سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 211 ـ 225
(211)
العبادة لهم وتعظيمهم » (1).
    فهذا القول مغالطة صريحة ، ان لم يكن نابعاً عن الغفلة والجهل بعد ان تبين حقيقة الاحتفال واقامة الذكريات احتفاء بالمولد النبويّ (2).

    مَراسمُ تسمية النبيّ صلّى اللّه عليه وآله :
    حلَّ اليومُ السابعُ من الميلاد المبارك ، فعقَّ عبد المطلب عن النبيّ بكبش شكراً للّه تعالى ودعا جماعة ليشتركوا في الاحتفال الّذي حضرهُ عامة قريش لتسمية النبيّ ، وسمّاه « محمَّداً » ، وعندما سألوه عما حَمله على أن يسمي هذا الوليد المبارك « محمَّداً » وهو اسم لم يعرفه العرب الا نادراً أجاب قائلا : أردتُ أن يحمَد في السماء والأَرض (3).
    وإلى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله :
فَشقَّ لَهُ مِنْ إسُمهِ لِيُجلَّهُ فَذُفاء والعَرْشَ مَحْمُودٌ وَهذا محمَّدُ (4)
    ومن المسلّم أن هذا الإختيار لم يكن ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي ، لأَن اسم « محمَّد » وإن كان موجوداً عند العرب إلاّ أنه قَلّ من كان قد تسمى بهذا الإسم ، فحسب ما استقصاه بعضُ المؤرخين لم يتسَم به إلى ذلك اليوم من العرب الاستة عشر شخصاً كما يقول شاعرهم :
إنَ الذينَ سَمُوا باسم محمد مِنْ قَبلِ خير الخَلقِ ضِعف ثمان (5)
    ولا يخفى أن نُدرة المصاديق لأي لفظ من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنِها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه ، وحيث أن الكتب السماوية كانت قد أخبرتْ عن إسم النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته ، وعلائمه الرُوحية والجسمية ، لذلك يجب أن تكون علائمُه صلى الله عليه وآله وسلم واضحةً جداً جداً
1 ـ هوامش الفتح المجيد.
2 ـ راجع للتوسّع : معالم التوحيد في القرآن الكريم.
3 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79.
4 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 120 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79.
5 ـ السيرةُ الحلبية : ج 1 ، ص 82 ثمّ يذكر صاحب السيرة اولئك الأشخاص في بيتين آخرين.


(212)
حتّى لا يتطرق إليها التباسٌ أو اشتباهٌ ، وقد كان من علائمه صلى الله عليه وآله وسلم اسمُه الشريف ، فيجب أن تكون مصاديقُها قليلة جداً حتّى يزيل ذلك أي عروض للشك والترديد في تشخيص النبيّ الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم خاصة إذا ضمَّتْ إليه بقية أوصافِه وعلائِمهِ ، وخصوصياته.

    خَطأ الْمُستَشْرقينْ :
    لقد ذكر القرآنُ الكريمُ اسمين أو عدة أسماء للنبي الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ففي سورة آل عمران ومحمَّد والأحزاب والفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 (1) سماه « محمَّداً » (2).
    وفي سورة الصف الآية 6 (3) دعاه « أحمد ».
    والعلةُ في تسميته بهذين الإسمين أن امّهُ « آمنة » سمّته « أحمداً » قبل أن يسميه جده ، كما هو مذكور في التاريخ.
    وعلى هذا فانَ ما ذكرهُ بعضُ المستشرقين ـ في معرض الإعتراض ـ بأن الإنجيل ـ حسب تصريح القرآن الكريم في سورة الصف الآية 6 ـ بشَّر بنبي اسمُه « أحمد » لا « محمَّد » كلامٌ لا اساسَ له ولا مبرر ، لأن القرآن الكريم الّذي سمى نبيّنا ب‍ « أحمد » سماه في عدة مواضع ب‍ « محمَّد » فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبي هو : القرآن الكريم ، فان القرآن سَمّاه بكلا الاسمين ، في موضع باسم
1 ـ يعتقد البعضُ أنّ هذا ليس اسماً للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله بل هو من الحروف المقطعة في القرآن.
2 ـ قال تعالى : « وَما مُحمَّدٌ إلا رَسولٌ قَد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ».
    وقال تعالى : « والَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحمَّد ».
    وقال سبحانه : « ما كانَ مُحمَّد أبا أحَد مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللّه وَخاتَمَ النَّبيّين ».
    وقال عزّ وجلّ : « مُحمَّدٌ رَسُولُ اللّه والَّذينَ مَعهُ أشدّاء عَلى الكُفّار رُحماء بَيْنَهُمْ »
3 ـ إذ قال سبحانه : « وَمُبَشِّراً بِرَسُول مِنْ بَعْدِيْ اسمُهُ أَحمَد ».


(213)
« محمَّد » ، وفي موضع آخر باسم « احمد ».

     « أحمد » كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة :
    كلُّ من كان له ادنى إلمام بتاريخ النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم عَلِمَ أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُدعى بإسمين في الناس منذ صغره أحدهما : « محمَّد » الّذي سَمّاه به جَدُه « عبد المطلب » ، والآخر « أحمد » الّذي سمته به اُمه « آمنة ».
    وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الإسلامي ، وقد روى المؤرخون هذا الأمر ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في السيرة الحلبية (1).
    ولقد أنشأ عمُّه « أبو طالب » ، الّذي اُنيطَت إليه كفالته بعد وفاة عبد المطلب ، فبقي يقوم بهذه المهمة طوال اثنين وأربعين عاماً بكل حرص ورغبة ، ولم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كل ما استطاع من غال ورخيص انشأ في ابن أخيه أبياتاً سمّاه في بعضها « محمَّد » وفي بعضها الآخر « أحمد » ، وهذا يكشف عن انه صلى الله عليه وآله وسلم كان معروفاً آنذاك بكلا الاسمين.
    واليك فيما يأتي بعض هذه الأبيات الّتي سَمى فيها « أبو طالب » النبيَ باسم احمد :
1 ـ إنْ يكُنْ ما أتى بهِ أحمدُ اليومَ 2 ـ وقولُه لأحمد أنتَ اْمرءٌ 3 ـ وإن كانَ أحمدُ قد جاءهم 4 ـ أرادُوا قَتْل أحمد ظالموه 5 ـ ألا إنَّ خيرَ الناس نفْساً ووالداً 6 ـ فَلسْنا وبيتُ اللّه نسلم أحمداً سَناءً وكانَ في الحشر ديناً خَلُوفُ الحديث ضَعيف النُسبْ بحق ولم يَأتِهمْ بالكَذِبْ وَليس بقتلهم فيهم زعيم إذا عُدَّ ساداتُ البرية أحمدُ لِعزّاء من عض الزمان ولا كرب (2)
    وقد سمى « أبو طالب » النبيَ صلى الله عليه وآله وسلم في ابيات اخرى بأحمد
1 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 82 و 83.
2 ـ ديوان أبي طالب عليه السَّلام.


(214)
أيضاً قد ذكرها كبار المحققين من المؤرخين والمحدثين ونسبوها إلى أبي طالب ولكنها غير موجودة في ديوانه (1).
    كما وأنه قد سَمّاه غيرُ ابي طالب في أبياته بأحمد ممّا يدل على أنه كان مشتهراً بهذا الاسم في ذلك الزمان ، وتلك الابيات كثيرة تفوق حدّ الحصر والاحصاء لكنّنا ننقل نماذج منها هنا :
    قال حسان بن ثابت في رثائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :
مفجعةٌ قد شفّها فقدُ أحمد أطالت وقوفاً تذرف العينَ جُهدها فظلَّت لآلاء الرسول تُعّددُ على طَلل القبر الّذي فيه أحمدُ (2)
    وقال في رثائه أيضاً :
صَلّى الالهُ وَمنْ يُحيق بعرشهِ والطَّيِبُونَ عَلى المبارك احمدِ (3)
    وقال في رثاء جعفر بن أبي طالب الطيّار :
فمن كان أو يكون كأحمد نظام الحق أو نكال لملحد (4)
    وقال حَسّان وهو يذكر معجزة من معاجز النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ففي كَفِّ أحمدَ قد سَبَّحتْ عُيونٌ مِنَ الماءِ يومَ الظمأ (5)
    وقال كَعبُ بن مالك :
فهذا نَبِيُّ اللّه أحمدُ سَبّحت صِغارُ الحصى في كَفِّه بالتَرنّم (6)
    وقال « ورقة بن نوفل » يومَ أخبرتهُ خديجةُ بنزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
1 ـ مثل قوله :
لَعمري لقد كلِفتُ وَجْداً بأحمد زعمتْ قريشٌ أَن أحمد ساحرٌ وَأحبَبْتُهُ حُب الحبيب المواصلِ كَذِبَتْ وَربّ الراقصاتِ إلى الحَرم
راجع ديوان أبي طالب ، وسيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 272 ، وشرح النهج لابن ابي الحديد : ج 14 ، ص 79 وغيرها.
2 و 3 ـ ابن هشام في سيرته : ج 2 ، ص 667 و 666 ، وابن سعد في طبقاته : ج 2 ، ص 323.
4 ـ شاعر عهد الرسالة : تحقيق محمَّد عزت نصر اللّه.
5 و 6 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 413 و 415.


(215)
فإنْ يَكُ حَقاً يا خَديجةُ فاعلمي حَديثك إيانا فاحمدُ مُرسَلُ (1)
    وقالت عاتكةُ بنتُ عَبدالمطلب ترثي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم :
يا عينُ جُودي ما بقيتِ بعبرة سَحّاً على خير البرية أحمدِ (2)
    وقال العباسُ في مناسبة تزويج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة :
أحمدُ سَيّدُ الوَرى خير ماش وَراكِب (3)

    فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
    لم يرتضع وليدُ قريش المبارك « محمَّد » من اُمّه سوى ثلاثة أيام ، ثم حَظِيَت بفخر إرضاعه ـ بعد ذلك ـ امرأتانُ هما :
    1 ـ « ثويبة » مولاة « أبي لهب » ، وقد أرضعته أربعة أشهر فقط ، وكان النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم وزوجتُه الوفية : « خديجة بنت خويلد » يقدّران هذا العمل لها حتّى آخر لحظات حياتها (4).
    و « ثويبة » هذه كانت قد أرضَعْتْ قبلَ ذلك « حمزة » عمَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم و « ابا سلمة بن عبد اللّه المخزومي » أيضاً فكانوا إخوة من الرضاعة (5).
    وقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد مَبعثه ، من يشتريها من « أبي لهب » ليعتقها فابى (6).
    وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرمها كلما دخلت عليه ، وكان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبرُ وفاتها عند منصرفه من وقعة « خيبر » فسأل عن إبنها فقيل : مات قبلها ، فسْأل عن قرابتها ، فقيل : لم يبق منهم أحد (7).
    2 ـ « حليمة السعدية » بنت ابي ذؤيب الّتي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن ، وكان أولادها عبارة عن : « عبد اللّه » ، « أنيسة » ، « شيماء » ، وقد
1 ـ بحار الأنوار : ج 18 ، ص 195.
2 ـ الطبقات الكبرى : ج 2 ، ص 326.
3 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 72.
4 ـ تاريخ الخميس في احوال انفس نفيس : ج 1 ، ص 222.
5 ـ السيرة النبوية : ج 3 ، ص 96.
6 ـ الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 271.
7 ـ تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 222 ـ 225 نقلا عن سيرة مغلطاي وغيره.


(216)
قامت آخر أولادها وهي « الشيماء » بحضانة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً :
    وقد كان من عادة العرب يومذاك هو أن يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كُنَّ يَعِشنَ في البوادي لينشأوا في تلك البيئات المعروفة بطيب هوائها ، وقلة رطوبتها ، وعذوبة مائها ببنية قوية ، هذا مضافاً إلى صيانتهم عن خطر الوباء الّذي كان يهدد الأطفال في « مكة » ، ولأن ذلك كان له مدخلٌ عظيم ، وتاثيرٌ بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل الساكنة في البوادي آنذاك.
    وكانت مراضعُ بني سعد من المشهورات بهذا الأمر بين العرب ، فقد كانت نساء هذه القبيلة الّتي كانت تسكن حوالي « مكة » ونواحي الحرم يأتين « مكة » في كل عام في موسم خاص يلتمسنَ الرضَعاء ويذهبن بهم إلى بلادهنَّ حتى تتم الرضاعة.
    وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد « مكة » يلتمسنَ الرضعاء في سنة جدب وقحط ، ولهذا كنَّ بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف « مكة » واعيانها.
    ويقول بعض المؤرخين : أنه لم تقبل أيّةُ واحدة من تلك المراضع أن تأخذ « محمَّداً » بسببُ يتمه ، وقد كان اغلبهن يُردْنَ أن تأخذن من يكون له أبٌ حيٌّ حتى يُغدق عَلَيْهنَّ بالمساعدات والصّلات ، وحتّى « حليمة » هي الاُخرى أبتْ أخذَهُ ، ولكنَّها ايضاً لم تحصل على طفل لِهزال جسمها ، فاضطرت إلى أن تأخذ حفيد « عبد المطلب » وقالت لزوجها : واللّه لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم فلاخذنَّه ، فقال لها زوجُها : لا عليك ان تفعلي ، عسى اللّه ان يجعل لنا فيه بركة.
    ولقد اصاب الزوجان في ظنّهما هذا ، فمنذ أن أبدت « حليمة » استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الالطاف الالهية كل مجالات حياتها (1).
    إن القسم الأول من هذه القصة ليس سوى اسطورة ، لأن مكانة البيت
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 162 و 163.

(217)
الهاشمي الرفيعة ، وشخصية رجل عُرفَ بِكمال الجود والاحسان ، وبعون المحتاجين والمحرومين كانت سبباً في أن لا تعرض المرضعات عن اخذ « محمَّد » فحسب ، بل يتنازعن على اخذه ولهذا لا يكون هذا القسمُ مِنَ التاريخ سوى اسطورة تكذبها الحقائق.
    واما علة عدم اعطاءه صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير « حليمة » من المرضعات فهي : أن وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من أثداء تِلكم المرضعات ، ولم يزل كذلك حتّى قبلَ ثدي « حليمة السعدية » ، فسرّ بذلك « عبدُالمطلب » وأهله سروراً عظيماً ، بعد أن حزنهم امتناعُه عنهنَّ قبل ذلك (1).
    قالت « حليمة » : استقبلني عبدُالمطلب فقال : من انت ، فقلت : أنا امرأة من بني سعد ، قال : ما أسمُك ؟ قلتُ : حليمة ، فتبسَّم « عبد المطلب » وقال : بَخ بَخ سَعدٌ وحلْمٌ ، خصلتان فيهما خيرُ الدهر ، وعز الأبد (2).

    نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع :
    وهنا ينبغي بالمناسبة أن نشير إلى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان.
    فقد سبق الإسلامُ العلمَ الحديثَ في الكشف عن آثار اللبن في تكوين الإنسان الخُلقي والنفْسيّ والعضوي سَلباً وإيجاباً.
    ولهذا حثَّ الإسلام على استرضاع الام ، كما حث على اختيار المرضعات الصالحات ونهى عن استرضاع اليهودية والمجوسية والنصرانية والمجنونة منعاً من انتقال طباعِهنَ إلى الطفل عن طريق اللبن.
    واستكمالا لهذا البحث نورد جملة من الأحاديث الّتي تصرح بهذه الحقيقة العلمية الهامة :
    1 ـ قال اميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) :
1 ـ بحار الأنوار : ج 15 ، ص 342 و 343.
2 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 89.


(218)
    « تَخَيّرُوا للرضاع كما تَخيَّرون لِلنِّكاح فانَ الرِّضاعَ يُغيّرُ الطِباعَ » (1).
    2 ـ وعنه ( عليه السلام ) ايضاً :
    « اُنظرُوا مَنْ يُرضعُ أولادكُمْ فَإنَ الوَلَد يَشُبُّ عَليهِ » (2).
    3 ـ عن الإمام ابي جعفر الباقر ( عليه السلام ) انه قال :
    « لا تَسْتَرضعُوا الحَمقاء فانَ اللبن يُعدي ، وإن الغُلامَ يَنزع إلى اللَبن ... » (3).
    4 ـ وعنه ( عليه السلام ) ايضاً :
    « استرضعْ لولَدك بِلَبنِ الحِسان وإيّاكَ وَالقِباحُ فإنَّ اللَبنَ قد يُعدي » (4).
    5 ـ وعن علي ( عليه السلام ) انه قال :
    « ما مِنْ لَبَن يَرضَعُ به الصَبيُّ أعظمُ بَركَةً عَليْه مِنْ لَبنِ اُمَّهِ » (5).
1 ـ قرب الأسناد : ص 45.
2 ـ فروع الكافي ج 2 ، ص 93.
3 ـ وسائل الشيعة : ج 15 ، ص 188.
4 ـ التهذيب : ج 2 ، ص 280.
5 ـ روضة المتّقين : ج 8 ، ص 554.


(219)
    إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة الّتي تعَدُّ بأجمعها من كراماته صلى الله عليه وآله وسلم وتدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.
    وينقسم المؤلفون في تفسير هذه الحوادث إلى طائفتين :
    1 ـ الماديُّون ، وجماعة من المستشرقين : فان العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة ، ويعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادية ، وينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية ، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا يُعيرونها أية أهمية ، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادية ، ولهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال ، وممّا نسجته اَوهامُ التابعين لذلك الدين ، أو الطريقة.
    وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم ـ حسب الظاهر ـ في عداد الموحِّدين ، والمؤمنين باللّه ، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب ، إلاّ أنهم ـ لضعف إيمانهم وبسبب غرورهم العلمي ، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم ـ اتبعوا ـ لدى تحليلهم لهذه الحوادث ـ المنهج الماديّ ، فنحن


(220)
نقرأ في كتاباتهم مراراً وتكراراً زعمهم بانَ النبوة ما هي إلاّ نبوغٌ بشريٌّ ، وأن النبيّ مجرد نابغة اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيَّرة !!
    ولا شك أن مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادي الّذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وافرازات الذهن الانساني ، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في : مباحث « النبوَّة العامة » انَّ النبوة عطية الهية ، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات والارتباطات المعنوية ، ومصدر لمناهج الانبياء وبرامجهم ، ليست ابداً وليدة نبوغهم الإنساني ، ولا نسيجة فكرهم البشري ، وليس لها مصدر إلاّ الإلهام من الغيب ، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي إلى هذه القضايا من زاوية الفكر المادي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاُسس العلمية الّتي كشفت عنها التجربةُ ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي ، وربما انكرها من الاساس.
    2 ـ المؤمنون باللّه : الذين يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته وخواصه يخضع لتدبير عالم آخر ، وأن ذلك العالم ( اي عالم التجرد وما وراء الطبيعة ) هو المنظِم لهذه الطبيعة ، وهو المدبِر لهذا الكون المادي.
    وبعبارة اُخرى إن عالم المادة ليس عالماً مسيِّباً ، مستقلا عن غيره ، وان جميع الانظمة والقوانين الطبيعية والعلمية مسبَّبةٌ عن تأثيرات موجودات عليا ، وبخاصة ناشئةٌ عن إرادة اللّه الخالقِ ، الّذي اعطى للمادة وجودها ، وأوجد القوانين والعلاقات الصحيحة بين أجزائها ، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.
    إنَ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية ، واذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات ، والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم واكّده ، يعتقدون بأن مثل هذه القوانين الطبيعية ليست اُموراً لا تقبل التغيير ، والتبدل.
    فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه ـ إذا أراد ـ أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصة ، وليس في مقدوره ذلك فقط ، بل فعلَ ذلك في جملة من الموارد


(221)
لأهداف عليا.
    وبعبارة اُخرى : إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.
    والخلاصة ؛ إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.
    إنهم يقولون : إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز ، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية.
    إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين العلمية.
    وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد :
    1 ـ لقد نقَلَ المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا تكفلَّت إرضاع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به ) ، وخافت ( حليمة ) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّ صلى الله عليه وآله وسلم الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه


(222)
فادهش الجميع ذلك (1).
    2 ـ وتقول « حليمة » أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد ، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ، وأموالنا (2).
    إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ، أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.
    فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز :
    ونحن نقول : لا نقاش في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو بطلانها شيء آخر.
    وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته ( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.
    ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول : « ... ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً » (3).
1 ـ بحار الأنوار : ج 15 ، ص 345 و 346.
2 ـ المناقب لابن شهراشوب : ج 1 ، ص 24.
3 ـ مريم : 24 و 25.


(223)
    إنه وان كان الفرق بين « مريم » و « حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن منزلة « مريم » ( عليها السلام ) لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.
    كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم ( عليها السلام ) امور اُخرى مشابهة.
    ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه ؟ (1).
    وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات ، أو نستبعدها.

    خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء :
    أمضى وليدُ « عبد المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده.
    وخلالَ هذه المدة اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.
    وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت به صلى الله عليه وآله وسلم « حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب (2).
    وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى
1 ـ « ... وَكَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : 37 ).
2 ـ بحار الأنوار : ج 15 ، ص 401.


(224)
الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيح ( عليه السلام ) ، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره (1).
    ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.
    يقول القرآن الكريم في هذا المجال : « وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ » (2).
    ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر (3).
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 167.
2 ـ الصف : 6.
3 ـ « الذين يتَّبِعُونَ الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة والإنْجيل » ( الأعراف : 157 ).


(225)
    لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة ، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا.
    وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين : احدهما : أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني : ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً.
    وقد قيل في المثل : لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها.
    وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.
    وبينما الاستاذ ينصح تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس