تلخّص ممّا سبق أمران :

الاَوّل : أنّ النهي عن كتابة الحديث لم يكن نهياً شرعيّاً، ولم يصحّ ما نُسب من الروايات ـ الناهية عن التدوين ـ إلى رسول الله (ص). بل إنّ قرار النهي والمنع كان نابعاً من موقفٍ سياسيّ اتّخذه الخليفة عمربن الخطّاب ومِن بعده الخلفاء. ومن الطبيعيّ أن تنقل روايات عن رسول الله في المنع لتصحيح مواقف الخليفة.
إذ لو ثبت المنع عن رسول الله وعُرف هذا بين المسلمين لما دوَّن أبوبكر خمسمائة حديث، ولما تلقّى عمّن ائتمنه ووثق به! ولما كتب إلى عمروبن العاص وأنس بن مالك بأحاديث رسول الله في الصدقة وغيرها، ولما جمع عمربن الخطّاب الصحابة ليستشيرهم في التدوين، ولَمَا أشاروا عليه بذلك، ولَما قال عمر: (ومَن دوّن فليأتِني به).
كلّ هذه النصوص فيها إشارة إلى مشروعيّة التدوين. وسنقدّم ـ باذن الله دراسة مفصّلة عن فقه الصحابة المدوِّنين للسنّة، والاَنصار، والصحابة الذين شهدوا مع عليّبن أبي طالب حروبه، كي نرى تخالف فقه هؤلاء مع فقه النهج الحاكم المانع للتدوين، ولنؤكّد على أنّ المدوّنين الشاهدين مع عليّ حروبه من الصحابة وقسم كبير من الاَنصار كانوا من أنصار التعبّد المحض.
فالخليفة الثاني بعد أن علم بوجود مدوّنات عن رسول الله عند الصحابة طلب منهم أن يأتوه بها، والناس كانوا يظنّون أنّه يريد الاَخذ بأعدلها وأقومها، فلمّا أتوه بها أمر بحرقها، وقد فوجئوا بهذا القرار!
والمتدبِّر في نصوص المانعين عن رسول الله يدرك أنّ المنع إنّما حَدَث بعد مشروعيّة التدوين، أي أنّ رسول الله منع عن التدوين ـ طبق ادّعائهم ـ بعد
( 366 )
أن كان قد سمح لهم بالتدوين أوّلاً، لقوله: (ومَن كتب فَلْيَمْحُه)(1). وهذا ينقض ما قاله الدكتور صبحي الصالح وغيره من أنّ رسول الله نهى عن التدوين في أوَّل الدعوة؛ خوفاً من اختلاط الحديث بالقرآن، لكن لمّا دُوّن القرآن سمح بتدوين حديثه(2)
ومرّةً أُخرى.. فإنّ قرار المنع كان قراراً حكوميّاً لم يكتسب شرعيّته من السنّة، لِما مرّ عليك من النصوص عن رسول الله، وأنّه جعل فداء أسرى بدر تعليم عشرة من المسلمين الكتابة، وتأكيده(ص) على نشر أحاديثه، فكلام الدكتور صبحي الصالح وغيره يقرِّرُ أنّ التدوين جاء بعد المنع، لكنّ الخبر السابق يؤكّد عكسه بجلاء!
وهكذا توصّلنا إلى أنّ المنع كان له بُعدان، الاَوّل: سياسيّ، والثاني: فقهيّ. وقد وقفت على تفصيله، وكان الاختلاف في الحديث عن رسول الله من نتائج هذا القرار. مضافاً إلى العوامل المذهبيّة و...
وبذلك لم يصحّ ما ذهب إليه جولد تسيهر من أنّ أحاديث النهي عن الكتابة وضَعَها أهلُ الرأي وأنّ الاَحاديث التي تثبت الحديث وضعها أهل الحديث(3)ع. وإن كنّا لا ننكر دور دعاة الرأي ـ على عهد رسول الله والخلفاء ـ في أحاديث النهي، أمّا ظاهرة التحديث والتدوين فقد عمل به كبار الصحابة وشرّعه رسول الله، وليس هو ممّا وضعه أهل الحديث كما ادّعاه جولدتسيهر.
ومن هذا المنطلق لا أرى ضرورة لاَن يقوم بعض الكتّاب بالجمع بين أحاديث الحظر وأحاديث الاِباحة، لاعتقادي بكون الاَمر سياسيّاً، وقد وقفت على تفاصيله. وهو أهمّ ممّا قيل في وجوه الجمع بينها كالقول: بأنّ بعض الاَحاديث مرفوعة والاَُخرى موقوفة، ويلزم ترجيح المرفوعة على الموقوفة.. وما شابه ذلك من وجوه الجمع.

____________
(1) في حديث أبي سعيد الخدريّ: تقييد العلم: 30 ـ 31، مسلم 4: 2298 كتاب الزهد، باب 16، أحمد 3: 21 و39.
(2) علوم الحديث ومصطلحه: 7 ـ 9، السنّة قبل التدوين: 53.
(3) انظر دراسات في الحديث النبويّ: 82.

( 367 )
أمّا ما جاء من نهي الصحابة والتابعين عن الكتابة وعدم رغبتهم فيها.. فَمَردّه إلى ما انطبع في نفوسهم من النهي، وكون أقوالهم قد صدرت عن رأي، فكانوا لايرتضون تثبيتها بالكتابة حرصاً على عدم اختلاطها بالمرويّات عن رسول الله (ص).
نعم، إنّهم كانوا يسجّلون آراءهم لاَنفسهم كي لا يحصل الاختلاف بين ما قالوه اليوم مع ما قالوه بالاَمس، مع أنّ نشر تلك الصحف كان لايُرضيهم فيجدّون لحرقها. فقد جاء عن الشعبيّ: أنّ مروان أجلس لزيد بن ثابت رجلاً وراء الستر، ثمّ دعاه فجلس ليسأله وهم يكتبون، فنظر إليهم زيد، فقال: يامروان عذراً، إنّما أقول برأي(1).
قال الدكتور محمد عجاج الخطيب:
وقد ازدادت كراهة التابعين للكتابة عندما اشتهرت آراؤهم الشخصيّة، فخافوا أن يدوّنها طلاّبهم مع الحديث، وتُحمل عنهم فيدخله الالتباس. ويمكننا أن نستنبط أنّ من كره الكتابة وأصرّ، إنّما كره أن يدّون رأيه، وفي هذا يقول أُستاذنا الدكتور يوسف العش: (وأمّا من ورد عنهم الامتناع عن الاِكتاب من هذا الجيل، فيؤول امتناعهم بما لا يخالف ما انتهينا إليه؛ فهم جميعاً فقهاء وليسبينهم محدّث ليس فقيه، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلى جانب أحاديث الرسول). ثمّ يوضّح هذا بأمثلة تثبت ماذهب إليه ، فيقول: إنّنا نجد في الواقع أخباراً تروي كراهتهم لكتابة الرأي، كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه مروان ، وجاء رجل إلى سعيدبن المسيب ـ وهو من الفقهاء والذين روي امتناعهم عن الاِكتاب ـ فسألة عن شيء، فأملاه عليه ثمّ سألة عن رأيه فأجابه، فكتب الرجل.
فقال رجل من جلساء سعيد: أيكتب يا أبا محمّد رأيك؟
فقال سعيد للرجل: ناِولْينها، فناوله الصحيفة فخرّقها(2).
وقيل لجابر بن زيد: إنّهم يكتبون رأيك! قال: تكتبون ما عسى أن أرجع
____________
(1) الطبقات الكبرى2: 361.
(2) انظر تمام الخبر في جامع بيان العلم وفضله2: 144.

( 368 )
عنه غداً؟!(1).
وقال الدكتور صبحي الصالح:
وممّا زاد من كراهة القوم للكتاب أنّ آراءهم الشخصيّة بدأت تشتهر، فكانوا يخشون إذا كتب الناس عنهم الاَحاديث أن يكتبوا إلى جانبها هاتيك الآراء. ولدينا من الاَخبار ما يؤكّد هذا ويثبته، ولعلّ من أوضحه في عصر كبار التابعين مارووا من أنّه قيل لجابر بن زيد: إنّهم يكتبون رأيك...(2) وروي عن ابن عوف أنّه قال: إنّي أرى هذه الكتب، ياأباإسماعيل! ستُضلّ الناس(3).
فمن المحتمل أن يكون رجوع الخليفة عمربن الخطّاب عمّا كتبه في الجَدّة كان من هذا الباب، وكذا ما جاء عن الصحابة والتابعين، وأمرهم أولادهم بمحو كتبهم وإماتتها بالماء، إنّما جاءت لاَنّ هذه الكتب كتبت عن رأي، لالِما صحّ عندهم من حديث عن رسول الله!
وقال الدكتور محمّد عجاج الخطيب:
(وكلّ هذه الاَقوال رُوِيت من علماء، حَدَّث المؤرِّخون عنهم أنَّهم كرهوا إكتاب الناس، وهي تدلّ دلالة صريحة على أنّ الكراهة ليست في كتابة العلم (أي الحديث)، بل في كتابة الرأي. وأنّ الاَخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنّما تقصد الرأي خاصة...) إلى أن يقول: ويقوّي هذا الرأي عندنا ما ورد عن هؤلاء التابعين من أخبار يحثّون فيها على الكتابة، ويسمحون لطلاّبهم أن يكتبوا عنهم في الحديث(4).
عرفت بهذا أنّ ما كُتب عن زيد كان آراءه الشخصيّة، ولهذا كرهها زيد. وكذا الحال بالنسبة لكراهة سعيد بن المسيِّب وغيره، والمراجع لكتب الرجال
____________
(1) جامع بيان العلم وفضله2: 31 وكلام الدكتور محمّد عجاج الخطيب في «السنّة قبل التدوين»: 323 و 324.
(2) علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح: 34.
(3) تقييد العلم: 57 والتصدير للدكتور يوسف العش: 21.
(4) السنّة قبل التدوين: 324.

( 369 )
والحديث يقف على نصوص كثيرة في هذا السياق(1).
من المؤكَّد إذن أنّ عمل هؤلاء الصحابة ليس دليلاً على كراهيّة تدوين السنّة النبويّة من قبل النبيّ (ص). ولا يسعني هنا إلاّ أن أُشير إلى قضيّة أُخرى وهي ما جاء في كتاب تقييد العلم وغيره من: أنّ الصحابة كانوا يكتبون حديث الرسول كي يحفظوه، ولمّا حفظوه مَحَوه. فهذا الخبر لو جُمع إلى ما قيل عن الصحابة من أنّهم كانوا يُفتون في كثير من الاَحيان بالرأي، لوصلنا إلى نتيجة نجد فيها اختلاط الرأي بالحديث بحيث لا يمكن التمييز بينهما، ولاَجله ترى الكثير من المأثور النبويّ ما هو إلاّ كلام الصحابيّ.

تلخّص ممّا مرّ أنّ الشيخين كانا وراء منع التدوين، وأنّ المنع كان موقفاً شخصيّاً فرضته الظروف عليهما ولم يكتسب شرعيّته من النصوص، إذ قال الشيخ محمّد أبو زهو في كتابه «الحديث والمحدِّثون» عن النهي: «... وقد كان هذا رأياً من عمر(2)». قال يحيى بن جعدة: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب في الاَمصار: (مَن كان عنده منها شيء فليمحه)!
إنّ تعابير (أراد) و(بدا له) و(ثمّ كتب في الاَمصار) تدلّ بوضوح على أنّ إقدام الخليفة عمربن الخطّاب كان بدافع من رغبته الشخصيّة وإرادته الخاصّة، كما في دلائل «التوثيق المبكّر»: أنّ هؤلاء الذين كانوا قد وقفوا في معارضة كتابة الحديث كانت لهم أسبابهم الشخصيّة في ذلك، بل وحتّى الفاروق الذي كان يُعدّ من أشدّ معارضي الكتابة لم ينقل أو يستشهد بأيّ حديث للنبيّ (ص) يؤيّد وجهة نظره المعارضة للتسجيل(3).
وكذا قول القاسم بن محمّد بن أبي بكر: إنّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكَرَها وكرهها، يدلّ على أنّ الكراهة جاءت من عمر
____________
(1) انظر مثلاً جامع بيان العلم وفضله1: 74 وتقييد العلم: 64.
(2) الحديث والمحدّثون: 126.
(3) التوثيق المبكّر: 239 كما في تدوين السنّة الشريفة: 288.

( 370 )
لامن النبيّ، وأنّ الخليفة استنكرها قبل أن يراها، ومسألة كهذه جديرة بالتأمّل!
وعليه فسياسة الخليفة عمربن الخطّاب كانت منع الحديث عموماً بما فيه من الفضائل والاَحكام، وقد صدرت عن رأيه الشخصيّ، ولم تكسب شرعيّتها من رسول الله، وأنّ إعراضنا عن الجمع بين الروايات الناهية والآذِنة كان لهذا السبب.


( 371 )

مراحل المنع

انكشفت لنا حتّى الآن أنَّ منع التدوين والتحديث ـ الذي جرَّ إلى فتح باب الاجتهاد والرأي ـ قد مرَّ بمراحل أساسيّة، وأشواط معيّنة، ولم يكن تعبّداً متلقٍ عن النبيّ (ص)، وكانت أهمّ تلك المراحل هي:

1 ـ شيوع ظاهرة كثرة الحديث
لمّا كثرت اجتهادات الشيخين ـ ومن على نمطهما الفكريّ من الصحابة ـ وظهر التخالف بين أقوال المجتهدين وسنّة رسول الله (ص)، كان من البديهيّ أن يكثر التحديث عن النبيّ باعتباره أمراً ضروريّاً للوصول إلى الحكم الشرعيّ الصحيح بأنقى صوره، ولكون تلك الاجتهادات قد تميّزت تمييزاً واضحاً عن مسيرة التحديث بشكل عامّ، حيث ألف الصحابة التحديث وكانت مسألة طبيعيّة عندهم، فمن المحتمل ـ بعد هذا ـ أن يكون قول الخليفة الاَوّل (إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً) إشارة إلى تعدّد الاتّجاهات في عهده، وتبنّي كلّ واحد من الصحابة وجهة نظر خاصّة، وهذا هو ممّا يسبب توسيع رقعة الاختلاف بين المسلمين فيما بعد، وعليه فالتحديث كان تيّاراً قويّاً استحكم وجوده على لسان الخليفة الثاني عمربن الخطّاب، لقوله لهم: (أكثرتم الحديث عن رسول الله)، وفي الطبقات الكبرى: (إنَّ الاَحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطّاب)، وفي تقييد العلم: إنَّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيد الناس كتب...، وما سواها الكثير.

2 ـ منع أبي بكر من التحديث وإحراقه مدوّنته
بعد أن كثر التحديث عن رسول الله وصار مدّاً عارماً، أمر الخليفة أبوبكر
( 372 )
الصحابة بعدم التحديث عن النبيّ، فقال: (لا تحدّثوا عن رسول الله (ص) شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله...) ثمّ أعقب ذلك بحرق مدوّنته الحديثيّة، حينما قال لابنته عائشة: (أي بُنيّة! هلمّي الاَحاديث التي عندكِ) فلمّا جاءته بها (دعا بنار فحرقها) إلى آخر الخبر.

3 ـ أمر عمر الصحابة بالاِقلال من الحديث
نظراً لاستمرار ظاهرة التحديث والاِكثار منه ـ على عهد الخليفة عمربن الخطّاب ـ وعدم انصياع الصحابة المحدّثين لما كان يتوخّاه أبو بكر، فراح الخليفة عمر يواصل سيرة أبي بكر بإلحاح أكثر وإصرار متزايد، فشايع وفد الصحابة إلى الكوفة ـ إلى موضع صرار قرب المدينة ـ لاَجل أن يقول لهم (أقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) وأن شريككم)، وقوله (أقلّوا الرواية عن رسول الله إلاّ فيما يعمل به) أو (ظاهراً) و...

4 ـ جمع عمر مدوّنات الصحابة وإحراقها
إنَّ النهي عن التحديث وإحراق الخليفة الاَوّل لمدوّنته لم يقابل ـ من قبل الصحابة ـ بما يسرّ الشيخين، فقد بقيت هناك مدوّنات عند كثير من الصحابة، ومع وجود المدوّنات والمدوّنين لا يتأتّى للخليفة ما يريده، فكان أن اتّخذ عمربن الخطّاب خطوة جمع فيها المدوّنات وقوله لهم: (فلا يبقيّن عندهم كتاباً إلاّ أتوني به) وقد كانوا يظنّون أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، لكنّهم فوجئوا بإحراقه لها لقول الراوي: (فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار).
وقد كان هذا الاِحراق بسبب كون النصوص المدوّنة بمنزلة الوثائق الرسميّة ـ لتخطئة الخليفة ـ بِيَدِ الصحابة، والخليفة لا يريد أن تبقى هذه الوثائق بيدهم لئلاّ تكون عليه أُمور لا يحمد عقباها.
ولاَنَّ التدوين المكتوب في الصدر الاَوّل وبقلم صحابيّ له من القيمة ما
( 373 )
يجعله قادراً على نقض رأي الخليفة، بخلاف التحديث إذ يمكن معارضة الحديث بحديث آخر يوضع في الآن وعلى البديهة، أمّا المدوّنة فلايمكن رسم بديله على البديهة، ولاَجله نراهم يسمحون بالتحديث ويمنعون التدوين!
واحتمل بعض الكتّاب أن يكون السماح بالتحديث والمنع من التدوين جاء لاعتقاد فرقة من اليهود بالكتابة خلافاً لاَُخرى داعية إلى الحفظ.
وبما أنَّ كعب الاَحبار ووهب بن منبّه كانا ممّن يستشار منهما، فمن المحتمل أن يكون الخليفة قد تأثّر برأيهما في السماح بالتحديث والمنع من التدوين، لاَنّه كان يحتاج إلى تحديد بعض النقول عن رسول الله، والتفكيك بينهما خير علاج للقضيّة ، فجاء عن عمر أنّه سأل كعب الاَحبار عن الشعر فأجابه: بأنَّ قوماً من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، وفي آخر عن وهب أنّه قال : إنَّ موسى قال : يا ربّ ! إنّي أجد في التوراة أُمّة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون في كتبهم نظراً ولايحفظونها فاجعلهم أُمّتي ، قال : تلك أُمّة محمّد(1).
وجاء في «الفكر الدينيّ الاِسرائيليّ» للدكتور حسن ظأظأ: 79 عن التلمود حيطين 60|ب ـ تمورا ـ 14ب (أنَّ الاَُمّة التي تروي مشافهة ليسلك الحقّ في إثباتها بالكتابة)(2).

5 ـ حبسه بعض الصحابة وأمره الجميع بترك التحديث والتدوين
مع كلّ الخطوات المتواصلة، والتدابير المتضافرة، بقى بعض كبار الصحابة يحدّث ويروي ما سمعه عن رسول الله (ص) غير عابىَ برأي الخليفة.
وحيال هذه الحالة لم يقف عمر مكتوف الاَيدي، بل أصدر قرارات صارمة تمنع منعاً باتّاً عن التحديث والتدوين، وذلك في قوله في خطبة له
____________
(1) الخبران الآنفان في البداية والنهاية 6 : 62 ، ونزهة المجالس 2 : 199 .
(2) انظر بحوث مع أهل السنّة والسلفيّة للروحانيّ : 97 ، تاريخ التشريع الاِسلاميّ للفضليّ:40، والصحيح من سيرة النبيّ للعامليّ .

( 374 )
أوردها ابن شبّة في منع عمر للصحابة من التحديث: (إنَّ حديثكم هو شرّ الحديث، وإنّ كلامكم شرّ الكلام، من قام منكم فليقم بكتاب الله وإلاّ فليجلس)(1)ذف، وفي مثل تهديداته لناقلي حديث رسول الله، كما مرَّ في قضيّة عمّاربن ياسر وأبي موسى الاَشعريّ وغيرهما وعباراته التهديديّة في المنع لهم.
واستكمالاً للمنع أقدم الخليفة عمر بن الخطّاب في حبس الصحابة المحدّثين في المدينة المنوّرة كي يكونوا تحت نظره وإشرافه ولئلاّ يحدّثوا بما يخالف رأيه، فجاء النصّ يقول:
إنَّ عمر بن الخطّاب حبس بعض أصحاب النبيّ...، وفي آخر عن عبد الرحمن بن عوف قوله: (ما مات عمربن الخطّاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله من الآفاق... وقال: أقيموا عندي، لا والله لاتفارقوني ما عشتُ، فما فارقوه حتّى مات) وغيرها من النصوص المتقدّمة.

6 ـ حصر العمل بكتاب الله
وكبديل عن الحديث النبويّ، أو كتعليل للمنع، طرح الخليفتان مفهوم (بيننا وبينكم كتاب الله) و(حسبنا كتاب الله) و(لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً) لما فيه من تهرّب من التعبّد بنصوص السنّة وجعل العمل في دائرة أوسع وهو القرآن الكريم الذي يعتقد به الجميع ويقدّسونه.

7 ـ سماح الخليفة عمر للصحابة بالاجتهاد والقياس
لمّا رأى الخليفة كثرة المسائل الواردة عليه ـ التي لا يرى نصوص شرعيّة فيها ـ رأى من الضرورة السماح بالاجتهاد لنفسه وللصحابة، وليكون القياس والمصلحة وغيرهما مبانٍ أساسيّة في التشريع الاِسلاميّ.

____________
(1) أخبار المدينة المنوّرة 3 : 800 .

( 375 )
8 ـ محاولة حصر الاجتهاد
ثمّ إنَّ الاجتهاد ـ بوسعته هذه ـ أخذ مأخذه عند الصحابة، فتضاربت الآراء واختلفت، وصار من الصعب ترجيح رأي على آخر، وهذا هو الذي دعا الخليفة أن يصعد المنبر ويحذّر الصحابة من اختلافهم، وهو أيضاً جعله أن يقول لمن جمعهم عنده: (نحن أعلم منكم، نأخذ عنكم ونردّ عليكم) وغيرها.
إنَّ التأكيد على سيرة الشيخين في الشورى، وسماح عثمان ومعاوية في الاكتفاء بالاَحاديث التي عُمِل بها في عهد عمر لا غير، وقرار الخليفة عمربن عبدالعزيز حصره التدوين (بسنّة صاحبيه، أمّا غيرهما فنرجئهما) وغيرها من النصوص آنفة الذكر.
تدلّ هذه المراحل على أنَّ أرائهما أصبحت سنّة يُعمَل بها، وأنَّ اجتهادهما صار أصلاً ثالثاً في التشريع الاِسلاميّ لم يكن يدّعياها ـ الشيخان ـ من قبل.
وبهذا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه إسماعيل أدهم وتوفيق صدقي ورشيد رضا(1) ومنكرو السنّة في الباكستان القائلين بلزوم الاكتفاء بالقرآن، إنّما كان كلامهم نتيجة حتميّة لمنع الشيخين من تدوين حديث رسول الله.
واستبان لك كذلك عدم صحّة ما علّل به الشيخان في المنع، وما علّله به الآخرون من الكتّاب، شيعةً وسنّة، مستشرقين ومسلمين، ذلك لاَنّ المنع جاء لظروف خاصّة طرأت على الخلافة الاِسلاميّة ولقناعات سابقة ودوافع شخصيّة عند الخليفة عمر بن الخطّاب.

الثاني : ارتسام نهجين في الشريعة يخالف كلّ منهما الآخر في الاَُصول والمباني.
فالبعض: يذهب إلى مشروعيّة الاَخذ بالرأي والظنّ، المقابل للدليل القطعيّ، ويقول بحجّيّة اجتهادات عمر بن الخطّاب في سهم المؤلّفة قلوبهم،
____________
(1) انظر دراسات في الحديث النبويّ للدكتور الاَعظميّ: 32.

( 376 )
وغيرهما من القضايا والاَحكام.
والبعض الآخر من الصحابة لا يرتضي مثل هذه الاجتهادات، إلاّ إذا كانت مستنبطة من النصّ قرآناً أو سنّةً. وهؤلاء يعتقدون أنّ رسول الله كان من المتعبّدين بالنصوص، وأنّه كان لا يقول بالرأي والظنّ، بل ينتظر الوحي ليفصل في الوقائع ويبتّ في الاَحكام، وقد قال سبحانه وتعالى عنه: (ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى )(1)، وقال جلّ جلاله: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ بما أراكَ الله )(2).
أمّا قوله تعالى: (وَما كانَ لمُؤمنٍ وَلا مُؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسولُه أمراً أنْ يكونَ لَهُمُ الِخيَرَةُ مِن أمَرِهِمْ )(3)، فيحتمل أن يكون إشارة إلى فعل أُولئك المجتهدين الذين يريدون التعرّف على المصلحة وهم بحضرة رسول الله ـ المبلِّغ عن الله ـ، وسبحانه وتعالى أراد بقوله التصريح بعدم جواز عمل هؤلاء؛ لاَنّه (جلّ وعلا) قد أكمل شريعته في كتابه وكلّف رسوله بتبيين أحكامه للناس، وقد صرّح بهذا المطلب واستدلّ بهذه الآية عبد الله بن عبّاس حبر الاَُمّة في ردّ الخليفة عمر بن الخطّاب في موضوع الاِمامة أيضاً.
فالاجتهاد والاَخذ بالظنّ في الاَُمور ليس لهما دليل قطعيّ من الوحي، بل هو تعدٍّ على صاحب الشريعة، وإفتاء بغير ما أنزل الله لقوله (قُلْ ءآللهُ أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلى اللهِ تَفْتَروُن )(4)؟!
نعم، كان هؤلاء الصحابة لا يجوّزون الاَخذ بالرأي، لمعرفتهم بوجود من يعرف التنزيل والتأويل بينهم ومن خصّه الله بالفهم والعلم، ولمعرفتهم بجواز ترك الاَخذ باجتهاد الصحابيّ؛ لاَنّ كلامه مجرّد رأي شخصيّ يمكن تركه، وليست له قيمة إلزاميّة في الشريعة الاِلـهيّة، كما هو ثابت ومعروف عند الجميع.

____________
(1) النجم: 3 ـ 4.
(2) النساء: 105.
(3) الاَحزاب : 36 .
(4) يونس: 59.

( 377 )
إنّ ترجيح رأي الشيخين على كلام رسول الله، أو الاَخذ بقولهما دون البحث عن تطابقه مع القرآن والسنّة، ممّا لا يثبت أمام الحقائق، وكذا القول بأنّ الخليفة أعلم من غيره بمقصود الشارع!
نعم، إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان يريد تحقيق أمر ضروريّ في التشريع ألا وهو: عدم تخطئة اجتهاداته بعد وفاته، بل لزوم جعل ما قاله من ضمن الشريعة وهذا هو الذي دعا ابنَ عوف لاَخذ العهد من عثمان عليه لقوله (على كتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين) أو (إلاّ ما سُنَّ على عهد الشيخين)؛ لاَنّ المخالفة لتلك الاجتهادات تعني تقوية الجناح المخالف لنهج الخليفة!
وعثمان حينما قبل بالشرط المذكور، كان يريد العمل بمقتضاه، لكنّه تخطّى ذلك في السنوات الستّ الاَواخر من عهده، لِما كان يرى في نفسه من الاَهليّة ومن المضاهاة للشيخين!
أمّا الاِمام عليّ بن أبي طالب فإنّه لم يرتضِ الاجتهاد قِبال النصّ، ولميرتضِ الشرط الاَخير المقترَح من قبل ابن عوف (أي سيرة الشيخين)، واقتصر قبوله على الاَصلين الاَوّلين: كتاب الله وسنّة نبيّه(1).
وبذلك تميّز في الشريعة نهجان متباينان: نهج يمثّله الاِمام عليّبن أبي طالب وأتباعه كعبد الله بن العبّاس وعمّار بن ياسر وأبي ذرّ وسلمان و... ومن بعدهم الحسنبن عليّ، والحسين بن عليّ، وعليّ بن الحسين، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم... وباقي أئمّة أهل بيت النبيّ (ص). والنهج الآخر يمثّله: الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان بن عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان وأتباعهم كعمروبن العاص وابنه وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وسمرةبن جندب، وهشام بن عبد الملك، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد... وسواهم من حكّام بني أُميّة وبني العبّاس.
أجل، إنّ الذين قالوا بالرأي قد استخدموا الاجتهاد والتأويل للخروج من إحراجات صارخة، منها أنّهم عمدوا إلى الاجتهاد والتأويل ليعذروا
____________
(1) انظر بحار الاَنوار 31 : 371 .

( 378 )
عبدالرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مع العلم أنّ ابن ملجم ليس من الصحابة، ومع هذا يبحثون له عن هذا المخرج!
ومن أجل أن يعذروا يزيدَ في قتله الحسين!
ويعذروا أبا العادية لقتله عماراً!
ويعذروا معاويةَ لسمّه الحسن، ومن قبله عثمان لحرقه المصاحف وعمرَ لحرقه الحديث وأبا بكر في تأويلاته لقتل مالك والزنا بزوجته!
ونتيجةً لما قَنّن الخلفاء ظهرت فكرة جواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل، فمعاوية مفضول، ويزيد مفضول، ومروان بن الحكم مفضول وأولاده مفضولون، لكنّ المصلحة تدعو إلى القول بتقديم المفضول على الفاضل!!

موقف الاِمام عليّ
وقد وضّح الاِمام عليّ ما لقي بنو هاشم من القرشيّين فقال: إنّ الله لمّا قَبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالاَمر، ودُفِعنا عن حقٍّ نحن أحقّ به من الناس كافّة، فرأيتُ أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالاِسلام، والدين يمخض مخضَ الوطب، يُفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خلاف(1).
وفي رسالته (ع) إلى أخيه عقيل:
(... ألا وإنّ العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعَها على حرب رسول الله قبل اليوم...)(2).
وفي كلام آخر يقول الاِمام: (اللّهمّ إنّي أستعينك على قريش ومَن أعانهم؛ فإنّهم قطعوا رحمي وأَكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنتُ أولى به من غيري، وقالوا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسّفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلاّ أهل
____________
(1) شرح النهج 1: 249.
(2) انظرها في نهج البلاغة 3: 67.

( 379 )
بيتي...)(1)؟.
وقال: (حتّى إذا قَبَض الله رسوله رجع قوم على الاَعقاب، وغالَتْهُم السبُل، واتّكلوا على الولائج، ووصلوا غيرَ الرحِم، وهجروا السببَ الذي أُمِروا بمودّته ونَقَلوا البناء من رصّ أساسه فبنَوه في غير موضعه...(2).

نصّ آخر
وجاء في كلام الباقر لبعض أصحابه:
(يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيّانا، وتظاهُرِهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس؟!
إنّ رسول الله قُبض وقد أخبر أنّنا أولى الناس بالناس، فتمالاَتْ قريش حتّى أخرجت الاَمر عن معدنه، واحتجّت على الاَنصار بحقّنا وحجّتنا، ثمّ تداولَتها قريش واحداً بعد واحد، حتّى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا. ولم يزل صاحب الاَمر في صعود كؤود حتّى قُتل.
فبويع الحسن ابنه وعُوهد، ثمّ غُدِر به وأُسْلِم، ووثب عليه أهل العراق، حتّى طُعِن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أُمّهات أولاده، فوادعَ معاويةَ وحقنَ دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حقّ قليل.
ثمّ بايع الحسينَ (ع) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غَدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه.
ثمّ لم نَزَل أهلَ البيت نُستذل ونُستضام، ونُقصى ونمتهن، ونُحرم ونُقتل، ونخاف ولانأمن على دمائنا ودماء أوليائنا... إلى أن قال: ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة، فحدّثوهم بالاَحاديث الموضوعة المكذوبة، ورَوَوا عنّا ما لمنَقُلْه، وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس.

____________
(1) نهج البلاغة 2: 227 خ212.
(2) نهج البلاغة 2: 49 خ146 (في الملاحم).

( 380 )
وكان عظُم ذلك وأكثره زمن معاوية بعد موت الحسن (ع)، فقلّت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطّعت الاَيدي والاَرجل على الظنّة، وكلّ من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن، أو نُهِب ماله، أو هُدِمت داره. ثمّ لم يَزَل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيداللهبن زياد، قاتل الحسين.
ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة، حتّى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال: شيعة عليّ! وحتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ولعلّه يكون وَرِعاً صدوقاً يحدّث بأحاديث عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولاكانت ولاوقعت، وهو يحسب أنّها حقٌّ لكثرة من قَد رواها ممّن لم يُعرف بالكذب، ولابقلّة ورع)(1).
وفى كلام للاِمام عليّ يشير فيه إلى عدم عمل الاَُمّة بكتاب الله وسنّة رسوله، بل غلبت الاتّجاهات عليهم فقال: ...فيا عجبي وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصون إثر نبيّ ولايقتدون بعمل وصيّ ولا يؤمنون بغيب، ولا يعنَّون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم، كأنَّ كلّ امرىٍَ منهم إمام نفسه، قد أخد منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات...(2)
وقوله : إنَّ الكتاب لمعي ما فارقته منذ صحبته، فلو كنّا مع رسول الله... إلى أن يقول: ولكنّا إنَّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الاِسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل.(3) ومن خطبة له بعد انصرافه من صفّين جاء فيها: ...والناس في فتن انجذم ـ أي انقطع ـ فيها حبل الدين، وتزعزعت سوارى ـ أي عمود ـ اليقين، واختلف
____________
(1) شرح نهج البلاغة 11: 43 ـ 44.
(2) نهج البلاغة 1 : 154 ضمن خ 84 .
(3) نهج البلاغة 2 : 3 .

( 381 )
النجر ـ أي الاَُصول ـ وتشتّت الاَمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عُصِي الرحمنَّ، ونُصِر الشيطان، وخُذِل الاِيمان، فانهارت دعائمه، وتنكَّرت معالمه، ودرست سبله، وعفَّت...(1) ومن كلام آخر له : ... ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسّمكم بحلية المفترين، سترني عنكم جلباب الدين، وبصّرنيكم صدق النيّة، أقمت لكم على سنن الحقّ في جوار المضلّة حيث تلتفّون ولا دليل وتحتفرون ولاتميهون...(2)
دلائل ومؤشّرات
نعم، إنّ قريشاً قد جدّت في مقاطعة بني هاشم في بدء الدعوة، لكنّ الهاشميّين صمدوا ثلاث سنين في شِعب أبي طالب وتحمّلوا حصار العرب.
ثمّ أجمعت العرب أن تشترك في قتل النبيّ، فلا يقوى الهاشميون علىالمطالبة بدمه. ومن أجل هذا قال رسول الله عن الهاشميّين مادحاً لهم: (إنهّم لم يفارقوني في جاهليّة ولا إسلام وإنّما نحن وهم شيء واحد)، وشبك بين أصابعه(3)شك.
فالهاشميّون لم يتركوا رسول الله ولم يُسْلّموه بل إنّهم كانوا درعاً له ووقاء، وكانوا يدافعون عنه (ص) حتّى آخر لحظة، من حياته الشريفة.
فمثلما اجتمعت العرب على محمّد (ص) تحاربه، فإنّها قد اجتمعت على أهل بيته تضادّهم وتستأصلهم من بعده. وإنّ ما بدأوا بالاِعلان عنه في عهد الرسول هو الذي اتّسع ورسخ لاحقاً، ذلك أنّ غير أهل البيت قالوا بمشروعيّة الرأي، وجواز التعرّف على المصلحة، وإدراك ملاكات الاَحكام، والنهي عن التدوين وغيرها من المستحدثات.
وأنت تعلم أنّ هذا كلّه قد طبّق عمليّاً فيما بعد؛ فولاية العهد غدت
____________
(1) نهج البلاغة 1 : 23 .
(2) نهج البلاغة 1 : 34 .
(3) سنن النسائيّ 7: 131، سنن أبي داود 3: 146|2980.

( 382 )
شرعيّة ـ بعد قولهم بأنّ رسول الله لم يستخلف أحداً ـ استناداً إلى فعل أبي بكر في الاستخلاف.
وصار التدوين مكروهاً مقيتاً لكراهة عمر له وجائزاً لتدوين ابن عبدالعزيز له.
وصِيرَ إلى القول بعدم اجتماع النبوّة والاِمامة وإنّ رسول الله لميورّث اتّباعاً لِما ذهب إليه الشيخان.
ومن الطريف هنا أن ننقل كلام الاِمام عليّ لعمّه العبّاس حينما بويع عثمان، إذ قال له العبّاس: ألم أقل لك؟
فقال له (عليّ): يا عمّ! إنّه قد خَفِي عليك أمر. أما سمعتَ قوله (أي قول عمر) على المنبر: ما كان الله ليجمع لاَهل هذا البيت الخلافة والنبوّة؟! فأردت أن يكذّب نفسَه بلسانه، فيعلم الناسُ أنّ قوله بالاَمس كان كذباً باطلاً وأنّا نصلح للخلافة؟! فسكت العبّاس(1).
فلو كان حقّاً أنّ رسول الله لا يورّث فلمَ قال أبو بكر: (لقد دفعت آلة رسول الله وسيفه وبغلته إلى عليّ)؟(2)ولماذا طالبت زوجات النبيّ الخليفةَ أبا بكر بإرثهنّ؟ إنّها تساؤلات تتطلّب الاِجابة. وفينظرنا أنّ التصوّرات الخاطئة هي التي آلت إلى اعتقادات خاطئة سارية إلى اليوم في تاريخ المسلمين وحياتهم.
لا أدري كيف لا يُتعجَّب من إيتاء الكتاب والحكمة والمُلك لآل إبراهيم ونتعجّب من أن يُؤتى آل محمّد مثلما أوتي آل إبراهيم؟! قال الحقّ سبحانه وتعالى: (أمْ يَحْسُدون الناسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً )(3).
قال عليّ بن أبي طالب: والله ما تنقم قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم، فادخلهم في حيّزنا.

____________
(1) علل الشرائع: 171، باب 134 حديث 1، وعنه في بحار الاَنوار 31: 355.
(2) انظر شرح نهج البلاغة 16: 240 مثلاً.
(3) النساء: 54.

( 383 )
وقد مرّ عليك رسالة معاوية لمحمّد بن أبي بكر: (...فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه وخالَفه، وعلى ذلك اتّفقا واتّسقا...).
إنّ ما أُريد التأكيد عليه هو أنّ الفقه قد مُنِيَ ـ بمحنة انفعاله ـ بالدوافع السياسيّة، وأنّ الاَحكام الدينيّة صارت لا تُعرَفُ، لخلفيّات خاصّة أملتها السلطات ـ والخلفاء أصحاب الرأي ـ.
وننقل هنا نصّاً عن «الاعتصام» رواه عن ابن العربيّ ـ وهويكشف عمّا ذكرناه ـ قال ابن العربيّ: كان شيخنا أبو بكر الفهريّ يرفع يدَيه عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وهو مذهب مالك والشافعيّ، وتفعله الشيعة، فحضر عندي يوماً في مَحْرَس أبي الشَّعْراء بالشَّعْر موضع تدريسي، عند صلاة الظهر ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدّم إلى الصفّ الاَوّل، وأنا في مؤخّره قاعداً على طاقات البحر، أتنسّم الريح من شدّة الحرّ، ومعي في صفّ واحدٍ (أبو تمنة) رئيس البحر وقائده، في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلّع على المراكب.
فلمّا رفع الشيخ الفهريّ يدَيه في الركوع وفي رفع الرأس منه، قال أبو تمنة وأصحابه: ألا ترى إلى هذا المشرقيّ كيف دخل مسجدنا؟! قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد!!
فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله! هذا الطرطوشيّ فقيه، فقالوا لي: ولِمَ يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبيّ (ص) يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.
وجعلت أُسكّتهم وأُسكّنهم، حتّى فرغ من صلاته، وقمت له إلى المسكن من المحرس، ورأى تغيّر وجهي فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك، وقال: من أين لي أن أُقتل على سُنَّةٍ؟!
فقلت: ويحلّ لك هذا؟ فإنّك بين قوم إن أقمتَ بها قاموا عليك، وربّما ذهب دمُك.

( 384 )
فقال: دع هذا الكلام، وخُذ في غيره(1).
فابن العربيّ قد دعا أُستاذه الشيخ الفهريّ إلى التقيّة، بَيْدَ أنّ الاَُستاذ كان يحبّ القتل على السنّة!
والجدير هنا نقل كلام الخليفة عمر بن الخطّاب قوله: إنّ ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله (ص)، وإنّ الوحي قد انقطع، وإنّما آخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً آمنّاه وقرّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته. ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولمنصدّقه وإن قال إنّ سريرتي حسنة(2).
ومن أمثله الانفعال بالدوافع السياسيّة ما نراه في موقف البخاريّ في اختياره الروايات والرواة؛ فالبخاريّ ـ ومثله مسلم ـ قد رويا عن مروانبن الحكم وأبي سفيان ومعاوية وعمرو بن العاص والمغيره بن شعبة وعبداللهبن عمروبن العاص والنعمان بن بشير، ولكنّهما لم يرويا عن الحسن والحسين سِبْطَي رسول الله (ص)، ولم ينقلا عن الصادق على رغم معاصرتهما له.
وأكثر من روى عنهم البخاريّ: أبو هريرة، وعائشة، وعمرّبن الخطّاب، وعبداللهبن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
فإنّه روى عن أبي هريرة أربعمائة وستّة وأربعين حديثاً.
وعن عبد الله بن عمر مائتين وسبعين حديثاً.
وعن عائشة أربعمائة واثنين وأربعين حديثاً، ولم يروِ عن فاطمة الزهراء بنت الرسول إلاّ حديثاً واحداً! ولم يروِ عن عليّ إلاّ تسعة وعشرين حديثاً! ترى.. لماذا تقلّ نسبة أحاديث عليّ عن أحاديث أبي هريرة في صحيحه؟ فإنّه روى عن أبي هريرة 446، في حين لم يروِ عن عليّ بن أبي طالب إلاّ29 حديثاً؟!
أكان أبو هريرة أو عبد الله بن عمرو بن العاص أخصّ من عليّ برسول
____________
(1) الاعتصام 1: 358.
(2) السنّة قبل التدوين للدكتور عجاج الخطيب: 403 عن الكفاية: 78.

( 385 )
الله؟! أم كان عليّ من الصحابة الذين وصفهم أبو هريرة بكثرة الاشتغال بالتجارة عن التلقّي عن رسول الله.
كلا، إنّ الاَمر لَيرجع إلى غير ذلك، إنّه تحكيم الروح القرشيّة في الشريعة.
فعن المقداد أنّه قال لعبد الرحمن بن عوف يوم الشورى:ياعبدالرحمن! أما والله لقد تركتَه ـ أي تركتَ عليّاً ـ وأنّه من الذين يَقْضُون بالحقّ وبه يَعْدِلون.
فقال: يا مقداد! والله لقد اجتهدتُ للمسلمين!
فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أُتيَ إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! إنيّ لاَعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول إنّ أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل، أما والله لو أجد عليه أعواناً!
فقال عبد الرحمن: يا مقداد! إتّق الله فإنّي خائف عليك الفتنة!
فقال رجل للمقداد: رحمك الله، مَن أهل هذا البيت؟ ومن هو الرجل؟
فقال المقداد: أهل البيت بنو عبد المطّلب، والرجل عليّ بن أبي طالب(1).
وجاء عن رسول الله أنّه قال في خطبة الوداع: يا أيّها الناس! خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا تجاحَفَت قريش على المُلك وكان على دين أحدكم فدَعُوه(2).

بين الاتّجاهين
وبعد هذا كلّه فإنّ ترك التحديث والاَخذ بالقرآن بمفرده كان الحدّ الفاصل بين الاتّجاهين، لقوله: (فلا تحدّثوا عن رسول الله، فمَن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله)!
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد كانت تذهب إلى مشروعيّة اجتهاد الرسول. وأمّا مدرسة التعبّد المحض فتنكره؛ لكونه مبنيّاً على الظنّ، وشتّان مابين
____________
(1) تاريخ الطبريّ 5: 38، الكامل في التاريخ 3: 37 (ذكر قصّة الشورى).
(2) رواه أبو داود 3: 137 حديث رقم 2958.

( 386 )
الفرض والتخمين وبين الجزم واليقين!
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد تقول إنّ رسول الله (ص) لم يوص من بعده. وأمّا مدرسة أهل البيت فتنصّ على وصيّة رسول الله (ص) لعليّ وأهل بيته من بعده.
ومنها: أنّ قريشاً ومدرسة الاجتهاد منعت من تدوين سنّة رسول الله. وأمّا مدرسة أهل البيت فقد دوّنت ذلك ودعت إليه رغم كلّ الظروف.
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد قالت: حسبنا كتاب الله ولا ألبس بكتاب الله شيئاً) وأمّا مدرسة أهل البيت فتقول عن القرآن إنّه حمّال ذو وجوه، ولايمكن فهم حقائقه وتفصيله إلاّ عن طريق السنّة وتفسير من خصّه الله بالعلم.
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد لا ترتضي عرض كلام الصحابيّ على القرآن، بل ترى قوله وعمله مخصِّصاً للقرآن، وأمّا مدرسة أهل بيت فتدعو إلى لزوم عرض كلامهم على القرآن وطرح ما خالف القرآن فجاء عنه (ع): «إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني عنه في كتاب الله» أو قوله: «فاعرضوا كلامي على كتاب الله، فما وافقه فخذوا به وما خالفه فاطرحوه».
ومنها : أنَّ مدرسة الاجتهاد قالت بالتصويب في الاَحكام الشرعيّة، لاعتقادهم بعدالة الصحابة، أمّا مدرسة أهل البيت فهي مخطِّئَة لما عرفت.
ومنها : أنَّ مدرسة الاجتهاد نفت العدالة في كثير من الاَحكام الشرعيّة، كالقضاء و... حتّى العبادات، فإنَّهم قد جوَّزوا الصلاة خلف كلّ برٍّ وفاجر، أمّا مدرسة أهل البيت فلم ترضَ ذلك. وغيرها.