نماذج من روايات التحريف في كتب أهل السنة

نذكر هنا جملة من الروايات الموجودة في كتب أهل السنة ، ونبيّن ماورد في تأويلها ، وما قيل في بطلانها وإنكارها ، وعلى أمثال هذه النماذج يقاس ما سواها ، وهي على طوائف :
الطائفة الاَُولى : الروايات التي ذكرت سوراً أو آيات زُعِم أنّها كانت من القرآن وحُذِفت منه ، أو زعم البعض نسخ تلاوتها ، أو أكلها الداجن ، نذكر منها :
الاَُولى : أنّ سورة الاَحزاب تعدل سورة البقرة
1 ـ رُوي عن عائشة : «أنّ سورة الاَحزاب كانت تُقْرأ في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مائتي آية ، فلم نقدر منها إلاّ على ماهو الآن» (1). وفي لفظ الراغب : «مائة آية» (2).
2 ـ ورُوي عن عمر وأُبي بن كعب وعكرمة مولى ابن عباس : «أنّ سورة الاَحزاب كانت تقارب سورة البقرة ، أو هي أطول منها ، وفيها كانت آية الرجم» (3) .
3 ـ وعن حذيفة : «قرأتُ سورة الاَحزاب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسيتُ منها
____________
(1) الاتقان 3 : 82 ، تفسير القرطبي 14 : 113 ، مناهل العرفان 1 : 273 ، الدر المنثور 6 : 560 .
(2) محاضرات الراغب 2 : 4 | 434 .
(3) الاتقان 3 : 82 ، مسند أحمد 5 : 132 ، المستدرك 4 : 359 ، السنن الكبرى 8 : 211 ، تفسير القرطبي 14 : 113 ، الكشاف 3 : 518 ، مناهل العرفان 2 : 111 ، الدر المنثور 6 : 559 .

( 62 )
سبعين آية ما وجدتها» (1).
وقد حمل ابن الصلاح المدّعى زيادته على التفسير ، وحمله السيوطي وابن حزم على نسخ التلاوة ، والمتأمّل لهذه الروايات يلاحظ وجود اختلاف فاحش بينها في مقدار ماكانت عليه سورة الاَحزاب ، الاَمر الذي يشير إلى عدم صحّة هذه النصوص وبطلانها ، أمّا آية الرجم الواردة في الحديث الثاني فستأتي في القسم الرابع من هذه الطائفة .
الثانية : لو كان لابن آدم واديان...
رُوي عن أبي موسى الاَشعري أنّه قال لقرّاء البصرة : «كنّا نقرأ سورة نُشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملاَ جوف ابن آدم إلاّ التراب» (2).
وقد حمل ابن الصلاح هذا الحديث علىالسنة ، قال : «إنّ هذا معروف في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنّه من كلام الرسول ، لا يحكيه عن ربِّ العالمين في القرآن ويؤيده حديث روي عن العباس بن سهل ، قال: سمعت ابن الزبير على المنبر يقول : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أنّ ابن آدم أُعطي واديان..» وعدّه الزبيدي الحديث الرابع والاَربعين من الاَحاديث المتواترة وقال : «رواه من الصحابة خمسة عشر نفساً» (3). ورواه أحمد في
____________
(1) الدر المنثور 6 : 559 .
(2) صحيح مسلم 2 : 726 | 1050 .
(3) مقدمتان في علوم القرآن : 85 ـ 88 .

( 63 )
(المسند) عن أبي واقد الليثي على أنّه حديث قدسيّ .(1)
أمّا إخبار أبي موسى بأنّه كان ثمّة سورة تشبه براءة في الشدّة والطول ، فلو كانت لحصل العلم بها ، ولما غفل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وكُتّاب الوحي وحُفّاظه وقُرّاؤه .
الثالثة : سورتا الخلع والحفد
روي أنّ سورتي الخلع والحفد كانتا في مصحف ابن عباس وأُبي بن كعب وابن مسعود ، وأنّ عمر بن الخطاب قنت بهما في الصلاة ، وأنّ أبا موسى الاَشعري كان يقرأهما.. وهما :
1 ـ «اللّهم إنا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك» .
2 ـ «اللّهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك ، إنّ عذابك بالكافرين ملحق» (2).
وقد حملهما الزرقاني والباقلاني والجزيري وغيرهم على الدعاء ، وقال صاحب الانتصار : «إنّ كلام القنوت المروي : أنّ أُبي بن كعب أثبته في مصحفه ، لم تقم الحجّة بأنّه قرآن منزل ، بل هو ضرب من الدعاء ، ولو كان قرآناً لنقل إلينا وحصل العلم بصحّته» إلى أن قال : «ولم يصحّ ذلك عنه، وإنّما روي عنه أنّه أثبته في مصحفه ، وقد أثبت في مصحفه ما ليس
____________
(1) مسند أحمد 5 : 219 .
(2) مناهل العرفان 1 : 257 ، روح المعاني 1 : 25 .

( 64 )
بقرآن من دعاء أو تأويل.. الخ» (1).
وقد روي هذا الدعاء في (الدر المنثور) والاتقان والسنن الكبرى و(المصنّف) وغيرها من عديد من الروايات عن ابن الضرس والبيهقي ومحمد بن نصر ، ولم يُصرّحوا بكونه قرآناً (2).
الرابعة : آية الرجم
روي بطرق متعدّدة أنّ عمر بن الخطاب ، قال : «إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم.. والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة ، نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم . فإنّا قد قرأناها» (3).
وأخرج ابن أشتة في (المصاحف) عن الليث بن سعد ، قال : «إنّ عمر أتى إلى زيدٍ بآية الرجم ، فلم يكتبها زيد لاَنّه كان وحده» (4).
وقد حمل ابن حزم آية الرجم في (المحلى) على أنّها ممّا نسخ لفظه وبقي حكمه ، وهو حملٌ باطلٌ ، لاَنّها لو كانت منسوخة التلاوة لما جاء عمر ليكتبها في المصحف ، وأنكر ابن ظفر في (الينبوع) عدّها ممّا نسخ تلاوةً ، وقال : «لاَنّ خبر الواحد لا يُثبت القرآن» (5).

____________
(1) مناهل العرفان 1 : 264 .
(2) السنن الكبرى 2 : 210 ، المصنف لعبد الرزاق 3 : 212 .
(3) المستدرك 4 : 359 و 360 ، مسند أحمد 1 : 23 و 29 و 36 و 40 و 50 ، طبقات ابن سعد 3 : 334 ، سنن الدارمي 2 : 179 .
(4) الاتقان 3 : 206 .
(5) البرهان للزركشي 2 : 43 .

( 65 )
وحملها أبو جعفر النحاس على السُنّة ، وقال : «إسناد الحديث صحيحٌ، إلاّ أنّه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة، ولكنها سُنّةٌ ثابتةٌ ، وقد يقول الاِنسان كنتُ أقرأ كذا لغير القرآن ، والدليل على هذا أنّه قال : لولا أنّي أكره أن يقال زاد عمر في القرآن ، لزدته» (1) .
الخامسة : آية الجهاد
رُوي أنّ عمر قال لعبد الرحمن بن عوف : «ألم تجد فيما أُنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة ، فأنا لا أجدها ؟ قال : أُسقطت فيما أسقط من القرآن» (2).
نقول : ألم يرووا في أحاديث جمع القرآن أنّ الآية تُكتَب بشهادة شاهدين من الصحابة على أنّها ممّا أنزل الله في كتابه ؟ فما منع عمر وعبدالرحمن بن عوف من الشهادة على أنّ الآية من القرآن وإثباتها فيه ؟ فهذا دليلٌ قاطعٌ على وضع هذه الرواية ، وإلاّ كيف سقطت هذه الآية المدّعاة عن كُتّاب القرآن وحُفّاظه في طول البلاد وعرضها ، ولم تبق إلاّ مع عمر وعبد الرحمن بن عوف ؟
السادسة : آية الرضاع
رُوي عن عائشة أنّها قالت :« كان فيما أُنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) الناسخ والمنسوخ : 8 .
(2) الاتقان 3 : 84 ، كنز العمال 2 : 567حديث | 4741 .

( 66 )
وهنّ ممّا يقرأ من القرآن» (1).
لقد أوّل بعض المحقّقين خبر عائشة هذا بأنّه ليس الغرض منه أنّ ذلك كان آيةً من كتاب الله ، بل كان حكماً من الاَحكام الشرعية التي أوحى الله بها إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في غير القرآن ، وأمر القرآن باتّباعها ، فمعنى قولها: «كان فيما أُنزل من القرآن...» كان من بين الاَحكام التي أنزلها الله على رسوله وأمرنا باتّباعها في القرآن أن عشر رضعات يحرمن ، ثمّ نسخ هذا الحكم بخمس رضعات معلومات يحرمن ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الحكم باقٍ لم ينسخ ، فأمّا كونه منزلاً موحى به فذلك لاَنّه صلى الله عليه وآله وسلم لاينطق عن الهوى ، وأمّا كوننا مأمورين باتّباع ما جاء به الرسول من الاَحكام فلاَن الله تعالى قال : ( وَمَا آتاكُم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهاكُم عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ( الحشر59: 7.) وحمله البعض على أنّه ممّا نسخت تلاوته وحكمه فأبطلوه ، وهذا الحمل باطلٌ على ما سيأتي بيانه . لكن بعض الشافعية والحنابلة حملوه على نسخ التلاوة ، وذلك لا يصحّ لاَنّ الظاهر من الحديث أنّ النسخ كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمرٌ باطلٌ بالاجماع ، وقد ترك العمل بهذا الحديث مالك بن أنس وهو راوي الحديث ، وأحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهم ، وقال الطحاوي والسرخسي وغيرهما ببطلانه وشذوذه وعدم صحته ، ومن المتأخرين الاَُستاذ السايس وتلميذه الاَُستاذ العريض وعبد الرحمن الجزيري وابن الخطيب وغيرهم (3).

____________
(1) صحيح مسلم 2: 1075|1452، سنن الترمذي 3: 456، المصنف للصنعاني 7: 467و 470..
(2) الفقه على المذاهب الاَربعة 4 : 259 .
(3) مشكل الآثار 3 : 6 ـ 8 ، الناسخ والمنسوخ : 10 ـ 11 ، أُصول السرخسي 2 : 78 ، فتح المنان: 223 ـ 230 ، التمهيد في علوم القرآن 2 : 282 ، الفقه على المذاهب الاربعة 4: 258 ـ 260.

( 67 )
وهذا الحديث بلفظ «فتوفي رسول الله وهنّ ممّا يقرأ من القرآن» رواه أنس بن مالك عن عبدالله بن أبي بكر ، وقد رُوي عن غيره بدون هذا اللفظ، قال أبو جعفر النحاس : «قال بعض أجلّة أصحاب الحديث : قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبد الله بن أبي بكر ، فلم يذكرا أنّ هذا فيه، وهما القاسم بن محمد بن أبي بكر ويحيى بن سعيد الاَنصاري» (1)، وقال الطحاوي : «هذا ممّا لا نعلم أحداً رواه كما ذكرنا غير عبدالله بن أبي بكر ، وهو عندنا وهمٌ منه» (2).
لكنّ خلوّ الرواية من هذا اللفظ لا يصحّح كونها قرآناً يُتلى ولا ينفيه ، قال صاحب المنار : «لو صحّ أنّ ذلك كان قرآناً يتلى لما بقي علمه خاصاً بعائشة ، بل كانت الروايات تكثر فيه ، ويعمل به جماهير الناس ، ويحكم به الخلفاء الراشدون ، وكل ذلك لم يكن» وقال : «إنّ ردّ هذه الرواية عن عائشة لاَهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف والخلف بها»(3).
السابعة : آية رضاع الكبير عشراً
رُوي عن عائشة أنَّها قالت : «نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها» (4).

____________
(1) الناسخ والمنسوخ : 10 ـ 11 .
(2) مشكل الآثار 3 : 7 ـ 8 .
(3) تفسير المنار 4 : 472 .
(4) مسند أحمد 6 : 269 ، المحلّى 11 : 235 ، سنن ابن ماجة 1 : 625 ، الجامع لاَحكام القرآن 14 : 113 .

( 68 )
وظاهرٌ من هذه الرواية أنّه لم يحفظ القرآن ولم يكتبه غير عائشة ، وهو أمرٌ في غاية البعد والغرابة ، فأين سائر الصحابة والحُفّاظ والكتبة منهم ، قال السرخسي : «حديث عائشة لا يكاد يصحّ ؛ لاَنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة أُخرى ، فعرفنا أنّه لاأصل لهذا الحديث» (1). أمّا بالنسبة لآية الرجم المذكورة في الحديث فقد تقدم أنّه لا يصحّ اعتبارها قرآنا لكونها من أخبار الآحاد ، وحكم الرجم من السنن الثابتة عن الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم إنّ هذا الحكم ـ في رضاع الكبير عشراً ـ قد انفردت به عائشة ، وعارضها فيه سائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم تأخذ واحدة منهنّ بقولها في ذلك ، وأنكره أيضاً ابن مسعود على أبي موسى الاَشعري ، وقال : «إنّما الرضاعة ما أنبت اللحم والدم» فرجع أبو موسى عن القول به (2).
الثامنة : آية الصلاة على الذين يصلون في الصفوف الاَُولى !
عن حميدة بنت أبي يونس ، قالت : «قرأ عليّ أبي ، وهو ابن ثمانين سنة ، في مصحف عائشة : إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيُّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً وعلى الذين يصلون في الصفوف الاَُولى». قالت : «قبل أن يغيّر عثمان المصاحف» (3).
وظاهر أنّ هذا من الآحاد التي لايثبت بها قرآن ، وإلاّ فكيف فات هذا
____________
(1) أُصول السرخسي 2 : 79 .
(2) جامع بيان العلم 2 : 105 .
(3) الاتقان 3 : 82 .

( 69 )
عن سائر الصحابة وكُتّاب الوحي منهم وحُفّاظه وجُمّاعه ، واختصت به عائشة دونهم ؟ ولو صحّ فهو روايةٌ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فاعتقدت عائشة كونها من القرآن فكتبتها ، حيثُ روي عن البراء بن عازب أنّه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ الله وملائكته يصلون على الصفوف الاَُوّل» (1)، وروي عن عائشة أنّها قالت : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ الله وملائكته يصلّون على الذين يَصِلُون الصفوف» (2)، ولعلّه أيضاً ممّا يُكْتب في حاشية المصحف، حيث كانوا يسجّلون مايرون له أهميةً وشأناً في حاشية مصاحفهم الخاصّة.
التاسعة : عدد حروف القرآن
أخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب ، قال : «القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف» (3). بينما القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار ، قال الذهبي : «تفرّد محمّد بن عبيد بهذا الخبر الباطل» (4)، هذا فضلاً عن الاختلاف في رواية عدد الحروف ، فقد روي ألف ألف وواحد وعشرون ألفاً ومئة وخمسون حرفاً ، وقيل : غير ذلك ، الاَمر الذي يضعف الثقة بصحة صدورها .
وإذا صحّ ذلك فلعلّه من الوحي الذي ليس بقرآن كالاَحاديث القدسية؛ وقد لاحظنا في أدلّة نفي التحريف أنّه بلغ من الدقّة والتحرّي
____________
(1) المصنف لعبد الرزاق 2 : 484 .
(2) المستدرك 1 : 214 .
(3) الاتقان 1 : 242 .
(4) ميزان الاعتدال 3 : 639 .

( 70 )
في ثبت آيات القرآن أن يحمل بعض الصحابة السيف لحذف حرف واحد منه ، فكيف يحذف ثلثاه ولم نجد معارضاً منهم ، ولا مطالباً بتدوين ما بقي من ثلثيه ؟! هذا فضلاً عن وجود كثير من الصحابة ممّن جمع القرآن كلّه أو بعضه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما سيأتي بيانه ـ حفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس ، فكانت القراطيس شاهدة على ما في الصدور ، والصدور شاهدة على ما في القراطيس ، فكيف يضيع ثلثاه في حال كهذه؟!
وأخيراً فأنّ الملاحظ على كثير ممّا أدّعي أنّه من القرآن مخالفته لقواعد اللغة وأُسلوب القرآن الكريم وبلاغته السامية ، ممّا يدل على أنّه ليس بكلام الخالق تعالى ، وليست له طلاوته ، ولا به حلاوته وعذوبته ، وليست عليه بهجته ، بل يتبّرأ من ركاكته وانحطاطه وتهافته المخلوقون ، فكيف برب العالمين ، وسمّو كتابه المبين ؟!
ومن أراد الاطلاع على ماذكرناه ، فليراجع مقدمة (تفسير آلاء الرحمن)، للشيخ البلاغي ففيه مزيد بيان .
والملاحظ أيضاً أنّ قسماً منه هو من الاَحاديث النبوية ، أو من السُنّة والاَحكام التي ظنّوها قرآناً ، كما روي أنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر » هو آية ، ولا يشكّ أحدٌ في أنّه حديث . و الملاحظ أيضاً أنّ أغلبه روي بألفاظ متعدّدة وتعابير مختلفة ، فلو كان قرآناً لتوحّدت ألفاظه .

( 71 )

نسخ التلاوة

قسّموا النسخ في الكتاب العزيز إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ نسخ الحكم دون التلاوة ، وهذا هو القسم الذي نطق به محكم التنزيل ، وهو المشهور بين العلماء والمفسرين ، وهو أمر معقولٌ مقبولٌ ، حيثُ إنّ بعض الاَحكام لم ينزل دفعةً واحدةً ، بل نزل تدريجياً لتألفه النفوس وتستسيغه العقول ، فنسخت تلك الاَحكام وبقيت ألفاظها ، لاَسرارٍ تربويةٍ وتشريعيةٍ يعلمها الله تعالى .
2 ـ نسخ التلاوة دون الحكم ، وقد مثّلوا له بآية الرجم ، فقالوا : إنّ هذه الآية كانت من القرآن ثمّ نسخت تلاوتها وبقي حكمها .
3 ـ نسخ التلاوة والحكم معاً ، وقد مثّلوا له بآية الرضاع .
وقد تقدّم في ثنايا البحث السابق أنّ البعض حمل قسماً من الروايات الدالة على النقصان على أنّها آيات نسخت تلاوتها وبقيت أحكامها ، أو نسخت تلاوةً وحكماً ، وذلك تحاشياً من التسليم بها الذي يفضي إلى القول بتحريف القرآن ، وفراراً من ردّها وتكذيبها الذي يؤول إلى الطعن في الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة ، أو الطعن في الاَعيان الذين نُقلت عنهم ، ولا شكّ أنّ القول بالضربين الاَخيرين من النسخ هو عين القول بالتحريف : وهو باطل لما يلي :
1 ـ يستحيل عقلاً أن يرد النسخ على اللفظ دون الحكم ، لاَنّ الحكم لابدّ له من لفظ يدلّ عليه ، فإذا رفع اللفظ فما هو الدليل الذي يدلّ عليه ؟
( 72 )
فالحكم تابع للّفظ ، ولا يمكن أن يرفع الاَصل ويبقى التابع .
2 ـ النسخ حكم ، والحكم لابدّ أن يكون بالنصّ ، ولا انفكاك بينهما ، ولا دليل على نسخ النصوص التي حكتها الآثار المتقدّمة وسواها ، إذ لم ينقل نسخها ولم يرد في حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في واحدٍ منها أنّها منسوخة ، والواجب يقتضي أن يُبلّغ الاَُمة بالنسخ كما بلّغ بالنزول ، وبما أنّ ذلك لم يحدث فالقول به باطل .
3 ـ الاَخبار التي زعم نسخ تلاوتها أخبار آحاد ، ولا تقوى دليلاً وبرهاناً على حصوله ، إذ صرحوا باتّفاق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد (1)، ونسبه القطّان إلى الجمهور (2)، وعلّله رحمة الله الهندي «بأنّ خبر الواحد إذا اقتضى عملاً ولم يوجد في الاَدلّة القاطعة مايدلّ عليه وجب ردّه» (3)، بل إنّ الشافعي وأصحابه وأكثر أهل الظاهر ، قد قطعوا بامتناع نسخ القران بالسُنّة المتواترة ، وبهذا صرّح أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، بل من قال بإمكان نسخ الكتاب بالسُنّة المتواترة منع وقوعه (4)، لذا لا تصحّ دعوى نسخ التلاوة مع بقاء الحكم أو بدونه ، حتّى لو ادّعي التواتر في أخبار النسخ ، فضلاً عن كونها أخبار آحاد ضعيفة الاسناد واهية المتن كما تقدّم .
4 ـ أنكر بعض المعتزلة وعامة علماء الاِمامية وأعلامهم الضربين
____________
(1) الموافقات للشاطبي 3 : 106 .
(2) مباحث في علوم القرآن : 237 .
(3) إظهار الحق 2 : 90 .
(4) الاحكام للآمدي 3 : 139 ، أُصول السرخسي 2 : 67 .

( 73 )
الاَخيرين من النسخ واعتبروهما نفس القول بالتحريف ، وكذا أنكرهما أغلب علماء ومحققي أهل السنة المتقدمين منهم والمتأخرين ، وحكى القاضي أبو بكر في (الانتصار) عن قومٍ انكار الضرب الثاني منه (1)، وأنكره أيضاً ابن ظفر في كتاب (الينبوع) (2)، ونُقِل عن أبي مسلم «أنّ نسخ التلاوة ممنوع شرعاً» (3) وفيما يلي بعض أقوال محققي أهل السنة في ابطال القول بنسخ التلاوة :
1 ـ قال الخضري : «أنا لا أفهم معنى لآيةٍ أنزلها الله تعالى لتفيد حكماً ثمّ يرفعها مع بقاء حكمها ؛ لاَنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم والاعجاز معاً بنظمه ، فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها ؟ إنّ ذلك غير مفهوم ، وقد أرى أنّه ليس هناك مايدعو إلى القول به» (4).
2 ـ وقال الدكتور صبحي الصالح : «أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما بزعمهم آيات معينة ، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا دون نسخ أحكامها ، والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأً مركباً ، فتقسيم المسائل إلى أضرب إنّما يصلح إذا كان لكلّ ضربٍ شواهد كثيرةٍ أو كافيةٍ على الاَقل ليتيسّر استنباط قاعدةٍ منها ، وما لعشّاق النسخ إلاّ شاهدٌ أو اثنان على كلّ من هذين الضربين ، وجميع ماذكروه منها أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار
____________
(1) البرهان في علوم القرآن 2 : 47 .
(2) البرهان في علوم القرآن 2 : 43 .
(3) مناهل العرفان 2 : 112 .
(4) التحقيق في نفي التحريف : 279 ، صيانة القرآن من التحريف : 30 .

( 74 )
آحاد لا حجّة فيها» (1)
3 ـ وقال الدكتور مصطفى زيد : «ومن ثمّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرّد فرض لم يتحقّق في واقعةٍ واحدةٍ ، ولهذا نرفضه ، ونرى أنّه غير معقولٍ ولا مقبول» (2).
4 ـ وقال عبد الرحمن الجزيري : «إنّ الاَخبار التي جاء فيها ذكر كلمةٍ (من كتاب الله) على أنّها كانت فيه ونسخت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذه لا يُطلق عليها أنّها قرآن ، ولا تُعطى حكم القرآن باتّفاق ، ثمّ ينظر إنّ كان يمكن تأويلها بما يخرجها عن كونها قرآناً ، فإنّ الاِخبار بها يعطي حكم الحديث ، وإن لم يمكن تأويلها فالذي أعتقده أنّها لا تصلح للدلالة على حكم شرعي ؛ لاَنّ دلالتها موقوفةٌ على ثبوت صيغتها . وصيغتها يصحّ نفيها باتّفاقٍ ، فكيف يمكن الاستدلال بها ؟! فالخير كلّ الخير في ترك مثل هذه الروايات» (3)
5 ـ وقال ابن الخطيب : «أمّا مايدّعونه من نسخ تلاوة بعض الآيات مع بقاء حكمها ، فأمر لا يقبله إنسان يحترم نفسه ، ويقدّر ما وهبه الله تعالى من نعمة العقل ، إذ ماهي الحكمة من نسخ تلاوة آية مع بقاء حكمها ؟ ماالحكمة من صدور قانون واجب التنفيذ ورفع ألفاظ هذا القانون مع بقاء العمل بأحكامه ؟ ويستدلّون على باطلهم هذا بإيراد آيةٍ من هذا النوع يدّعون نسخها ، ويعلم الله تعالى أنّها ليست من القرآن ، ولو كانت لما
____________
(1) مباحث في علوم القرآن : 265 .
(2) فتح المنان : 229 .
(3) الفقه على المذاهب الاَربعة 4 : 260 .

( 75 )
أغفلها الصحابة (رضوان الله عليهم) ولدونّها السلف الصالح في مصاحفهم»(1).
الطائفة الثانية : الروايات الدالّة على الخطأ واللحن والتغيير .
الاَُولى : روي عن عثمان أنّه قال : «إنّ في المصحف لحناً ، وستقيّمه العرب بألسنتها . فقيل له : ألا تغيره ؟ فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراماً ، ولايحرّم حلالاً» (2).
حمل ابن أشتة اللحن الوارد في الحديث على الخطأ في اختيار ماهو أولى من الاَحرف السبعة ، وعلى أشياء خالف لفظُها رَسْمَها ، وهذا الحمل غير مستقيمٍ ، والاَولى منه هو ترك الرواية وتكذيبها وإنكارها ، كما فعل الداني والرازي والنيسابوري وابن الاَنباري والآلوسي والسخاوي والخازن والباقلاني وجماعة آخرين (3)، حيثُ صرّحوا أنّ هذه الرواية لايصحّ بها دليل ولا تقوم بمثلها حجّة ؛ لاَنّ إسنادها ضعيف ، وفيه اضطراب وانقطاع وتخليط ، ولاَنّ المصحف منقولٌ بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يمكن ثبوت اللحن فيه ، ثمّ إنّ مابين الدفّتين هو كلام الله بإجماع المسلمين ، ولا يجوز أن يكون كلام الله لحناً وغلطاً ، وقد ذهب عامّة الصحابة وسائر علماء الاَُمّة من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه أدنى خطأ من كاتبٍ ولا من غيره ، واستدلّوا أيضاً على إنكار هذه الرواية
____________
(1) الفرقان : 157 .
(2) الاتقان 2 : 320 ، 321 .
(3) تاريخ القرآن الكردي : 65 ، التفسير الكبير 11 : 105 ، تفسير النيسابوري 6 : 23 المطبوع في هامش تفسير الطبري ، تفسير الخازن 1 : 422 .

( 76 )
بقولهم : إنّ عثمان جعل للناس إماماً ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيّمه العرب بألسنتها ، أو يؤخّر شيئاً فاسداً ليصلحه غيره ؟! وإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيّموا ذلك ـ وهم الخيار وأهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك ـ فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم ! ثمّ إنّ عثمان لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدة مصاحف ، فلم تأتِ المصاحف مختلفة قطّ ، إلاّ فيما هو من وجوه القراءات والتلاوة دون الرسم ، وليس ذلك باللحن» (1).
والذي يهوّن الخطب في هذه الرواية ومثيلاتها الآتية أنّها برواية عكرمة مولى ابن عبّاس ، وكان من أعلام الضلال ودعاة السوء ، وكان يرى رأي الخوارج ، ويُضرب به المثل في الكذب والافتراء ، حتى قدح به الاَكابر وكذّبوه ، أمثال ابن عمر ومجاهد وعطاء وابن سيرين ومالك بن أنس والشافعي وسعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد ، وحرّم مالك الرواية عنه، وأعرض عنه مسلم (2).
الثانية : روي عن ابن عباس في قوله تعالى : ( حَتّى تَسْتَأنِسُوا وتُسلّموا ). (النور24:27) قال : «إنّما هو (حتّى تستأذنوا) ، وأنّ الاَوّل خطأٌ من الكاتب»(3)، والمراد بالاستئناس هنا الاستعلام ، أي حتى تستعلموا من في البيت ، فهذه الرواية مكذوبةٌ على ابن عباس ولا تصحّ عنه ؛ لاَنّ مصاحف الاِسلام كلّها قد ثبت فيها (حتى تَسْتَأنِسُوا) وصحّ الاِجماع فيها
____________
(1) روح المعاني 6 : 13 .
(2) أُنظر وفيات الاعيان 1 : 319 ، ميزان الاعتدال 3 : 93 ، المغني في الضعفاء 2 : 84 ، الضعفاء الكبير 3 : 373 ، طبقات ابن سعد 5 : 287 ، تهذيب الكمال 7 : 263 .
(3) الاتقان 2 : 327 ، لباب التأويل 3 : 324 ، فتح الباري 11 : 7 .

( 77 )
منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الآن ، فلا يعوّل على مثل هذه الرواية ، قال الرازي : «إعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر ؛ لاَنّه يقتضي الطعن في القرآن الذي نُقِل بالتواتر ، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم يُنْقَل بالتواتر ، وفَتح هذين البابين يطرق الشكّ في كلِّ القرآن ، وإنّه باطل» (1).
وقال أبو حيان : «من روى عن ابن عبّاس أنّ قوله تعالى : ( حَتّى تَسْتَأنِسوا ) خطأ أو وهمٌ من الكاتب ، وأنّه قرأ (حتى تَسْتَأذِنُوا) فهو كافرٌ في الاِسلام ، مُلْحِدٌ في الدين ، وابن عباس بريءٌ من هذا القول (2).
الثالثة : روى عروة بن الزبير عن عائشة : أنّه سألها عن قوله تعالى : ( لكن الراسخون في العلم )( النساء4: 62 ) : ثمّ قال ( والمقيمين ) ، وفي المائدة : ( إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون )، و ( المائدة5: 69) ( إنّ هذان لساحران ) (طه20: 63) فقالت يابن أُختي ، هذا عمل الكُتّاب ، أخطأوا في الكتاب (3).
أمّا قوله تعالى : ( و المقيمين ) فانّه على العطف يكون (والمقيمون) كما في قراءة الحسن ومالك بن دينار ، والذي في المصاحف وقراءة أُبيّ والجمهور ( والمقيمين ) قال سيبويه : «نُصِب على المدح ، أي وأعني المقيمين» وذكر له شواهد وأمثلة من كلام العرب (4).
قال الآلوسي : «ولا يُلْتَفَت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن ، وأنّ
____________
(1) التفسير الكبير 23 : 196 .
(2) البحر المحيط 6 : 445 .
(3) الاتقان 2 : 320 .
(4) الكتاب 1 : 288 ـ 291 .

( 78 )
الصواب (والمقيمون) بالواو.. إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً ، فلا يجوز اللحن فيه أصلاً» (1).
وأمّا قوله تعالى : ( والصابئون )بالرفع فهو معطوفٌ على محلّ اسم إنّ.
قال الفراء : «ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يتبيّن فيه الاِعراب ، كالمضمر والموصول ، ومنه قول الشاعر :

فمن يكُ أمسى بالمدينة رحله * فإنّي وقيارٌ بها لغريبَ

برفع (قيار) عطفاً على محلّ ياء المتكلّم» (2)وقد أجاز الكوفيون والبصريون الرفع في الآية واستدلّوا بنظائر من كلام العرب .
وقال صاحب المنار : «قد تجرأ بعض أعداء الاِسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ، وعدّ رفع (الصابئين) هنا من هذا الغلط ، وهذا جمعٌ بين السخف والجهل ، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو ، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ، ولم تستنبط اللغة منه» (3).
وأمّا قوله تعالى : ( إنّ هَذانِ لَسَاحِرانِ ) فإنّ القراءة التي عليها جمهور المسلمين هي تخفيف إن المكسورة الهمزة ، فتكون مخففةٌ من الثقيلة غير عاملةٍ ، ورفع (هذان) .

____________
(1) روح المعاني 6 : 13 .
(2) معاني القرآن 1 : 310 ، مجمع البيان 3 : 346 ، صيانة القرآن من التحريف : 183 .
(3) تفسير المنار 6 : 478 .

( 79 )
قال الزمخشري : «إنّ هذان لساحران على قولك : إنّ زيد لمنطلق ، واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة» (1)، وعليه فلا إشكال في هذه الآية ، ولا لحن من الكُتّاب !
قال الرازي : «لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن ، فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر ، وإلى القدح في كلِّ القرآن ، وإنّه باطل» (2).
الرابعة : روي أنّ الحجاج بن يوسف غيّر في المصحف اثني عشر موضعاً ، منها :
1 ـ كانت في سورة البقرة2: 59 (لم يَتَسَنَّ) فغيّرها ( لم يَتَسَنَّه ) بالهاء.
2 ـ وكانت في سورة المائدة 4: 48(شريعةً ومنهاجاً) فغيّرها ( شِرعةً ومنهاجاً ) .
3 ـ وكانت في سورة يونس 10: 22(هو الذي ينشركم) فغيّرها ( هو الذي يسيّركم ) (3).

وهذه الاَمثلة ، وسواها منقولةٌ من (مصاحف السجستاني) برواية عباد ابن صهيب (4)، وعباد متروك الحديث لدى أئمّة الحديث والجرح
____________
(1) الكشاف 3 : 72 .
(2) التفسير الكبير 22 : 75 .
(3) الفرقان : 50 .
(4) المصاحف : 49 .

( 80 )
والتعديل ، ومغموزٌ فيه بالكذب والاختلاق (1).
قال السيد الخوئي : «هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين وخرافات المجانين والاَطفال ، فإنّ الحجّاج واحدٌ من ولاة بني أُمية ، وهو أقصر باعاً وأصغر قدراً من أن ينال القرآن بشيءٍ ، بل هو أعجز من أن يغيّر شيئاً من الفروع الاِسلامية ، فكيف يغير ماهو أساس الدين وقوام الشريعة ؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الاِسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها ؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع مافيه من الاَهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ؟ وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ؟ وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج وانتهاء سلطته ؟ وهب أنّه تمكّن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذّ عن قدرته نسخةٌ واحدةٌ من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكّن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلاّ الله» (2)، وقد بيّنا في أدلّة نفي التحريف أنّ خلفاء الصدر الاَول لم يجرأوا على حذف حرفٍ منه ، وقد بلغ من دقّة وتحرّي المسلمين أن يهدّدوا برفع السيف في وجه من يُقدِم على ذلك ، فكيف يتمكّن الحجّاج بعد اشتهار القرآن وتعدّد نسخه وحفّاظه أن يغيّر اثني عشر موضعاً من كتاب الله على مرأى ومسمع جمهور المسلمين ومصاحفهم ؟!

الطائفة الثالثة : الروايات الدالّة على الزيادة .

____________
(1) أُنظر المغني 2 : 326 | 3037 .
(2) البيان في تفسير القرآن : 219 .

( 81 )
1 ـ روي عن عبدالرحمن بن يزيد أنّه قال : «كان عبدالله بن مسعود يحكّ المعوذتين من مصحفه ، ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله» (1).
2 ـ وروي عن عبدالله بن مسعود أنّه لم يكتب الفاتحة في مصحفه ، وكذلك أُبي بن كعب (2). تقدّم في معنى التحريف أنّ التحريف بالزيادة في القرآن مجمعٌ على بطلانه ، لاَنّه يفضي إلى التشكيك في كتاب الله المتواتر يقيناً كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً ، ومن ينكر شيئاً من القرآن فإنّه يخرج عن الدين ، والنقل عن ابن مسعود غير صحيحٍ ، ومخالفٌ لما أجمع عليه المسلمون منذ عهد الرسالة وإلى اليوم من أنّ الفاتحة والمعوذتين من القرآن العزيز .

والرأي السائد بين العلماء في هاتين الروايتين هو إنكار نسبتهما إلى ابن مسعود، وقالوا: «إن النقل عنه باطل ومكذوب عليه» كما صرّح به الرازي وابن حزم والنووي والقاضي أبو بكر والباقلاني وابن عبد الشكور وابن المرتضى وغيرهم (3)، وقال الباقلاني : «إنّ الرواية شاذّة ومولّدة» (4) واستدلّوا على الوضع في هاتين الروايتين بما روي من قراءة عاصم عن زرّ ابن حبيش عن عبدالله بن مسعود ، وفيها الفاتحة والمعوذتين ، فلو كان
____________
(1) مسند أحمد 5 : 129 ، الآثار 1 : 33 ، التفسير الكبير 1 : 213 ، مناهل العرفان 1 : 268 ، الفقه على المذاهب الاَربعة 4 : 258 ، مجمع الزوائد 7 : 149 .
(2) الجامع لاحكام القرآن 20 : 251 ، الفهرست لابن النديم : 29 ، المحاضرات 2 : 4 | 434 ، البحر الزخّار 249 .
(3) التفسير الكبير 1 : 213 ، فواتح الرحموت بهامش المستصفى 2 : 9 ، الاتقان 1 : 79 ، البحر الزخّار 2 : 249 ، المحلّى 1 : 13 .
(4) اعجاز القرآن بهامش الاتقان 2 : 194 .

( 82 )
ينكر كون هذه السور من القرآن ، لما قرأهما لزر بن حبيش، وطريق القراءة صحيح عند العلماء (1).
وقيل : إنّ ابن مسعود أسقط المعوذتين من مصحفه إنكاراً لكتابتهما ، لا جحداً لكونها قرآناً يُتلى ، أو لاَنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين عليهما السلام ، فظنّ أنّهما ليستا من القرآن ، فلمّا تبيّن له قرآنيتهما بعدُ ، وتمَّ التواتر ، وانعقد الاجماع على ذلك ، كان في مقدمة من آمن بأنّهما من القرآن فقرأهما لزرّ بن حبيش ، وأخذهما عاصم عن زرّ (2).

____________
(1) أُنظر البرهان للزركشي 2 : 128 ، شرح الشفاء للقاري 2 : 315 ، فواتح الرحموت 2 : 9 ، مناهل العرفان 1 : 269 ، المحلى 1 : 13 .
(2) شرح الشفاء 2 : 315 ، مناهل العرفان 1 : 269 .

( 83 )


جمع القرآن

مراحل جمع القرآن :
المتحصّل من جميع الروايات الواردة في جمع القرآن أنّ مراحل الجمع ثلاث :
الاَُولى :بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفظاً وكتابةً، حيثُ حُفِظ في الصدور، وكُتِب على السطور في قراطيس وألواح من الرقاع والعسب واللخاف والاكتاف وغيرها . أخرج الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين، عن زيد بن ثابت، قال : «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف ـ أي : نكتب ـ القرآن من الرقاع» (1)
الثانية : على عهد أبي بكر ، وذلك بانتساخه من العسب والرقاع وصدور الرجال وجعله في مصحفٍ واحد .
الثالثة : ترتيب السور على عهد عثمان بن عفّان ، وحمل الناس على قراءة واحدة ، وكتب منه عدّة مصاحف أرسلها إلى الاَمصار ، وأحرق باقي المصاحف .

____________
(1) المستدرك 2 : 611 .

( 84 )

( 85 )

جمع القرآن وشبهة التحريف
إنّ موضوع جمع القرآن من الموضوعات التي أُثيرت حولها الشبهات ، ودُسَّت فيها الروايات ، وتذرّع بها القائلون بالتحريف فزعموا أنّ في القرآن تحريفاً وتغييراً ، وأنّ كيفية جمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستلزمةٌ في العادة لوقوع هذا التحريف والتغيير فيه ، حيثُ إنّ العادة تقتضي فوات شيءٍ منه على المتصدّي لذلك إذا كان غير معصوم .
قال الرافعي : «ذهب جماعة من أهل الكلام ممّن لا صناعة لهم إلاّ الظنّ والتأويل واستخراج الاَساليب الجدلية من كلِّ حكمٍ ومن كلِّ قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيءٌ حملاً على ماوصفوه من كيفية جمعه» (1).
إنّ امتداد زمان جمع القرآن إلى مابعد حروب اليمامة ، كما نطقت به الروايات ، وتضارب الاَخبار الواصفة لطريقة جمعه ، أثارا الشبهة لدى الكثيرين ، فعن الثوري أنّه قال : «بلغنا أنّ أُناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقرأون القرآن ، أُصيبوا يوم مسيلمة ، فذهبت حروف من القرآن» (2).
إنّ حقيقة جمع القرآن في عهد الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم تُعدّ من الحقائق التاريخية الناصعة ، التي لا تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء وإثارة الشبهات ، وتعدّ أيضاً ضرورةً ثابتةً تاريخياً دامغةً لكلّ الاَقاويل والشبهات، ولكل مادُسّ من الاَخبار والروايات حول هذه المسألة .

____________
(1) اعجاز القرآن : 41 .
(2) الدر المنثور 5 : 179 .

( 86 )

( 87 )

أدلّة جمع القرآن في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

أجمع علماء الاِمامية على أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك دنياه إلى آخرته إلاّ بعد أن عارض مافي صدره بما في صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وبما في مصاحف الذين جمعوا القرآن في عهده صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد اعتُبِر ذلك بحكم ما علم ضرورة ، ويوافقهم عليه جمعٌ كبيرٌ من علماء أهل السنة، وجميع الشواهد والاَدلة والروايات قائمةٌ على ذلك ، واليك بعضها :
1 ـ اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بحفظ القرآن وتعليمه وقراءته وتلاوة آياته بمجرد نزولها ، وممّا روي من الحثّ على حفظه ، قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه ، أدخله الله الجنّة ، وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار » (1)وفي هذا المعنى وحول تعليم القرآن أحاديث لا تحصى كثرة ، فعن عبادة بن الصامت قال : «كان الرجل إذا هاجره دفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجلٍ منّا يعلّمه القرآن ، وكان لمسجد رسول الله ضجّة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا» (2).
وقد ازداد عدد حُفّاظ القرآن بشكل ملحوظ لتوفر الدواعي لحفظه ،
____________
(1) مجمع البيان 1 : 85 .
(2) مناهل العرفان 1 : 234 ، مسند أحمد 5 : 324 ، تاريخ القرآن للصغير : 80 ، مباحث في علوم القرآن : 121 ، حياة الصحابة 3 : 260 ، مستدرك الحاكم 3 : 356 .

( 88 )
ولما فيه من الحثّ من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاَجر والثواب الذي يستحقّه الحافظ عند الله تعالى ، والمنزلة الكبيرة والمكانة المرموقة التي يتمتّع بها بين الناس ، وحسبك ما يقال عن كثرتهم على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعد عهده أن قُتِل منهم سبعون في غزوة بئر معونة خلال حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وقُتل أربعمائة ـ وقيل : سبعمائة ـ منهم في حروب اليمامة عقيب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، وحسبك من كثرتهم أيضاً أنّه كان منهم سيّدة ، وهي أمُّ ورقة بنت عبدالله ابن الحارث ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورها ويسمّيها الشهيدة ، وقد أمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تؤمّ أهل دارها (1).
أمّا حفظ بعض السور فقد كان مشهوراً ورائجاً بين المسلمين ، وكلّ قطعةٍ كان يحفظها جماعة كبيرة أقلّهم بالغون حدّ التواتر ، وقلّ أن يخلو من ذلك رجلٌ أو أمرأةٌ منهم ، وقد اشتدّ اهتمامهم بالحفظ حتى إنّ المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر .
2 ـ لا يرتاب أحدٌ أنّه كان من حول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم كُتّاب يكتبون ما يملي عليهم من لسان الوحي ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد رتّبهم لذلك ، روى الحاكم بسندٍ صحيح عن زيد بن ثابت ، قال : «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع» (2).
وقد نصّ المؤرخون على أسماء كُتّاب الوحي ، وأنهاهم البعض إلى اثنين وأربعين رجلاً ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم كلّما نزل شيءٌ من القرآن أمر بكتابته لساعته ، روى البراء : أنّه عند نزول قوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من
____________
(1) الاتقان 1 : 250 .
(2) المستدرك 2 : 611 .

( 89 )
المؤمنين (النساء4: 95) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ادعُ لي زيداً ، وقُل يجيء بالكتف والدواة واللّوح ، ثمّ قال : اكتب ( لا يستوي...) » (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشرف بنفسه مباشرة على ما يُكْتَب ويراقبه ويصحّحه بمجرد نزول الوحي ، روي عن زيد بن ثابت قال : «كنتُ أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخَذَتْهُ برحاء شديدة... فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة ، فأكتب وهو يُملي عليّ ، فإذا فرغت قال : « اقرأه »، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه ، ثمّ أخرج إلى الناس»(2).
أمّا في مفرّقات الآيات فقد روي عن ابن عباس ، قال : «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا نزل عليه الشيء دعا من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» (3)وذلك منتهى الدقّة والضبط والكمال .
3 ـ روي في أحاديث صحيحة «أنّ جبرئيل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في شهر رمضان، في كلِّ عامٍ مرّة، وأنّه عارضه عام وفاته مرّتين» (4) وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرض ما في صدره على مافي صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وكان أصحاب المصاحف منهم يعرضون القرآن
____________
(1) كنز العمال 2 : حديث 4340 .
(2) مجمع الزوائد 1 : 152 .
(3) المستدرك 2 : 222 ، الجامع الصحيح للترمذي 5 : 272 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 43 ، البرهان للزركشي 1 : 304 ، مسند أحمد 1 : 57 و 69 ، تفسير القرطبي 1 : 60 .
(4) كنز العمال 12 : حديث 34214 ، مجمع الزوائد 9 : 23 ، صحيح البخاري 6 : 319 .

( 90 )
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فعن الذهبي: «أنّ الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة: عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبدالله بن مسعود ، وأُبي ابن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الاَشعري ، وأبو الدرداء» (1).
وعن ابن قتيبة : «أنّ العرضة الاَخيرة كانت على مصحف زيد بن ثابت»(2)، وفي رواية ابن عبدالبرّ عن أبي ظبيان : «أنّ العرضة الأخيرة كانت على مصحف عبدالله بن مسعود» (3).
4 ـ وفي عديد من الروايات أنّ الصحابة كانوا يختمون القرآن من أوله إلى آخره ، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد شرّع لهم أحكاماً في ذلك ، وكان يحثّهم على ختمه ، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « إنّ لصاحب القرآن عند كلِّ ختم دعوةً مستجابةٍ » (4). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من قرأ القرآن في سبعٍ فذلك عمل المقربين ، ومن قرأه في خمسٍ فذلك عمل الصدّيقين » (5). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من شهد فاتحة الكتاب حين يستفتح كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله ، ومن شهد خاتمته حين يختمه كان كمن شهد الغنائم»(6).
ومعنى ذلك أنّ القرآن كان مجموعاً معروفاً أوّله من آخره على عهد
____________
(1) البرهان للزركشي 1 : 306 .
(2) المعارف : 260 .
(3) الاستيعاب 3 : 992 .
(4) كنز العمال 1 : 513حديث 2280 .
(5) كنز العمال 1 : 538حديث 2417 .
(6) كنز العمال 1 : 524حديث 2430 .

( 91 )
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فعن محمد بن كعب القرظي ، قال : «كان ممّن يختم القرآن ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيّ : عثمان ، وعليّ ، وعبدالله بن مسعود» (1).
وقال الطبرسي : «إنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأُبي ابن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عدّة ختمات» (2).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم « أنّه قد أمر عبدالله بن عمرو بن العاص بأن يختم القرآن في كلِّ سبع ليالٍ ـ أو ثلاث ـ مرّة ، وقد كان يختمه في كل ليلة » (3). وأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن المنذر أن يقرأ القرآن في ثلاث ، فكان يقرؤه كذلك حتى تُوفي (4).
5 ـ كان الصحابة يدوّنون القرآن في صحف وقراطيس ولا يكتفون بالحفظ والتلاوة ، فلعلك قرأت ما روي في إسلام عمر بن الخطّاب «أنّ رجلاً من قريش قال له : اختك قد صبأت ؛ أي خرجت عن دينك ، فرجع إلى اخته ودخل عليها بيتها ، ولطمها لطمة شجّ بها وجهها ، فلمّا سكت عنه الغضب نظر فإذا صحيفةٌ في ناحية البيت ، فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم * سبّح لله مافي السموات والاَرض وهو العزيز الحكيم... (الحديد57: 1) واطّلع على صحيفة أُخرى فوجد فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم * طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى...) (طه20: 1) فأسلم بعدما وجد نفسه
____________
(1) الجامع لاَحكام القرآن 1 : 58 .
(2) مجمع البيان 1 : 84 .
(3) سنن الدارمي 2 : 471 ، سنن أبي داود 2 : 54 ، الجامع الصحيح للترمذي 5 : 196 ، مسند أحمد 2 : 163 .
(4) مجمع الزوائد 7 : 171 .

( 92 )
بين يدي كلامٍ معجزٍ ليس من قول البشر» (1)، وهذا يدلّ على أنهم كانوا يكتبون بإملاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن هذا المكتوب كان يتناقله الناس .
6 ـ جمع القرآن طائفة من الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هم أربعة على ما في رواية عبدالله بن عمرو ، وأنس بن مالك (2)، وقيل : خمسة كما في رواية محمد بن كعب القرظي (3)، وقيل : ستة كما في رواية الشعبي (4)، وكذا عدّهم ابن حبيب في (المحبّر) (5)، وأنهاهم ابن النديم في (الفهرست) إلى سبعة (6)، وليس المراد من الجمع هنا الحفظ ، لاَنّ حفّاظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أكثر من أن تُحصى أسماؤهم في أربعة أو سبعة ، كما تقدّم بيانه في الدليل الاَول ، وفيما يلي قائمة بأسماء جُمّاع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي حصيلةٌ من جميع الروايات الواردة بهذا الشأن ؛ وهم :
1 ـ أُبي بن كعب . 2 ـ أبو أيوب الاَنصاري . 3 ـ تميم الداري . 4 ـ أبو الدرداء . 5 ـ أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان . 6 ـ زيد بن ثابت . 7 ـ سالم
____________
(1) الموسوعة القرآنية 1 : 352 .
(2) مناهل العرفان 1 : 236 ، الجامع لاَحكام القرآن 1 : 56 ، أُسد الغابة 4 : 216 ، الجامع الصحيح 5 : 666 .
(3) طبقات ابن سعد 2 : قسم 2 | 113 ، فتح الباري 9 : 48 ، مناهل العرفان 1 : 237 ، حياة الصحابة 3 : 221 .
(4) طبقات ابن سعد 2 : قسم 2 | 112 ، البرهان للزركشي 1 : 305 ، الاصابة 2 : 50 ، مجمع الزوائد 9 : 312 .
(5) المحبر : 286 .
(6) الفهرست : 41 .

( 93 )
مولى أبي حذيفة . 8 ـ سعيد بن عبيد بن النعمان ، وفي الفهرست : سعد . 9 ـ عبادة بن الصامت . 10 ـ عبدالله بن عمرو بن العاص . 11 ـ عبدالله بن مسعود . 12 ـ عبيد بن معاوية بن زيد . 13 ـ عثمان بن عفان . 14 ـ عليّ بن أبي طالب . 15 ـ قيس بن السكن . 16 ـ قيس بن أبي صعصعة بن زيد الانصاري . 17 ـ مجمع بن جارية . 18 ـ معاذ بن جبل بن أوس . 19 ـ أُمّ ورقة بنت عبدالله بن الحارث ، وبعض هؤلاء كان لهم مصاحف مشهورة كعليّ عليه السلام وعبدالله بن مسعود .
7 ـ إطلاق لفظ الكتاب على القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته الكريمة ، ولا يصحّ إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور ، بل لابدّ أن يكون مكتوباً مجموعاً ، وكذا ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله ، وعترتي » (1)، وهو دليلٌ على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد تركه مكتوباً في السطور على هيئة كتاب .
8 ـ تفيد طائفة من الاَحاديث أنّ المصاحف كانت موجودة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الصحابة ، بعضها تامّ وبعضها ناقص ، وكانوا يقرأونها ويتداولونها ، وقرر لها الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم طائفةً من الاَحكام ، منها :
عن أوس الثقفي ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك ألفي درجة » (2).

____________
(1) صحيح مسلم 4 : 1873 ، سنن الترمذي 5 : 662 ، سنن الدارمي 2 : 431 ، مسند أحمد 4 : 367 و 371 و 5 : 182 ، المستدرك 3 : 148 .
(2) مجمع الزوائد 7 : 165 ، البرهان للزركشي 1 : 545 .

( 94 )
وعن عائشة، عن رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم قال: « النظر في المصحف عبادة »(1)
وعن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « أديموا النظر في المصحف » (2).
وعن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أعطوا أعينكم حظّها من العبادة ، قالوا : وما حظّها من العبادة ، يا رسول الله ؟ قال : النظر في المصحف ، والتفكّر فيه ، والاعتبار عند عجائبه » (3).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « أفضل عبادة أُمّتي تلاوة القرآن نظراً » (4).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « من قرأ القرآن نظراً مُتّع ببصره مادام في الدنيا » (5). وكلّ هذه الروايات تدلّ على أنّ إطلاق لفظ المصحف على الكتاب الكريم لم يكن متأخّراً إلى زمان الخلفاء ، كما صرحت به بعض الروايات ، بل كان القرآن مجموعاً في مصحف منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
ونزيد على ماتقدّم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لديه مصحف أيضاً ، ففي حديث عثمان بن أبي العاص حين جاء وفد ثقيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عثمان : «فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته مصحفاً كان عنده
____________
(1) البرهان للزركشي 1 : 546 .
(2) مجمع الزوائد 7 : 171 .
(3) كنز العمال 1 : حديث 2262 .
(4) كنز العمال 1 : حديث 2265 و 2358 و 2359 .
(5) كنز العمال 1 : حديث 2407 .

( 95 )
فأعطانيه» (1)، بل وترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصحفاً في بيته خلف فراشه ـ لاحسبما صرحت به بعض الروايات ـ مكتوباً في العسب والحرير والاَكتاف، وقد أمر عليّاً عليه السلام بأخذه وجمعه ، قال الاِمام عليّ عليه السلام : «آليت بيمينٍ أن لا أرتدي برداء إلاّ إلى الصلاة حتّى أجمعه » (2). فجمعه عليه السلام ، وكان مشتملاً على التنزيل والتأويل ، ومرتّباً وفق النزول على ما مضى بيانه .
وجميع ما تقدّم أدلّةٌ قاطعة وبراهين ساطعة على أنّ القرآن قد كتب كله على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدويناً في السطور علاوة على حفظه في الصدور ، وكان له أوّل وآخر ، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يشرف بنفسه على وضع كلّ شيءٍ في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه ، إذن فكيف يمكن أن يقال إنّ جمع القرآن قد تأخّر إلى زمان خلافة أبي بكر ، وإنّه احتاج إلى شهادة شاهدين يشهدان أنّهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

____________
(1) مجمع الزوائد 9 : 371 ، حياة الصحابة 3 : 244 .
(2) كنز العمال 2 : حديث 4792 .

( 96 )

( 97 )

جمع القرآن في عهد أبي بكر وعمر

تتضارب الاَخبار حول جمع القرآن في هذه المرحلة حتى تكاد أن تكون متكاذبة ، وفيما يلي نورد بعضها لنبيّن مدى تناقضها ومخالفتها للاَدلة التي ذكرناها آنفاً :
1 ـ عن زيد بن ثابت ، قال : «أرسل إليِّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : إنّ عمر أتاني ، فقال : إنّ القتل استمرّ بقُرّاء القرآن ، وإنّي أخشى أن يستمرّ القتل بالقُرّاء في المواطن ، فيذهب كثيرٌ من القرآن ، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن ، فقلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال عمر : هو والله خير . فلم يزل يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر . قال زيد : قال أبو بكر : إنّك شابّ عاقل ، لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتتبّع القرآن فاجمعه ـ فو الله لو كلّفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمرني به من جمع القرآن ـ قلت : كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : هو والله خير . فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر . فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الاَنصاري ، لم أجدها مع غيره ( لقد جاءكم رسول...) (التوبة 9: 128) حتّى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله ، ثمّ عند عمر حياته ، ثمّ عند حفصة بنت عمر» (1).

____________
(1) صحيح البخاري 6 : 314 | 8 .

( 98 )
2 ـ وعن زيد بن ثابت أيضاً ، قال : «قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء» (1).
3 ـ ورُوي «أنّ أوّل من سمّى المصحف مصحفاً حين جمعه ورتّبه أبو بكر ـ وفي رواية : سالم مولى أبي حذيفة (2)ـ وكان مفرّقاً في الاَكتاف والرقاع . فقال لاَصحابه : التمسوا له اسماً . فقال بعضهم : سمّوه إنجيلاً ، فكرهوه . وقال بعضهم : سمّوه السفر ، فكرهوه من يهود . فقال عبدالله بن مسعود : رأيتُ للحبشة كتاباً يدعونه المصحف ، فسمّوه به» (3).
4 ـ وعن محمد بن سيرين : «قُتِل عمر ولم يجمع القرآن» (4).
5 ـ وعن الحسن : «أنّ عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان ، فقُتِل يوم اليمامة ، فقال : إنّا لله ، وأمر بالقرآن فجمع، فكان أوّل من جمعه في المصحف» (5).

هذه طائفةٌ من الروايات الواردة بهذا الخصوص ، والملاحظ أنّ شبهة القول بالتحريف التي ذكرناها في أوّل بحث جمع القرآن مبتنيةٌ على فرض صحّة أمثال هذه الروايات الواردة في كيفية جمع القرآن ، والملاحظ أنّه
____________
(1) الاتقان 1 : 202 .
(2) الاتقان 1 : 205 .
(3) مستدرك الحاكم 3 : 656 ، تهذيب تاريخ دمشق 4 : 69 ، محاضرات الادباء مجلد 2 ج4 ص 433 ، فتح الباري 9 : 13 ، تاريخ الخلفاء : 77 ، مآثر الانافة 1 : 85 ، البرهان للزركشي 1: 281 ، التمهيد في علوم القرآن 1 : 246 ، المصاحف : 11 ـ 14 .
(4) طبقات ابن سعد 3 : 211 ، تاريخ الخلفاء : 44 .
(5) الاتقان 1 : 204 .

( 99 )
لايمكن الاعتماد على شيءٍ منها ، وقد اعترف محمد أبو زهرة بوجود رواياتٍ مدسوسةٍ فيها ، والقارىء لهذه الروايات وسواها يتلمّس نقاط ضعفها على الوجه التالي :
1 ـ اضطراب هذه الروايات وتناقضها ، فصريح بعضها أنّ جمع القرآن في مصحف كان في زمان أبي بكر ، والكاتب زيد ، وأنّ آخر براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت ، فقال أبو بكر : «اكتبوها ، فإنّ رسول الله قد جعل شهادته بشهادة رجلين» (1)، وظاهر بعض هذه الروايات أنّ الجمع كان في زمان عمر ، وأنّ الآتي بالآيتين خزيمة بن ثابت ، والشاهد معه عثمان ، وفي حديث آخر : «جاء رجلٌ من الاَنصار وقال عمر : لا أسألك عليها بيّنة أبداً ، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » (2). وفي غيره : فقال زيد : من يشهد معك ؟ قال خزيمة : لا والله ما أدري . فقال عمر : أنا أشهد معه» (3). وظاهر بعض هذه الروايات أيضاً أنّ الجمع تأخّر إلى زمان عثمان بن عفان.
واضطربت الروايات في الذي تصدّى لمهمّة جمع القرآن زمن أبي بكر ، ففي بعضها أنّه زيد بن ثابت ، وفي أُخرى أنّه أبو بكر نفسه وإنّما طلب من زيد أن ينظر فيما جمعه من الكتب ، ويظهر من غيرها أنّ المتصدّي هو زيد وعمر ، وفي أُخرى أن نافع بن ظريب هو الذي كتب المصاحف لعمر» (4).

____________
(1) الاتقان 1 : 206 .
(2) كنز العمال 2 : ح 4397 .
(3) كنز العمال 2 : ح 4764 .
(4) أُنظر منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2 : 43 ـ 52 ، وأُسد الغابة : ترجمة نافع بن ظريب.

( 100 )
2 ـ لا تصحّ الرواية الثالثة ؛ لاَنّ المصاحف واستحداث لفظها لم يكن في زمان أبي بكر ، بل هي موجودة منذ زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، واستخدمت هذه المفردة لهذا المعنى ، وهو القرآن الذي بين الدفّتين ، منذ فجر الرسالة كما تقدّم بيانه ، وتقول هذه الرواية أنّ كلمة (مصحف) حبشيّة ، بل هي عربية أصيلة ، ولسان الحبشة لم يكن عربياً ، ثمّ إنّهم لماذا تحيّروا في تسمية كتاب الله وهو تعالى سمّاه في محكم التنزيل قرآناً وفرقاناً وكتاباً .
3 ـ الملاحظ أنّ هذه الروايات تؤكّد على أنّ جمع القرآن كان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدّم بطلان ذلك ؛ لاَنّه كان مؤلّفاً مجموعاً على عهده صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بالمصاحف ويختم ، وكان له كُتّاب مخصوصون يتولون كتابته وتأليفه بحضرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشرف على أعمالهم بنفسه ، وكان لدى الصحابة مصاحف كثيرة شُرّعت فيها بعض السنن ، وكانوا يعرضون على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما عندهم باستمرار ، وكان كثير من الصحابة قد جمعوا القرآن في حياته صلى الله عليه وآله وسلم .

4 ـ هذه الروايات مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبةً من أنّ القرآن لا طريق لاِثباته إلاّ التواتر ، فإنّها تقول إنّ إثبات بعض آيات القرآن حين الجمع كان منحصراً بشهادة شاهدين أو بشهادة رجلٍ واحدٍ ، ويلزم من هذا أن يثبت القرآن بخبر الواحد أيضاً ، وهي دعوى خطيرةٌ لا ريب في بطلانها ، إذ القطع بتواتر القرآن سببٌ للقطع بكذب هذه الروايات أجمع وبوجوب طرحها وإنكارها ؛ لاَنّها تثبت القرآن بغير التواتر ، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين ، فهذه الروايات باطلة مادامت تخالف ما هو ثابت بالضرورة .

( 101 )
وإذا سلّمنا بصحة هذه الروايات ، فإننا لا نشك في أنّ جمع زيد بن ثابت للمصحف كان خاصّاً للخليفة ، لاَنّه لا يملك مصحفاً تاماً ، لا لعموم المسلمين ، لاَنّ الصحابة من ذوي المصاحف قد احتفظوا بمصاحفهم مع أنّها تختلف في ترتيبها عن المصحف الذي جمعه زيد ، وكان أهل الاَمصار يقرأون بهذه المصاحف ، فلو كان هذا المصحف عاماً لكلِّ المسلمين لماذا أمر أبو بكر زيداً وعُمَرَ بجمعه من اللخاف والعسب وصدور الرجال ؟ وكان بإمكانه أخذه تاماً من عبدالله بن مسعود الذي كان يملي القرآن عن ظهر قلب في مسجد الكوفة ، والذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : «إذا أردتم أن تأخذوا القرآن رطباً كما أُنزل ، فخذوه من ابن أُمّ عبد ـ أي من عبدالله بن مسعود ـ» (1).. والذي يروي عنه أنّه قال عندما طلب منه تسليم مصحفه أيام عثمان : «أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة ، وإنّ زيد بن ثابت لذو ذؤابة يلعب مع الغلمان» (2). .
وبإمكانه أن يأخذه تامّاً من الاِمام عليّ عليه السلام الذي استودعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ، وطلب منه جمعه عقيب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، فجمعه وجاء به إليهم ، فلم يقبلوه منه (3) ، وما من آيةٍ إلاّ وهي عنده بخطّ يده وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : «ما رأيت ابن أنثى أقرأ لكتاب الله تعالى من عليّ عليه السلام » (4).
وبإمكانه أن يأخذه من أُبي بن كعب الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
____________
(1) مستدرك الحاكم 3 : 318 ، مجمع الزوائد 9 : 287 ، مسند أحمد 1 : 445 .
(2) الاستيعاب 3 : 993 .
(3) الاحتجاج 1 : 383 ، البحار 92 : 40 .
(4) الغدير 6 : 308 عن مفتاح السعادة 1 : 351 ، وطبقات القراء 1 : 546 .

( 102 )
«أقرأهم أُبي بن كعب » . أو قال : « أقرأ أُمّتي أُبي بن كعب » (1). أو يأخذه من الاَربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس بأخذ القرآن عنهم ، وهم : عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأُبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل (2)، وكانوا أحياءً عند الجمع ، أو يأخذه من ابن عباس حبر الاَُمّة وترجمان القرآن بلا خلاف .
ولو سلّمنا أنّ جامع القرآن في مصحف هو أبو بكر في أيام خلافته ، فلاينبغي الشكّ في أنّ كيفية الجمع المذكورة بثبوت القرآن بشهادة شاهدين مكذوبةٌ ؛ لاَنّ جمع القرآن كان مستنداً إلى التواتر بين المسلمين، غاية الاَمر أنّ الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظاً في الصدور على نحو التواتر .

____________
(1) الاستيعاب 1 : 49 ، أُسد الغابة 1 : 49 ، الجامع الصحيح 5 : 665 ، الجامع لاحكام القرآن 1 : 82 ، مشكل الآثار 1 : 350 .
(2)صحيح البخاري 5 : 117 | 294 ، مجمع الزوائد 9 : 311 .

( 103 )

جمع القرآن في عهد عثمان

روى البخاري عن أنس : «أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال لعثمان : أدرك الاَُمّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى . فأرسل إلى حفصة : أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردّها إليك ؛ فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف . وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن ، فأكتبوه بلسان قريش ، فإنّه إنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كلّ أُفقٍ بمصحف ممّا نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ ومصحفٍ أن يحرق . قال زيد : فقدت آية من الاَحزاب حين نسخنا المصحف ، قد كنتُ أسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الاَنصاري : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) (الاحزاب33: 23) فألحقناها في سورتها في المصحف» (1).
وهناك صور مختلفة وألفاظ شتّى لهذه الرواية ، والملاحظ عليها جميعاً :

____________
(1) صحيح البخاري 6 : 315 | 9 .

( 104 )
1 ـ كيف تفقد آية من سورة الاَحزاب ، وقد اعتمد عين الصحف المودعة عند حفصة ، والكاتب في الزمانين هو زيد بن ثابت ؟ وقد كانت النسخة المعتمدة أصلاً كاملة إلاّ آخر براءة ـ كما تقدم ـ فهل كان الجمع الاَوّل فاقداً لهذه الآية التي من الاَحزاب ولسواها ؟ أم أنّهم لم يعتمدوا النسخة التي عند حفصة ؟ وهل ليس ثمة مصاحف وحفّاظ لهذه الآية إلاّ رجل واحد ؟! من هذه الرواية وسواها تسرب الشكّ وبرزت الشبهة للذين يحلو لهم القول بتحريف القرآن ، وقد رأيت أنّ مستندهم ضعيفٌ متهافتٌ لا يمكن الاعتماد عليه ، ولا أدري هل من قبيل المصادفة أنّ الآية تضيع في زمان أبي بكر وتوجد عند خزيمة بن ثابت ، وتضيع غيرها في زمان عثمان وتوجد عند خزيمة أيضاً ، فهل كان خزيمة معدوداً في الذين جمعوا القرآن ، أو الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ القرآن عنهم ؟
2 ـ هذه الرواية ومثيلاتها مضطربةٌ في تعيين من تولى الكتابة لمصحف عثمان ، وكذا الذي تولّى الاِملاء ، فصريح بعض الروايات أنّ عثمان عيّن للكتابة زيداً وابن الزبير وسعيداً وعبدالرحمن ، وصريح بعضها الآخر أنّه عيّن زيداً للكتابة ، وسعيداً للاِملاء ، وصريح بعضها أنّ المملي كان أُبي بن كعب ، وأنّ سعيداً كان يعرب ما كتبه زيد ، وفي بعضها أنّه عيّن رجلاً من ثقيف للكتابة ، وعين رجلاً من هذيل للاِملاء ، وعن مجاهد : «أنّ المملي أُبي بن كعب ، والكاتب زيد بن ثابت ، والذي يعربه سعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث» (1).
3 ـ الملاحظ في جميع هذه الروايات ، وكذا في الرواية المذكورة آنفاً ،
____________
(1) أُنظر منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2 : 43 ـ 52 .

( 105 )
أنّ زيد بن ثابت قد اعتمد رجلاً واحداً في الشهادة على الآية ، وهو أمر باطلٌ ؛ لاَنّه مخالف لتواتر القرآن الثابت بالضرورة والاجماع بين المسلمين.
ونحن لا نريد التشكيك في أنّ عثمان قد أرسل عدّة مصاحف إلى الآفاق ، وقد جعل فيها عين القرآن المتواتر بين المسلمين إلى اليوم ، ولكنّنا نخالف كيفية الجمع التي وصفتها الاَخبار ونكذّبها ؛ لاَنّها تطعن بضرورة التواتر القاطع ، ولا يشكّ أحد أنّ القرآن كان مجموعاً ومكتوباً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومدوناً قبل عهد عثمان بزمنٍ طويل ، غاية مافي الاَمر أنّ عثمان قد جمع الناس على قراءةٍ واحدةٍ ، وهي القراءة المتعارفة بينهم والمتواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعهم من سائر القراءات الاَُخرى التي توافق بعض لغات العرب ، وأحرق سائر المصاحف التي تخالف القراءة المتواترة ، وكتب إلى الاَمصار أن يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة .
قال الحارث المحاسبي : «المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجهٍ واحدٍ ، على اختيارٍ وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والانصار ، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات» (1).
ولم ينتقد أحدٌ من المسلمين عثمان على جمعه المسلمين على قراءةٍ واحدةٍ ؛ لاَنّ اختلاف القراءة يؤدّي إلى اختلاف بين المسلمين لا تحمد عقباه ، وإلى تمزيق صفوفهم وتفريق وحدتهم وتكفير بعضهم بعضاً ، غاية
____________
(1) الاتقان 1 : 211 .

( 106 )
ما قيل فيه هو إحراقه بقية المصاحف حتى سمّوه : حَرّاق المصاحف ، حيث أصرّ البعض على عدم تسليم مصاحفهم كابن مسعود .
وقد نقل في كتب أهل السنة تأييد أمير المؤمنين الامام عليّ عليه السلام لما فعله عثمان من جمع المسلمين على قراءةٍ واحدةٍ ، حيث أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) عن سويد بن غفلة قال : قال عليّ رضي الله عنه : « لا تقولوا في عثمان إلاّ خيراً ، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملاٍَ منّا ؛ قال : ما تقولون في هذه القراءة ؟ فقد بلغني أنّ بعضهم يقول : إنّ قراءتي خيرٌ من قراءتك ، وهذا يكاد يكون كفراً . قلنا : فما ترى ؟
قال : أرى أن يُجْمَع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون خرقة ولااختلاف » . قلنا : فنعم ما رأيت (1)!
وروي أنّه عليه السلام قال : « لو وليّت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان»(2)،
وبعد تأييد أمير المؤمنين عليه السلام وخيار الصحابة المعاصرين لهذا العمل ، بدأ التحوّل تدريجياً إلى المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الآفاق ، فاحتلّت مكانها الطبيعي ، وأخذت بأزمّة القلوب ، وبدأت بقيّة المصاحف التي تخالفها في الترتيب أو التي كُتِب فيها التأويل والتفسير وبعض الحديث والدعاء تنحسر بمرور الاَيام ، أو تصير طعمة للنار ، حتّى أصبحت أثراً بعد عين ، وحفظ القرآن العزيز عن أن يتطّرق إليه أيّ لبس .

____________
(1) فتح الباري 9 : 15 .
(2) البرهان للزركشي 1 : 302 .

( 107 )

الخاتمة

لقد تبيّن من ثنايا البحث أنّ جميع المزاعم التي تذرّع بها المتربصون بالاِسلام للقول بتحريف القرآن الكريم والكيد بكتاب الله العزيز الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي تكفلت العناية الربانيّة بحفظه وصيانته ، قد ذهبت أدراج الرياح ، وما هي إلاّ كرمادٍ بقيعةٍ اشتدّت به الريح في يومٍ عاصفٍ ، من خلال الاَدّلة الحاسمة التي ذكرناها والتي تؤكّد عدم وقوع التحريف في الكتاب الكريم ، وأنّه بقي وسوف يبقى بإذن الله مصوناً من كلِّ ما يوجب الشكّ والريب .
فقد وقف علماء الشيعة وعلماء أهل السنة عموماً من روايات التحريف موقفاً سلبياً ، ورفضوا القول بمضمونها وفنّدوه بما لا مزيد عليه، ورأوا في هذه الاَخبار أنّها أخبار آحاد لا يمكن الاعتماد عليها في أمر يمسّ العقيدة التي لابدّ فيها من الاَدلّة القاطعة والبراهين الساطعة ، ولاتكفي فيها الظنون ولا أخبار الآحاد . هذا بالاضافة إلى وجوه ضعف أُخرى تعاني منها هذه الاَخبار ، سواء من حيث دلالتها ، أو من حيث ظروف صدورها ، أو من حيث مرامي وأهداف وتوجّهات من صدرت عنهم .
وفيما يلي نبين بعض أقوال علماء المسلمين التي تؤيد إجماع كلمة أهل الاِسلام على نفي القول بوقوع التحريف في القرآن الكريم ، وهذه الاَقوال وسواها تقطع الطريق أمام كلّ محاولات الاَعداء المغرضين
( 108 )
والحاقدين ومن عداهم من السذّج والمغفّلين :
1 ـ الشيخ محمد محمد المدني عميد كلية الشريعة في الجامع الاَزهر : «أما أنّ الاِمامية يعتقدون نقص القرآن ، فمعاذ الله ، وإنّما هي روايات رويت في كتبهم ، كما روي مثلها في كتبنا ، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها ، وبينوا بطلانها ، وليس في الشيعة الاِمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك ، كما أنّه ليس في االسنة من يعتقده ، ويستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب (الاتقان) للسيوطي السُنّي ليرى فيه أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحاً ، أفيقال إنّ أهل السنة ينكرون قداسة القرآن ، أو يعتقدون نقص القرآن لروايةٍ رواها فلان ، أو لكتابٍ ألّفه فلان» (1)؟!
2 ـ الاِمام المحقق رحمة الله الهندي : «إنّ المذهب المحقّق عند علماء الفرقة الاِمامية الاَثني عشرية أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ، وأنّه كان مجموعاً مؤلّفاً في عهده صلى الله عليه وآله وسلم وحَفَظه ونَقَله أُلوفٌ من الصحابة» (2).
3 ـ الدكتور محمد التيجاني السماوي : «لو جبنا بلاد المسلمين شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً وفي كل بقاع الدنيا ، فسوف نجد نفس القرآن بدون زيادة ولا نقصان ، وإن اختلف المسلمون إلى مذاهب وفرق وملل ونحل ، فالقرآن هو الحافز الوحيد الذي يجمعهم ، ولا يختلف فيه من الاَُمّة اثنان»(3).

____________
(1) مجلة رسالة الاِسلام ـ القاهرة السنة 11 العدد 44 ص 382 ـ 385 .
(2) الفصول المهمة : 164 ـ 166 .
(3) لاَكون مع الصادقين 168 ـ 176 .

( 109 )
4 ـ السيد عليّ الميلاني : «إنّ المعروف من مذهب أهل السنة هو نفي التحريف عن القرآن الشريف ، وبذلك صرّحوا في تفاسيرهم وكتبهم في علوم القرآن» (1).
5 ـ السيد جعفر مرتضى العاملي : «إنّنا لا يجب أن ننسى الجهد الذي بذله أهل السنة لتنزيه القرآن عن التحريف ، وحاولوا توجيه تلكم الاَحاديث بمختلف الوجوه التي اهتدوا إليها» (2).
وغيرها من الشهادات الضافية التي لو ذكرناها جميعاً لطال بنا المقام ، وجميعها تؤكّد أنّه ليس من أمرٍ أتّفقت عليه كلمة المسلمين مثلما اتّفقت على تنزيه كتاب الله العزيز من كلِّ ما يثير الشكّ والريب قال تعالى : (لايأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَديهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَميدٍ ) (3).


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين



____________
(1) التحقيق في نفي التحريف : 138 .
(2) حقائق هامة : 34 .
(3) فصلت 41: 42.