مع حجّيّة قول الصحابيّ :
قال الاِمام الغزاليّ في «المستصفى»، في معرض حديثه عن حجّيّة قول الصحابيّ، بعد أن أورد الآراء فيها، وإنّ البعض ذهب إلى أنّ مذهب الصحابيّ حجّة مطلقاً، وذهب آخرون إلى أنّه حجّة وإن خالف القياس، وثالث قال إنّه حجّة إذا كان من أقوال أبي بكر وعمر خاصّة، لقوله (ص): (اقتدُوا بالذين من بعدي) ورابع: قال إنّه حجّة في قول الخلفاء الراشدين، إن اتّفقوا؟ ثمّ عمد الغزاليّ لتفنيد الاَقوال جميعاً، فقال:
إنّ من يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته فلا حجّة في قوله، فكيف يُحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟!
وكيف يُدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟! وكيف يُتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟!
وكيف يختلف المعصومان ؟! كيف ، وقد اتّفقت الصحابة على مخالفة رأي الصحابة؟! فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه؛ فانتفاء الاَدلّة على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم، فيه، ثلاثة أدلّة قاطعة.
وقال الاَُستاذ أبو زهرة: والحقّ أنّ قول الصحابيّ ليس بحجّة، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الاَُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً (ص)، وليس لنا إلاّ رسول واحد. والصحابة من بعده مكلّفون على السواء باتّباع شرعه في الكتاب والسنّة، فمن قال بأنّه تقوم الحجّة في دين الله لغيرهما فقد قال في دين الله ما لايثبت،
( 335 )
وأثبت شرعاً ما لم يأمر الله به(1).
وللدكتور حسين الحاجّ حسن كلام طريف بهذا الصدد، نصّه:
فصحابة النبيّ بشر مثل غيرهم من الناس، والدنيا ومباهجها تغري بعضهم، وتؤثّر في سلوكهم القيم الاجتماعيّة، والذي قال: إنّهم ملائكة معصومون من الذنوب فهو...، إلى أن يقول:
فمن سوء حظّ أبي جهل أنّه قُتل في معركة بدر في صفّ المشركين، ولو أنّ الصدفة ساعدته كما ساعدت غيره فنجا من تلك المعركة، ثمّ بقي إلى يوم الفتح فأسلم، لصار من عداد الصحابة أو القوّاد الذين ادّعوا أنّهم رفعوا راية الاِسلام. إنّها مسألة صدفة، والصدفة تلعب بمقدّرات الرجال لعباً هائلاً. وهذا أمر نشاهد مصداقه يجري أمام أعيننا كلّ يوم، إذ نرى الكثير من أمثال أبي جهل أوصلتهم الصدف إلى أعلى المراتب، والمحدِّثون والاِخباريّون من حولهم يحيطونهم بهالة من العظمة...(2).
وقال ابن حزم بعد نقله قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ آمنّا باللهِ وبالرسولِ وأطَعْنا ثُمّ يتولّى فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك وما أولئكَ بالمُؤمنين* وإذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضُون* وإن يَكُنْ لَهُمُ الحقُّ يأتُوا إليِه مُذْعِنين* أفي قُلوبِهم مَرَضٌ أم ارتابوا أم يَخافون أن يَحيفَ اللهُ عليهم ورسولهُ، بل أولئك هُمُ الظالمون* إنّما كانَ قولَ المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُم أن يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولئك هُمُ المُفْلِحون* ومَن يُطِع اللهَ ورسولَه ويَخْشَ اللهَ ويَتَّقْهِ فأُولئكَ هُمُ الفائزون* وأقْسَمُوا باللهِ جَهْدَ أيْمانِهمْ لَئن أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُلْ لا تُقْسموا طاعةٌ معروفةٌ إنّ الله خبيرٌ بما تعملون* قُلْ أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرّسُول، فإن تَوَلِّوا فإنّما عليهِ ما حُمِّلَ وعليكم ما حُمِّلْتُم وإنْ تُطيعوه تَهْتَدوا وما على الرّسُولِ إلاّ البلاغُ المُبِينُ)(3):
قال عليّ: هذه الآيات محكمات لم تَدَع لاَحد علقة
____________
(1) ص102.
(2) نقد الحديث للدكتور حسين الحاجّ حسن 1: 351 ـ 350.
(3) سورة النور: 47 ـ 54.

( 336 )
يشغب بها، قد بيّن الله فيها صفَة فعل أهل زماننا؛ فإنّهم يقولون: نحن المؤمنون بالله ورسوله، ونحن طائعون لهما، ثمّ يتولّى طائفة منهم بعد هذا الاِقرار، فيخالفون ما وردهم عن الله عزّ وجلّ ورسوله (ص)! أُولئك بنصّ حُكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين. وإذا دُعُوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول يخالف كلّ ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك، فِمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا متروك، ومن قائل: أبى هذا فلان، ومن قائل: القياس غير هذا. حتّى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئاً يوافق ما قلّدوا فيه طاروا به كلّ مَطار، وأتوا إليه مذعنين كما وصف إليه حرفاً حرفاً، فيا ويلهم ما بالهم؟! أفي قلوبهم مرض وريب؟! أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله (ص)؟! ألا إنّهم هُمُ الظالمون، كما سمّاهم الله ربّ العالمين، فبعداً للقوم الظالمين(1)!
ثمّ عَمَد ابن حزم ليبرّر ما فعله كبار الصحابة في مخالفاتهم لحديث رسول الله، وعدَّها مدخولة عليهم، لما رسم في نفسه من هالة لاَُولئك الرجال، فقال:
وقال أبو محمّد: وقد قال بعضهم: قد صحّ ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير ممّا بلغهم من حديث النبيّ (ص)، فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مُْسَتْخِفّيِنَ به، وهذا كفر من فاعله، أو يكونوا تركوه لفضلِ علمٍ كان عندهم، فهذا أولى أن يُظنّ بهم.
قال عليّ: وهذا يبطل من وجوه، أحدها أنّه لو قال قائل: لعلّ الحديث تركه من تركه منهم فيه داخلة، قيل له: ولعلّ الرواية التي رويت بأنّ فلاناً الصاحب ترك حديثاً كذا
____________
(1) الاِحكام في أُصول الاَحكام 1: 100 ـ 101.

( 337 )
هي المدخولة، وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبيّ (ص) أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها، وأيضاً فإنّ قوماً منهم تركوا بعض الحديث، وقوماً منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء.
وفلان فرّق بين من قال: لابدّ من أنّه كان عند من تركه علمٌ من أجله تركه، وبين من قال: لابُدّ من أنّه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به. وكلّ دعوى عَرِيتْ من برهان فهي ساقطة. وقد قدّمنا أنّه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحقّ، سواء تركه مخطئاً معذوراً، أو تركه عاصياً موزوراً، ولاتكترث بمن عمل به كائناً من كان، وسواء عمل به أو تركه وفرض على كلّ من سمعه أن تعمل به على كلّ حال.
وأيضاً فإنّ الاَحاديث التي روي أنّه تركها بعض من سلف ليست ـ في أكثر الاَمر ـ التي ترك هؤلاء المحتجّون بترك من سلف لما تركوا منها. بل ترك هؤلاء ما أخذ به أُولئك، وأخذ هؤلاء بما تركه أُولئك، فلا حجّة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث؛ لاَنّهم أوّل مخالف لهم في ذلك، وأوّل مبطل لذلك الترك. ولا أسوأ من احتجاج امرىَ بما يبطل على من لا يحقّق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتجّ به له أو أشدّ.
وأيضاً: فلو صحّ ما افترَوه، من أنّه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علمٌ من أجله ترك ما ترك من الحديث ونعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعيذ كلّ من يظنّ به خيراً من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الاَُمّة المقدّسة لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعوناً بلعنة الله عزّ وجلّ. قال الله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنِ البيّناتِ والهُدَى مِن بعدِ ما بَيَّناهُ
( 338 )
للنّاسِ في الكِتابِ أُولئِكَ يلْعَنُهُم اللهُ ويَلْعَنُهمُ اللاّعِنُون
)(1) فنحن نقول: لعن الله كلّ من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله« وكتمه عن الناس كائناً من كان. ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقد نسبهم إلى الاِدخال في الدين وكيد الشريعة، وهذا أشدّ ما يكون من الكفر.
وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليثبن حرفش العبديّ في مجلس القاضي عبدالرحمن بن أحمد ابن بشر؛، وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيّين، فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة، بل صمتوا كلّهم، إلاّ قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي؛ وذلك أنّي قلت له: لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صحّ عنه لكان أفسق الناس، وذلك أنّك تصفه بأنّه أبدى إلى الناس المعلولَ والمتروك والمنسوخ من روايته، وكتمهم المستعملَ والسالم والناسخ، حتّى مات ولميُبْدِه إلى أحد. وهذه صفة من يقصد إفساد الاِسلام والتدليس على أهله، وقد أعاذه الله من ذلك. بل كان عندنا أحد الاَئمّة الناصحين لهذه الملّة، ولكنه أصاب وأخطأ، واجتهد فوفّق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق ـ أو كلاماً هذا معناه ـ وقد افترض الله تعالى التبليغ على كلّ عالم، وقد قال عليه السلام مخبراً: «إنّ مَن كتم علماً عنده فسئل عنه أُلجم يوم القيامة بلِجام من نار»(2)... إلى آخره.
وهذا يوضّح أنّ التعدّديّة في الرأي تخالف وحدويّة العقيدة، وأنّ القول بعدالة الصحابة على الاِطلاق يخالف ما فعله عمر مع سعد بن عبادة وقوله فيه: اقتلوا سعداً، قتل الله سعداً! وكذلك ضربُه تميماً الداريّ، وتخوينه عمروبن العاص في سرقته مال الفيء، وطعنه في دين خالد بن الوليد والحكم بوجوب
____________
(1) سورة البقرة: 159.
(2) الاِحكام لابن حزم2: 251.

( 339 )
قتله، كلّ هذا يُفهم أنّ القول بعدالة الصحابة لم يكن على عهد عمر وأبي بكر، وحتّى على عهد عثمان. بل إنّه قد حدث لاحقاً، وليس له رصيد، ولميُدْعَم من السنّة؛ إذ كلّ ما نقل عنه(ص) في هذا الشأن هو عرضة للترديد والردّ، ومثله ما رُسم من هالة للصحابة وعدّهم بمنزلة المعصوم والمخصِّصين للقرآن. نعم، إنّه فعل الخلفاء وأنصارهم!
كلّ هذه المباني المخترعة والاَُصول الخاطئة كان سببها ـ بل من أهمّ عوامل بنائها ـ منع التحديث والتدوين، ذلك المنع الذي فسح المجال لسلطة الرأي أن تتحكّم على النصوص.
جاء عن سليمان بن عبد القويّ الحنبليّ المتوفى في 716 قوله في شرح الاَربعين:
إنّ أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص، وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك عمر بن الخطّاب، لاَنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنّة فمنعهم مع علمه بقول النبيّ (ص) «اكتبوا لاَبي شاة» وقوله «قيّدوا العلم بالكتابة».
فلو ترك الصحابة يدّون كلّ واحد منهم ما سمع من النبيّ لانضبطت السنّة فلميبق بين آخر الاَُمّة وبين النبيّ إلاّ الصحابيّ الذي دوّنت روايته، لاَنّ تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم كما تتواتر عن البخاريّ(1).
وقال الشيخ محمّد أبو زهرة: إنَّ امتناع بعض الصحابة عن كتابة الحديث ومنعهم منها لم يكن سببه نهي النبيّ (ص) عن كتابة الحديث، بدليل أنَّ الآثار الواردة عنهم في المنع أو الامتناع من كتابة الحديث لم ينقل فيها التعليل بذلك، وإنَّما كانوا يعلّلون بمخافة أن تشتغل الناس بها عن كتاب الله أو غيرذلك من الاَغراض(2) .
وبذلك اندثر الكثير من سنّة رسول الله (ص)، ونُسب إليه أكثر من ذلك،
____________
(1) نقل الاَُستاذ أسد حيدر عنه هذا الكلام في كتابه الاِمام الصادق والمذاهب الاَربعة، فراجع.
(2) الحديث والمحدّثون : 234 .

( 340 )
واختلط الاَثر النبويّ أيّما اختلاط بالرأي والاجتهاد، حتّى ألزم البخاريّ نفسه أن ينتقي كتابه من بين ستمائة ألف حديث، وقريب منه فعل مسلم والنسائيّ وسواهما.
كان هذا مجمل الحديث عن محنة النصّ النبويّ، وما أعقب المنع من آثار على الشريعة، بسطنا القول فيه ليتعرّف القارىَ على ملابسات التشريع وبعض أسباب الاختلاف بين المسلمين. ولم نكن نتوخّى فيه إلاّ بيان الحقيقة التي خفيت على المسلمين أحقاباً طويلة، وفُرض عليها الحصار قُرابة أربعة عشر قرناً من الزمان.

( 341 )


النتيجة

نتج من خلال البحث والتتبّع أنّ المنع من التدوين مرّ بمراحل ثلاث:
الاَُولى: فترة الشيخين.
الثانية: من سار على نهجهما، كعثمان ومعاوية.
الثالثة: بعد معاويّة، حتّى عصر التدوين الحكوميّ.

المرحلة الاَُولى :
كان المنع في عهد الشيخين لعدم حفظهما واستيعابهما جميع أحاديث رسول الله (ص)، ولمّا كان مقام الخلافة يستوجب العلم بما حكم به الرسول، والخليفة لم يختصّ به (ص) كي يعرف جميع الاَحكام الصادرة عنه، ولميثُبت عن رسولالله معرفته بوجوه التفسير والتأويل في القرآن.. كان من الطبيعيّ أن يحدث التخالف بين فتاواه، وبين أقوال رسول الله وحكم التنزيل. وهذا الاَمر لو كان قد فُسح المجال ليتّضح للناس مثلما هو عليه اليوم لاَحدث مشكلة كبيرة، خاصّة وأنّ الخليفة كان في صدد معارك عسكريّة وفتوح للبلدان المتاخمة لبلاد المسلمين، فلذلك رأى من اللازم عليه اعتبار رأيه وإن خالف النصّ لكي يكون معذوراً فيما يذهب إليه ولمصالح قد ارتضاها! فتراه يقول: (ذلك على ما قَضَينا، وهذا على ما قضينا).
وقد تزايدت القضايا والوقائع التي ينبغي بيان حكمها، على أثر اتّساع رقعة الدولة الفتيّة بالفتوحات ومن خلال التعامل مع أقوام شتّى دخلوا في الاِسلام. ولم يكن وضع الخليفة العلميّ بالذي يهيئوه للاِجابة الشرعيّة عن الحاجات المستجدّة، لعدم إحاطته بأحاديث رسول الله (ص) واستيعابه للموقف الشرعيّ الذي كان النبيّ (ص) قد كشف عنه من نصوص، ذلك أنّ
( 342 )
عمربن الخطّاب لم يكن متفرّغاً لملازمة الرسول والاَخذ عنه، بل كان يتناوب هو وأخ له من الاَنصار للاَخذ عنه (ص)، فعن عمر ـ كما أخبر البخاري ّـ أنّه قال: كنت أنا وجارٌ لي من الاَنصار في بني أُميّة بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنّا نتناوب النزول للاَخذ عن رسول الله، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك(1)، وكان البيع والشراء في الاَسواق ممّا يشغله ويلهيه عن ملازمة رسول الله (ص) والاستمداد منه، لقوله: (وكان يلهيني الصفق في الاَسواق)، وقال له أُبيّ: وكان يلهيك الصَّفْق في الاَسواق. فكان هذا أحد أسباب قلّة التلقي عن رسول الله.
بَيْدَ أنّ الوقائع المستجدّة تحتاج إلى حلول فوريّة يلزم استقاؤها من القرآن والسنّة، وبما أنّ الخليفة لم يكن عارفاً بجميع السنّة ووجوه التأويل، فإنّه واجَهَ مشكلة في ذلك مستعصية إذ إنّه لو أفتى بشيءٍ يخالف القرآن أو السنّة كان في حرجٍ أمام الصحابة الذين سيعلنون عن الموقف الشرعيّ السليم في الواقعة كما سمعوه من رسول الله.
لذلك تراه يبدأ السؤال عن حكم الرسول ـ كي لا يُحرَج لاحقاً ـ أو تراه يخضع لما يذكّره به الصحابة من أقوال النبيّ وأحاديثه دون نقاش.
لكنَّ استمرار حالة سؤاله الصحابة عن حكم الوقائع والحوادث المتتابعة، وافتراض كون الاَحكام مستنبطة من النصوص.. من شأنه إيقاع الخليفة في حرج آخر كلّما دعت الحاجة إلى موقف شرعيّ كاشف عن حكم الله جلّ جلاله، ومن شأن استمرار هذه الحالة أيضاً أن تفوّت على الخليفة كثيراً من الفرص. ومن هنا وجد من الضروريّ له خروجاً من الحرج وفوات الفرص أن يصير إلى تشريع الاجتهاد والعمل بالرأي؛ لاِعذاره وإعذار من يسير على نهجه من المسلمين.
ولذلك صار عند المسلمين اتّجاهان:
الاَوّل: لا يرتضي الحكم والاستنباط إلاّ على ضوء النصّ الشرعيّ من
____________
(1) البخاريّ كتاب العلم 1: 33 باب 27.

( 343 )
قرآن وسنّة.
الثاني: يرى الاجتهاد فيما لا نصّ فيه وما فيه نصّ، ويذهب إلى اعتبار ما يراه من المصلحة.
فالمصلحة هي الوسيلة الاَقوى التي اتّخذها الحكّام، فهم لايقولون بشيء إلاّ بادّعاء أنّ المصلحة في فعله، ولا ينهون عن شيء إلاّ بتصوّر أنّ المصلحة في تركه. لكنّ السؤال الذي لا مفرّ منه هو: هل مشروعيّة هذه المصلحة مُنْتَزعة من النصّ أم لا؟
إنّ أصحاب نهج التعبّد المحض لو أخذوا بالاَحكام الثانويّة فإنّهم يكونون قد أخذوا بها على ضوء النصوص ولفترة محدودة بمقدار الضرورة، لااجتهاداً من عند أنفسهم.
وأمّا المصلحة في نهج الخلفاء فإنّها تؤخذ من فعل الخليفة وما رآه مصلحة بحيث تكون حكماً دائميّاً لا وقتيّاً، وهذا فارق عظيم بين الحالتين.
نعم، إنّ الاجتهاد له مطّاطيّة وانسيابيّة، ولا يمكن لاَحد الحدّ من سيره، وإنَّ راكبه كما وصفه الاِمام عليّ بن أبي طالب في خطبة الشِّقشقيّة: (كراكِبِ الصَّعْبة...) لا يمكن لاَحد أن يلجمه والاِمساك بزمامه.

المرحلة الثانية :
كان عثمان يميل إلى مواصلة سنّة الشيخين، لكنّه في الوقت نفسه يرى لنفسه الاَهليّة في الاِفتاء والاجتهاد كالشيخين؛ لما يراه من مصلحة ورأي، لاَنّ تحديد إفتائه وحديثه (بما عُمِل في زمن الشيخين) ـ كما هو المصرّح به في خطبته الاَُولى ـ كان يؤذيه، لسابقته في الاِسلام ومصاهرته الرسول، ولكونه ليس بأقلّ شأناً من عمر وأبي بكر، فكيف يجوز للناس أن يعترضوا عليه لمخالفته بعض اجتهادات الشيخين وهو قد شاهدهم بالاَمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر المخالفة لسنّة رسول الله؟! بل إنّهم قد ارتضوا تلك الاجتهادات وجعلوها نهجَ حياة، يضاهي ويوازن سنّة رسول الله، بل يعارضها في موارد كثيرة، وهو في بعضها أجسر فيما شرّعه من عثمان وأجرأ.

( 344 )
فكان عثمان يردّد هذا السؤال مع نفسه:
كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهى لمصلحة كان يقدّرها ـ كما في صلاة التراويح ومتعة النساء ـ ولا يحقّ لي ذلك؟!
ولماذا يجب أن أكون تابعاً لسياستهما ولا أكون مجتهداً متبوعاً؟!
وقد جاء هذا الكلام صريحاً في قوله للمعترضين: (ألا فقد ـ والله ـ عبتم عَلَيّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله)، ثمّ يقول: (أما والله لاََنا أعزّ نَفَراً وأقربُ ناصراً وأكثر عدداً وأقْمَنُ إن قلت هلمّ، أُتِيَ إليّ، ولقد أعددتُ لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولاً وكشّرت لكم عن نابي...)(1).
وقد شاهدتَ ابن عوف وعرفت أنّه لم يقدر أن يلزم عثمان بما أعطاه من العهد والميثاق للسير على طِباق مسيرة أبي بكر وعمر، ومن هنا اعتصم ابن عوف بالصمت في آخر الحوار الذي دار بينه وبين عثمان حول الصلاة في منى، فقال ابن عوف: ألم تصلِّ مع رسول الله ركعتين؟
قال عثمان : بلى.
فقال ابن عوف: ألم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟
قال : بلى.
قال ابن عوف: ألم تصلّ في الستّ الاَوائل في خلافتك ركعتين؟
قال : بلى.
فقال ابن عوف: إذن كيف تصلّي اليوم أربعاً؟!
فقال عثمان : رأيٌ رأيته!
فعثمان ما فعل في هذه المفردة إلاّ ما جرّ إليه الاجتهاد.
وتجاوز الحدود جاء تبعاً له، فلم يمكن لاَحد الاَخذ بلجامه والاعتراض على اجتهادات الآخرين، لاَنّ خليفة المسلمين قد فعل ذلك، فإن ورد اعتراض على اجتهادات الآخرين فإنّه يَرِدُ قبله على خليفة المسلمين لاَنّه فعل ذلك، فإن كان الاجتهاد شرعيّاً فاجتهاد عثمان وغيره شرعيّ كذلك، وإن لم يكن شرعيّاً،
____________
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 338 ـ 339.

( 345 )
فَلِمَ فعل الشيخان ذلك؟!
ومرّةً أُخرى.. فإنّ المنع عن تدوين السنّة الشريفة وإقلال الحديث عن رسول الله هو الذي أوجد الاجتهاد عند الشيخين، واجتهاد الشيخين هو الذي حدا بعثمان أن يجتهد كذلك ويُحْدِث الاَحكام طبق ما يراه من مصلحة، والخلفاء بعد هؤلاء ـ إلاّ عليّ بن أبي طالب ـ قد وجدوا في الاجتهاد والمصلحة بُغيتهم، وأنّه خير غطاء يمكن الاحتماء به لتصحيح آرائهم.
وأمّا عليّ بن أبي طالب فقد عارض فكر هذا الاتّجاه. وكلماته في النهج وغيره توضّح ذلك وتجلّيه بما لا يَدَع مجالاً للشكّ. وإليك نصّين عنه في أيّام خلافته يوضّحان معالم الاختلاف وجذور المسألة.
الاَوّل قوله (ع): (... وإنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع وأحكام تُبَْتدع، يُخالَف فيها حكم الله، يَتولّى فيها رجالٌ رجالاً. ألا إنّ الحقّ لو خَلَصَ لَميَكن اختلاف، ولو أنّ الباطل خَلَصَ لم يَخْفَ على ذي حِجى، لكنّه يؤخذ من هذا ضِغثٌ ومن هذا ضِغثٌ، فيمزَجان فيجعلان معاً، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى. إنّي سمعتُ رسولَ الله يقول: كيف أنتم إذا لَبِسَتْكُم فتنة يربو فيها الصغير ويَهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتّخذونها سنّة، فإذا غُيِّرَ منها شيء قيل: قد غُيّرت السنّة وقد أتى الناس منكراً؟! ثمّ تشتدّ البليّة وتسبى الذرّيّة، وتدقّهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب، وكما تدقّ الرحا بثِفالها(1)، ويتفقّهون لغير الله ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.
ثمّ أقبل بوجهه، وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال: قد عملتِ الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله متعمّدِين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيِّرِين لسنّته، ولو حملتُ الناس على تركها وحوَّلْتُها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله لتفرّق عنّي جندي، حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرضَ إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة
____________
(1) الثفال بالكسر جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق، ويسمى الحجر الاَسفل: ثفالاً بها.

( 346 )
رسول الله. أرأيتم لو أمرتُ بمقام إبراهيم فردَدْتُه إلى الموضع الذي وضعه فيه رسولُ الله(1)، ورددتُ فدك إلى ورثة فاطمة(2)، ورددتُ صاع رسول الله كما كان(3) وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله لاَقوام لم تُمْضَ لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد(4)، ورددت قضايا من الجور قضي بها(5)، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقّ فرددتُهن إلى أزواجهن(6) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والاَحكام، وسبيت ذراري بني تَغْلِب(7)، ورددت ما قسّم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا(8)، وأعطيت كما كان رسول الله يعطي بالسويّة، ولم أجعلها دُولة بين الاَغنياء، وألقيت المساحة(9) وسوّيت بين المناكح(10)، وأنفذت خُمْس الرسول كما أنزل عزّ وجلّ وفَرَضه(11)،
____________
(1) انظر الغدير وغيره:
(2) قصّة فدك مشهورة لا حاجة لبيانها وللاَعلام فيها كتب كثيرة.
(3) انظر الخلاف للشيخ الطوسيّ لتعرف حقيقة الاَمر.
(4) كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد.
(5) كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الاِرث و...
(6) كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته: ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج... إلخ ، وانظر نهج البلاغة 1:42 خ14.
(7) لاَنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة، فيحلّ سبيُ ذراريهم، قال محي السنّة البغويّ: روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية، فقالوا: نحن عرب لانؤدّي ما يؤدّي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض، بعنوان الصدقة. فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين. قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.
(8) إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لاَهل العلم والولاة والجند، بمنزلة الزكاة المفروضة، ودوّن دواوين، فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.
(9) راجع تفصيل هذا الاَمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى .
(10) ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.
(11) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمْسَهم .

( 347 )
ورددت مسجد رسول الله إلى ما كان عليه(1)، وسددت ما فُتح فيه من الاَبواب(2)، وفتحت ما سُدّ منه، وحرّمت المسح على الخُفّين(3)، وحَدَدتُ على النبيذ، وأمرت بإحلال المُتْعَتين(4)، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات(5)، وألزمتُ الناس الجهرَ ببسم الله الرحمن الرحيم(6)، وأخرجت مَن أُدخِل بعد رسول الله في مسجده ممّن كان رسولُ الله أخرجه، وأدخلت مَن أُخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله أدخله(7)، وحملتُ الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة(8)، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها(9)، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها(10)، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم(11)، ورددت سبايا فارس وسائر الاَُمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه.. إذن لتفرّقوا عنّي.
والله لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الاِسلام! غُيِّرت سنّة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان
____________
(1) يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً.
(2) إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسد الاَبواب إلاّ باب عليّ.
(3) إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا.
(4) يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.
(5) لِما كبّر النبيّ في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما.
(6) لكونهم قد أكّدوا على إخفاتها.
(7) يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا من المسجد في حيث إنّهم كانوا مقرّبين عند رسول الله، وإنّه (ع) يخرج من أخرجه رسول الله، كالحكمبن العاص وغيرهم.
(8) كما مرّت عليك الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاثاً.
(9) أي من أجناسها التسعة، وهي: الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والاِبل والغنم والبقر .
(10) وذلك لمخالفتهم هذه الاَحكام. وقد وضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا (وضوء النبيّ).
(11) وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم.

( 348 )
تطوعاً! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. ما لقيت من هذه الاَُمّة من الفُرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار!! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عزّ وجلّ (إنْ كُنتم آمنتم باللهِ وما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يومَ الفرقانِ يومَ التقى الجَمْعان)(1)، فنحن والله عنى بذي القربى الذين قَرَننا الله بنفسه وبرسوله (ص) فقال تعالى (فللّهِ وللرّسُولِ ولذي القُرْبى واليَتامىوالمَساكين وابنِ السَّبيلِ كَيْلا يَكْونَ دُولةً بينَ الاَغنياءِ مِنكم، وما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوه ومَا نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا واتّقوا اللهَ إنّ اللهَ شديدُ العِقاب...)(2).
الثاني: روى الطوسيّ في «التهذيب» عن الصادق قول أمير المؤمنين لمّا قدِم الكوفة وأمر الحسنَ بن عليّ أن ينادي في الناس: (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة)، فنادى في الناس الحسنُ بن عليّ بما أمره به أميرُ المؤمنين، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن عليّ صاحوا: واعُمَراه! واعمراه! فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين قال له: ما هذا الصوت؟
فقال: يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون: واعمراه! واعمراه! فقال أميرالمؤمنين: قل لهم: صلّوا(3).
عرفنا من مجمل الخبرين السابقين عدّة أُمور:
1 ـ أنّ هناك سُنَناً قد شُرّعت من قبل الخلفاء لا يرتضيها عليّ؛ لمخالفتها مع سنّة رسول الله (ص).
2 ـ سعى عليّ لرفعها لكنّه لم يقدر على كثير منها؛ لقوّة التيّار المدافع عن عمر، والمتابع لاجتهاداته وآرائه.
3 ـ أنّ الخلاف بين عليّ وعمر ليس على موضوع الخلافة وحده، بل على الفقه والشريعة كذلك، بل يمكن ترجيح جانب الفقه ـ في بعض الاَحيان ـ وهذا ما نقوله كذلك في منعه للتدوين!

____________
(1) الاَنفال : 41 .
(2) انظر روضة الكافي: 8: 58 ح21. والآية : 7 من سورة الحشر.
(3) تهذيب الاَحكام 3: 70|ح27.

( 349 )
فالقائلون بحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة كانوا يعارضون التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته، ويرجّحون اجتهادات الشيخين على كلّ شيء.
وأمّا أنصار مدرسة التعبّد المحض فكانوا يقفون أمام تهديدات هؤلاء، موضّحين فقه رسول الله، وناقلين حديثه للناس، ولو وضعت الصمصامة على أعناقهم!
وجاء عن عليّ أنّه قال لمّا طُعِن : أمّا وصيّتي إيّاكم، فالله عزَّ وجلَّ لاتشركوا به شيئاً، ومحمّد لا تضيّعوا سنّته، أقيموا هذين العمودين...(1) وعن ابن كثير، عن أبيه، قال: أتيت أبا ذرّ، وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثمّ قال: أوَلَمْ تُنهَ عن الفُتيا؟! فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عَلَيَّ؟! لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى قفاه، ثمّ ظننت أنّي أُنِفُذ كلمةً سمعتُها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيَّ، لاَنفذتها(2).
انظر إلى أبي ذرّ كيف يُصِرّ على تبليغ ما سمعه من رسول الله، وإن وُضِعَت الصمصامة على عنقه! وانظر إلى عدوله عن لفظ السائل (الفيتا) إلى لفظ (سمعتها من رسول الله) لتعلم التفاوت بين الاتّجاهين.
إنّها المسؤوليّة التي يتحسّسها أبو ذرّ وغيره من أتباع نهج التعبّد المحض، فيجدّون في تبليغ سنّة رسول الله حتّى آخر نفس، لقوله: (ثمّ طننتُ أنّي أُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيّ، لاَنفذتها).
كيف لا يقول ذلك، وهو قد سمع رسول الله في أكثر من مشهد وموقف أنّه يتخوّف على أُمّته من الضلال والابتعاد عن الصراط والاَخذ بسنن الآخرين بُغضاً لعليّ؟!
عن حسن الكنانيّ: قال سمعت أبا ذرّ وهو آخِذٌ بباب الكعبة: أيّها الناس،
____________
(1) المعجم الكبير لللطبرانيّ 1 : 96 .
(2) تذكرة الحفّاظ 1: 18 وفيه: وعلى رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أميرالمؤمنين عن الفتيا؟ وفي فتح الباري، قال ابن حجر: إنّ الذي خاطبه رجل من قريش، والذي نهاه عثمان.

( 350 )
مَن عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذرّ، سمعت رسولَ الله يقول: مَثَلُ أهل بيتي كسفينةِ نوح: مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق(1).
وجاء عنه قوله: أيّتها الاَُمّة المتحيّرة بعد نبيّها، أمّا لو قدّمتم مَن قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لاَكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم، ولما عال وليُّ الله، ولا طاشَ سهمٌ من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه. فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وَبالَ أمركم، وسيعلم الذين ظَلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون(2).
وعن الاِمام أمير المؤمنين عليّ في أبي ذرّ: (إنّك خِفْتَهم في دينك وخافوك في دنياهم).
وهذا النصّ وما سبقه ممّا يكشف عن تحيّر الاَُمّة الممتحَنة، وأنّهم لايدرون بكلام أي الاتّجاهين يأخذون!
هذا النصّ والذي سبقه يكشفان عن تحيّر الاَُمّة الممتحنة بسبب تقديمهم المتأخّر وتأخيرهم المتقدّم.
ذلك أنّ الصحابة قد تصدّروا الاتّجاهين:
فأبو ذرّ ومن يماثله من أنصار التعبّد المحض يؤكّدون لزوم الاَخذ بسنّة رسول الله الموجودة عند أهل بيته، لكثرة النصوص المسموعة والمنقولة عن مكانة عليّبن أبي طالب، فعليّ قد دوّن كلام رسول الله في حياته(ص)، وله صحيفة وكتاب الجامعة والجفر فيها جميع ما سمعه من رسول الله. وكان يخلو بالنبيّ في اليوم مرّتين صباحاً ومساءً، وقد صرّح بأنّه يعرف الآية أين نزلت وفيمن نزلت و...
وهناك من الصحابة من يأخذ بكلام عمر، ولا يرتضي التدوين عن رسول الله، بل يشرّع الاجتهاد قبال كلامه (ص)، معلّلاً بأنّه قد عرف روح
____________
(1) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوريّ 2: 343.
(2) تاريخ اليعقوبيّ 2: 171.

( 351 )
التشريع!
وقد مرّ عليك قول ابن عبّاس: مالي لا أسمع الناس يُلَبُّون؟!
فقلت [أي الراوي]: يخافون معاوية.
فخرج ابن عبّاس من فُسطاطه فقال: لبّيك اللّهمّ لبّيك، وإن رغم أنف معاوية. اللّهمّ العنهم؛ فقد تركوا السنّة من بغض عليّ(1).
وعن عكرمة قال: صلّيت خلف شيخ بمكّة، فكبّر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عبّاس: إنّه أحمق!
فقال ابن عبّاس: ثكلتك أُمّك سنَّهُ أبي القاسم(2).
إن سرقة معاوية البسملة من السورة!، وبيعه سِقايةً من ذهب ـ أو ورق ـ بأكثر من وزنه، واعتراض أبي الدرداء عليه، وحكايته حديثاً عن الرسول في عدمجواز ذلك، وقول معاوية له: لا أرى بأساً بذلك.
فقال له أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟! أنا أُخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا أُساكِنُك بأرضٍ أنت فيها(3)..
كلّ هذه النصوص وما مرّ يُوضّح تخالف النهجين في الاَُصول والمفاهيم.

المرحلة الثالثة :
وهي مرحلة الخلفاء الذين حكموا بعد معاوية إلى عصر التدوين الحكوميّ، فإنّ هدف هؤلاء قد تماثَل مع أهداف الخلفاء الذين قبلهم والذين بعدهم، فهؤلاء قد استغلّوا الاَفكار السائدة في العصر الاَولّ وما ذهب إليه السلف من مشروعيّة الرأي للصحابة، بُغية الحدّ من نشاط الطالبيّين ـ وهم
____________
(1) سنن النسائيّ5: 253، سنن البيهقيّ5: 113، الاعتصام بحبل الله المتين1:360.
(2) صحيح البخاريّ 1: 199 كتاب الصلاة باب التكبير إذا قام من السجود.
(3) موطّأ مالك 2: 634 كتاب البيوع (16) باب بيع الذهب بالفضّة، البيهقيّ 5:280، الرسالة للشافعيّ بتحقيق أحمد محمّد شاكر فقرة : 1228.

( 352 )
المخالفون لهم على مرّ القرون ـ وبغية التعرّف عليهم، وقد عرفت أنّ الخليفة الاَمويّ عمر بن عبد العزيز قد أمر ابن شهاب الزهريّ بتدوين السنّة النبويّة، مؤكّداً الاَخذ بسنّة الشيخين. وجاء عن ابن شهاب قوله: كنّا نكره تدوين السنّة حتّى اكرَهَنا السلطان على ذلك.
ولم يخفَ عليك أنّ هؤلاء الاَُمراء كانوا من أبناء أبي سفيان والحَكَمبن العاص ومن الذين لم يدخلوا الاِسلام إلاّ مُكْرَهين!
ألم يَقُل أبو سفيان: فوالذي يحلف به أبو سفيان، لا جنّة ولا نار(1)!
أَوَلَيسَ معاوية هو القائل استخفافاً برسول الله (ص) (... وإنّ ابن أبي كبشة لَيُصاحُ به كلّ يوم خَمْسَ مرّات: أشهد أن محمّداً رسول الله، فأيّ عمل يبقى؟! وأيّ ذِكر يدوم بعد هذا، لا أباً لك؟! لا والله إلاّ دفناً دفنا(2).
أو لم يشتهر إنشاد يزيد بن معاوية شعر ابن الزبعرى في إنكاره النبوّة:
لَعِبَتْ هاشمُ بالمُلْكِ فلاخبرٌ جاءَ ، ولا وَحْيٌ نَزَلْ !
وكيف يمكن أن يخفى ما جاء عن أبي سعيد الخدريّ من أنّه جذب ثوب مروانبن الحكم لمّا أراد أن يرتقي المنبر ليخطب قبل الصلاة في العيدين، وقوله له: غيّرتم والله! وجواب مروان له: أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم، فقال: ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم! فقال مروان: إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة(3).
قال الاِمام محمّد عبده: (إنّ عموم البلوى بالاَكاذيب حقّ على الناس في دولة الاَمويّين! فكثر الناقلون وقلّ الصادقون، وامتنع كثير من أجلّة الصحابة عن الحديث، إلاّ لمن يثقون بحفظه).
والخلفاء العبّاسيّون ليسوا بأقلّ وطئاً على الشريعة من الاَمويّين، فقد استخدموا الشريعة لمصلحة الحكم والنظام، وقد وقفتَ على نصوصهم مع
____________
(1) الاستيعاب 4:679، الاَغاني 6:356، مروج الذهب 2:343، شرح نهج البلاغة 2:45.
(2) الاَخبار الموفّقيّات للزبير بن بكار: 576 ـ 577، مروج الذهب 3: 454، النصائح الكافية:116، شرح النهج 9: 338.
(3) صحيح البخاريّ 2: 22 باب الخروج إلى المصلى بغير منبر.

( 353 )
مالكبن أنس وطلب المنصور منه أن يدوّن السنّة حتّى يجمع الناس على ذلك، ودعوته أبا حنيفة للخوض في نقاش مع صادق أهل البيت..(1)وغيرها من النصوص التي تؤكّد التخالف الفكريّ والاَُصول المبتناة عند الطرفين.
إنّ هؤلاء قد اتّخذوا الاختلاف الفقهيّ وسيلة للتعرّف على الطالبيّين، فزادت لاَجله الاَحاديث المتناقضة والمرجِّحة لبعض المذاهب في الشريعة الاِسلاميّة(2).
قال الاَُستاذ أحمد أمين: (... ومن الغريب أنّنا لو اتّخذنا رسماً بيانيّاً للحديث لكان بشكل هَرَم، طرفُه المدبَّب هو عهد الرسول (ص)، ثمّ يأخذ في السعة على مرّ الزمان حتّى يصل إلى القاعدة، فهي أبعد ما تكون عن عهد الرسول. مع أنّ المعقول كان العكس؛ فصحابة الرسول أعرف الناس بحديثه، ثمّ يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا.
ولكنّا نرى أنّ أحاديث العهد الاَمويّ أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العبّاسيّ أكثر من أحاديث العهد الاَمويّ)(3).
ثمّ علّل ذلك بنشاط حركة الهجرة في طلب الحديث ودور اليهود والنصارى في مسخ الشريعة، متناسياً دور السلطة وأهدافها السياسيّة.
لكنّي أتساءل: هل يمكن لليهود ـ وهم الذين يعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ـ ممارسة دورهم الهدّام بعيداً عن أيّ دعم أو تغاضٍ من قبل السلطة الحاكمة؟ وبنظري أنّ العوامل السياسيّة والذهاب إلى مشروعيّة رأي الجميع كان من العوامل المهمّة في هذا المجال، وقد توقّع حدوثه الخليفة الاَوّل، يوم قال أبو بكر: والناس بعدكم أشدّ اختلافاً. وما جاء عن رسول الله وتخوّفه على مستقبل الشريعة إنّما يرشد إلى ضرورة التزام سنّته، ولزوم الاَخذ بقول العترة من آله كما صرّح (ص) في حديث الثقلين.
اتّضح من كلّ ما سبق أنّ هذه الاَفكار وغيرها قد حدثت من جرّاء المنع
____________
(1) انظر الحوار وتعليقنا عليه في «وضوء النبيّ»: 349 ـ 353.
(2) بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب (وضوء النبيّ).
(3) ضحى الاِسلام 2: 128 ـ 129.

( 354 )
عن تدوين السنّة الشريفة والقول بحجّيّة رأي الصحابة وغيرها من العوامل السياسيّة.
وقد قيل عن الاختلاف: إنّه يبدأ بمليمتر واحد حتّى ينتهي إلى كيلومتر، بل وإلى ما لا نهاية، حسب تعبير علماء الهندسة. وقد شاهدنا هذه الحقيقة عياناً في محنة النصّ النبويّ، وما جرى على الشريعة، وأنّ السنّة قد وصل بها الاَمر إلى أنّها أصبحت لا تعرف إلاّ بفعل الصحابة بل يجعل كلام الصحابيّ وفعله مخصِّصاً للقرآن!
وهذه بعض النصوص عن أهل البيت، ترى فيها جواب الكثير من الشبهات المطروحة، مؤكِّدة على عدم مشروعيّة الاَخذ بالرأي.
فمن رسالة طويلة للاِمام الصادق إلى أصحابه، من جملتها:
أيّتها العصابة المرحومة المفلحة! إنّ الله أتمّ لكم ما آتاكم من الخير. واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى، ولا رأي، ولا مقاييس، قد أنزل اللهُ القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء، وجعل للقرآن وَتَعَلُّمِ القرآن أهلاً، لا يَسَعُ أهلُ عِلْمِ القرآنِ الذي آتاهم الله علمه أن يأخذوا في دينهم بهوى ولا رأي ولا مقاييس، وهم أهل الذكر الذين أمرالله الاَُمّة بسؤالهم إلى أن قال :
وقد عَهِد إليهم رسولُ الله قبل موته، فقالوا: نحن بعدما قبض الله عزّ وجلّ رسوله يَسَعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد قبض الله ورسوله! وبعد عهده الذي عهده إلينا، وأمرنا به؛ مخالفاً لله ولرسوله، فما أحد أجرأ على الله، ولا أبين ضلالة ممّن أخذ بذلك، وزعم أنّ ذلك يَسَعه. والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه، ويتّبعوا أمره في حياة محمّد(ص) وبعد موته.
هل يستطيع أُولئك أعداء الله أن يزعُموا أنّ أحداً ممّن أسلم مع محمّد أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه؟ فإن قال: نعم، فقد كذب على الله وضلّ ضلالاً بعيداً، وإن قال: لا، لم يكن لاَحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه، فقد أقرّ بالحجّة على نفسه، وهو ممّن يزعم. وكما أنّه لم يكن لاَحد من الناس مع محمّد أن يأخذ بهواه، ولا رأيه، ولا مقاييسه؛ خلافاً لاَمر محمّد، كذلك لم يكن
( 355 )
لاَحد بعد محمّد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه. ثمّ قال:
واتَّبعوا آثار رسول الله وسنّته، فخُذوا بها، ولا تتّبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا، فإن أضلّ الناس عند الله من اتّبع هواه ورأيه بغير هدى من الله.
وقال: أيّتها العصابة، عليكم بآثار رسول الله وسنّته وآثار الاَئمّة الهداة من أهل بيت رسول الله من بعده وسنّتهم؛ فإنّه مَن أخذ بذلك فقد اهتدى، ومَن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ؛ لاَنّهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم(1).
وعن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين أنّه قال في كلام طويل، منه: إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه، ولم يأخذ عن رأيه(2).
وعنه عن رسول الله: قال الله عزّ وجلّ: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي(3).
قال معاوية بن ميسرة بن شريح: شهدت أبا عبد الله (الصادق) في مسجد الخيف، وهو في حلقة، فيها نحو من مائتي رجل، وفيهم عبداللهبن شبرمة فقال له: يا أبا عبد الله! إنّا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنّة، ثمّ ترِد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي إلى أن قال فقال أبو عبد الله: فأيّ رجل كان عليّبن أبي طالب؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولاً عظيماً، فقال أبو عبدالله: فإنّ عليّاً أبى أن يُدخل في دين الله الرأيَ، وأن يقول في شيء من دينالله بالرأي والمقاييس إلى أن قال : لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس ولاعمل بها(4).
وعن الباقر (ع): يا زرارة! إيّاك وأصحابَ القياس في الدِّين، فإنّهم تركوا علم ما وُكّلوا به، وتكلّفوا ما قد كفوه، يتأوَّلون الاَخبار، ويكذبون على الله عزّ
____________
(1) الكافي 8: 50 وعنه في الوسائل 27: 37. وقد ردّ الاِمام الصادق ما طرحته مدرسة الاجتهاد من آراء حول اجتهاد الرسول واختلاف أُمّتي رحمة و...، في كلام طويل له، راجع المحكم والمتشابه: 91، والوسائل 27 : 52 .
(2) أمالي الصدوق: 287|4، معاني الاَخبار: 185|1، كما في الوسائل 27: 44 ـ 45.
(3) علل الشرائع :59|1 وعنه في الوسائل 27: 45.
(4) المحاسن: 210|77 كما في الوسائل 27: 51.

( 356 )
وجلّ [لقولهم بالظنّ فقال سبحانه (قُلْ ءآللهُ أذِنَ لَكُمْ أمَ علىاللهِ تَفْتَرون)(1)]؟! وكأنّي بالرجل منهم يُنادى مِن بين يديه، فيجيب مِن خلفه، وينادى من خلفه، فيجيب من بين يديه، قد تاهوا وتحيّروا في الاَرض والدِّين(2)؟.
وعن الصادق: احتفِظُوا بكتبكم، فإنّكم سوف تحتاجون إليها. وقوله: اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا.
وقوله: اكتب وبُثّ علمك في إخوانك، فإن مِتّ فأورثْ كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمانُ هَرَج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم.
وما سواها من الاَخبار الكثيرة التي تركناها مخافة الاِطالة، وكلّها تصبّ في مصبّ واحد مفاده ضرورة التدوين واتّباع المدوّنين من خلّص أصحاب النبيّ (ص)، وضرورة التعبّد المحض، ونبذ الرأي والاجتهاد والفتيا طبق الاَُصول التي لميأتِ بها النبيّ (ص) وإنَّما تولّدت في أزمان متأخّرة وتحت ظروف خاصّة.

( 357 )

خلاصة السبب الاَخير

نخرج من كلّ ما مرَّ بأنّ السبب الحقيقيّ الكامن وراء منع التدوين: لميكن لطمس فضائل أهل البيت حَسْبُ، بل هو خلُق جوٍّ فقهيّ جديد يستطيع الخليفة من خلاله أن يتكيّف لسدّ العجز الفقهيّ الذي يجده، ويتّضح هذا الاستنتاج عبر ملاحظة المقدّمات الآتية:
أ ـ عرفنا سابقاً أنّ أوّل بادرة لمنع التدوين ظهرت على لسان عمربن الخطّاب قبيل وفاة النبيّ، وذلك لمّا طلب (ص) أن يأتوه بالقلم والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقول عمر في جواب طلب النبيّ (ص): إنّ الرجل لَيهجر! حسبنا كتاب الله.
فإنّ هذا المنع من التدوين وإن كان في ـ لحظة ما ـ موقفاً خاصّاً اضطرّ فيه الخليفة أن يمنع من التدوين لتوجيه أمر الخلافة بعد الرسول الوجهة التي يريد، إلاّ أنّ ذلك المنع قد اعتمد على ضرب قدسيّة النبيّ (ص) وجلالة قدره، وتجريح عصمته، ممّا فتح له الباب على مصراعيه لكي يُدلي بدلوه، وأن يفرض رأيه فرضاً على الصحابة ومن في الدار وأنّه قد أجاب نساء النبيّ لمّا قلن: ائتوا رسولَ الله بحاجته، فقال عمر لهنّ: اسكُتْنَ فإنّكنّ صواحبه: إذا مرِض عصرتُنّ أعينكن، وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه. فقال النبيّ: هنّ خير منكم»(1).
والنصّ يكشف عن أنّ النبيّ لم يقبل بفعل عمر، بل كان(ص) يريد التأكيد على مقولته السابقة في حجّة الوداع واستخلافه في الاَُمّة ثقلين، أحدهما أكبر من الآخر. إنّ عمر بن الخطّاب كان يتخوّف من تأكيد رسول الله على هذا الاَمر، فنسب إلى قدسيّة رسول الله الهُجر ـ وحاشاه ـ كي يقلّل من أهمّيّة مقولته(ص). أو حتّى كتابته ـ لو قُدّر أن يكتبها النبيّ (ص) ـ إذ يضعف
____________
(1) كنز العمّال 5: 644|14133 الطبقات الكبرى 2: 244.

( 358 )
الاحتجاج بكتابته (ص) بعد أن طرح احتمال الهجر في حقّه. وهذا ما جعل رسول الله (ص) ينصرف عن الكتابة بقوله «قوموا ولا تنازعوا عندي فإنّه لاينبغي عند النبيّ التنازع» فالمنع عن التدوين هنا جاء لمنع التصريح بخلافة العترة.
وأمّا المنع عن التدوين لاحقاً فقد جاء على أثر اختلاف آرائه مع أقوال رسول الله. ومعنى هذا أنّ المنع كان له بُعدان:
1 ـ بُعد سياسيّ.
2 ـ بُعد تشريعيّ.
ونحن نرجّح أنّ يكون سبب المنع مضافاً إلى ما قاله الاِخوة الاَعلام في السبب السابع هو تأسيس الخليفة لفكرة (رأيٌ رأيتُه)، والسماح بتعدّديّة الآراء ليسدّ به العجز الفقهيّ الذي كان يوقّعه في حرج شديد.
إنّ الناس كانوا يعلمون أنّ المشرِّع هو الله ورسوله، فكانوا لايريدون أخذ الاَحكام إلاّ ممّن اختصّ بالنبيّ، وعلم جميع أسرار التنزيل والتأويل. ومن جهة أُخرى: كانت القضايا تُلزم الخليفة أن يفتي طبق الرأي، بعيداً عن النصوص، فاضطرّ للاجتهاد، ثمّ السماح للآخرين بالاجتهاد لكي يُعْذَر هو في اجتهاده فلا يظلّ وحيداً منفرداً فيما ابتدعه، ثمّ جدّ في حصر الاِفتاء بنفسه وبسابقه لكنّ عثمان لم يرتضِ ذلك كما رأيت.
ب ـ عرفت أنّ الشيخين لم يدّعيا أنّهما قد عرفا جميع المسائل الصادرة عن رسول الله، بل إنّهما كانا يُفتيان طبق الرأي، فجاء عن أبي بكر في الكلالة: (إن أصبتُ فمن الله، وإن أخطاتُ فمنّي ومن الشيطان). وكانا يسألان الصحابه عمّا خفي عليهما من أحكام الرسول، ثمّ إنّهما أخذا بكلام الصحابة وأقرّا ذلك حتّى لتلك المرأة التي خطّأته بكونها أفقه منه!
والاَحكام التي خَفِيت عليهما لم تكن قليلة، ولا تنحصر في مسألة ومسألتين حتّى يمكن البحث عن مخرج من مخارج التأويل، في حين أنّك عرفت وجود حكم تلك المسائل عند الآخرين من الصحابة، فتارة كان حكم رسول الله عند معاذ، وأُخرى عند حذيفة، وثالثة عند ابن مسعود، ورابعة عند
( 359 )
عليّ... وهكذا.
ومن هنا يظهر أنّ قول الخليفة عمربن الخطّاب لمن جمعهم من الصحابة: (فنحن أعلم بها منكم، آخذ منكم وأردّ عليكم)، وقول عروةبن الزبير لابن عبّاس: هما واللهِ كانا أعلم بسنّة رسول الله وأشيع لها منك، وغيرها... إنّما كان لتثبيت الموقع العلميّ للشيخين في الدولة، ولاِلزام أخذ الآخرين بما يحكمان به ولو عن رأي واجتهاد بدعوى أنّهما أعلم بمصالح المسلمين من غيرهم. وقد عرفت أن الناس لمّا أتوا عمر بصحفهم كانوا يَرجُون أن يرى عمر أقومها وأعدلها، ولم يكونوا يريدون بفعلهم هذا أن يكون الرأي الاَخير بيد الخليفة، وأن يرى أنّ رأيه هو الصواب.
ففكرة الاَعلميّة قد طُرحت بعد استقرار الاَُمور للخليفة، بعد أن قطع منع التدوين والتحديث شوطاً كبيراً. وهذان المَسْرَبان هما اللذان مكّنا الخليفة أن يدّعي لنفسه ما شاء من العلم بتعضيد من تخويف الصحابة وإسكاتهم. وكان إذنه للصحابة بالاجتهاد ـ في بدء الاَمر ـ وخضوعه لاجتهاداتهم وآرائهم في الشريعة كان الخطوة الاَُولى لتصحيح ما ذهب إليه؛ لاَنّ بين أُولئك الصحابة من هو أقلّ شأناً من الخليفة علماً وسابقة في الاَمر كأبي هريرة وسمرةبن جندب وغيرهما فتصحيح عمل هؤلاء يصحّح عمل الخليفة بطريق أولى، إذ إنّه ليسبأقلّ من هؤلاء إن لم يرجّح عليهم! على أنّ الخليفة في مجالسه الفقهيّة كان هو الرابح الاَوّل والاَخير، إذ إنّ فتح باب الآراء والاجتهادات للصحابة والاَخذ بها ـ كخطوة أُولى ـ له جانب آخر من المنفعة للحكومة القائمة، تلك المنفعة المتجلّية في حالة إخطاء الصحابة وتخِطئة بعضهم البعض، فإنّ ذلك يخلق أقوى المبرّرات وأعقل التوجيهات لاَخطاء عمر الفقهيّة، إذ لايمكنهم الاحتجاج عليه بأنّه أخطأ في حين أنّهم شاركوه في الخطأ حين صار الاِفتاء طبق الرأي والاجتهاد.
ولا يمكننا أن ننسى دور المنع في التدوين، وخلوّ الصحف عند الصحابة، فإنّه ممّا أحدث فراغاً في التشريع لا يُسدّ إلاّ بالاجتهاد، والاجتهاد هو ما يريده الخليفة ويستهدفه من وراء برنامجه المنعيّ.

( 360 )
ج ـ وقفتَ سابقاً على نصوص لبعض الصحابة كانوا يمتحنون فيها الخليفة الثاني، ويستفزّونه لتنبيهه على أخطائه لا لانتقاصه، وكانوا يسألونه عن حكم مسألة واحدة في أوقات شتّى، ليوقفوه على التناقض الموجود في أجوبته، ممّا ينبىَ عن أنّ الخلاف كان في إطار المسائل الفقهيّة.
وكان الخليفة يضجر من تصرفات هؤلاء الصحابة، فيقول لمن سأله عن مسألة كان قد علم جوابها سابقاً من رسول الله: تبّتْ يداك! عمدتَ فسألتني عن مسألة سألتَ فيها رسول الله كيما أخالفه؟!
فظاهرة تخطئة الخليفة تراها واضحة في عهد عمر دون غيره من الخلفاء، ممّا يؤكّد أنّه فتح باب (رأيٌ رأيتُه) بحيث لم يمكنه أن يسدَّه.
إنّ العالِم بالاَحكام لا يهاب من السؤال بل يعجبه أن يُسأل ليجيب، وقد جاء عن عليّبن أبي طالب قوله «سَلُوني قبل أن تَفْقِدوني»، أمّا الذي ليس له أثر عن رسول الله فتراه يتخوّف من السؤال، ويضرب ضبيع بن عُسل ويتّهمه بالزندقة لكثرة أسئلته(1)!
د ـ نظراً لتوسّع رقعة الدولة الاِسلاميّة وكثرة المسائل المستجدّة، ولزوم رسم الحلول لها على ضوء الكتاب والسنّة، وقصور الخليفة عن الاِحاطة بتلك النصوص الصادرة عن رسول الله فيها، وإمكان حدوث التخالف بين مرويّاته ومرويّات الآخرين عن الرسول.. رأى من الضروريّ تقوية رؤيته السابقة ـ الرأي ـ على عهد الرسول وتحكيم شرعيّة الاجتهاد! والحدّ من التحديث، لاَنّ في التحديث والتدوين توعية للناس وتنبيهاً على أغلاطه.
وأنّ سماحه للصحابة بالاجتهاد لا التحديث ـ في أُخريات حياته ـ إنّما كان لتبرير فعله. وكذا أمرُه الصحابة بالاِقلال من الحديث ففيه إشارة إلى أنّ الخليفة لايستسيغ سماع المسائل التي لا يعرفها. وبهذا يخرج المنع من إطاره الخاصّ ليدلّل على أنّه أبعد ممّا قيل عنه، وأنّه لم يتعلّق بأمر الخلافة والاِمامة فقط!

____________
(1) انظر حقيقة البدعة للغامديّ 1 : 114 عن الاِصابة ّ 165 والدارميّ ح146 والبدع لابن وضّاح: 69 ودرّ التعارض 7:172.

( 361 )
هـ ـ اشتهر عن عمر أنّه حدّث بفضائل عليّ وأهل البيت، وبرّر إبعاده أهل البيت عن الخلافة بكراهة قريش اجتماع النبوّة والخلافة فيهم.
فالتحديث بفضائل عليّ ـ بعد تسلّم عمر للخلافة ـ لا يضرّه بقدر ما كان يضرّه نشر فقه النصوص والحديث عن رسول الله؛ لاَنّ فيهما ما يجهر بتخالف اجتهاداته مع التنزيل وسنّة رسول الله وبالتالي إلى نقض أُموره وانقضاض المسلمين عليه، فالتضعيف لو قُدّر له أنّ يسري في كيان الدولة لجاء من ها هنا!
نعم، إنّ الخليفة بعد تسلّمه الخلافة كان لا يعجبه أن يسمع تفصيل وشرح فضائل عليّ وأهل بيته لاَنّ انتشارها وذيوع أمرها من شأنه أن يهزّ مكانة الخليفة ويضعضع موقعه القياديّ. ومن شأنه أيضاً أن يقوّي الخصم ويكشف عن شرعيّته. وكذا منعه للتدوين في رزيّة الخميس كان ناظراً إلى هذا المعنى. بَيْد أنّ هذا كان سبباً مهمّاً، إلى جوار ما لاقاه من مشكلة في الاِفتاء... ممّا حمله على العمل بسياسة المنع. ولاَجله نراه يمنع من الحديث عموماً كي يكون في مأمن من العواقب السياسيّة الفقهيّة.
إنّ إبعاد الاِمام عليّ عن إمامة الفقه والسياسة كان من الاَهداف الاَساسيّة في دولة الخلفاء. وقد ورد هذا صريحاً في كلام ابن عبّاس: (لو قدّمتم مَن قدّم الله... ما عالت فريضة)؛ لاَنّ التوعية الفقهيّة لا يقلّ شأنها عن التوعية السياسيّة، وإنّ تعرّف الناس على قدرة الاِمام عليّ في الاَحكام وضعفِ الطرف الآخر، سيؤدّي ـ بلاريب ـ إلى التشكيك في مقدرة الخليفة العلميّة، فيسقط أحد جناحَي الخلافة بسقوط ما يفترض في الخليفة من القدرة العلميّة.
فالمنع من التدوين عموماً والاِقلال من التحديث، ثمّ فتح باب الاجتهاد بالرأي والقياس وغيرها.. كلّ ذلك يوضّح أنّ للمنع من التدوين سبباً آخر أهمّ ممّا قاله الاَعلام في السبب السابع.
و ـ أنّ النصوص الواردة عن الصحابة ـ المعارضين لفقه عمر ـ يغلب عليها الجانب الفقهيّ أكثر من بيان الخلاف الاِداريّ والحكوميّ، وبمعنى أوضح: يغلب فيها فهم الاَحكام الشرعيّة، على ما جاء في الاِمامة والفضائل!
وقد مرّ عليك كلام ابن عبّاس: أقول لهم: قال رسول الله، ويقولون قال:
( 362 )
أبو بكر وعمر! وقول ابن عمر: «أفسنّة عمر نتّبع أم سنّة رسول الله؟!» وقول الآخر. (لا أترك سنّة أبي القاسم لقول أحد)، أو: «فَعَلها أبو القاسم وهو خير من عمر». فالنصوص تؤكّد أن أوجّ الخلاف كان في بيان الاَحكام وما وُضِع من أُصول، كأصل الاجتهاد في الشريعه والقياس و....
فالمنع من نقل فضائل أهل البيت وأدلّة الاِمامة مع المنع عن نقل الفقه والاَحاديث النبويّة، بل كلّ ما يوثّق مدرسة أهل البيت كانت ضمن المخطّط الكلّيّ للخلفاء، ولتأكيد الموضوع إليك هذا النصّ.
عن عبدالرحمن بن يزيد قال: قدِم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة82 وهو وليّ عهد، فمرّ بالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلّموا عليه. وركب إلى مشاهد النبيّ (ص) التي صلّى فيها، وحيث أُصيب أصحابه بأُحد، ومعه أبانبن عثمان وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبد الله، فأتوا به قُباء، ومسجد الفَضِيخ ومَشْربة أمّ إبراهيم وأُحد، وكلّ ذلك يسألهم ويخبرونه عمّا كان.
ثمّ أمر أبانَ بن عثمان أن يكتب له سيرة النبيّ (ص) ومغازيه، فقال أبان: هي عندي، قد أخذتها مُصحّحة عمّن أثق به.
فأمر بنسخها، وألقى فيها إلى عشرة من الكتّاب، فكتبوها في رقٍّ. فلمّا صارت إليه، فإذا فيها ذكر الاَنصار في العقبتين، وذكر الاَنصار في بدر.
فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا.
فقال أبان بن عثمان: أيّها الاَمير، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه أن نقول بالحقّ: هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.
قال: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لاَمير المؤمنين، لعلّه يخالفه. فأمر بذلك الكتاب فَخُرِّق. وقال: أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت فإن يوافقه، فما أيسر نسخه.
فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر عبد الملك بالذي كان من قول أبان، فقال عبد الملك: وما حجّتك أن تقِدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟! تُعرِّفُ أهلَ الشام أُموراً لا نريد أن يعرفوها.

( 363 )
قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتّى أستطلع رأي أمير المؤمنين، فصوّب رأيه(1).

____________
(1) الموفّقيّات للزبير بن بكّار: 332 333، وللخبر ذيل راجعه.