سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 151 ـ 165
(151)
دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :
    1 ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.
    2 ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.
    ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ... لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين (1).
    وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى 130 عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.
    ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

    هاشم يَتَزوَّج ...
    كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها
1 ـ الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 10 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.

(152)
إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».
    وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».
    وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.
    وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب (1).
    وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه
1 ـ الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 6 ، وتاريخ الطبري : ج 2 ، ص 8 و 9 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 6.

(153)
« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

    5 ـ عبدُ المطّلب :
    عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.
    لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.
    بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.
    وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.
    فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.
    أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.


(154)
    هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة ... واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته » (1) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.
    ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.
    حَفرُ زَمزَم :
    منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة (2).
    ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة
1 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.
2 ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : 96.


(155)
واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.
    ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو و ولده « حارث » مقدمات ذلك.
    وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.
    وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا


(156)
يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح (1) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك » (2).
    فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.
1 ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.
2 ـ تاريخ اليعقوبي : ج 1 ، ص 206 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 142 ـ 147.


(157)
    التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :
    رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.
    وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.
    ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.
    ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.
    ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة (1).
    وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.
    ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.
1 ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

(158)
    فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.
    فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم ؟ قالوا : عشرٌ من الابل.
    فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.
    فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.
    ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع (1).
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 153 ، وبحار الانوار : ج 16 ، ص 74 ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيل ( عليه السلام ) والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيل ( عليه السلام ).

(159)
    حادثة عام الفيل :
    عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.
    فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.
    وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.
    وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.
    ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.
    فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.
    ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.
    ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام 570 وأتفقت فيه


(160)
ولادة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

    ما هي عوامل هذه الحادثة ؟
    لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.
    يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود (1) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.
    ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.
    بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.
    ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.
    يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل
1 ـ وفاء الوفا : ج 1 ، ص 157 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 21 و 22.

(161)
« ذونواس » من قتل في الاُخدود لاجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ يقال له « دوس » فقدم على « قيصر » فاستنصره على « ذي نواس » وجنوده واخبره بما فَعل بهم ، فقال له قيصر : بعدت بلادك عنا ، ولكن ساكتبُ إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم ، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره ، فارسل معه ملكُ الحبشة سبعين الفاً ، وأمّر عليهم رجلا يقال له « أرياط » وفي جنوده « ابرهة الأشرم » فساروا في البحر حتّى نزلوا بساحل اليمن ، وجمع « ذونواس » جنوده فاجتمعوا وكتب إلى زعماء قومه من اهل اليمن يدعوهم إلى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم ، فلم يجيبوه ، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة ، وسيطر الاحباش على أرض اليمن ، وجُعِلَ « أبرهة » اميراً عليها من قِبَل « النجاشي » بعد مقتل « ارياط » على يد « أبرهة » في صراع السلطة (1).
    وهذه القصة هي الّتي تعرف في القرآن الكريم بقصة « اصحاب الاُخدود » وقد جاء ذكرها في سورة البروج إذ يقول اللّه تعالى : « قُتِلَ أصحابُ الاُخدود. النار ذات الوقود. إذْهُم عَليها قُعُودُ. وهُم عَلى ما يَفعَلُون بالْمؤمنين شُهُودٌ. وما نَقمُوا مِنْهُم إلا أَنْ يُؤمنُوا باللّه العزيز الْحَميد. الَّذي لَهُ مُلك السماواتِ وَالارضِ واللّهُ عَلى كُلِّ شَيء شَهِيد » (2).
    وقد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة (3).
    ثم ان « ابرهة » الّذي اسكره الانتصار والغلبة على منافسه ، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّباً إلى ملك الحبشة ، وارضاء له ثم كتب كتاباً إلى « النجاشي » ملك الحبشة يقول فيه : « إني قد بَنيتُ لك ايها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمُنْته حتّى اصرف اليها حج العرب ».
1 ـ الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 260 ـ 263 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 31 ـ 37.
2 ـ البروج : 4 ـ 9.
3 ـ راجع مجمع البيان : ج 5 ، ص 464 ـ 466.


(162)
    وقد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم ، إلى درجة أن امرأة مِن قبيلة « بني افقم » تسللت ذات ليلة إلى تلك الكنيسة واحدثت فيها ، فاثار هذا العمل الّذي كان يدل على مدى ازدراء العرب بكنيسة « أبرهة » واحتقارهم لها ، غضب « أبرهة » ، هذا من جانب ومن جانب آخر كان « ابرهة » كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب ، وحنقهم عليه ، واحتقارهم لكنيسته ، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة وهدمها ، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً ، وقدّم أمامهُ الفِيَلة المقاتلة ، وخرج متوجهاً صوب مكة وهو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام !!
    فلما عرف زعماء العرب بغايته ، وادركوا خطورة ذلك العمل وايقنوا بان استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط ، لم يمنعهم ما عهدوه من قوة « ابرهة » وانتصاراته بل خرج بعضهم إلى حربه فقاتلوه بكل شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد بالخَطر.
    فقد خرج « ذونفر » وهو من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، ودعا قومَه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب « أبرهة » ولكن سرعان ما تغلّب « ابرهة » عليه بجيشه الكبير ، ثم خرج له بعد ذلك « نفيل بن حبيب » وبقي يقاتله مدة طويلة فهزمه « ابرهة » واُخِذَ له اسيراً ، فطلب « نفيل » العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه ، فدلّه نفيل حتّى الطائف ، واوكل الدلالة على بقية الطريق إلى شخص آخر يدعى « ابورغال » فدلّه أبورغال على الطريق حتّى أرض « المغمَّس » وهي منطقة قريبة من « مكة » فنزل « أبرهة » وجيشه بالمغمَّس ، فارسل أبرهة رجلا من الحبشة ـ على عادته ـ إلى ضواحي « مكة » فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب ، ثم امر رجلا آخر يدعى « حُناطة » ليدخل « مكة » ويبلغ أهلها عنه ما جاء من اجله ، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة ، وقال له : سل عن سيد اهل هذا البلد وشريفها ، ثم قل له : ان الملك يقول لك : « إني لم آت لحربكم ، انما جئتُ لهدم هذا البيت ، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في


(163)
دمائكم » ، فإن هو لم يرد حربي فاتني به.
    فدخل « حُناطة » مكة ولما سأل عن سيد قريش و شريفها ، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في امر « ابرهة » وما يجب اتخاذه من موقف تجاهه.
    فدلّوه على بيت « عبد المطلب » ، ولما دخل على « عبد المطلب » أبلغه مقالة « أبرهة9 فقال له عبد المطلب : « واللّه ما نُريدُ حربَه ، وما لَنا بذلك من طاقة ، هذا بيت اللّه الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ( عليه السلام ) ، فان يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وان يخلي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه » ؟
    فسرّ « حناطة » رسول ابرهة بمنطق عبد المطلب ومقالته الّتي كانت تحكي عن قوة ايمانه ، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه إلى « أبرهة » ، قائلا : فانطلق معي إليه فانه قد امرني اَن آتيه بك.

    عَبدُ المطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة :
    فتوجه عبد المطلب هو وجماعة من ولده إلى معسكر ابرهة ، فاعجب « أبرهة » بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً ، وبهر به حتّى أنه نزل له من تخته اجلالا ، واخذ بيده ، واجلسه إلى جنبه ، فسأله عن طريق مترجمه متأدباً : ما الّذي اتى به وماذا يريد ؟ فأجابه عبد المطلب قائلا : حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مائتي بعير أصابها لي.
    فقال « أبرهة » لترجمانه : قل له : قد كنت اعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير اصبتُها لك ، وتترك بيتاً هو دينك و دين آبائك قد جئتُ لهدمه ، لا تكلمني فيه ؟!
    فقال له عبدالمطلبُ : إني أناربُ الإبل ، وان للبيت رباً سيمنعه ، فقال « ابرهة » مغتراً بنفسه : ما كان ليمتنع مني.
    ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها.


(164)
    إنتظار قريش :
    ولقد انتظرت قريش عودة « عبد المطلب » من معسكر « ابرهة » بفارغ الصبر لتعرفَ نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة ، وعندما عاد « عبد المطلب » اخبرهم الخبر ، وامرهم بالخروج معه من مكة ، والتحرز في رؤوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا إلى الشعاب ، والجبال ، ثم لما كان الليل نزل عبد المطلب مع جماعة من قريش إلى الكعبة واخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه على أبرهة و جنده وقال « عبد المطلب » مناجياً اللّه سبحانه : « اللَّهُم أنتَ أنيسُ المستَوْحشين ولا وحشة معك فالبيت ، بيتُك والحرمُ حرمك والدارُ دارُك و نحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء وربُ الدار أولى بالدار » ثم قال :
لاهمّ إن (1) العبد يمنع رَحـ لا يغلِبنَّ صليبُهم ـله فامنع حِلالك (2) ومحالهم عَدواً مِحالَك (3)
    وقال ايضاً :
يا ربِّ لا أرجُولهم سواكا إن عدوَّ البَيتِ مَن عادكا يا ربِّ فامنَع مِنهُمو حِماكا إمَنعهُمُ أن يخربُوا فِناكا
    ثم انه ترك حلقة الباب ، ولجأ إلى الجبل لينظروا ما سيجري.
    وفي الصباح وعندما كان « أبرهة » وجنده يستعدون للتوجه إلى « مكة » ، وإذا باسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار ، حجر في منقاره ، وحجرين في رجليه ، فاظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رؤوس الجند ، وتركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود « ابرهة » بتلك الاحجار بامر اللّه ، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلاّ تحطم رأسَه ، وتمزق لحم بدنه ، وهوى صريعاً ،
1 ـ لاهم أصلها : اللّهم والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي.
2 ـ الحلال جمع حلة وهي جماعة البيوت.
3 ـ المحال : القوّة والشدّة.


(165)
وهلك من توه ، فاصابت واحدةٌ من تلك الاحجار راس « ابرهة » نفسه فارتعدت فرائصه وايقن بغضب اللّه وسخطه عليه ، فنظر إلى جنوده وهم اشلاء مبثوثون هنا وهناك على الأَرض كورَق الشجر في فصل الخريف ، فصاح بِمَن لم يزل على قيد الحياة من جنده بامرهم بأن يتهيّأوا للعودة إلى اليمن ، من حيث أتوا ، فاخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين ، غير أن هذه البقية قد هَلكَتْ شيئاً فشيئاً في اثناء الطريق حتّى أن ابرهة نفسه بعد أن لم يصل إلى صنعاء إلا بعد ان تفرّق لحمُ بدنه ، وسقطت اعضاؤه وجوارحُهُ ومات بصورة عجيبة.
    وقد دَوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة والرهيبة في العالم آنذاك ، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل إذ يقول تعالى : « ألَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيْل. وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أبابيلِ. ترميهِمْ بِحِجارَة مِنْ سَجِّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأكُول ».
    وما ذكرناهُ هنا ـ في هذه الصفحات ـ ليس هو في الحقيقة إلاّ خلاصة ما وَردَ في كتب التاريخ الإسلامي ، وصرح به القرآنُ الكريم (1).
    واستكمالا لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ « محمَّد عبده » والعلامة المعروف الدكتور « هيكل » وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.

    كلمة حول المعجزة :
    لقد أوجدَ التقدم العلميُّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية ، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات ، ضجة عجيبة في الغرب ، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجردَ تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية ، ولم يكن لها أية صلة بالمعتقدات الدينية
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 43 ـ 62 ، والكامل في التاريخ ج 1 ، ص 260 ـ 262 ، وبحار الأنوار : ج 5 ، ص 130 ـ 146.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس