أمن أطفالها وضمان تربيتهم تربية صالحة .


(147)

الفصل الرابع
الأطفال

يعتبر الجانب العاطفي من أعظم الجوانب في علاقة الطفل بوالديه ، والطفل لا يمكن اعتباره فرداً عادياً من أفراد المجتمع يمكن التعامل معه بطريقة عادية ، إنه أمانة إلهية أودعها الله الوالدين ، ولذا فإن من واجبهما قبول هذه الأمانة العظيمة وتحملهما المسؤولية في ذلك .
إن الزواج ومن ثم إنجاب الأطفال لا يمكن اعتباره فخراً للمرء ، وإذا كان هناك ما يفتخر به فهو تربية هؤلاء الأطفال تربية حسنة وتقديمها إلى المجتمع كافراد صالحين لائقين بمقامهم كخلفاء لله في الأرض .
ويعتبر المحيط العائلي أفضل وأعظم مدرسة لتربية النشء حيث يتلقى فيها الأطفال أولى دروس الحياة ، في حين يتحول سلوك الوالدين وتصرفاتهم ومواقفهم إلى نماذج ملهمة لهم ؛ ولذا فإن كل يوم يمر عليهم هو في الحقيقة درس لهم ؛ ولذا فإن على الوالدين مراعة هذا الجانب والابتعاد عن كل ما يسيء إلى هذا الجو ومراقبته فكرياً وأخلاقيا .

الطفولة والمحيط العائلي :
يعتبر الأطفال الأسرة عالمهم الكبير ودنياهم الواسعة حيث يسبحون في عوالمهم الزاخرة بالأماني والأحلام الوردية ، ولذا فإن الأسرة بالنسبة للطفل تعتبر القاعدة الأساسية للانطلاق نحو المستقبل ، وفيها تتحدد توجهاته وترتسم ملامح شخصيته .
فإذا حصل اضطراب في محيط الأسرة انعكست آثاره مباشرة في نفس


(148)

الطفل وروحه ؛ وما أكثر الاطفال الذين ذهبوا ضحية للنزاعات الزوجية ، ذلك أن عدم الاستمرار والاضطراب يدمّر أول ما يدمر شعور الاطفال بالأمن ويزرع في قلوبهم الخوف ، الأمر الذي يزلزل شخصيتهم ، وبالتالي يعرضهم إلى الضياع .
إن مرحلة الطفولة هي أحلى وأجمل المراحل في حياة الإنسان ، وأنه مما يدعو إلى الاسف أن يقوم الوالدان ، ومن خلال نزاعاتهما ، بالإساءة إلى أطفالهم والقضاء على تلك البسمات البريئة التي ترتسم على شفاههم ليحلّ محلّها القلق والخوف والضياع .

النموذج السّيء :
يتعلم الأطفال منا أولى دروس الحياة ، كما تعتبر حياة الأسرة بالنسبة لهم مدرسة يتعلمون فيها كل شيء ، حيث تتراكم في نفوسهم القيم والمواقف والمشاعر والعواطف من خلال سلوكنا وتصرفاتنا ؛ ولذا فإننا سنكون نماذج وأمثلة يقتدون بها ويقلدونها ، حتى لو حاولنا منعهم عن ذلك . وفي هذه السن الحرجة فإن الأطفال سيكونون أشبه بأجهزة تسجيل دقيقة تضبط كل أقوالنا ومواقفنا ولذا فإننا سنكون نماذج سيئة إذا أسأنا التصرف قولاً وعملاً .
إن الحياة الزوجية التي يسودها الاضطراب والنزاع وعدم الاستقرار ستخلق أطفالاً مضطربين ومهزوزين نفسياً ؛ وفي هذه الحالة يتحمل الوالدان مسؤولية ما ينشأ عن ذلك من أضرار في بناء وتكوين شخصية أبنائهم .

آلام الاضطراب :
يعاني الأطفال الذين يترعرعون في محيط مضطرب آلاماً عنيفة ، فتختفي تلك النظرات البريئة والابتسامات المشرقة ليحل محلها إحساس بالحزن الممزوج بالخوف والقلق والدموع ؛ ولهذا يرتفع صوت الأطفال بالبكاء كلما اشتعل النزاع بين الوالدين ؛ إن حركاتهم هي بمثابة استغاثة للخلاص من الخطر المحدق بهم .


(149)

إن أولى حاجات الصغار في هذه المرحلة الحساسة هي الشعور بالأمن والطمأنينة ، ولهذا فهم يتلمسون خطاهم نحو المحيط الدافىء المفعم بالحنان والحب ، وأن ما يثير فزعهم ورعبهم هو رؤيتهم مظاهر العنف أو النزاع في المنزل ، الذي ينبغي أن يكون عشاً دافئاً يضمّ قلوبهم الصغيرة ويلفها بالعطف والمحبة والصفاء .
إن الطفل ليشعر بالألم يعتصر قلبه لدى رؤية والده وهو يصرخ أو لدى رؤية أمّه وهي تنتحب ؛ وكم رأينا بعضهم يشكو ذلك بالرغم من سنّه الصغيرة التي قد لا تتجاوز الأربع أو الخمس سنوات ، ومع ذلك فهو يتمتم : ليتني لم أكن موجوداً . . ليتني كنت ابناً لفلان . . وغير ذلك .
إن النزاع في الحياة الزوجية هو بمثابة خنجر مسموم يطعن قلب الطفل ويسبب له آلاماً مبرحة ، وعندها تنطفىء آماله وتنتهي أحلامه .

مسألة الإنفصال :
قد تصل الأمور في نظر أحد الزوجين أو كلاهما إلى الطريق المسدود ويحدث الطلاق ، وعندما ينفرط عقد الأسرة ويذهب كلّ في طريقه في حين يقف الأطفال في مفترق الطريق لا يعرفون أين ستكون وجهتهم ومع من يذهبون ! عيونهم على الأب وقلوبهم مع الأم ، وفي تلك اللحظة المشؤومة ، لحظة الطلاق ، يحدث ذلك التمزق العاطفي في أعماق الأطفال .
ولا يقتصر الطلاق والانفصال بين الزوجين فقط ، بل إن الأمر يتعدى إلى الأطفال أيضاً ، فلا بد أن يعرف الوالدان بأن شيئاً قد مسّ العلاقة بينهما وبين أبنائهما ، ولا بد أن يشعر الأب أو الأم بأن أطفالهما لم يعودا ملكاً خاصاً بهما فلكلٍّ نصيبه في ذلك . أما الأطفال فإنهم ينتظرون لقاءهم مع الوالدين كما لو كانوا في مهمة رسمية ، حيث تتولى المحاكم ترتيب هكذا لقاءات . ولا ينبغي أن نعتبر ذلك أمراً طبيعياً لدى الطفل يمر دون أن يحدث آثاره في نفسيته ، بل لا بد وأن تظهر في المستقبل .


(150)

الآثار النفسية :
ليس من الإنصاف أن يحترق الأطفال بنار نزاعاتكم ، وليس من العدل أبداً أن يشعروا بالمرارة والحرمان وهم في هذه السنّ المبكّرة حيث كل شيء بالنسبة لهم هو مجرد عالم وردي جميل وأطياف ملوّنة .
إن الأطفال الذين ينشأون في أسرة مضطربة قلقة يسودها النزاع لا بد وأن يشبّوا مهزوزين نفسياً ، يطل من عيونهم البريئة إحساس بالرعب وشعور بالحرمان حتى لو حاول الوالدان تقديم النصائح لهم فإن ذلك سوف يكون عديم الجدوى .

الابتعاد عن الأم :
ربما يتحمل الطفل بُعده عن والده ، أما أن يجد نفسه بعيداً عن أمّه ، ذلك الحضن الدافىء والصدر الحنون ، فإن ذلك سيكون بالنسبة له كارثة لا يمكن تحملها أبداً ؛ ذلك أن الطفل يهرع إلى أحضان أمّه لدى أقل إحساس بالخطر وعندها يشعر بالأمن والطمأنينة تغمران قلبه . وعندما يواجه الطفل عدواناً ما فإنه يسرع باللجوء إلى والدته وتقديم شكواه ضد ذلك الظلم الذي حاق به ؛ إذن لا يمكن للطفل أن يتحمل بُعده عن أمّه وافتقاده لحنانها ؛ ولو حصل ذلك جرّاء حادث ما فإنه سوف يعكس في نفسه آثاراً وتراكمات ومضاعفات تؤثر تأثيراً بالغاً في تكوينه الأخلاقي والروحي .
ولقد أثبتت الدراسات بأن أكثر من 80% من الاضطرابات العاطفية والنفسية لدى الاطفال أنما نشأت بسبب بعدهم أو فقدهم لامهاتهم سواء أكان موتاً أو طلاقاً بل وحتى سفراً طويلاً .
نعم . إن المشكلة الكبرى هي الطلاق ، ذلك أنها تحرم الطفل من ذلك النبع الفياض بالحب والحنان .
وإنه لنوع من الأنانية أن يسعى كل من الزوجين إلى حل مشكلاتهما عن طريق الطلاق دون أن يحسبا أي حساب للمشاكل المعقدة التي سوف تواجه أطفالهما من جرّاء ذلك .


(151)

ولا يمكن للطفل أبداً أن يغفر لوالديه ما سبباه له من بؤس وحرمان .

الضياع :
ينشد الأطفال بطبعهم وفطرتهم المكان الآمن المفعم بالاستقرار لكي ينموا ويكبروا ؛ فهناك إحساس فطري بالخطر ، ولذا فإنهم يجدوا الطمأنينة في أحضان والديهم .
أما عندما يحدث الطلاق وينفرط عقد الأسرة فإنه يغمرهم إحساس بالضياع ، يجتاح تلك القلوب الصغيرة ، وعندها يجد الأطفال أنفسهم بلا معين وتملىء نفوسهم بمشاعر المهانة والاذلال ، ذلك أن أيّاً كان من الناس لا يمكن أن يحل مكان الأم أو الأب في رعايتهم والعطف عليهم وتربيتهم التربية اللائقة .
وإنه نوع من القسوة عندما يقدم الزوجان على الطلاق وتدمير ذلك العش الدافىء الذي ينعم به أطفالهم وتشريدهم هنا وهناك وتعريضهم إلى خطر الضياع والانحراف .
إن على المرء أن لا يكون أنانياً في بحثه عن الراحة والاستقرار فيحل مشاكله بطريقة مدمرّة تنشأ عنها مشكلات عديدة له ولغيره ممن لم يرتكبوا ذنباً في ذلك .

الأبوّة :
ما الذي حدا بك ـ أيها الأب المحترم ـ لكي تفقد صبرك وتحملك فتقدم على الطلاق ؟ هل تظن بأن مشاكلك قد انتهت أو أنك وجدت الحلّ الجذري والنهائي لكل متاعبك ؟ أما تفكر في المستقبل ؟ وهل أن هذه الدنيا تستأهل كل ذلك ؟ تستأهل التضحية بأطفالك الذين تتركهم يتلقون تلك الصدمة حيارى ينظرون إلى المستقبل بعيون قلقة وقلوب خائفة .
إن الرجولة لتتناقض مع هكذا عمل ، كما أن الأبوة المخلصة الحقة تتنافى معه . إنها تفترض العكس ؛ تفترض التضحية والصبر من أجل حماية الصغار وتربيتهم لكي ينشأوا رجالاً صالحين .


(152)

وأنت أيتها الأم :
هل تنسجم أمومتك مع تركك أطفالاً هم في أمس الحاجة إليك وإلى عطفك وحبّك . إن سمو الأمومة وعلوّ مقام الأم هو أكبر من ذلك ، أكبر من جميع الآلام والمصائب ، من جميع المحن والمتاعب ؛ فالأطفال ينظرون إلى أمهم كحضن دافىء ينشدون فيه كل ما ينشدونه من المحبة والعطف والحنان .
فالأم لا تغذي أطفالها اللبن فقط بل تغذيهم الحب والعاطفة ، وهي مسألة تحتل الأولوية في ذلك . وفي مقابل هذه الأهمية وهذه المسؤولية فإن على المرأة أن تنهض بدورها متجاوزة جميع المشاكل والعقبات . وعلى الأم أن يكون همها الأول هو مستقبل أطفالها ، فالأمومة هي المدرسة الأولى والمهمة في تربية الطفل وتعليمه المبادىء والأسس التي ينطلق منها نحو المستقبل المشرق .

حديث أخير :
وحديثنا الأخير هنا هو مع أولئك الذين أدّت ظروف الطلاق إلى أن يحلّوا مكان الأب أو الأم في رعاية الصغار . عليهم ألاّ يعتبروا هؤلاء الضحايا مجرد مزاحمين . . عليهم ألاّ يفرّقوا في معاملتهم أسوة بأبنائهم . . إنهم في الحقيقة أمانة إلهية في أعناقهم . . إنهم أطفالهم ، فقدوا عشهم فلجأوا إليكم ينشدون ما افتقدوه من الدفء والحنان .
إن الله سبحانه قد أمرنا بالإحسان إلى أسرانا في الحروب فكيف بهؤلاء الأطفال الأبرياء ؟!
إن ضربهم أو إهانتهم ستكون عميقة الأثر في نفوسهم الغضة وقلوبهم الطرية إنهم أمانة الله في أعناقكم وأنتم مسؤولون عنها يوم القيامة ، فأدّوا إليهم حقوقهم في المحبة والعطف والأمان .