تساؤلات وموازنة
إنّ التصريح بأسماء عشرة من الصحابة على أنّهم من أهل الجنّة يخالف الواقع العمليّ لسيرتهم، إذ كيف يمكننا أن نصحّح الخبر مع أنّ طلحة والزبير يقاتلان عليّاً وهو يومئذٍ الخليفة الشرعيّ، والكلّ من أهل الجنّة؟! في حين نعلم أنّ الحقّ واحدٌ، فإن كان عليّ مع الحقّ فطلحة والزبير على الباطل، وإن كانا على الحقّ، فعليّ على الباطل!
ولو قبلنا خبر «العشرة المبشّرة»، فكيف نفعل بما رواه البخاريّ عن رسول الله من قوله: إذا التقى المسلِمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار.
فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل.. فما بال المقتول؟!
قال: إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه.
إنّ هذا لَيجعل الباحث في حيرة، لا يدري أيصدّق: كونهما من أهل الجنّة، أم أنّهما من أهل النار؟
وما هي وظيفة الصحابيّ؟ هل يقاتل الفئة التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله، أم ينبغي له اتّباع من غلب، كما في قول ابن عمر؟!
وإذا كان كلّ واحد من العشرة له أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء، باعتباره من أصحاب الجنّة، فلماذا لم يدركوا هم هذه الحقيقة ويترك بعضهم البعض الآخر، وإذا كان هذا المنطق هو الصحيح، فلماذا نرفض الفوضويّة في التفكير؟ وهل هذا الكلام إلاّ عين الاستهانة بدماء وأموال وأعراض المسلمين؟!
ولماذا نرى عمر بن عبد العزيز يؤكّد على أبي بكر عمرو بن حزم أن يكتب ما كان من حديث رسول الله وسنّة صاحبيه، أو في حديث آخر: عمرة، وفي ثالث: عمر؟!
فما يعني في خطبته: (إلاّ ما سَنّ رسول الله وصاحباه، فهو ديِن نأخذ به وننتهي إليه، أمّا ما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه...)؟!
لماذا أرجأ عمر بن عبد العزيز سنّة عثمان وعليّ؟ ألم يكونا من الخلفاء الراشدين، ورسول الله أكّد على الاَخذ بقولهم: (عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء
( 312 )
الراشدين من بعدي)؟! وهل السنّة المتداولة اليوم هي سنّة الرسول، أم سنّة الصحابة؟ هذه تساؤلات بل تناقضات، يلزم البحث عنها في الفقه والتاريخ، وينبغي ألاّ تؤخذ النصوص على علاّتها.
أمّا أُصول الجرح والتعديل فقد رُسمت بعد رسول الله ومن قبل الحاكم وتحت رعايتهم وإشرافهم أيضاً مع الاَخد بنظر الاعتبار غلبة روح العصبيّة على تلك الاَُصول والمعاني ، فنسبة الضلال وفساد العقيدة والكذب وما شابهه إلى شيعة عليّ جاءت لتخالف مرويّات هؤلاء مع أُولئك فكريّاً، وقد تركت تلك الاَُصول آثارها في سيرتنا وسلوكنا بحيث لا يمكن التحرّر منها والابتعاد عنها، فلامحيص من المكوث عندها ودراسة جذورها تاريخيّاً وفقهيّاً، مع إيماننا بأنّ دراسة مثل هذه القضايا تفتح للباحث آفاقاً جديدة للمعرفة لميكن قد تذوّق صدقها ودقّتها من قبل، وهو ما ندعو إليه الباحثين ونؤكّد عليه في بحوثنا ودراساتنا، وستقف في ثنايا هذا البحث وكذا في بحثنا عن (السنّة بعد الرسول) على أنّ السنّة المتداولة اليوم لم تكن سنّة رسول الله، بل هي سنّة الرجال في كمّ ضخم من أبوابها ومفرداتها.

( 313 )

نظريّة أهل البيت في الموضوع
إنّ الاَئمّة من أهل البيت كانوا يشيرون إلى هذه الحقيقة تصريحاً وتلويحاً، في نصوص كثيرة ، إليك بعضها لتقف على رؤيتهم المميّزة لها عن مدرسة أهل الرأي.
عن الباقر أنّه قال لجابر: يا جابر! لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله (ص) وأُصول عنهم، نتوارثها كابر عن كابر، نَكْنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم(1).
وسأل رجلٌ الصادقَ عن مسألةٍ فأجابه فيها، فقال الرجل: أرايت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟
فقال له: مَه! ما أجبتك فيه شيء فهو عن رسول الله، لسنا من (أرأيت) في شيء(2).
عن سعيد الاَعرج قال، قلت لاَبي عبد الله (الصادق) إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة نقول فيه برأينا.
فقال أبو عبد الله: كذبوا ليس شيء إلاّ قد جاء في الكتاب وجاءت به السنّة(3).
وعن أبي جعفر (الباقر) أنّه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل: إنّ الفقهاء لايقولون هذا، فقال: ويحك ! وهل رأيت فقيهاً قطّ، إنّ الفقيه حقّ الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة المتمسّك بسنّة النبيّ (ص)(4).
وفي رواية أُخرى عنه (ع): ما أحد أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهل البيت أو كذب علينا ، لاَنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله (ص) وعن الله،
____________
(1) بصائر الدرجات: 300 و299.
(2) الكافي 1: 58.
(3) مستدرك وسائل الشيعة 17: 258، اختصاص المفيد: 281.
(4) الكافي 1: 70.

( 314 )
فإذا كُذِّبنا فقد كُذِّب الله ورسوله(1).
وعن الباقر أنّه قال: لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا (وفي آخر: فلولا ذلك كنّا كهؤلاء الناس)(2)ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا(3).
وفي خبر آخر عنه (ع): أنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله (ص) عليّاً وعلّمنا والله الحديث(4).
وعن أبي شيبة ، قال : سمعت الصادق يقول: ضلّ ابن شبرمة، عندنا الجامعة إملاء رسول الله وخطّ عليّ بيده، إنّ الجامعة لم تدع لاَحد كلاماً، فيها علم الحلال والحرام، إنّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقّ إلاّ بُعداً، إنّ دين الله لا يصاب بالقياس(5).
وعن الصادق أنّه قال: إنّ الله بعث محمّداً فختم به الاَنبياء فلا نبيَّ بعده، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ـ إلى أن قال ـ فجعله النبيّ (ص) علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس ـ فهم الشهداء على أهل كلّ زمان ـ حتّى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الاَمر ، وطلب علومهم ، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه تأويلها ، ولمينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوا عن أهله فضلّوا وأضلّوا(6).
وجاء عن النبيّ قوله: مَن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك(7).

____________
(1) جامع أحاديث الشيعة 1: 181.
(2) بصائر الدرجات: 301.
(3) بصائر الدرجات: 299.
(4) جامع أحاديث الشيعة 1: 184 عن الكافي.
(5) الكافي 1: 57.
(6) جامع أحاديث الشيعة 1: 220 عن تفسير العيّاشيّ.
(7) جامع أحاديث الشيعة 1: 153.

( 315 )
وعن محمّد بن حكيم قال قلت للصادق: إنّ قوماً من أصحابنا قد تفقّهوا وأصابوا علماً ورووا أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم، فقال: لا، وهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه(1)؟!
وقد ورد كلّ هذا وغيره في كنز العمّال عن رسول الله (ص) أنّه قال: تعمل هذه الاَُمّة برهة بكتاب الله ، ثمّ تعمل برهة بسنّة رسول الله، ثمّ تعمل برهة بالرأي فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا(2).
عن ابن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن أبي عبد الله (الصادق) قال: لعنالله أصحاب القياس فإنّهم غيّروا كلام الله وسنّة رسوله واتّهموا الصادقين عليهما السلام في دين الله(3).
وقد جاء هذا الكلام بنحو آخر عن الباقر ، وذلك حينما ذكر له عن عبيدة السلمانيّ أنّه روى عن عليّ بيع أُمّهات الاَولاد، فقال الباقر: كذبوا على عبيدة أو كذب عبيدة على عليّ ، فما حدّثناكم به عن عليّ فهو قوله، وما أنكرناه فهو افتراء عليه، ونحن نعلم أنّ القياس ليس من دين عليّ، وإنّما يقيس من لايعلم الكتاب والسنّة، فلا تضلّنّكم روايتهم، فإنّهم لايَدَعُون أن يضلّوا...(4) وعن أبي بصير ، قال : قلت للصادق: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتابالله ولاسنّة فننظر فيها؟ قال: لا، أمّا أنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله عزّ وجلّ(5).
وعن عليّ بن الحسين: أنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يصاب إلاّ بالتسليم، فمن سُلّم لنا سَلِمَ ومن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً ممّا نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم
____________
(1) المحاسن: 212.
(2) كنزل العمّال 1: 180|915.
(3) أمالي المفيد: 52.
(4) مستدرك وسائل الشيعة 17: 254.
(5) الكافي 1: 56.

( 316 )
وهو لايعلم(1).
وجاء عن رسول الله: إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا في الحلال والحرام برأيهم، فأحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحلّالله فضلّوا وأضلّوا(2).
وعن عليّ أنّه قال: يا معشر شيعتنا المنتحلين مودّتنا! إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعداء السنن ، تفلّتت منهم الاَحاديث أن يحفظوها وأعيتهم السنّة أن يعوها ـ إلى أن يقول ـ فسُئلوا عمّا لا يعلمون فأنفوا أن يعترفوا بإنّهم لايعلمون فعارضوا الدين بآرائهم فضلّوا وأضلّوا(3).
وعن حبيب قال: قال لنا أبو عبد الله ما أحد أحبّ إليّ منكم، إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى، منهم من أخذ بهواه، ومنهم من أخذ برآيه، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل(4).
وقد يكون هذا هو معنى آخر لما قاله أمير المؤمنين عليّ عن الناس بعد رسول الله (ص)، فعن أبي إسحاق السبيعيّ أنّه قال : سمعت أميرالمؤمنين يقول: إنّ الناس آلُوا بعد رسول الله إلى ثلاثة: آلُوا إلى عالم هدى من الله قد أغناهالله بما علم من علم عن علم غيره، وجاهل مدّع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلِّم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة، ثمّ هلك من ادّعى وخاب من افترى(5).
وعن الصادق: إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس لَيحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتباً إملاء رسول الله وخطّ عليّ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام، وإنّكم لتأتونا بالاَمر فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه(6).

____________
(1) انظر جامع أحاديث الشيعة 1: 334.
(2) مستدرك وسائل الشيعة 17: 256.
(3) مستدرك وسائل الشيعة 17: 309.
(4) المحاسن: 156.
(5) الكافي 1: 33.
(6) الكافي 1: 241242 ح 6 ، وبصائر الدرجات: 154.

( 317 )
هذا وقد كان الاِمام عليّ قد صنّف الاَحاديث الموجودة بيد الناس، وبيّن سبب الاختلاف فيها بقوله:
إن في أيدي الناس حقّاً وباطلاً، وصِدقاً وكَذِباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامّاً وخاصّاً، ومُحكماً ومُتشابهاً، وحِفْظاً ووَهْماً. ولقد كُذِب على رسول الله صلّىالله عليه وآله على عَهْدِه، حتّى قامَ خطيباً فقال: أيّها الناس! قد كثرت عَلَيّ الكذّابة، فمن كذب عَلَيّ مُتَعمِّداً فَليَتَبَوّأ مقعده من النار. ثُمّ كُذِب عليه من بعدِه. وإنّما أتاكُم الحَديثُ من أربعة ليس لهم خامس:
رجل منافِق يُظهر الاِيمان، مُتَصنّع بالاِسلام لايَتَأثّم ولايَتَحَرّج أن يكذب على رَسول الله مُتَعَمِّداً، فلو عَلِمَ الناسُ أنّه مُنافِق كَذّاب لَمْ يَقْبَلوا منه ولَم يُصدّقوه، ولكنّهُم قالوا: هذا قَدْ صَحِبَ رسول الله ورآه وسَمِعَ مَنْهُ وأخَذَ عَنْه وَهُمْ لايَعْرِفونَ حالَهُ! وَقَدْ أخبَره الله عَن المُنافِقين بِما أخْبَرَه ووصَفَهُمْ بِما وصَفَهُمْ فَقال عزّ وجلّ (وإذا رأيْتَهُمْ تُعْجِبْكَ أجْسَامُهُمْ وإن يقُولوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهمْ)(1)ثمَّ بَقوا، بَعْدَهُ فتقرَّبوا إلى أئمّة الضَلالَةِ والدُّعاة إلى النار بالزور والكَذِبِ والبُهْتان، فولّوهُم الاَعمال وحَملوهُم على رِقابِ الناس وأكَلوا بِهِمُ الدنيا، وإنّما الناس مع المُلوكِ والدنيا، إلاّ مَن عصمه الله، فهذا أحد الاَربعة.
ورَجُلٌ سَمِعَ من رسول الله شيئاً فَلَمْ يَحْمِلْهُ علىوجْهِهِ ووَهَمَ فيه ولَمْ يَتَعَمّدْ كذباً، فَهُو في يَدِهِ يَقولُ به ويَعْمَل بِهِ ويَرويهِ فَيَقُولُ: أنا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسول الله، فَلَو عَلِم المُسْلِمون أنّهُ وَهَمَ لَمْيَقْبَلوه، وَلَو عَلِمَ هو أنّه وَهَمَ لَرَفَضَهُ.
ورَجُلٌ ثالِث سَمِعَ من رسول الله شَيْئاً أمَرَ بِهِ ثُمَّ نَهى
____________
(1) المنافقون : 4 .

( 318 )
عَنْه وهو لا يَعْلَمْ، أو سَمِعَهُ يَنْهى عَنْ شَيء ثُمَّ أمَرَ بِهِ وهو لايَعْلَم فَحَفِظَ المَنْسوخَ ولَمْ يَحْفَظْ الناسِخ، ولَو عَلِمَ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضَهُ، ولَوْ عَلِمَ المُسْلِمونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضُوهُ.
وآخر رابِع لَمْ يكذِبْ على رسول الله، مُبْغِضٌ للكَذِبِ، خوفاً مِنَ الله وتَعْظيماً لرسول الله، لَمْينسه بَلْ حَفِظَ ما سَمِعَ على وجْهِهِ. فَجاءَ بِهِ كما سَمِعَ لَمْ يَزِدْ فيه ولَمْيَنْقُص عنه، وعَلِمَ الناسِخَ مِنَ المَنْسوخ، فَعَمِل بالناسِخِ وَرَفَضَ المَنْسوخَ، فإنَّ أمْرَ النّبيّ (ص) مِثْلَ القُرآنِ ناسِخٌ ومَنْسوخ، وخاصٌّ وعامٌّ، ومُحْكَمٌ ومُتَشابِهِ، قَْد كانَ يَكون من رسول الله الكَلام لَهُ وَجْهان: كلامٌ عامٌّ، وكَلامٌ خاصٌّ مِثْلُ القُرآن، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه (ما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا)(1)فَيَشْتَبِه على مَنْ لَمْ يَعْرِف وَلَمْيَدْر ما عَنى الله بِهِ ورَسُولَهُ، وَلَيْسَ كُل أصْحاب رسول الله كان يَسْأَله عَنْ الشيء فَيَفْهَم ، ومنهم مَنْ يَسْأله ولايَسْتَفْهِمْهُ حتّى إنْ كانوا لَيُحِبّون أنْ يُجيء الاَعرابيّ والطارىَ فَيَسأل رسول الله حتّى يَسْمَعوا.
وقَدْ كُنْتُ أدْخُلُ على رسول الله كُلّ يَومٍ دَخْلَةً وكُلّ لَيْلَةٍ دَخْلةً، فَيخليني فيها أدورُ مَعَهُ حَيثُ دَارَ، وَقَدْ عَلِمَ أصْحابَ رسول اللهه أنّه لَمْ يصنع ذلِكَ بأحد غيري، فربّما كانَ في بَيْتي يأتيني رسول الله أكثر مِنْ ذلك في بيتي، وكنت إذا دَخَلْتُ عَليهِ بَعْضَ منازله أخلاني وأقام عنّي نِساءه فلايبقى عنده غَيْري.
وإذا أتاني للخَلوَةِ مَعي في مَنْزلي، لَمْ تَقُم عَنّي فاطمة، ولا أحدٌ مِنْ بَنيَّ، وَكُنْتُ إذا سألته أجابَني، وإذا
____________
(1) الحشر : 7 .

( 319 )
سَكَتُّ عَنْه وفُنِيَتْ مَسائِلي ابْتدأني، فما نَزَلتْ على رسول الله آية من القرآن إلاّ أقْرأنيها وأملاها عَلَيَّ فَكَتَبْتُها بِخَطّي، وعَلّمْني تأويلها وتَفْسيرها، وناسخها ومَنْسوخِها، ومُحْكَمها ومُتَشابهها ، وخاصّها وعامّها ـ إلى أن يقول ـ ولاعلماً أملاه عَلَيَّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولاكتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته، فلم أنس حرفاً واحداً، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملاَ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً(1).
بهذا التقسيم المنهجيّ الموضوعيّ يوقفنا الاِمام عليّ على رأي مدرسة أهل البيت في تلقّي الصحابة، وواقع روايتهم عن النبيّ، ومكانته من رسول الله، ودور قريش في الشريعة. وإليك نصّاً آخر في هذا السياق عن نهج البلاغة ـ والحديث طويل منه:
(... فَانظُروا إلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهم، حِينَ بَعَثَ إليهم رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلّتهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهم جنَاحَ كَرَامَتها، وَأسَالت لَهُمْ جَدَاولَ نَعِيمهَا، وَالْتَفَّتِ المْلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائد بَرَكَتها، فَأصْبحُوا في نِعمتها غَرِقِينَ، وفِي خُضْرَة عَيْشهَا فَكهينَ؟! قَدْ تَرَبَّعَتِ الاَُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِرٍ، وآوَتْهُمُ الحَالُ إلَى كَنفِ عِزٍّ غَالبٍ، وَتَعطَّفَتِ الاَُمُورُ عَلَيْهِم فِي ذُرَى مُلْكِ ثَابتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ على العَالَمينَ، وَمُلُوكٌ فِي أطْرافِ الاَرَضينَ: يَمْلكُونَ الاَُمُورَ علَى مَنْ كَانَ يَمْلكُهَا عَلَيهمْ، وَيُمْضُونَ الاَحْكَامَ فِيَمْن كَانَ يُمضيها فيهمْ، لا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلاتُقْرَعُ لَهمْ صَفَاةٌ!

____________
(1) الكافي1: 62 وكذا في نهج البلاغة، وكتاب سليم بن قيس.

( 320 )
ألا وَإنَّكمْ قَدْ نَفَضتمْ أيْديَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَاللهِ المَضْرُوبَ عَلَيْكُم بِأَحْكَامِ الجاهليَّةِ، وإن اللهَ سُبْحَانُه قَدِ امْتنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هِذِه الاَُمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الاَُلْفَةِ الَّتي يَنْتَقلُونَ في ظلِّهَا، وَيَأْوونَ إلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَةٍ لا يَعْرفُ أحَدٌ مِنَ المخلُوقين لَهَا قِيمةً؛ لاَنّهَا أرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ، وَأجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.
واعْلَمُوا أنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الهجرَة أعْرَاباً، وَبَعْدَ المُوَالاةِ أحْزَاباً، مَا تَتَعلَّقُونَ مِنَ الاِسْلاَمِ إلاّ بِاسْمِهِ، ولاتَعِرفُونَ مِنَ الاِيمَانِ إلاّ رسْمَهُ!
تَقُولُونَ: «النَّارَ وَلا العَارَ»، كأنَّكُمْ تُرِيدُونَ أنْ تُكفئُوا الاِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ انْتهِاكاً لحَرِيِمِه، ونقْضَاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً في أرْضِهِ، وَأمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ، وإنَّكُمْ إنْ لَجَأتُمْ إلَى غَيْرهِ حَارَبَكُمْ أهْلُ الكُفْرِ، ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلُ وَلامِيكَائيِلُ وَلامُهَاجِرُونَ وَلا أنْصَارٌ يَنصُرُونكُمْ، إلاّ المُقَارَعَةُ بالسَّيْفِ حتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنكُمْ.
وإنَّ عنْدكُمُ الاَمثَالَ مِنْ بأسِ اللهِ وقَوَارعِهِ، وَأيّامِهِ وَوَقَائِعِه، فَلاتَسْتَبْطئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأخْذِهِ، وَتَهاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأساً مِنْ بأسِهِ؛ فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ القَرْنَ المَاضِي بَيْنَ أيْدِيكُمْ إلاّ لِتَرْكِهِمُ الاَمْرَ بالمعرُوف والنَّهْىي عَنِ المُنْكَرِ، فَلَعَنَاللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ المَعَاصِي، وَالحُلَمَاء لَترْك التَّنَاهي.
ألا وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الاِسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وأَمتُّمْ أَحْكَامَهُ، ألا وَقَدْ أَمَرَنِي اللهُ بِقِتَالِ أهْلِ البَغي والنَّكْثِ والفَسَادِ فِي الاَرْضِ: فَأمَّا النَّاكِثُون فَقَدْ قَاَتلْتُ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وأمَّا المارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وَأمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبهِ، وَرَجَّةَ صَدْرِهِ وَبَقيتْ بَقِيْةٌ مِنْ أهْلِ البَغْيِ، وَلَئنْ أَذِنَ اللهُ فِي الكَرَّة عَلَيْهم لاَُدِيلنَّ
( 321 )
مِنْهم إلاّ مَا يَتَشَذَّرُ في أطْرَافِ البِلادِ تَشَذُّراً.
أنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ العَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجمِ قُرونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وقدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رسول اللهللهِ« بِالقَرَابِةِ القَرِيَبةِ وَالَمنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَاَن يَمْضُغُ الشَّيء ثُمَّ يُلْقِمُنِيِه، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، وَلقَدْ قَرَنَاللهُ بِهِ صلى الله عليه وآله ، مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِه؛ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المْكَارِمِ، وَمَحَاسِنِ أخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أثَرَ أُمّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلاَقِه عَلَماً، وَيَأْمُرُني بالاقْتدَاء بِه، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحرَاء، فَأرَاهُ وَلا يَرَاهُ غَيْري، وَلَمْيُجْمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذٍ فِي الاِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُوِل الله صلى الله عليه وآله ، وَخَدِيَجةَ، وَأنَا ثَالِثُهُمَا، أرَى نُورَ الوَحْي والرِّسَالَةِ، وأشُمُّ رِيحَ النُّبُوُّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَان حِينَ نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ أيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَىمَا أرَى ، إلاّ أنّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكنّكَ وَزِيرٌ، وَإنّكَ لَعَلَى خَيْرٍ».
وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه وآله ، لَمَّا أتَاهُ المَلاَُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آباؤُكَ وَلاَأَحَدٌ مِنْ بَيْتكَ، وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إنْ [أَنْتَج أجَبْتَنَا إلَيْه وَأرَيْتَنَاهُ عَلمنَا أنَّكَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ صلى الله عليه وآله : وَمَا تَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هِذِه الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقهَا وَتَقفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ اللهَ
( 322 )
عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ، فَإنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذلِكَ أتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالحَقِّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَإنِّي لاَعْلَمُ أنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إلى خَيْرِ، وإنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطرَحُ فِي القَليب، وَمَنْ يُحَزِّبُ الاَحْزَابَ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله : ياأيَّتُهَا الشَّجَرَةُ! إنْ كُنتِ تُؤمنِينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ وَتَعْلمين أنِّي رسول اللهللهِ فَانْقَلعِي بِعُرُوِقك حَتَّى تَقِفي بَيْنَ يَدَيَّ بإذْنِ اللهِ. وَالَّذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعتْ بِعُرُوقهَا وَجَاءَتْ وَلَها دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَة الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بين يديْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مُرَفْرفَةً، وألْقَتْ بِغُصنَها الاَعْلَى عَلَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وَبِبَعْضِ أغْصَانِهَا عَلَىمَنْكبِيِ وَكنْتُ عَنْ يَميِنِه صلى الله عليه وآله وسلم ، فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إلَىذلكَ قَالوُا عُلُوَّاً وَاُسْتكْبَاراً: فَمُرْها فَلْيأتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا، فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأقْبَلَ إلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إقْبَالٍ وَأَشَدِّهِ دَوِيِّاً، فَكَادَتْ تَلتَفُّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقَالُوا كُفْراً وَعُتُوَّاً: فَمُرْ هَذا النِّصْفَ فَلْيرْجِعِ إلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَرَجَعَ، فَقُلْتُ أَنَا: لاَإلهَإلاَّاللهُ، فَإنِّي أوَّلُ مُؤْمِن بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأوَّلُ مَنْ أقَرَّ بأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى تَصْديقاً بِنُبُوَّتِكَ وَإجْلاَلاً لِكَلِمَتكَ، فَقَالَ القَوْمُ كُلُّهُمِّ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ! عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ في أَمْرِكَ إلاّ مِثُلُ هذَا؟! «يَعْنُونَني» وَإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لاَتَأُخُذُهُمْ في اللهِ لَوْمَةُ لاَئمٍ: سِيماهم سيماءُ الصِّدِّيقينَ، وَكَلامُهُمْ كَلاَمُ الاَبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ وَمَنَارُ النَّهارِ، مُتَمَسِّكُوَن بِحَبْلِ الْقُرآنَ، يُحْيُونَ سُنَنَاللهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَ يَعْلُونَ وَلاَيَغُلُّونَ، وَلاَيُفْسِدُونَ: قُلُوبُهُمْ في الجْنَانِ، وَأجْسادُهُمْ في العْمََلِ(1)
نعم لقد وصل الاَمر بالاَُمّة إلى هذا الحدّ، وهو كما قال الدهلويّ في
____________
(1) نهج البلاغة .

( 323 )
رسالته: (ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغيراستحقاق ولااستقلال بعلم الفتاوى والاَحكام، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم. وكان بقي من العلماء من الطراز الاَوّل، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الاَعصار غيرالعلماء إقبال الاَُمّة عليهم مع إعراضهم، فاشتروا طلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالاِعراض عن السلاطين أذلّة بالاِقبال عليهم، إلاّ من وفّقه الله...)(1)

____________
(1) رسالة الاِنصاف .

( 324 )

تخوّف وتأصيل
كان النبيّ (ص) يتخوّف من سلطة القبليّة في الشريعة، والتي نهى عنها القرآن الكريم. وكان رسول الله (ص) يؤكّد أنّ عليّ بن أبي طالب هو الوحيد الذي يعرِف تفسير وتأويل الآيات والاَحاديث كلّها، وأنّه بعيد عن الروح القبليّة والآراء الارتجاليّة.
روى ربعيّ عن عليّ أنّه قال: لمّا كان يوم الحديبيّة خرج إلينا ناس من المشركين، فيهم سُهيل بن عمرو وأُناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يارسول الله! خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأقاربنا وليسلهم فقه في الدين، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فاردُدْهم إلينا.
قال رسول الله: فإنْ لم يكن لهم فقه في الدين سنفقّههم. يامعشرقريش! لتنتَهُنَّ أو ليبعثنّ عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه للاِيمان.
قالوا: من هو يا رسول الله؟ وقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟
قال: هو خاصف النعل، وكان قد أعطى عليّاً نعله يَخْصِفها(1).
والنصوص الحديثيّة والتاريخيّة تؤكّد أنّ الرسول (ص) كان يعلم أنّ الخلاف بين أُمّته من بعده واقع لا محالة، إذ أخبره جبرئيل بذلك، فعنه (ص): أتاني جبرائيل فقال: يا محمّد! أُمّتك مختلفة من بعدك(2).
وأخرج الحكيم الترمذيّ عن عمر بن الخطّاب ، قال : أتاني جبرئيل آنفاً، فقال: أتاني رسول الله (ص) وأنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أتاني جبرئيل آنفاً ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قلت: أجل، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فَمِمَّ ذلك يا جبرئيل ؟ فقال: إنَّ أُمَّتك مفتتنة
____________
(1) كنز العمّال 13: 173|36518 و107|36351 و 115|36372.
(2) الفتح الربّانيّ : 1 .

( 325 )
بعدك بقليل من الدهر غير كثير.
قلت : فتنة كفر أو فتنة ضلالة.
قال : كلّ ذلك سيكون .
قلت : ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله.
قال : بكتاب الله يضلّون ، وأوّل ذلك من قبل قرَّائهم وأُمرائهم، يمنع الاَُمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ، وتتّبع القرّاء أهواء الاَُمراء فيمدّونهم في الغيّ ثمّ لا يقصرون.
قلت : يا جبرئيل ، فَبِمَ يسلم من سلم منهم.
قال : بالكفِّ والصبر ، إن أُعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه(1).
إن ابتلاء الاَُمّة وامتحانها كان يدور مدار أخذهم بأقوال أهل بيت الرسول وعدمه، فعن خالد بن عرفطة قال، قال رسول الله: إنّكم ستُبْتَلَون في أهل بيتي من بعدي(2).
أو قوله في حديث الثقلين: ... أيّها الناس! إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولٌ إلَيَّ فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين، أوّلهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به؛ فحثِّ على كتاب الله ورغّب فيه. ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي.
وجاء عنه (ص): «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذرّيّتي أحبّ إليه من ذرّيّته»(3).
وكذا قوله «... وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يرِدا عَلَيّ الحوض،
____________
(1) انظر الدرّ المنثور للسيوطيّ 3 : 155 عن الترمذيّ .
(2) كنز العمّال 11: 124|30877.
(3) كنز العمّال 1: 41|93.

( 326 )
فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1).
وقد علّق صاحب «الفتح الربّانيّ» على الحديث السابق بقوله:...أي إن ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه واهتديتم بهدى عترته واقتديتم بسيرته، اهتديتم فلم تضلّوا(2).
وفي «تحفة الاَحوذيّ» عند شرحه لقوله(ص): (فانظروا كيف تخلفوني فيهما): النظر بمعنى التأمّل والتفكّر، أي تأمّلوا واستعملوا الرويّة في استخلافي إيّاكم، هل تكونون خَلَف صِدْق أو خَلَف سوء(3)؟!
وقال الزرقانيّ في «شرح المواهب»:
أمّا الكتاب، فلاَنّه معدِن العلوم الدينيّة والاَسرار والحِكَم الشرعيّة، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق.
وأمّا العترة فلاَنّ العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين؛ فطيِب العنصر يؤدّي إلى حسن الاَخلاق، ومحاسنها تؤدّي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته، لهذا أكّد رسول الله في عدّة مواطن على لزوم اتّباع أهل بيته وأنّهم أولى الناس برعاية شؤون الاَُمّة، ولهذا جعل مَثَلهم كَمَثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق(4).
وقال صاحب «التاج الجامع للاَُصول» في شرح الحديث السابق: يقول النبيّ: أحسِنوا خلافتي فيهما باحترامهما والعمل بكتاب الله وما يراه أهل العلم من آل البيت أكثر من غيرهم(5).
وقال النوويّ وهو يعلّق على الثقلين: سمّي ثقلين لعِظَمهما وكِبَر شأنهما، وقيل لثقل العمل بهما(6).

____________
(1) مجمع الزوائد 9: 193، الفتح الربّانيّ 22: 105، كنز العمّال 1: 173|873.
(2) الفتح الربّانيّ في ترتيب مسند أحمد 22: 104.
(3) تحفة الاَحوذيّ في شرح جامع الترمذيّ 10: 290.
(4) شرح المواهب 2: 8.
(5) التاج الجامع للاَُّصول 1: 48.
(6) النووي شرح مسلم 15: 189 كتاب الفضائل| فضائل عليّ.

( 327 )
وقال الحسين بن محمّد بن عبد الله الطيبيّ في «الكاشف عن حقائق السنّة النبويّة»: قوله (ص): (إنّي تارك فيكم) إشارة إلى أنّهما بمنزلة التوأمين الخَلَفين عن رسول الله (ص)(1).
وقال نور الدين السمهوديّ في «جواهر العقدين»: ...والحاصل أنّه لمّا كان كلّ من القرآن العظيم والعترة الطاهرة معدِناً للعلوم الدينيّة والاَسرار والحكم النفسيّة الشرعيّة وكنوز دقائقها واستخراج حقائقها أطلق (ص) عليهما الثقلين، ويرشد لذلك حثّه في بعض الطرق السالفة على الاقتداء والتمسّك والتعلم من أهل بيته(2)0.
وقال ابن حجر في «الصواعق»: (سمّى رسولُ الله القرآنَ وعترتَه الثّقلين، لاَنّ الثقل كلُّ نفيس خطير مَصُون، وهذان كذلك؛ إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنيّة، والاَسرار والحكم العلّيّة، والاَحكام الشرعيّة، ولذا حثّ(ص) علىالاقتداء والتمسّك بهم، والتعلّم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهلَ البيت. وقيل: سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما(3).
وقال الاَزهريّ في «تهذيب اللغة» وابن منظور في «لسان العرب» والزَّبيديّ في «تاج العروس» وابن الاَثير في نهايته والسيوطيّ في «الدرّ المنثور» وغيرهم في شرح الحديث: سُمّيا ثقلين لاَنّ الاَخذ بهما ثقيل، والعمل بهما ثقيل.
وقال شهاب الدين الخفاجيّ في «نسيم الرياض» وهو يعدّد الاَقوال في تفسير حديث الثقلين: والثقلين، تثنية الثقل، وهو ما يثقل ضدّ الخفّة، وهما الاِنس والجانّ. فسمّاهما ثقلين تعظيماً لشأنهما، وإنّ عمارة الدين بهما، كما تَعْمُر الدنيا بالاِنس والجنّ. ولرجحان قدرهما، لاَنّ الرجحان في الميزان بثقل ما فيها، أو لاَنّه يثقل رعاية حقوقهما.

____________
( ) جامع أحاديث الشيعة (المقدّمة) 1: 79 ـ 83عنه.
(1) جامع أحاديث الشيعة (المقدّمة) 1: 79 ـ 83عنه.
(2) الصواعق المحرقة .

( 328 )
السابع: كون كلّ منهما مصوناً عن الخطأ والخطل وعن السهو والزلل وطهارتها عن الدنس والرجس وعن الباطل والكذب، ويؤيّده بعض فقرات الحديث ويناسبه المعنى اللغويّ؛ لاَنّ الثقل في اللغة كما تقدّم الشيء النفيس المصون.
أمّا طهارة الكتاب المبين وصيانته عمّا ذكره فمعلوم، فإنّه من عند الله العليم، وهو لديه لَعليّ حكيم فلايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأمّا طهارة العترة الطيّبة فبما أذهب اللهُ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لايقولون الباطل ولا يعملونه ولايأمرون به، وهم الصادقون الذين أمر الله المؤمنين أن يكونوا معهم، فلولا ذلك لم يجعلهم أقران الكتاب، فإنّه لا يمسّه إلاّ المطهرون(1).
ولابن حجر المكّيّ بعد نقله دعاءً من الاِمام السجّاد كلام في «الصواعق» قال: فإلى من يفزع خلف هذه الاَُمّة وقد دَرَست أعلام هذه الملّة ودانت الاَُمّة بالفُرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً والله يقول (وَلاتَكُونوا كالِّذينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَائَهمُ البَيِّناتُ)(2)؟! فمَن الموقوف به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم إلاّ أعدال الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى، الذين احتجّ الله بهم على عباده ولم يَدَع الخلقَ سُدى من غيرحجّة؟! هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيرا وبرّأهم من الآفات وافترض مودّتهم في الكتاب(3)؟!
لقد استبان بما سبق أنّ رسول الله كان يعني بتأكيده على العترة هو الاَخذ
____________
(1) جامع أحاديث الشيعة1: 83 عن نسيم الرياض3: 409.
(2) آل عمران : 105 .
(3) جامع أحاديث الشيعة 1: 84 عن الصواعق: 150.

( 329 )
عنهم في العقيدة والفقه وفي كلّ مجالات الحياة، لاَنّهم آله وذرّيّته العارفون بسنّته؛ وكان يتخوّف من عاقبة الاَُمّة وانحرافها عن طريقه وسنّته، لاَنّ الخلافة وما تتلوها من أُمور العصبيّة والقبليّة ستؤثّر ـ لا محالة ـ على الاَحكام، وتبعد الناس عن أهل البيت وبالتالي يكون الابتعاد عن المصدر الصحيح للتشريع الاِسلاميّ ـ السنّة النبويّة ـ، كما حدَث بالفعل، وهذا هو بعينه ما كان يتخوّف منه رسول الله (ص) على أُمّته.
ولو أمعنت النظر في نصوص النبيّ والاَئمّة من ولده لرأيت التأكيد على جملة «الضلال»، التي تعني الابتعاد عن جادّة الصراط.
ففي يوم الخميس قال: «ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً».
وقوله في حجّة الوداع: «...ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا»، وقوله لمّا أتى إليه عمر بجوامع من التوراة : والذي نفسي بيده ، لو أنّ موسى أصبح فيكم ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم»(1)وغيرها. وقد جاء هذا المفهوم في كلام أهل بيته، وعن ابنته فاطمة الزهراء صريحاً في خطبها وكلماتها.
وقد قال الشيخ محمّد الحنفيّ في شرح الجامع الصغير، وفي حاشية شرح العزيزيّ 2:417، وحديث العيبة (عيبة علميّ) أي وعاء علمي الحافظّ له، فإنَّه مدينة العلم، ولذا كانت الصحابة تحتاج إليه في تلك المشكلات، ولذا كان يسأله سيّدنا معاوية في زمن الواقعة عن المشكلات فيجيبه فتقول له الجماعة: ما لك تجيب عدوّنا؟ فيقول: أما يكفيكم أنّه يحتاج إلينا؟
ووقع له فكّ مشكلات مع سيّدنا عمر، فقال: ما أبقاني الله أن أدرك قوماً ليسفيهم أبو الحسن، أو كما قال، فقد طلب أن لا يعيش بعده، ثمّ ذكر قضايا فيها حديث اللطم والذي أخرجه الطبريّ في الرياض النضرة.
وقال المناويّ في فيض القدير 4:356 عن حديث العيبة: والعيبة ما
____________
(1) الاَسماء المبهمة للخطيب: 8 ـ 189 رقم (95)، مجمع الزوائد1: 74، وجمع الفوائد12: 30، المصنّف لعبد الرزّاق10: 313، دلائل النبوّة لاَبي نعيم1: 50، أُسد الغابة3: 127.

( 330 )
يحرز الرجل فيه نفائسه، قال ابن دريد: وهذا من كلامه الموجز الذي لميسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاصه بأُموره الباطنيّة التي لايطّلع عليها أحد غيره، وذلك غاية في مدح عليّ.
وعليه فقد اتّضح لك بعض أُصول الاختلاف بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء، وأنّ الاَُصول الفكريّة كانت الخلاف الكبير بينهما، وأنّ العترة طلبوا الخلافة لكي يحقّقوا أهداف الشريعة وسنّة رسول الله (ص)، إذ الخلافة في نفسها ليس لها أدنى سبيل إلى نفوسهم وليس لهم أدنى ميل إليها. قال ابن عبّاس: دخلت على أمير المؤمنين عليّ (ع) بذي قار، وهو يخصِف نَعْله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال (ع): «والله لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً»(1).
هذا، وأنّ العترة من أهل البيت لا يرتضون العمل بما يُنقل عنهم إلاّ بعد عرضه على الكتاب؛ فإن وافقَ القرآن وأحرز تطابقه معه يؤخذ به، وإن خالفه يُطرح ويُضرب به عرض الحائط ـ حسب تعبيرهم ـ كلّ ذلك حرصاً منهم على إيضاح الضوابط التي يؤخذ أو يردّ على أساسها الحديث، وليس حسن الظنّ بالصحابة وما شاكله من الاَُمور التي يمكن الاعتماد عليها وبناء الشريعة وفقهها مع ما قدّمنا من أُمور وأدلّة.
وهذا هو معنى الوحدويّة في الفكر والاَُصول، فكلام العترة يفسّر القرآن، والقرآن يشيد بطهارة العترة،فـ (عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ) وأنّك لاترى في كلام العترة تخالفاً مع القرآن وكذا العكس!
وهذا بعكس فقه الخلفاء الذين لم يرتضوا عرض فقه الرجال على القرآن، وربّما كانوا يعدّون ذلك من عمل الزنادقة(2)! لمعرفتهم بوجود تبايُن ـ في كثير من الاَحيان بين القرآن واجتهادات الصحابة، بل يجعلون فقه الصحابة وعملهم مخصِّصاً حتّى للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الريب حبّاً أعمى،
____________
(1) نهج البلاغة: 76|الخطبة 33.
(2) قد مرّ عليك كلام ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله، وراجع مقدّمة مصنّف ابن أبي شيبة.

( 331 )
إذ قال الشيخ محمّد أبو زهرة: «إنَّ الاَحناف والحنابلة اعتبروا عمل الصحابيّ مخصّصاً لكتاب، معلّلين بأنَّ الصحابيّ العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلاّ لدليل فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص وإنَّ قوله بمنزلة عمله»(1)، وهذا من أعجب العجب.

عمر بن الخطّاب والاَمويّون
عقيب ما قدّمنا لا يمكننا إلاّ التصريح بدور الخليفة عمر بن الخطّاب في تحكيم فقه الاَمويّين؛ لاَنّه ثبّت مواطىَ أقدامهم بإمضائه إمارة الشام لمعاوية بعد أخيه يزيد، واقتراحه على أبي بكر بأن يترك ما بيد أبي سفيان من الصدقات ليضمن ولاءَهُ، وأن يعيّن ابنه يزيد بن أبي سفيان قائداً لجيش الشام، وقوله عن معاوية: تذكرون كسرى وعندكم معاوية(2)، أو قوله لما ذُكر معاوية عند عمر ما مضمونه: دعوا فتى قريش وابن سيّدها، إنّه لمن يضحك في الغضب ولاينال منه إلاّ على الرضا، ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه(3).
والنصوص الاَُخرى التي تؤكّد على أنّ معاوية لمّا ولّي جاءته رسالة من أبيه وأُخرى من أُمّه؛ قال له أبوه فيها: يا بنيّ! إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا فرفعهم سبقهم وقصُر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولّوك جسيماً من أُمورهم فلا تخالفهم، فإنّك تجري إلى أمد، فنافِس فإنْ بلغته أورثته عقلك!
وقالت له أُمّه في رسالتها: والله يا بنيّ؛ إنّه قلّ أنْ تَلِدَ حرّةٌ مثلك، وإنّ هذا الرجل (أي عمر) قد استنهضك في هذا الاَمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت(4)؟.
وجاء، فيما دار بين معاوية وعمر لمّا قدِم الشامَ، قول معاوية لعمر:
____________
(1) أبو حنيفة ، لاَبي زهرة : 304 .
(2) الطبريّ 6: 184، الاستيعاب 3|396 ط جديد.
(3) كنز العمّال 13: 587، البداية والنهاية 8: 125، الاستيعاب 8: 397.
(4) البداية والنهاية 8: 118.

( 332 )
فَمُرْني يا أمير المؤمنين بما شئت، فقال: لا آمرك ولا أنهاك(1).
بهذه السياسة: (مُرْني أمتثل) و(علّمني أمتثل) استطاع معاوية أن يستولي على قلب الخليفة عمر بن الخطّاب، وقد كان عمر قد ولّى جمعاً من بني أُميّة على بعض الولايات، فولّى عمرو بن العاص فلسطين والاَُردن. وولّى الوليدبن عقبة صدقات بني تغلب، وكان من المقرّبين إليه(2).
وولّى يعلى بن منبّه على بعض بلاد اليمن(3)، وجعل المغيرةبن شعبة أميراً على الكوفة، وولّى عبدَاللهبن أبي سرح ـ أخا عثمان من الرضاعة ـ علىصعيد مصر ـ وفي عهد عثمان ضمّت إليه مصر كلّها ـ.
إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد اعتمد على نحو واضح على الاَمويّين في توليته الولايات والاَعمال، وفي الوقت نفسه أعرض عن تولية بني هاشم وكما صرّح هو نفسه لابن عبّاس ـ لمّا أراد توليته على حمص بعد موت واليها ـ فقال له:
يا ابن عبّاس ! إنّي خشيت أن يأتي عَلَيّ الذي هو آت (أي الموت) وأنت على عملك فتقول: هلمَّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم(4).
ونحوه تصريح ابن عوف لعليّ ـ وفيه تطبيق لسياسة الشيخين ـ: أُبايعك على شرط أن لا تجعل أحداً من بني هاشم على رقاب الناس.
ولمّا كثرت الاعتراضات على الخليفة لتوليته معاوية الشام، قال للناس: لاتذكروا معاوية إلاّ بخير، فإنّي سمعت رسول الله يقول: اللّهمّ اهدِه(5).
ولا أدري هل كان هذا الحديث قد وضع من قبل الاَمويّين لتصحيح ما صدر عن معاوية أيّام ولايته وملوكيّته؟ أم أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب أراد دفع اعتراض الناس بقوله ذلك؟ وهل طلب الهداية من ربّ العالمين يتّفق مع ما
____________
(1) الطبريّ 6: 184، البداية والنهاية 8: 125.
(2) الطبريّ 5: 59، البداية والنهاية 8: 214.
(3) الاستيعاب 3: 664.
(4) مروج الذهب 2: 353 454.
(5) البداية والنهاية 8: 123.

( 333 )
جاء عن النبيّ (ص) في لعنه ولعن أبيه وأخيه؟ وعلى كلّ حال فإنَّ معاوية استفاد من دعم عمر له لتقوية مكانته، ويؤيّد ذلك قوله لصعصعةبن صوحان: إنّ لي في الاِسلام لقدماً وإن كان غيري أحسن قدماً مني لكنّه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب، فلو كان غيري أقوى منّي لم يكن عند عمر هوادة لي ولغيري، ولا حدث ما ينبغي له أن اعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلَيَّ فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلاّ وهو خير فمهلاً فإنّ دون ما أنتم فيه وما...).
وقوله لمحمّد بن أبي بكر لمّا كتب إليه برسالة يذكر فيها فضائل عليّ، منها قوله:...فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعليّ وهو وارث رسول الله ووصيّه وأبو ولده وأوّل الناس اتّباعاً وأقربهم به عهداً...) إلى آخره.
فكتب إليه جواباً على رسالته (...فكان احتجاجك عَلَيّ وفخرك بفضل غيرك لابفضلك، فاحمد الله ربّاً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.
قد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مميّزاً علينا، فلمّا اختار الله نبيّه ما عنده، وأتمّ له وعده، وأظهر دعوته، وأبلج حجّته، وقبضه الله إليه، كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، وخالفه على أمره على ذلك اتّفقا واتّسقا ـ إلى أن يقول:
أبوك مهّد له مهاده، وبيّن ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صواباً، فأبوك أوّله، وإن يكن جوراً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلّمنا إليه، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب(1).
وجاء في رسالة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان إلى ابن عمر، لمّا اعترض عليه في قتله الحسين بن عليّ نحوه.

____________
(1) جمهرة رسائل العرب 1: 477 عن مروج الذهب 2: 600، شرح النهج 1: 284.

( 334 )
فهذا كلّه يؤكّد دور الخليفة عمر بن الخطّاب في تقوية فقه الاَمويّين من خلال فسح المجال لعثمان ومعاوية وأمثالهما من النهج المخالف لنهج التعبّد المحض، لكي يبنوا فقهاً جديداً وأُسساً مستحدثة في التشريع الاِسلاميّ.