وأما قولهم : إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب الأفراد وطهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه .
وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كراراً ان الاسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضاً يؤيده بل السعادة الانسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الانسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الإلهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الاخرى واما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء .
وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر ، وغير ذلك فيما بين أفراد الأمم المترقية ، فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه ، وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكير الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكراً فردياً فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطاً تبطل استقلاله الوجودي ( مع أن الحق خلافه ) ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي ، ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال .
وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجري في تفكره هذا المجرى ، وأما من يتفكر تفكراً اجتماعياً ليس نصب عينيه إلا انه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وان منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع


( 26 )

خير نفسه وشره شر نفسه ، وكل وصف وحال له وصفاً وحالاً لنفسه ، فهذا الانسان يتفكر نحواً آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه واما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتم به ولا يقدره شيئاً .
واستوضح ذلك بما نورده من المثال : الانسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الانسانية ، يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتاً وفعلاً تحت استقلاله فالعين والأذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للانسان ، وإنما يلتذ كل بفعله ضمن التذاذ الانسان به ، وكل واحدة من هذه الأعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الانسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الأذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الاحسان أو الإساءة إلى من يريد الانسان الاحسان أو الاساءة اليه من الناس مثلاً ، وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الانسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسيء بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض .
فهذا حال اجزاء الانسان وهي تسير سيراً واحداً اجتماعياً ، وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكراً اجتماعياً فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإساءتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الاوصاف إذا اُخذ ذا شخصية واحدة .
وهكذا صنع القرآن في قضائه على الامم والاقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية أو القومية ان يتفكروا تفكراً اجتماعياً كاليهود والاعراب وعدة من الامم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ، ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكراً اجتماعياً ، وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها .


( 27 )

نعم مقتضى الأخذ بالنصفة ان لا يضطهد حق الصالحين من الافراد بذلك ان وجدوا في مجتمع واحد فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع ، وأشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله وبنيته ، وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء والأبرار .
ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الأمم الاخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها ومصاكتها سائر الأمم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم . فهذه هي التي يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته وشقائه وعلى هذا المجرى يجب ان يجري باحثونا ثم إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤو فليتعجبوا .
ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الأوروبية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الأمم والأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون ان يرى أن هذه المجتمعات التي يظهرون انهم امتلؤوا رأفة ونصحاً للبشر يفدون بالدماء والأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرية والأخذ بيد المظلوم المهضوم حقاً وإلغاء سنة الاسترقاق والأسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الأمم الضعيفة ؛ مساكين الأرض ما وجدوا اليه سبيلاً بما وجدوا اليه من سبيل فيوماً بالقهر ، ويوماً بالاستعمار ، ويوماً بالاستملاك ، ويوماً بالقيمومة ، ويوماً باسم حفظ المنافع المشتركة ، ويوماً باسم الإعانة على حفظ الاستقلال ، ويوماً باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده ، ويوماً باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة


( 28 )

المحرومة ويوماً .. ويوماً .
والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضى الفطرة الانسانية السليمة ان تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة وإن أغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوصي والنبوة من معنى السعادة . وكيف ترضى الطبيعة الانسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضاً منهم عهداً أن يتملكوا الآخرين تملكاً يبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، ويسوي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الأولى ، والمعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمي عندهم سعادة وصلاحاً فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشيئة .

ـ 6 ـ
بماذا يتكون ويعيش المجتمع الاسلامي ؟
لا ريب ان الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود وغاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة ، وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع اتحاد ، وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الانفراد وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع .
والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية ان الانسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض أجهزته بعضاً فإنه لا يقدر أن


( 29 )

يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ، ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض ، وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله ، فإذا كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ، ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله .
وهذا بخلاف الانسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لأدى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أوفى بيان . وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية أمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ ، ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض والإبطال تتغير سريعاً وتنقرض ، ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الارادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون .
ومن هنا يظهر أولاً : أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس وأعمالهم برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها .
وثانياً : أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الانسان بالشعور والإرادة بعد التعديل ، ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لأمر المعارف الالهية والأخلاق ، وصار هذان المهمان


( 30 )

يتصوران بصورة يصورها بهما القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلاً أو آجلاً رسوماً ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ، ولذلك السبب أيضاً ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوماً تقضي عليه وتدحضه ويوماً تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته ، ويوماً تطوي عنه كشحاً فتخليه وشأنه .
وثالثاً : ان هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد ، لكن لا ضمان على إجرائه بالنهاية بمعنى أن منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله الى مجراه العدل ، وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زمننا هذا وهو زمان الثقافة والمدنية فضلاً عما لا يحصى من الشواهد التاريخية ، وأضف إلى هذا النقص نقصاً آخر ، وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحياناً ، أو خروجه عن حومة قدرته .
وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة وهي السعادة عندهم ، ولكن الاسلام لما كان يرى أن الحياة الانسانية أوسع مداراً من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة ، ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الالهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد ، ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الاخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة ، ويرى أن هذه الاخلاق لا تتم ولا تكمل الا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضية ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ ( أعني الاسلام ) الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشري ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ، ولم يكتف


( 31 )

فيه على تعديل الاردات والأفعال فقط بل تممه بالعباديات وأضاف اليها المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة .
ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الاسلامية أولاً ، ثم في عهدة المجتمع ثانياً ، وذلك بالتربية الصالحة علماً وعملاً والامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطاً يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب اليها هذا الدين ، وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع ، فالجميع من أجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد ، والتوحيد بالتركيب يصير هو الاخلاق والأعمال ، فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكان هو ، ( اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، فإن قلت : ما أورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة التنفذية عن إجرائها أو فيما يخفي عليها من الخلاف مثلاً وارد بعينه على الاسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الاسلامي ، وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوماً .
قلت : حقيقة القوانين العامة سواء كانت إلهية أو بشرية ليست إلا صوراً ذهنية في أذهان الناس وعلوماً تحفظها الصدور ، وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس بالإرادات الانسانية تتعلق بها ، فمن الواضح أن لو عصمت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين ، وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع حتى تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأكثر من تعليق الافعال بالإدارات أعني بإرادة الأكثرية ، ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة ، فمهما كانت الإرادة حية


( 32 )

شاعرة فاعلة جرى بها القانون ، وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع ، أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والادراك لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الاتراف والتمتع ، أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهورة قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية ، وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة التنفيذية على الوقوف عليها كالجرائم السرية ، أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الأمة أمنيتها من تطبيق القانون وحصانة المجتمع من المفاسد والتلاشي وعمدة الانشعابات الواقعة في الامم الأوروبية بعد الحرب العالمية الكبرى الاولى والثانية من أحسن الأمثلة في هذا الباب .
وليس ذلك ( أعني انتقاض القوانين وتفسخ المجتمع وتلاشيه ) إلا لأن المجتمع لهم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الامة على قوتها وسيطرتها وهي الأخلاق العالية إذ لا تستمد الارادة في بقائها واستدامة حياتها إلا في الخُلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس ، فلولا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم في الاخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . واعتُبر في ذلك ظهور الشيوعية ، فليست إلا من مواليد الديمقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين ، فكان بُعداً شاسعاً بين نقطتي القساوة وفقد النصفة ، والسخط وتراكم الغيظ والحنق ، وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهي تهدد الانسانية ثالثة ، وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع ، هذا .
ولكن الاسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الاخلاق ، وبالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في


( 33 )

ضمانها على عهدتها فهي مع الانسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن ما يؤديه شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النُظُم . نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم اليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئاً .
أما أولاً : فلأن المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الاسراف والافراط في التمتع المادي والحرمان البالغ فيه ، وقد اعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضاً وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلباً للجمع بين الضدين .
على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكراً اجتماعياً ، ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم ، والتمتع بما في أيديهم ، واسترقاق نفوسهم ، والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا ، والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة .
وأما ثانياً : فلأن الأخلاق الفاضلة أيضاً تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها وليس إلا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلهاً واحداً ذا أسماء حُسنى خَلقَ الخلق لغاية تكميلهم وسعادتهم وهو يحب الخير والصلاح ، ويبغض الشر والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ومن الواضح ان لولا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية ، فإنما الطبيعة الإنسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى


( 34 )

نفسها . ففيما كان للأنسان مثلاً تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه ، فأي مانع يمنعه في اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت ؟ وأما ما يتوهم ـ وكثيراً ما يخطئ فيه الباحث ـ من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن وحب النوع والثناء الجميل ونحو ذلك ، فإنما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظاً عليها إلا التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية وأمور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلماذا يجب على الانسان أن يفدي بنفسه غيره ، ليتمتع بالعيش بعده وهو يرى أن الموت فناء وبطلان ؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته .
وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الانسان لا يقدم على حرمان لا يرجع اليه فيه جزاء ولا يعود اليه منه نفع ، والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر ، فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه فيخيل إليه انه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لو يقدم عليه لو صحا وعقل ، وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوة وهو سفه وجنون .
فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للأنسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه ولذلك وضع الاسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءاً من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شؤونه القول بالمعاد ، ولازمه أن يلتزم الانسان بالاحسان ويجتنب الإساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم ، وسواء حمده حامد أو لم يحمد ، وسواء كان معه


( 35 )

من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس ما كسبت ووراءه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء ، وفيه تجزى كل نفس بما كسبت .

ـ 7 ـ
التعقل والإحساس
أما منطق الاحساس ، فهو يدعوا إلى النفع الدنيوي ، ويبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع وأحسن به الانسان فالإحساس متوقد شديد التوقان في بعثه وتحريكه ، وإذا لم يحس الانسان بالنفع فهو خامد هامد ، وأما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق ويرى أنه أحسن ما ينتفع به الانسان أحس مع الفعل بنفع مادي أو لم يحس فإن ما عند الله خير وأبقى ، وقس في ذلك بين قول عنترة ، وهو على منطق الاحساس :

وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي

يريد أني استثبت نفسي كلما تزلزت في الهزاهز والمواقف المهولة من القتال بقولي لها : اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات وعدم الانهزام ، وإن قتلت العدو استرحت ونلت بغيتك فالثبات خير على أي حال ، وبين قوله تعالى ... وهو على منطق التعقل ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ) (1) .
يريد أن أمر ولايتنا وانصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شيء مما يُصيبنا من ضر أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الاسلام له والالتزام لدينه
____________
(1) سورة التوبة ، الآيتان : 51 ـ 52 .
( 36 )

كما قال تعالى : ( لا يُصبيهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كُتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) (1) .
وإذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شيء كان لنا عظيم الأجر والعاقبة الحُسنى عند ربنا فإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئاً كان لنا عظيم الثواب والعاقبة الحسنى والتمكن في الدنيا من عدونا ، فنحن على أي حال سعداء مغبوطون ولا تتحفون لنا في قتالنا ولا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى والسعادة على أي حال ، وأنت على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين ، وفي إحدى الحالين وهو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسؤوكم وأنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا ويسعدنا .
فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبنى إحساسي وهو أن الثابت أحد نفعين ، إما حمد الناس وإما الراحة من العدو ، هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الانسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة ، أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد وتساوى عندهم الخدمة والخيانة ، أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي ولا الخيانة ، أو لم يسترح الاحساس بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العيّ واللكنة .
وهذه الموارد المعدودة هي الاسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية يقول الخائن المساهل في أمر القانون : إن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعد
____________
(1) سورة التوبة ، الآيتان : 120 ـ 121 .
( 37 )

لها وإن الخادم والخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالاً وأنعم عيشاً ، ويرى كل باغ وجان انه سيتخلص من قهر القانون وأن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفى أمره ويلتبس على الناس شخصه ويعتذر كل من يتثبط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه ويداهنهم بأن القيام على الحق يذلـله بين الناس ، ويضحك منه الدنيا الحاضرة ، ويعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير فإن ذكرته بشرافة النفس وطهارة الباطن رد عليك قائلاً : ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش وذلة الحياة .
وأما المنطق الآخر ، وهو منطق الاسلام فهو يبني أساسه على اتباع الحق وابتغاء الأجر والجزاء من الله سبحانه ، وإنما يتعلق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة التالية وبالقصد الثاني ، ومن المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد ، ولا يسقط كليته من العموم والإطراد ، فالعمل ـ أعم من الفعل والترك ـ إنما يقع لوجهه تعالى ، وإسلاماً له واتباعاً للحق الذي أراده وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء ، والله بما تعملون خبير .
فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت ، رقيب شهيد قائم بما كسبت ، سواء شهده الناس أو لا ، حمدوه أو لا ، قدروا فيه على شيء أو لا .
وقد بلغ من حسن تأثير التربية الاسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة ، ويذوقون مر الحدود التي تقام عليهم ( القتل فما دونه ) ابتغاء رضوان الله وتطهيراً لأنفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات . وبالتأمل في هذه النوارد الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب


( 38 )

تأثير البيان الديني في نفوس الناس وتعويده لهم السماحة في ألذ الاشياء وأعزها عندهم ، وهي الحياة وما في تلوها ، ولولا أن البحث قرآني لأوردنا طرفاً من الامثلة التاريخية فيه .

ـ 8 ـ
الأجر الأخروي : غاية المجتمع
ربما يتوهم المتوهم أن جعل الأجر الأخروي وهو الغرض العام في حياة الانسان الاجتماعية يوجب سقوط الاغراض الحيوية التي تدعو اليه البنية الطبيعية الانسانية وفيه فساد نظام الاجتماع ، والانحطاط إلى منحط الرهبانية ، وكيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الاخرى ؟ وهل هذا الا تناقض ؟
لكنه توهم ساذح في الجهل بالحكمة الإلهية والأسرار التي تكشفت عنها المعارف القرآنية فإن الاسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب ، قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطرة الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (1) . وحاصله : أن سلسلة الاسباب الواقعية التكونية تعاضدت على إيجاد النوع الانساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيأت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الاسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك والشقاء ، وهذا ( لو تفهمه المتوهم ) هو الدين الاسلامي بعينه ، ولما كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجه لها المدبر لأمرها فيما دق وجل وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكملة
____________
(1) سورة الروم : الآية 30 .
( 39 )

كان الواجب على الانسان الاسلام له والخضوع لأمره ، وهذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الاسلامي .
ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والاسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طراً وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة فعند المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية واخرى أخروية ، وله مقاصد مادية واخرى معنوية ، لكنه لا يعتني في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام ولذلك بعينه نرى أن الاسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه ، والانقطاع اليه والإخلاص له والإعراض عن كل سبب دونه ومبتغى غيره ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية .
ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الإسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدينا وفي الآخرة وأن غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت واستؤثرت .
ومن هنا يظهر أيضاً فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أن حقيقة الدين والغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية .
والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهم إلى مؤونة زائدة وتكلف واستدلال ، على أن هذا الكلام الذي يتضمن إسقاط التوحيد ، وكرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع ، وقد عرفت أنهما غايتان


( 40 )

مختلفتان لا ترجع إحداهما إلى الاخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها .

ـ 9 ـ
الحرية والمجتمع الاسلامي
كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدة قرون ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الأوروبية قبل بضعة قرون لكن معناها كان يجول في الأذهان وأمنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة .
والأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الانسان في وجوده من الإرادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس والشعور المنجر إلى إبطال الإنسانية .
غير أن الانسان لما كان موجوداً اجتماعياً تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات ، وفعله في الأفعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الإرادات والأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة والعمل هي بعينها تحدد الإرادة والعمل وتقيد ذلك الإطلاق الابتدائي والحرية الأولية .
والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت أنتج ذلك حرية الأمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الإلتزام بها وبلوازمها ، وفي أمر الأخلاق ، وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الانسان من الارادات والأعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم .