تدوين 11

امتداد النهجين

بعد الخليفة عمر بن الخطّاب

أخرج الحاكم بسنده عن مروان بن الحكم: أنّ عمر بن الخطّاب لمّا طُعِن استشارهم في الجدِّ، فقال: إنّي رأيت في الجدِّ رأياً، فإنْ رأيتم أن تتّبعوه [فاتبعوه]، فقال عثمان: إن نتبع رأيك فهو رشد وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي(1).
وفي «الطبقات الكبرى»، و«مسند أحمد»، قال محمود بن لبيد: سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحلّ لاَحد أن يروي حديثاً عن رسول الله(ص) لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر(2).
وعن معاوية أنّه قال: أيّها الناس! أقِلّوا الرواية عن رسول الله، وإن كنتم تحدّثون فحدِّثوا بما كان يُتحدّث به في عهد عمر(3). وفي رواية ابن عساكر: إيّاكم والاَحاديث عن رسول الله (ص)، إلاّ حديثاً ذكر على عهد عمر(4).

الاِقران بين الحجّ والعمرة
جاء في مسند أحمد، عن عبد الله بن الزبير أنّه قال:
واللهِ، إنّا لَمَع عثمان بن عفّان بالجُحْفة، ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيببن سلمة إذ قال ـ وذكر له التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ـ:
إنّ أتمّ الحجّ والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحجّ، فلو أخّرتم هذه العمرة
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 4: 340.
(2) الطبقات الكبرى 2: 336، وعنه في السنّة قبل التدوين: 97.
(3) كنز العمّال 1: 291.
(4) تاريخ دمشق 3: 160.

( 264 )
حتّى تزوروا هذا البيت زَوْرَتَين كان أفضل، فإنّ الله تعالى قد وسّع في الخير، وعليُّبن أبي طالب في بطن الوادي يَعلف بعيراً له، قال: فبلغه الذي قال عثمان، فأقبل حتّى وقف على عثمان، فقال: أعمدتَ إلى سنّة سنّها رسول الله (ص) ورخصة رخّص الله بها للعباد في كتابه، تُضيّق عليهم فيها وتنهى عنها، وقد كانت لذي حاجة، ولنائي الدار؟! ثمّ أهَلّ بحجّة وعمرة معاً.
فأقبل عثمان على الناس، فقال: وهل نهيتُ عنها؟! إنّي لم أَنْهَ عنها، إنّما كان رأياً أشرتُ به، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه(1).
وفي «موطّأ مالك»، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه: أنّ المقدادبن الاَسود دخل على عليّبن أبي طالب بالسُّقيا، وهو ينجع بَكَرات لهُ دَقِيقاً وخَبَطاً فقال: هذا عثمانبن عفّان ينهى عن أن يُقْرَن بين الحجّ والعمرة.
فخرج عليّ بن أبي طالب وعلى يدَيه أثرُ الدقيق والخْبطِ، فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعَيه، حتّى دخل على عثمان بن عفّان، فقال: أنت تنهى عن أن يُقرن بين الحجّ والعمرة؟!
فقال عثمان: ذلك رأي! فخرج عليٌّ مغضَباً، وهو يقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، بحجّة وعمرة معاً(2).
وفي «سنن النسائيّ»: حجّ عليّ وعثمان، فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتّع، فقال عليّ: إذا رأيتموه ارتحل فارتحلوا، فلبّى وأصحابه بالعمرة، فلمّيَنْهَهُم عثمان، فقال عليّ: ألم أُخْبَر أنّك تنهى عن التمتّع؟! قال: بلى، قال له عليّ: ألم تسمع رسول الله تمتّع؟ قال: بلى(3).
قال السنديّ في «هامش النسائيّ»:
قوله: (إذا رأيتموه قد ارتحلَ فارتحِلوا) أي ارتحِلوا معه مُلبّين بالعمرة، لِيعلم أنّكم قدّمتم السنّة على قوله، وأنّه لا طاعة له في مقابلة
____________
(1) مسند أحمد 1: 92.
(2) الموطّأ 1: 336|40.
(3) مسند أحمد 1: 57، سنن النسائيّ 5: 152، المستدرك على الصحيحين 1: 472.

( 265 )
السنّة(1).
وفي أُخرى: لمّا رأى الاِمامُ عثمانَ ينهى عن المتعة وأن يُجْمَع بينهما، أهلّ بهما: لبّيك بعمرة وحجّة معاً.
فقال عثمان: أتفعلها وأنا أنهى عنها؟!
فقال عليّ: لم أكن لاََِدَعَ سنّة رسول الله لقولِ أحدٍ من الناس(2).
وقد علّق السنديّ على هذا الحديث كذلك بقوله : أي أنّي أنهى الناس جميعاً عن الجمع كما كان عمر ينهاهم وأنت فكيف لك أن تفعل وتخالف أمر الخليفة، فأشار عليّ إلى أنّه لا طاعة لاَحد فيما يخالف سنّة رسول الله (ص) لمن علم بها والله أعلم .
وفي نصّ ثالث: ما تريد إلى أمرٍ فَعَله رسول الله تنهى عنه؟! فقال عثمان: دَعْنا عنك! قال: لا أستطيع أن أدعك منّي. فلمّا رأى عليّ ذلك أَهَلَّ بهما(3).
وفيما تقدّم من الاَمثلة وضوخ بيّن على امتداد ما سنّه الشيخان عموماً والخليفة الثاني خصوصاً، والذي يلفت النظر أنَّ عثمان ومعاوية وعمروبن العاص كانوا يؤكّدون على سيرة الخليفة الثاني فضلاً عن العمل بها، فهذا إنَّما يومىَ إلى الامتداد الواحد لسيرتهما ، ويتأكّد ذلك حينما نرى وضوح مخالفة نهج الخلفاء ـ والعاملين بالرأي على عهد رسول الله ـ لفقه الاِمام عليّ وأتباعه المتعبّدين بالنصوص، كابن عبّاس...
فمعاوية أمر بلعن عليّ وابن عبّاس ، وقال المنصور : خذ بقول ابن عمر وإن خالف عليّاً وابن عبّاس ، وقد ختم الحجّاج بن يوسف الثقفيّ في يد سهلبن سعد الساعديّ وغيره من أصحاب المدوّنات ، كلّها تدلّ على استمرار سيرة الخليفة الثاني وتأكيد من جاء من بعده على العمل بما سنّ من قبلهما، وإليك نصوصاً أُخرى في هذا السياق:

____________
(1) حاشية السنديّ على النسائيّ 5: 152.
(2) سنن النسائيّ 5: 148.
(3) زاد المعاد 1: 181 ـ طبعة دار الفكر.

( 266 )

ترك القراءة
جاء في «بدائع الصنائع»: إنّ عمر (رض) ترك القراءة في المغرب في إحدى الاَُولَيَين، فقضاها في الركعة الاَخيرة وجَهَر، وعثمان (رض) ترك القراءة في الاَُوليين من صلاة العشاء فقضاها في الاَُخريين وجهر(1)، ثمّ روى حديثاً في ذلك عنها(2).

زوجة المفقود
روى ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، عن عمر (رض) في امرأة المفقود، أنّه قال: إن جاء زوجها وقد تزوّجت، خُيِّر بين امرأته وبين صَداقها، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر، وإن اختار امرأته اعتدّت حتّى تحلّ ثمّ ترجع إلى زوجها الاَوّل، وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحلّ من فرجها. قال ابن شهاب: وقضى بذلك عثمان بعد عمر (رض)(3)...

ردّ الاَُمّ للسدس
أخرج الطبريّ في تفسيره، عن طريق شعبة عن ابن عبّاس: أنّه دخل على عثمان فقال: لِمَ صار الاَخوانِ يردّان الاَُمّ إلى السدس، وإنّما قال الله (فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ...)(4)والاََخَوَانِ في لسان قومك، وكلام قومك ليسا بإخوة؟
فقال عثمان: هل أستطيع نقض أمرٍ كان قبلي، وتوارثه الناس ومضى في الاَمصار(5)؟!

____________
(1) بدائع الصنائع 1: 111.
(2) انظر بدائع الصنائع 1: 172.
(3) السنن الكبرى 7: 446.
(4) النساء : 11 .
(5) تفسير الطبريّ 4: 188.

( 267 )
وفي لفظ البيهقيّ والحاكم: لا استطيع أن أردّ ما كان قبلي ومضى في الاَمصار وتوارث به الناس(1).

زكاة الخيل
أخرج البلاذريّ في «الاَنساب»، بالاِسناد عن الزهريّ: أنّ عثمان كان يأخذ من الخيل الزكاة، فأنكر ذلك من فعله، وقالوا قال رسول الله: عفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق(2).
فيحتمل أن يكون عثمان قد اتّبع عمر في هذه المسألة؛ إذ أخرج ابن حزم في المحلّى (5: 277) عن ابن شهاب أنّ السائب ـ ابن أُخت نمر ـ أخبره: أنّه كان يأتي عمر بن الخطّاب بصدقات الخيل. قال ابن شهاب: وكان عثمانبن عفّان يصدق الخيل.
وعن حارثة قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر (رض) فقالوا: إنّا قد أصَبْنا أموالاً وخيلاً ورقيقاً نحبّ أن يكون لنا فيها زكاة وطَهور.
قال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، فاستشار عمر عليّاً، فقال عليّ: هو حسن إن لم يكن جزيةً راتبة دائبة يؤخَذون بها مِن بعدك(3).
فالاِمام عليّ نبّه هنا على أنَّ منع المسلمين من تطهير أموالهم وقد رغبوا في ذلك لا يجوز شرعاً، بل ربّما استحبّ كما هو الحقّ، لكنّ مخافة التالي الفاسد وهو صيرورتها سنّة وشريعة هو أيضاً حرام شرعيّ، فنبّه عليّ (ع) على جواز أخذ زكاة الخيل لا على وجه الوجوب، وأنّه لا يمكن إجبار مسلم على أداء زكاة خيله، فجمع عليّ (ع) بين الحكم بالجواز والتنبيه على ما قد يتوهّم منه الوجوب، وهذا هو الطريق السديد، وكان قد فعل النبيّ (ص) ذلك في الصلاة بمنى حيث كان ينبّه الناس على أنّهم مسافرون يقصرون الصلاة وأنّ
____________
(1) السنن الكبرى 6: 227، المستدرك للحاكم 4: 335.
(2) أنساب الاَشراف 5: 26 وانظر المحلّى: 5: 277 ـ 229 مثلاً.
(3) مسند أحمد 1:14، المستدرك على الصحيحين 1:400 ـ 401، مجمع الزوائد 3:69.

( 268 )
على أهل البلد الاِتمام.
بهذا عرفت أنّ عثمان قد اتّبع سيرة صاحبَيه في بعض الاَحكام، وإن كان يحمل آراء تخصّه في أحيان أُخرى، وهي آراء يخالف بها الآخرين، لاَنّا نعلم أنّ طريق الرأي لو فتح لا يمكن لاَحد أن يغلقه، كما يقول الاِمام عليّ: «كراكب الصَّعْبة: إنْ أشنَقَ لها خَرَم، وإن أسلسَ لها تَقحّم». وإنّك عرفت نهج الخلفاء وأنّ على الخليفة الحاكم أن يتّبع سيرة من سبقه، وأن يصحّح رأيه وإن خالف النصّ!!

الكلالة
عن الشعبيّ أنّه قال: سئل أبو بكر عن الكَلالة، فقال: إني سأقول فيها برأي، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان، أراه ما خلا الولد والوالد. فلمّا استخلف عمر (رض) قال: إنّي لاَستحي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر(1)!
وقد نقل الجاحظ في كتابه (الفتيا) عن أُستاذه إبراهيم بن السيّار النظّام تعليقة على قول عمر آنف الذكر يقول: وإنّي لاَعجب من قول عمر (إنّي لاَستحي من الله من أن أُخالف أبا بكر) فإن كان عمر إنّما تابعه لاَنّ خلافه لايجوز [أو اعتقاداً منه بأنّ الحقّ معه] فقد خالفه في الجدّ مائة مرّة وفي أهل الردّة [والمؤلّفة قلوبهم] وفي أُمور كثيرة(2).

فدك
ولو أخذنا قضيّة فدك وخُمس الاَموال من باب المثال لعرفنا كيفيّة خضوع الاَحكام الشرعيّة لعوامل خارجيّة وسياسات وقتيّة ثمّ وُسِّع نطاقها
____________
(1) سنن الدارميّ 2: 365 ـ 366 السنن الكبرى 6: 223.
(2) انظر كشف الاشتباه 5: 27 نقلاً عن العيون والمحاسن 2: 15 عن كتاب (الفتيا).

( 269 )
لتكون سياسة عامّة يتّخذها الخلفاء من بعدهم كأصل في الحياة!
ففدك لو كانت حقَّ الاَُمّة ـ كما قال الخليفة الاَوّل ـ فكيف يمنحها ـ إذَن ـ عثمان لمروانبن الحكم مع خُمس إفريقية؟! وإنّها لو كانت حقّاً شخصيّاً ـ كما قالت فاطمة ـ فلِمَ لايعطونها إيّاها؟! ولتوضيح ذلك نقرأ هذا النصّ:
أخرج البيهقيّ في سننه من طريق المغيرة حديثاً في فدك، وفيه: أنّه أقطعها لمروان لمّا مضى عمر لسبيله، فقال: قال الشيخ: إنّما أقطع مروان فدكاً في أيّام عثمان بن عفّان (رض)، وكأنّه تأوّل في ذلك ما روي عن رسول الله: إذا أطعم الله نبيّاً طعمةً فهي للذي يقوم من بعده، وكان مستغنياً عنها بما له فجعلها لاَقربائه وصَلَ بها رحمهم(1).
وهذا تناقض عجيب، وتضارب بيِّن، ترى اين الصواب: في ادّعاء أبي بكر أنّها للمسلمين، أم ادّعاء عمر بأنّهم بحاجة إلى أموالهم لتجييش الجيوش وتوسيع رقعة الاِسلام، أم في ادّعاء عثمان بأنّها له باعتباره ممثلاً عن النبيّ؟!
ومهما تكن الاِجابة فإنّا نرى إطباق هذه الادّعاءات على منع فاطمة من فدك، بشتّى الاجتهادات والتوجيهات، واستمرار ذلك، يقفو به اللاحق السابق، وهذا ممّا يؤكّد التواصل المدروس لتنمية نهج الاجتهاد والرأي في مقابل نهج التعبّد المحض بالسنّة الشريفة.
ويلحظ استمرار المنع في التدوين إلى فترة خلافة عمر بن عبدالعزيز الذي فتح التدوين، كما يلاحظ إرجاع هذا الخليفة فدكاً لاَولاد فاطمة بنت رسول الله (ص)، ولعلّ في الاَمر ملازمة وارتباطاً، لاَنّ التدوين الحاصل ـ على علاّته ـ أفاد المسلمين، وأوضح الكثير من الحقائق ـ وإن كان بجانب آخر يهدف إلى تثبيت مبادىَ مدرسة الاجتهاد لكي تدافع عن نفسها مقابل مدرسة التدوين والتحديث ـ فكان لاِيضاح تلك الحقائق مع ما عُرف من عمربن عبدالعزيز، نتيجة طيّبة، إذ يبدو أنّ أمر فدك اتّضح للخليفة من خلال التدوين وإطباق المؤرّخين وأصحاب السنن على نقل ادّعاء فاطمة (ع) لفدك وأنّها
____________
(1) السنن الكبرى 6: 301.

( 270 )
كانت بيدها وأنّ رسول الله أعطاها إيّاها، فكان هذا الوضوح بالرؤية قد أخذ مأخذه في عقل ابن عبد العزيز، فأرجع فدك إلى أولاد فاطمة (ع)، وبه رجحت كفّة التعبّد المحض على كفّة الاجتهاد والرأي.

الخمس
جاء عن ابن عبّاس أنّه قال: فلّما قبض الله رسوله ردّ أبو بكر نصيب القرابة في المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله(1).
وعنه في جوابه لنجدة الحَروريّ لمّا سأله عن سهم ذوي القربى: لمن هو؟
قال: قد كنّا نقول: إنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلّها ذوو قربى(2)!
وروى البيهقيّ عن عبد الرحمن بن أبي يعلى، قال: لقِيتُ عليّاً عند أحجار الزيت، فقلت له: بأبي أنت وأُمّي، ما فعل أبو بكر وعمر في حقّكم أهلَ البيت من الخمس...؟ إلى أن يقول:
قال عليّ: إنّ عمر قال: لكم حقّ ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كلّه، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم، فأبينا عليه إلاّ كلّه، فأبى أن يعطينا كلّه(3).
وقد كان عمر بن الخطّاب قد قال مثله لابن عبّاس، وأجابه ابن عبّاس بمثل جواب الاِمام عليّ بن أبي طالب(4).
فلو كان الخمس حقّاً للمسلمين، فكيف يحقّ لعثمان أن يتأوّل ويعطيه
____________
(1) تفسير الطبريّ 10: 6، وانظر باب قسمة الخمس من أحكام القرآن للجصّاص 3:ئ60.
(2) تفسير الطبريّ 10: 5، مسند أحمد 1: 248 و294، أحكام القرآن 3: 62 والاَموال لاَبي عبيد.
(3) السنن الكبرى 6: 344 ومسند الاِمام الشافعيّ|باب الفيء.
(4) مسند أحمد 1: 320، السنن الكبرى 6: 344 وسنن النسائيّ وأبي داود.

( 271 )
مرّة لعبدالله بن أبي سرح وأُخرى لمروان بن الحكم(1)؟!
ولو كان هذا تأويلاً من عثمان لم يقبله المسلمون، فَلِمَ نرى غالب أئمّة الجمهور لميجعلوا لذي القربى حقّاً من الخمس اليوم(2)؟!
يبدو أنّ الاَمر في الواقع هو غير ما أُريد له أن يملاَ أذهان المتطرّفين من بيننا في تقديس السلف، الذين يحرّمون الحوار ويحضرون مناقشة المواقف والآراء.. وربّما عدّوا هذه المناقشات خروجاً عن الدين!

____________
(1) انظر الكامل في التاريخ 3: 91 وتاريخ الطبريّ وغيره.
(2) انظر النصّ والاجتهاد: 102.

( 272 )


( 273 )



تواصل الامتداد في عهد معاوية

هلمّ معي نتابع امتداد اجتهاد الشيخين، في زمن معاوية ومن جاء من بعده. وقد مرّ سابقاً ما أخرجه أحمد في مسنده، وإليك ما قاله ابن عساكر: كان معاوية يقول على منبر دمشق: إيّاكم والاَحاديثَ عن رسول الله، إلاّ حديثاً ذُكِر على عهد عمر(1)!
وفي صحيح مسلم عن اليحصبيّ، قال: سمعت معاوية يقول: إيّاكم وأحاديث، إلاّ حديثاً كان في عهد عمر؛ فإنّ عمر كان يُخيف الناس في الله عزّ وجلّ(2)!
وقد مرّ ما رواه ابن عديّ، عن إسماعيل بن عبيد الله: أنّ معاوية نهى أن يُحدَّث عن رسول الله بحديث إلاّ حديث ذُكر على عهد عمر،فأقرّه عمر(3).
عن محمّد بن عبد الله: أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضحّاكبن قيس، عامَ حَجَّ معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ.
فقال الضحّاك: لا يصنع ذلك إلاّ من جَهِل أمر الله تعالى.
فقال سعد: بئسما قلتَ يا ابن أخي.
قال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك.
قال سعد: قد صنعها رسول الله (ص) وصنعناها معه(4).
وفي سنن الدارميّ: قال سعد: عمر خير منّي، وقد فعل ذلك النبيّ(ص)
____________
(1) تاريخ دمشق 3: 69، 160.
(2) صحيح مسلم 2: 718|98.
(3) مسند أحمد 4: 99، تذكرة الحفّاظ 1: 7، الكامل لابن عديّ 1:18،33.
(4) السنن الكبرى 5: 17، زاد المعاد 1: 179.

( 274 )
وهو خير من عمر(1).
والضحّاك بن قيس الفهريّ القرشيّ قائد جلاوزة معاوية، ولد قبل وفاة النبيّ بسبع سنين، وولّي على شرطة معاوية، وحارب معه، فأغار على سواد العراق، وعلى الحاجِّ وأخذ أمتعتهم، وتولّى دفن معاوية، وبايع ابن الزبيرَ بعد يزيد، وقاتل مروان، فقُتل بمرج راهط سنة أربع وستّين.
وقد اتّبع هذا الجلواز في نهيه عن المتعة عثمان، وعثمان كان قد اتّبع عمر، ذلك المنع الذي شدّد عليه معاوية؛ لاَنّه كان يرى ضرورة تشييد فقه مستقلّ ذي أبعاد وأُسس مستقلّة، يتميّز عن فقه العلويّين ومَن تابعهم من أصحاب النبيّ (ص).
وكان فقه الشيخين هو المحور الذي يمكن أن يبنى على أساسه هذا البناء الشامخ.
وقد أدرك معاوية وهو الداهية ضرورة سدّ باب التحديث، تقويةً لاجتهادات الخليفة عمربن الخطّاب وقراراته لكي يتمكّن من تشييد بناء البديل. وقد أكّدنا في (وضوء النبيّ) على أنّ الخلفاء أمويّين كانوا أم عبّاسيّين كانوا يتخوّفون من الطالبيّين (أبناء عليّ بن أبي طالب، وأتباع نهجه) ويخطّطون للتعرّف عليهم، فقرّروا أن يجمعوا الناس على فقه مناقض لعليّ بن أبي طالب، لتشخيص أتباع عليّ وتمييزهم، فتراهم تارة يأخذون في الاَحكام بقول عمر، وأُخرى بقول عائشة وثالثةً بقول أبي هريرة ورابعةً بقول عثمان... وهكذا.
المهمّ هو حدوث التخالف مع قول عليّ، ثمّ جمع الاَُمّة على ما يريدونه، ومتى أرادوا النيل من أحد الطالبيّين فإنّهم يُشيعون عنه أنّه قد خرج عن إرادة الاَُمّة، لاَنّ فقهه يخالف فقه المسلمين، فانظروا إلى وضوئه فإنّه مَسْحي، وإلى صلاته فهو مُسْبِل وإلى قراءته فهي جهريّة، وإلى آخر هذه المصائد والكمائن.
إنّ إغلاق باب التحديث والتدوين من قبل الخليفة عمربن الخطّاب كان فرصة أمام معاوية لبناء البديل كما أنّه سعى لتقوية دَور القَصّاصين ومتزلّفي
____________
(1) سنن الدارميّ 2: 35 ـ 36.

( 275 )
الرواة ليضعوا الاَحاديث التي تخدم رأيه وتقلّل من مكانة خصمه، فكان ممّا يثبت أركان حكومته هو: التركيز على فضائل عثمان والشيخين.
فعن عمرو بن العاص أنّه شُهد وهو يُقسِم قائلاً : أشهدُ، سمعتُ رسول الله: ما أقرأكم عمر فاقرءُوه ، وما أمركم به فأتمروا(1).
وجاء فيما كتبه معاوية إلى عمّاله في الاَمصار: (انظُروا مَنْ قِبَلكم من شيعة عثمان ومُحبّيه وأهل ولايته والذين يروون في فضائله ومناقبه، فأدْنُوا مجالسهم، وقرِّبوهم وأكرِموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلٌّ منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته).
ولمّا فشا الحديث في فضائل عثمان، كتب إليهم:
(إنّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفشا في كلّ مصر، وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعُوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاَوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة)(2).
وهذا النصّ وضّح لك سياسة معاوية وأنّه قد ارتضى جميع الصحابة إلاّ عليّاً ـ أبا تراب ـ وأنّ الوضع أخذ يتفشّى في الحديث ويأخذ مجاله في الفقه وإليك هذا النصّ، ـ الذي رواه البيهقيّ وأبو داود في سننهما ـ واللفظ للاَوّل:
إنّ معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله: إنّ رسول الله نهى عن النمور؟
قالوا: اللّهمّ نعم.
قال: وأنا أشهد.
قال: أتعلمون أنّ النبيّ (ص) نهى عن لبس الذهب إلاّ مقطّعاً؟
قالوا: اللّهمّ نعم.
قال: أتعلمون أنّ النبيّ (ص) نهى أن يُقْرَن بين الحجّ والعمرة؟

____________
(1) كنز العمّال 12 : 593 | 35844 .
(2) شرح نهج البلاغة 11: 44 ـ 45.

( 276 )
قالوا: اللّهمّ لا!
قال: والله، إنّها لَمَعَهُنّ(1).
أنظر إلى طريقة معاوية كيف يحاول الاستدراج والانتقال من الثوابت ليلصق بها ما يريد إلصاقه بها إيهاماً وتضليلاً للآخرين.
قال ابن القيّم بعد إيراد الحديث السابق: ونحن نشهد بالله إنّ هذا وهمٌ من معاوية أو كذب عليه، فلم يَنْهَ رسولُ الله عن ذلك قطُّ(2).
والواقع أنّ الوهم من ابن القيّم، فإنّه ككثير من المسلمين أحسن الظنّ بمعاوية، فقال إنّه وَهِمَ، مع أنّه لا يمكن الوهم في مثل هذا الحكم الواضح الذي فعله النبيّ والمسلمون، ومن ثمّ وقع الاختلاف فيه في زمان الخليفة عمربن الخطّاب، فمنع عن القران، فهل خفي كلّ ذلك على معاوية فوهم؟!
ولماذا يكون هذا كذباً على معاوية كما يقول ابن القيّم ولايكون كذباً على النبيّ (ص)؟! ولماذا لا يكون تخطيطاً مسبقاً وإصراراً على تأسيس شرعيّةٍ جديدة مقابل مشروعيّة كتاب الله وسنّة رسوله؟!
فمعاوية قد وضع هذا المخطّط لاِحياء سنّة الخليفة عمر بن الخطّاب، لكنّه لا يدري أنّ الاَيّام تكشف عن كذبه وتوضّح خداعه لا محالة، فالبخاريّ ومسلم وأحمد قد رووا عن ابن عبّاس أنّ معاوية قال له:
أعلمتَ أنّي قصرّتُ من رأس رسول الله عند المروة بمشقص؟
فقال له ابن عبّاس: لا أعلم هذا إلاّ حجّة عليك(3).
أي دليلاً عليك لا لك؛ لاَنّ معاوية بنقله الكلام السابق كان يريد الاِشارة إلى أنّه كان مقرّباً من رسول الله وفي خدمته، لكنْ فاته أنّ كلامه هذا يناقض ما أفتى به سابقاً، ونقله زعماً عن رسول الله!
وجاء عن سعد بن أبي وقّاص أنّه سئل عن المتعة ـ كما في رواية مسلم ـ
____________
(1) السنن الكبرى 5: 20، سنن أبي داود 2: 157|1794.
(2) زاد المعاد 1: 189.
(3) صحيح البخاريّ 2: 214، صحيح مسلم 2: 913|209 والنصّ لمسلم.

( 277 )
فقال: فعلناها، وهذا يومئذٍ كافر العرش، قال الراوي: يعني بيوت مكّة، وفي رواية أُخرى: يعني معاوية.
وقد جعلوا لفط «العَرْش» «العُرُش» بضمّتين ليكون جمع عريش مثل قليب وقُلبُ ويكون بمعنى بيوت مكّة(1).
ولعلّ سعداً تلفظه بفتح العين وسكون الراء وقصد أنّه كان يومذاك كافراً بربّ العرش!
هكذا عارض سعد بن أبي وقّاص معاوية في أكثر من مشهد وموقف، وهو من أعيان الصحابة، وفاتح العراق، والبقيّة من أعضاء الشورى الذين رشّحهم عمربن الخطّاب للخلافة من بعده، فهذا وأمثاله من كبار الصحابة كان يمكنهم المخالفة مع آراء معاوية لمكانتهم، أمّا غيرهم من الصحابة فلايمكنهم الوقوف أمام اجتهادات معاوية.
نعم، إنّ سعد بن أبي وقّاص وعمران بن الحصين وعبادةبن الصامت وغيرهم من أجلاّء الصحابة كان يمكنهم الوقوف أمام آراء معاوية وربّما عثمان وعمر، لكنّهم في الوقت نفسه كانوا يحذرون البطش، خصوصاً بطش معاوية الذي عرف بالمكر والخداع...
جاء عن الصحابيّ عمران بن الحصين أنّه قد أباح بسرٍّ كان قد كتم أنفاسه عن الجهر به في زمن الشيخين وعثمان، ولمّا حضره الموت أودع ما عنده لمطرف، فاستمع لما حكاه مسلم وغيره عن مطرف، فإنّه قال:
بعث إليّ عمران بن الحُصَين في مرضه الذي توفّي فيه فقال: إنّي كنتُ محدِّثك بأحاديث لعلَّ الله أن ينفعك بها بعدي، فإنْ عشتُ فاكتمْ عنّي، وإن متُّ فحدِّث بها إن شئت، إنّه قد سلم عليّ، وأعلم أنّ نبيّ الله (ص) قد جمع بين حجّ وعمرة، ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم يَنْهَنا عنهما رسول الله، قال فيها رجل
____________
(1) من أُولئك: الخطّابيّ في إصلاح غلط المحدّثين: 338، والسيوطيّ في التطريف في التصحيف: 31، وينظر غريب الحديث لاَبي عبيد 4: 20، 21، والمشارق 2: 79، وشرح النوويّ 8: 204، وغريب ابن الجوزي 2: 81.

( 278 )
برأيه ما شاء(1)..
وفي نصّ آخر عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: إنّي لاَُحدِّثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم، واعلم أنّ رسول الله (ص) قد أعمَرَ طائفة من أهله في العشر، فلم تنزل آية تنسخ ذلك، ولم ينه عنه، حتّى مضى لوجهه ارتأى كلّ امرىَ بعدُ ما شاء أن يرتئي(2).
نعم، إنّ عمران بن الحصين نقل الحديث وهو وجِل من عُقبى قوله فطلب من مطرف أن يحفظها عنده عسى أن تنفعه في الاَيّام اللاحقة! وأن يكتمها عليه إن شفاه الله من مرضه، وهل بعد هذا الخوف والوجل من شكّ في أنّ الكثير من الصحابة كانوا لا يرتضون ما يفعله ويرتأيه الشيخان وعثمان ومعاوية من بعد.

كلام لابن قيّم الجوزيّة في متعة النساء
ولابن القيّم كلام في الجمع بين الاَحاديث الناهية عن المتعة والمجوّزة لها، قال:
«فان قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابربن عبدالله قال: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الاَيّام على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنّه قال: مُتعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحجّ؟
قيل: الناس في هذا طائفتان:
طائفة تقول: إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله (ص) باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون، ولم تَرَ هذه الطائفة تصحيح حديث سبرةبن معيّة في تحريم المتعة عام الفتح؛ فإنّه من رواية عبدالملكبن
____________
(1) صحيح مسلم 2: 899|168، شرح صحيح مسلم للنوويّ 7 ـ 8: 456.
(2) شرح صحيح مسلم للنوويّ 8: 455.

( 279 )
الربيعبن سبرة عن أبيه عن جدّه، وقد تكلّم فيه ابن معين ولم يَرَ البخاريّ إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه، وكونه أصلاً من أُصول الاِسلام، ولو صحّ عنده لم يصبر على إخراجه والاحتجاج به، قالوا: ولو صحّ حديث سبرة لميَخْفَ على ابن مسعود حتّى يروي أنّهم فعلوها ويحتجّ بالآية! وأيضاً لو صحّ لم يَقُل عمر إنّها كانت على عهد رسول الله(ص) وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنّه حرّمها ونهى عنها. قالوا: لو صحّ لمتُفعل على عهد الصدّيق وهو عهد خلافة النبوّة حقّاً.
والطائفة الثانية: رأت صحّة حديث سبرة، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث عليّ (رض): إنّ رسول الله حرّم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر، حتّى كان زمن عمر، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر وبهذا تأتلف الاَحاديث الواردة فيها وبالله التوفيق»(1).

ردٌّ وإيضاح
لنا في كلام ابن القيّم نظر، إذ لا ندري متى ثبتت حرمة التمتّع بالنساء عن عليّ حتّى يصحّ جعله دليلاً للمطلوب، في حين كان الاِمام وابن عمه عبداللهبن عبّاس في طليعة المُجِيزين لها، والاَئمّة من ولده من المدافعين عنها على مرّ التاريخ فكيف ينسب إلى عليّ التحريم والخلفاء كانوا يعقدون جلسات المناظرة مع الاَئمّة من ولد عليّ وكان السؤال عن المتعة في رأس قائمة الاَسئلة في تلكم المناظرات التي حفظها لنا التاريخ؟!
فلو كان المنع قد ثبت عن عليّ فما معنى هذا الاِصرار من قبل آله في الدفاع عن حلِّيَّة التمتّع؟! ولماذا غدا أشياع عليّ ـ إذَن ـ موضع سهام الانتقاد والمحاربة، من أجل القول بمشروعيّة هذا التمتّع؟! ولمَ تُحارَبُ الشيعة من أجله؟!

____________
(1) زاد المعاد 2: 184.

( 280 )
نعم إنَّ الحلّيّة قد ثبت صدورها عن عليّ بطرق متعدّدة عند الفريقين، وأجمع عليها أئمّة التعبّد المحض ، أمّا حديث المنع المدّعى عن عليّ وغيره فقد انفرد بنقله أنصار مدرسة الاجتهاد والرأي.
لقد أكّدنا ـ أكثر من مرّة ـ على أنّ الحكومة وأنصارها كانت تجدّ في نسبة ما تريد إلى أعيان الصحابة المخالفين لرأي الخليفة، لتزكية عمل الخلفاء من خلال القول بأنّ عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وسعد بن أبي وقاصّ وغيرهم.. كانوا يذهبون أيضاً إلى ما ذهب إليه الخليفة.
وهذا يفسّر لنا ظاهرة من ظواهر اختلاف منقولات اتّباع نهج الاجتهاد والرأي عن الصحابيّ الواحد، خاصّة إن كان من الجناح المقابل لفقه الشيخين، لكي يختلط عند ذلك الحابل بالنابل والغثّ بالسمين.
إن اختلاف النقل عن الصحابيّ ينمُّ عن وجود امتداد لنهج آخر في الشريعة، ولاَجله ترانا نؤكّد بين الفينة والاَُخرى على ضرورة دراسة ملابسات الاَخبار، لمعرفة من قال بهذا الرأي من الخلفاء أو من أعطوه دوراً كبيراً في الشريعة كعائشة أُمّ المؤمنين، وهل هناك من يخالفهم من الصحابة عن رسول الله أم لا؟ وبهذا يمكننا الوقوف على الخيوط الخفيّة في الاَحكام الشرعيّة، ومكان وزمان صدور الخبر وملابسات الفتاوى والآراء!
ولو اتّخذنا قضيّة المتعة مثلاً، لعرفنا امتداد النهجين واضحاً بيّناً فيها.
فابن عبّاس وابن عمر وسعد بن أبي وقّاص وعليّ بن أبي طالب وأبو موسى الاَشعريّ، وغيرهم.. يؤكّدون على مشروعيّة هذا الفعل ويعتبرونه فعلاً شرعيّاً نصّ عليه الله ورسوله، ولم ينسخ قطّ.
أمّا عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان ومعاويه بن أبي سفيان وأئمّة الفقه الحاكم، فلايرتضون ذلك الفعل لاَنّ الخليفة عمربن الخطّاب لميستسغه فحرّمه.
فمن الطبيعيّ ـ من أجل تقوية الجناح الحاكم ـ أن ينسبوا إلى ابن عبّاس وعليّ ـ وحتّى إلى ابن عمر ـ قولاً في النهي عن ذلك، لتقوية اتّجاه الخليفة، فاللازم على الباحث ـ بعد وقوفه على نهي عمر في المتعة ـ أن يقف فيما يقال
( 281 )
عن حكم التمتّع، وهل حقّاً قد نسخ، أو أنّ عليّاً وابن عبّاس قد منعا منها، وغيرها من المفتريات التي تحكِّمُ فتوى الحاكم ورأيه.
إنّ النصوص ـ تاريخيّة كانت أم حديثيّة، سنّيّة كانت أم شيعيّة ـ توضِّح سقم تلك الاَخبار، وإليك خبراً آخر، عن ابن عبّاس في المتعة.
أخرج الهيثميّ في «مجمع الزوائد»: إن عروة بن الزبير أتى ابنَ عبّاس، فقال: يا ابن عبّاس، طالما أضللتَ الناس! قال: وما ذاك يا عُرَيّة؟!
قال: الرجل يخرج مُحْرِماً بحجّ أو عمرة، فإذا طاف زعمتَ أنّه قد حلّ، فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك. فقال: أهما ـ ويحك ـ آثرُ عندك أمْ ما في كتاب الله وما سَنّ الله في أصحابه وفي أُمتّه؟!
فقال عروة: هما كانا أعلم بكتاب الله وما سنّ رسول الله منّي ومنك(1).
وعن أيّوب، قال عروة لابن عبّاس: ألا تتّقي الله، ترخّص في المتعة؟!
فقال ابن عبّاس: سل أُمّك يا عُرَيّة؟
فقال عروة: أمّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا!
فقال ابن عبّاس: والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله! نحدّثكم عن النبيّ (ص) وتحدّثونا عن أبي بكر وعمر(2)؟!
فإحالة ابن عبّاس الاَمر إلى أمّ عروة ـ أسماء بنت أبي بكر ـ إنّما كان لتمتّع الزبير بها، وأنّها ولدت له من ذلك التمتّع عبد الله، كما نقله الراغب في المحاضرات(3)؟.
وعن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آتٍ، فقال: ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناها مع رسول الله، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نَعُدْ لهما(4).

____________
(1) مجمع الزوائد 3: 234.
(2) زاد المعاد 1: 213.
(3) محاضرات الاَُدباء 3: 214، العقد الفريد 2: 139.
(4) صحيح مسلم 2: 1023|17.

( 282 )
إنّ عودتنا إلى بعض النصوص عن ابن عبّاس غايتها إيقاف القارىَ على أنّ ما نسب إلى ابن عبّاس وأمثاله في المتعة وغيرها ليس بصحيح لاَنّ مثل هذا الرأي يصبّ في مصبّ فقه الحاكم ويخالف الثابت الصريح عن المخالفين.
وقد اشتهر عن معاوية أنّه أوّل من غذّى روح البغض والعداء لاَهل البيت بجهره بلعن عليّ وآله ولعن ابن عبّاس على المنابر. وقد جدّ بتحريف الشريعة عن جهتها بُغضاً لعليّ، فلو كان كذلك فهل تصدّق أن يبقى فقه عليّ وابن عبّاس كما هو في نهج الحكّام، مع معرفتك بأن الخلفاء من بعده ـ أمويّين كانوا أم عبّاسيّين ـ كانوا يتّخذون فقه الشيخين وعثمان وعائشة، بل كلّ من يخالف عليّ ويرجّحونه على فقه الآخرين، لوجود الطالبيّين في كفّة المعارضة!