دواعي التحريف والانحراف عند النهجين

أوضحت دراستنا فيما مرّ بعض أُصول الخلاف بين المدرستين التي نبعت واتّسعت متأثّرة بمنع التحديث والتدوين وأوصلتنا وأوصلت معنا القارئ إلى نتائج مثمرة بأكبر رصيد من الصحّة حول بُنَى المدرستين (الاجتهاد والرأي) و(التعبّد المحض)، واتّضح لنا الاَثر الاِيجابيّ الذي خلّفه التدوين على فقه المدوّنين والسلبيّ على فقه المانعين، وبالتالي عرفنا قيمة المخزون الفقهيّ لكلا المدرستين.
والآن نحاول عرض حصائلنا ووزنها بميزان آخر لمعرفة مدى تلائم كلّ من الاتّجاهين مع السير الطبيعيّ للسنن التاريخيّة وقواعد علم الاجتماع والاَخلاق ومدى إنسياقها وتلائمها مع الظروف المختلفة التي أحاطت بهما، لنعرف أيّ المدرستين أبعد من التحريف والانحراف، وأيّهما أقرب لذلك.
فعن عليّ بن أبي طالب في خطبة له:
(ولكنّي بلغني أنّكم تقولون «عليٌّ يكذب» قاتلكم الله، فعلى من الكذب؟! أعلى الله، فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه؟ فأنا أوّل من صدَّقه!).
وهذا النصّ يختزن في طيّاته أدقّ وأروع معاني الاحتجاج والتنظير، وهو يشير إلى تأزّم مرض أخلاقيّ اجتماعيّ مُني به مجتمع كامل ـ أو شريحة كبيرة منه ـ إذ صبّت جام غضبها وكذبها على شخصيّة في أعلى درجات النزاهة والوضوح.
من هنا استدلّ الاِمام على بطلان مزاعم تلك الشريحة بأنّ الكاذب لابُدّ وأن تكون له دوافع ذاتيّة أو خارجيّة تحدو به لاَن يتّخذ الكذب مطيّة إلى مآربه وأهدافه. فإنّ الكاذب إمّا أن يكون مصاباً بعمى القلب والانهماك في المحرّمات والعصيان والتمرّد، ممّا يجعله شخصاً يستطيب ويستعذب الكذب، ولايرتدع
( 486 )
عن ارتكاب أقبح وأسوء الصفات.
وإمّا أن يكون ممّن يرجو مطمعاً ويبتغي عرضاً من الحياة الدنيا فلايمكنه الوصول إليه عن طريق الصدق ممّا يضطرّه إلى أن يكذب ليصل إلى بغيته وطلبته.
وإمّا أن يكون جباناً يخاف عاقبة أمره وأن يطاله العقاب القانونيّ الدنيويّ فيلجأ إلى الكذب للتخلّص من المأزق الذي هو فيه.
وإمّا أن يكون للتخلّص من سؤال محرج لا يهتدي فيه إلى وجه الصواب، فيتّخذ الكذب غطاءً ليغطّي عجزه وعوزه للدليل،و...
والذي يتصفَّح التاريخ الاِسلاميّ، يرى أنّ غالبية الكاذبين علىالله ورسوله كانوا ذووي نزعات جاهليّة أو ميول نفسانيّة أو عجز فكريّ فاضح، وهم في الغالب ممّن أسلموا خوفاً من السيف أو اندسّوا في صفوف المسلمين كمسلمة الفتح ومن بعدهم، وكالمنافقين و...
وهذه الدواعي وما ضارعها، كلّها منتفية في حقّ عليّبن أبي طالب، لاَنّه الصحابيّ المخلص ـ الذي له أروع المواقف وأعلى الصفات ـ بلاخلاف بين المسلمين، كما أنّه ينتمي إلى شأوٍ نسبيّ رفيع لا يحتاج معه إلى رفع رافع ولايضطرّ معه إلى الكذب والعياذ بالله لتغطية النقص الاجتماعيّ الذي يحصل من ذلك، ولاَجل ذلك تراه يقول «فعلى مَنِ الكذب، أعلى الله فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه، فأنا أوّل من صدّقه».
وقد صدق عليّ في قوله، إذ لا داعي لمثل ذلك، وهو الذي نزل فيه وفي آله الذكر الحكيم، كما في آيات التطهير، والمباهلة، والمودّة في القربى وسورة الدهر وقوله (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا) و(كونوا مع الصادقين) و(إن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) و(يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا والرسول وأُولي الاَمر منكم) و(فاسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) و(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنّم) و(إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هادٍ ) و(إنّما وليّكم الله
( 487 )
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون
)(1) و....
فما هو الوجه والمبرّر لئن يكذب عليُّ على الله، بعد هذا إذَن؟!
وأمّا الكذب على رسوله، فإنّه شأن المتملّقين وأصحاب الاَهواء والمطامع وأعداء الاِسلام والمندّسين في صفوف المسلمين، الذين آذوا الرسول وكذّبوه، مخافةَ كشف أمرهم، وهم الذين رموه بالقمامة، وجعلوا في طريقه الشوكو...
وأمّا عليّ بن أبي طالب فهو ابن عمّه، والمدافع عنه بنفسه ومهجته، وهو أوّل من صدّقه بالنبوّة والرسالة، ونام على فراشه درءاً للخطر عنه (ص)، فمن كان هذا حاله، فهل يعقل أن يكذب على الرسول (ص)؟! ونحن نرى مئات النصوص منه (ص) في مدحه، منها قوله عنه (إمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين)(2) وفي آخر (إمام البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله)(3) 0 وفي ثالث (أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت من الباب)(4) وقوله (أنت تُبَيِّن لاَُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي)(5) وقوله (أنا المنذر وعليّ الهاديّ، وبك يا عليّ يهتدي المهتدون من بعدي)(6) وقوله لعليّ (إنّ الاَُمّة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملّتي وتقتل على سنّتي، مَن أحبّك أحبّني، ومن أبغضك أبغضني، وإنّ هذه ستخضب من هذا، يعني لحيته من رأسه)(7) ...

____________
(1) انظر مصادر نزول هذه الآيات وغيرها في عليّ وآله في كتاب المراجعات المراجعة (12).
(2) المستدرك للحاكم 3: 138 ، وأخرجه أبو نعيم في حليته عن أنس وعنه في شرح النهج.
(3) المستدرك للحاكم 3: 129.
(4) أخرجه الطبرانيّ في الكبير عن ابن عبّاس، والحاكم في مناقب عليّ، والسيوطيّ في الجامع الصغير.
(5) المستدرك، للحاكم 3: 122.
(6) أخرجه الديلميّ من حديث ابن عبّاس كما في كنز العمّال.
(7) أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 137 وصحّحه الذهبيّ في تلخيصه، وجاء مثله من طرق الشيعة كما في (إكمال الدين) للصدوق عن ابن سمرة عن رسول الله9 قال له: ياابن سمرة! إذا اختلفت الاَهواء وتفرّقت الآراء فعليك بعليّ بن أبي طالب فإنّه إمام أُمّتي وخليفتي عليهم من بعدي.

( 488 )
وعن عليّ أنّه قال: إنّ ممّا عهد إليّ النبيّ أنّ الاَُمّة ستغدر بي بعده)(1) .
وعن ابن عبّاس قال: قال رسول الله لعليّ: أما إنّك ستلقى بعدي جهداً، قال: في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك.(2) وغيرها.
فمن كان هذا حاله، فهل هناك من داع لاَن يكذب على الله ورسوله؟! ولو قرانا في نصّ للذهبيّ، لعرفنا هذه الحقيقة ـ من حيث يشعر أو لا يشعر الذهبيّ ـ وهو قوله عن محمّد بن الحسن المهديّ المنتظر: خاتمة الاثني عشر سيّداً الذي تدّعي الاِماميّة عصمتهم، ومحمّد هذا هو الذي يزعمون أنّه الخلف الحجّة، وأنّه صاحب الزمان، وأنّه حي لا يموت حتّى يخرج فيملا الاَرض، عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فوددنا ذلك، والله.
فمولانا عليّ: هو من الخلفاء الراشدين.
وابناه الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله ، سيّدا شباب أهل الجنّة لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك.
وزين العابدين: كبير القدر، ومن سادة العلماء العاملين، يصلح للاِمامة.
وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر: سيّد، إمام فقيه، يصلح للخلافة!
وكذا ولده جعفر الصادق: كبير الشأن، من أئمّة العلم، كان أولى بالاَمر من أبي جعفر المنصور.
وكان ولده موسى: كبير القدر، جيّد العلم، وأولى بالخلافة من هارون.
وابنه عليّ بن موسى الرضا: كبير الشأن، له علم وبيان، ووقع في النفوس، صيّره المأمون وليّ عهده، لجلالته.
وابنه محمّد الجواد: من سادة قومه.
وكذلك ولده الملقّب بالهاديّ: شريف جليل.

____________
(1) المستدرك 3: 147 وصحّحه الذهبيّ في تلخيصه.
(2) المستدرك 3: 140.

( 489 )
وكذلك ابنه الحسن بن عليّ العسكريّ رحمهم الله تعالى(1) .
كيف لا يكونون كذلك وهم عدل القرآن ـ كما في حديث الثقلين ـ وهم أمان لاَهل الاَرض من الغرق ـ كما في حديث السفينة ـ والاَُمّة من الاختلاف كما أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 149و...
إنَّ نسبة التحريف إلى أئمّة التعبّد المحض ـ وهم أئمّة أهل البيت ـ معدومة بالنسبة إلى غيرهم، لاَنَّ أئمّتهم هم عليّ والحسن والحسينو... وهم المطهّرون والصادقون بنصّ الذكر الحكيم والسنّة النبويّة، وقد وردت بحقّ أتباعهم والسائرين على نهجهم، كابن عبّاس وابن مسعود وأبي ذرّ وعمّارو... نصوص عن رسول الله في مدحهم، وهم أُناس معروفون بالنزاهة ولميذعنوا للاَهواء والتيّارات، ولم يُتَّهم واحد منهم بالكذب والوضع، بخلاف ما قد نراه بين أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد من المتّهمين بالوضع والكذب، كأبي هريرة وسمرةبن جندب وكعب الاَحبارو...
وهذا فارق ملحوظ بين المدرستين، وهناك أمر آخر يلزم الاِشارة إليه وهو أنَّ أتباع التعبّد المحض كانوا يصرّون على نقل ما عرفوه وإن وضعت الصمصامه على أعناقهم، وكانوا لا يداهنون في أمر الدين كما هو الملاحظ في موقف الاِمام عليّ يوم الشورى وعدم قبوله سيرة الشيخين لتنافيها مع سنّة رسول الله، أو كموقف الاِمام الحسين من يزيد أو غيرها من المواقف الثابتة، وذلك بعكس أتباع نهج الاجتهاد والرأي، الذين أشاروا على عليّ (ع) بأن يساوم ويجامل ويداهن في أيّام خلافته بحجّة أنَّ في ذلك صلاحاً ومصلحة للمسلمين، وأشاروا على الاِمام الحسين أن يبايع يزيد ويسكت كما سكت الآخرون بحجّة أنَّ الخلاف شرّ، وأنَّ قضاء الله قابل للتأويل و.و... هذا أوّل الفروق.
2 ـ أنّ الشرائع السماويّة ـ طبق الاستقراء والمنهج التاريخيّ القرآنيّ ـ ما نبتت وترعرعت إلاّ في أحضان الفقراء والمستضعفين، فقال سبحانه (قالوا
____________
(1) سير أعلام النبلاء، للذهبيّ 13: 119 ـ 121.

( 490 )
أنؤمن لك واتّبعك الاَرذلون)(1) وقوله (وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادىَ الرأي)(2) وقوله تعالى حاكياً قول الكافرين في اعتراضهم على بعثة النبيّ (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك)(3) فهذه الآيات تنصّ على أنّ المستضعفين (الاَرذلون) كانوا هم المسارعين إلى الاعتقاد بشريعة السماء، وكان الاَنبياء أيضاً من أُولئك الفقراء، لم ينزل عليهم كنز، ولميأتوا للناس بالذهب والفضّة والملذّات والشهوات، وإنّما جاءوا بالزهد والتواضع وعدمالبذخ.
وما كان المشركون والكفّار إلاّ من طبقة الاَغنياء المترفين الذين لايتلائمون مع روح الشريعة ومفاهيمها التي تقيّدهم، ولا تجعل له ميزة أو علوّاً على الآخرين، وهذا ما لا يروق لهم ولا يعجبهم، قال تعالى (زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة)(4) وقوله حاكياً قول المترفين واعتراضهم على النبيّ (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين)(5) وقد مرّ عليك كلامهم (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك).
فالنبيّ، وبعد وقوفه على حاله الاَُمّة نراه يفتخر بالفقراء ويحتضنهم وقد اتّبعه الفقراء العازفون عن الدنيا كعمّار والمقداد وسلمان وأبو ذرّ وبلال الحبشيّ وصهيب الروميّو...
وأمّا الاَغنياء من أمثال: أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان فكانوا ممّن آذوه وألقوا في طريقه الشوك، وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان. وإذا لحظنا هذه السنّة القرانيّة وطبقّناها على مدرستي (التعبّد المحض) و(الاجتهاد والرأي) لوجدنا أتباع مدرسة التعبّد غالبتيها الساحقة من الفقراء، فقد عاش أبو ذرّ ومات فقيراً،
____________
(1) الشعراء: 111.
(2) هود: 27.
(3) هود : 12 .
(4) آل عمران : 14 .
(5) الزخرف : 53 .

( 491 )
غريباً، طريداً، منفيّاً، وعاش عمّار كذلك حتّى استشهد ولم يترك شيئاً، وكذلك شأن الباقين من رؤساء هذه المدرسة وأتباعها.
وفي المقابل نرى الترف والبذخ عند عثمان بن عفّان ومروانبن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وقد ذكر المؤرّخون ما تركه هؤلاء من أموال وعقارات بعد وفاتهم.
وهذا الترف المتزايد لا يتلائم مع منطق الدين وأحكامه، وقد عرف الخلفاء والحكّام ذلك حقّ المعرفة، فعن العبّاس بن سالم قال: بعث عمربن عبدالعزيز إلى أبي سلام الحبشيّ، فحمل على البريد، فلمّا قدم على عمربن عبدالعزيز، قال: يا أمير المؤمنين! لقد شقّ عَلَيَّ محملي على البريّة!
فقال عمر: ما أردنا المشقّة بك يا أبا سلام! ولكنّه بلغني عنك حديث ثوبان مولى رسول الله في الحوض، فأحببت أن تشافهني به، فقال أبو سلام: سمعت ثوبان مولى رسول الله يقول سمعت رسول الله يقول: إنّ حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، أكاويبُهُ عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أوّل الناس وروداً عليه الفقراء، فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله من هم؟ قال: هم الشعثُ رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعِّمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد.
فقال عمربن عبدالعزيز: لا جرَمَ والله لقد فتحت أبواب السدد، ونكحت المتنعمات: فاطمة بنت عبد الملك، إلاّ أن يرحَمَني الله، لا جرم لاأدهن رأسي حتّى يشعث ولا أغسل ثوبي الذي على جسدي حتّى يتّسخ.(1) ففي هذا صراحة أنّ الشعث رؤوسهم هم المجاهدون في سبيلالله العابدون له، الذين لم يلتهوا ببهارج الدنيا، فهم شعث الرؤوس ودنس الثياب لاشتغالهم بالجهاد والعبادة وعدم المبالاة بالدنيا، وقد اعترف ابن عبدالعزيز بأنّه ليس من أُولئك ثمّ أراد أن يلتحق بهم فظنّ أنَّ الاتّساخ ـ في الشَّعَر والملبس ـ هو سبيل الجنَّة، ولم يتنبّه إلى أنّ المراد منه هو عدمالاهتمام ببهارج
____________
(1) مسند عمر بن عبد العزيز : 116 .

( 492 )
الدنيا بحيث يبعده عن الجهاد في سبيل الله والعبادة الخالصة من حبّ الدنيا.
هذا وقد اعترض سفيان الثوريّ على المنصور العبّاسيّ في إسرافه وتبذيره، فقال له المنصور: فإنّما تريد أن أكون مثلك؟!
فقال الثوريّ: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه. فقال له المنصور: اخرج(1) .
والذي يراجع التاريخ يقف على ما كان يفعله معاوية، ويزيد، ومروان، وعبدالملك، والوليد، وهشام بن عبد الملك، والمنصور، والمهدي، والرشيد وغيرهم من الشراهة والاِسراف والتبذير في المطاعم ومجالس اللهو، وعدمالمبالاة بتحريف الكتاب، والوضع على السنّة، وهؤلاء هم الذين دعوا إلى تدوين السنّة النبويّة وتصدّوا لمَذْهَبَة المسلمين بالمذاهب الاَربعة، وهم الذين قد احتضنوا الرأي ودعوا إلى المصلحة والاجتهاد، وبالتالي فإنَّ نسبة احتمال التحريف والانحراف في ناس هذا شأنهم يكون كبيراً جدّاً إذا ما قيس إلى مدرسة فقيرة قانعة بدين الله ـ أتباع مدرسة أبي تراب ـ فإنّها لاتحتاج إلى تبديل وتغيير الاَحكام ثمّ اختلاق التأويلات لها.
3 ـ أنّ التزلّف والتقرّب إلى السلاطين كان وما زال الداء العضال في الجبلّة البشريّة، فإنّ الحكومات المترفة كانت تحكّم الرشاوي والمحسوبيات في تقريب هذا وإبعاد ذاك، وهذا كلّه له الاَثر الكبير في استقطاب ضعاف النفوس الذين يريدون إرضاء المخلوق ولو كان بسخط الخالق وقد ورد هذا في معنى الحديث الشريف (الشقي من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره).
وقد برزت هذه الظاهرة بشكل خطير في عهد الخليفة الثالث عثمانبن عفّان ـ بعد أن كانت محدودة شيئاً ما في عهد أبي بكر وعمر ـ لاَنّه قد مهّد الاَمر لاَن تكون الخلافه الاِسلاميّة كسرويّة وقيصريّة، وذلك بتوليته أقاربه المناصب والولايات وإقطاعه القطائع وإعطائهم الاَموال، حتّى نُقل أنَّ بعض المسلمين
____________
(1) تاريخ بغداد 9: 152 ـ 153، ومقدّمة تفسير سفيان الثوريّ.

( 493 )
مات وترك من الذهب ما يكسَّر بالفؤوس، وقد ثبت عن عثمان أنّه أعطى خمس إفريقيا وفدك هبة لعبد الله بن أبي سرح ومروان بن الحكم، وغيرها من الاَُعطيات للآخرين من أقاربه، كلّ ذلك ليدافعوا عنه وعن مبادئه وآرائه التي أدَّت إلى انشقاق المسلمين ثمّ الهجوم عليه وقتله.
نعم، إنّ بعض البوادر قد ظهرت في أوائل خلافة أبي بكر، كلبس خالدبن الوليد الخزّ وتعمّمه بعمامة غرزها بالسهام ـ عتوَّاً وكبراً ـ حتّى أنَّ عمر نزع عمامته من رأسه وكسَّر السهام وهدَّده بالرجم؛ لدخوله بزوجة مالكبن نويرة وهى في العدّة.
وقد سمّى عمر معاوية بـ (كسرى العرب) وأجاز له لبس ما يعجبه لكونه على قرب من الروم، وعلى كلّ حال فإنّ ظاهرة التزلّف إلى الحكّام كانت ولاتزال هي سجيّة أصحاب القلوب الضعيفة.
وفي قبال كلّ هذا نرىالاِمام عليَّاً يفتخربما نعته رسول الله بـ(أبيتراب).
ويقول عن قطيفته (لقد رقعتُ قطيفتي حتّى استحييت من راقعها) وكان يأكل الخبز اليابس مع الملح أو اللبن، ولا يجمع بينهما لاَنّه يريد أن يلقىالله خميص البطن.
وقد جدّ في إرجاع أُعطيات عثمان للمتزلّفين وإيداعها في بيت المال حين ولي الاَمر.
وبلغ الاَمر به أن يحمي حديدة فيكوي بها يد أخيه عقيل لاَنّه طلب منه مالاً فوق حقّه.
أمَّا معاوية ـ وأضرابه ـ فقد استغلّ القصّاصين والوضّاعين وبذل الاَموال لهم من أجل وضع المثالب في عليّ، ومنها: إعطاؤه سمرة بن جندب أربعين ألف دينار حتّى يروي أنَّ قوله تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) نزلت في عليّ.
ومنها: إطماع عمرو بن العاص بولاية مصر على أن يؤازره في حربه عليّاً (ع)، ومنها: تأويله لحديث رسول الله المشهور (يا عمّار! تقتلك الفئة الباغية) بأنّها تعني عليّاً، لاَنّه هو الذي ألقاه بين الاَسنّة والرماح وغيرها الكثير ممّا لو
( 494 )
أردنا استقصاءه لطال بنا المقام.
ومن هنا نخلص إلى أنّ مدرسة الاجتهاد كان يديرها الكبراء المترفون، وأنَّ مدرسة التعبّد المحض كان يتصدّرها الفقراء المضطهدون، فلايمكن تصوّر التحريف عند المضطهَدين وأزمّة الاَُمور بيد الخلفاء! وقد قام المحقّق محمّدبن الوزير اليمانيّ بدراسة تتبَّع فيها أحاديث معاوية وعمروبن العاص والمغيرةبن شعبة، توصَّل من خلالها إلى أنَّ الاَحاديث المرويّة عن هؤلاء وهي واحدة(1) .وهذه الدراسة تؤكّد مدّعانا من أنَّ فقه الآنفين هو فقه واحد ويصبّ في مصبّ واحد، ويوضّح وحدة الاتّجاه بينهم.
ومن هذا الباب ما نراه من أنَّ الخلفاء ـ أمويّين وعبّاسيّين ـ كانوا يتّخذون القضاء كوسيلة لتحطيم شخصيّة المخالفين، واستغلالهم فتاوى الفقهاء لمصالحهم الشخصيّة.
فقد ورد عن الرشيد أنّه استدعى ليلةً أبا يوسف قاضي القضاة، فذهب إليه فزعاً مروعاً. فلمّا دخل عليه القصر وجده جالساً، وعن يمينه عيسىبن جعفر، فقال له الرشيد: أظنُّنا روَّعناك يا أبا يوسف؟
فقال: إي والله؛ كذلك من خلفي، ولمّا سكن روعه، قال له الرشيد: دعوتك لاَُشهدك على عيسى بن جعفر، فإنّ عنده جارية سألته أن يهبها أو يبيعها فامتنع، والله إن لم يفعل لاَقتلنّه.
فقال عيسى بن جعفر: إنّ عَلَيَّ يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لاأبيع هذه الجارية ولا أهبها.
فطلب الرشيد من أبي يوسف أن يضع له حلاًّ لهذه المشكلة، فقال أبو يوسف: يهب لك نصفها ويبيعك النصف الآخر.
فقال الرشيد لاَبي يوسف: إنّي لا أستطيع أن أصبر حتّى تبرأ بحيضتها، لاَنّها جارية مملوكة، ولابُدّ للجارية من ذلك، وإذا لم أدخل بها ليلتي هذه أخاف
____________
(1) انظر (السنّة المطهّرة والتحدّيات) لنور الدين عتر ، وتوضيح الاَفكار 2: 453 ـ 463، للاِمام محمّد بن إسماعيل الصنعانيّ، والروض الباسم 2: 113ـ 129 لليمانيّ.

( 495 )
على نفسي من التلف.
فقال له أبو يوسف: الاَمر أسهل من ذلك يا أمير المؤمنين، أَعتِقْها وتزوَّج بها الساعة. وبهذه الحيلة انتزع الرشيد الجارية من مولاها وتزوّجها في تلك الليلة(1) .
فها نحن نرى المسألة المدبَّرة، والاَُحْجية المهيّأة لامتحان طاعة أبي يوسف للسلطان ومدى انقياده إليه، ومدى استعداده لتبديل الاَحكام وتغيير الآراء في سبيل إرضاء الرشيد، والرشيدُ وإن كان لا يتقيّد ولا يحتاج إلى مثل هذه التمحّلات الفقهيّة الغريبة، وهو أعلم ببطلانها، لكنّه أراد أن يتّخذ الفقهاء غطاءً شرعيّاً يمرّر من خلاله ما يريد.
وروى المسعوديّ: أنَّ زبيدة زوج الرشيد كتبت إلى أبي يوسف: ما تقول في هذا الاَمر؟ وأحبُّ الاَشياء إليَّ أن يكون كذا، فأفتاها بما وافق رغبتها، فأرسلت إليه بهديّة تحتوي على الذهب والفضّة والغلاّت والدوابّ والثياب وغير ذلك من النفائس، فقال له بعض من حضر مجلسه: قال رسول الله «من أُهديت إليه هديّة فجلساؤه شركاؤه».
فقال أبو يوسف: ذاك إذا كانت هدايا الناس التمر واللبن(2) .
فلاحظ التصرّف في صرف المعاني عمّا يراد بها في الاَحاديث النبويّة المباركة الواضحة الدلالة، بل أوضحها دلالةً كما في هذه الفقرة الاَخيرة من كلام أبي يوسف.
وهذه بعض الاَمثلة جئنا بها للاستشهاد لا الاستقصاء، وإلاّ فإنّ أمثالها الكثير الكثير، حتّى أنّ جمّاً غفيراً من كتّاب ومفكّري المسلمين قدماء وجدد تنبّهوا إلى أنّ اندثار بعض المذاهب ـ كمذهب ربيعة الرأي والاَوزاعيّ وسفيان الثوريّ ـ كان مردّه وسببه الرئيسيّ هو إعراض الحكومات عنها لسبب أو لآخر، في حين لاقت بعض المذاهب الاِسلاميّة كالمذاهب الاَربعة رواجاً كبيراً بسبب إقبال وتشجيع السلطان لها، واحتضانه لاَربابها أو لتلامذتهم.

____________
(1) انظر تاريخ الفقه الاِسلاميّ للدكتور محمّد يوسف : 168 .
(2) انظر تاريخ الفقه الاِسلاميّ للدكتور محمّد يوسف : 168 .

( 496 )
قال ابن حزم : (مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرئاسة والسلطان، مذهب أبي حنيفة، فإنَّه لمّا ولّي أبو يوسف القضاء كان لايولّي قاضياً إلاّ من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه. والثاني مذهب مالك...)(1) .
وقال الدهلويّ في «حجّة الله البالغة»: فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين وأُسند إليهم القضاء والاِفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس ودرسوا درساً ظاهراً في الناس، انتشر في أقطار الاَرض، لم يزل ينتشر كلّ حين، وأيّ مذهب كان أصحابه حاملين ولم يولّوا القضاء والاِفتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين)(2) .
4 ـ ثبت بين مطاوي الصفحات السابقة عدم اتّفاق الخلفاء مع نهج عليّ بل تخالفهم معه، وتحكيم الاختلافات القبليّة في سيرتهم معه، وأنّ التدوين الحكوميّ قد ظهر متأخّراً ـ وبعد قرن من الزمن ـ أي في زمن عمربن عبدالعزيز أو هشامبن عبدالملك، لقول الزهريّ (كنا نكره تدوين السنّة حتّى أكرهنا السلطان على ذلك) مع الاِشارة إلى أنّ التدوين جاء على ضوء المحفوظات ولميؤخذ من المدوّنات.
وعليه فالتحريف يمكن تصوّره في مدوّنات هؤلاء أكثر من مدوّنات الآخرين، لنزعاتهم القوميّة ولوجود السلطة بيدهم ولبُعد التدوين عندهم عن زمن النبيّ (ص)، أمّا التحريف عند أهل البيت فلا يمكن تصوّره لعكس العوامل التي مرَّت.
5 ـ أنّ القول بمشروعيّة الرأي وتعدّديّته يدعو أنصاره إلى التحريف، بمعنى أنّهم واستنصاراً لائمّتهم يلزمون أنفسهم أن يضعوا الحديث أو يؤولوه تأييداً لما قالوه، ومن أجله نراهم عدّوا الوضع المذهبيّ من أقسام الوضع. وأمّا مدرسة التعبّد فلا ضرورة عندهم لذلك، لاَنَّ حديثهم متناقل عن الاَُصول المدوّنة لقوله: (حديثي حديث أبي وحديث أبي حديثي) فلا يمكن بعد هذا تصوّر التحريف في أقوالهم لعدم تخالف نصوصهم، ولاستقائها من مصدر
____________
(1) وفيّات الاَعيان 6 : 144 .
(2) حجّة الله البالغة 1 : 151 في الاِمام الصادق والمذاهب الاَربعة 2 : 11 .

( 497 )
واحد واتّخاذهم القرآن كأصل يعرض عليه المشكوك والمنسوب إليهم.
6 ـ وهناك فارق آخر هو وحدة المباني الفقهيّة الاَُصوليّة عند نهج (التعبّد المحض) واختلافها عند مدرسة (الاجتهاد والرأي) لاَنّ أئمّة أهل البيت كانوا يؤكّدون على لزوم استقاء الاَحكام من الكتاب والسنّة لا غير. وأمّا نهج الاجتهاد والرأي فكانوا يشرّعون الرأي والاجتهاد بإزائهما، وهذا هو مدعاة للاختلاف في الاَُصول المتبناة عندهم، فالبعض يعتمد القياس والآخر يحذر منه، والثاني يقول بالمصالح والآخر يأباه، وهكذا.
فكان كلّ مذهب يحاول جرّ النار إلى قرصه، ممّا أفرز حالة ملحوظة من الزيادات والتأويلات نتيجة لتلك المنازعات، وقد رمى البعضُ منهم البعضَ الآخر بما هو بعيد عنه، أو بما هو غير مراده، فالمذاهب الاَربعة المعهودة اليوم والمذاهب المنقرضة كانت تتضارب فكريّاً، وتتلاطم فيما بينها أمواج الاختلاف، حتّى فسّق بعضهم بعضاً. وهذا من أقوى دواعي التحريف والانحراف لكي ينتصر كلّ لمسلكه ومذهبه.
7 ـ أنّ نظرة في الموثِّقين والمضعِّفين لرواة المدرستين، تدلّنا على حقيقة لا تخفى على ذي لبّ بصير، مفادها أنّ الموثِّقين والمضعِّفين ـ أي الرجاليّين عند مدرسة الرأي والاجتهاد ـ اختلفوا في توثيق أو تجريح الراوي الواحد لكثرة الاتّجاهات الموجودة عندهم، حتّى أنّنا نراهم قد اختلفوا في وثاقة نفس الرجاليّ وعدالته ومدى حجّيّة آرائه.
فأبن معين مثلاً ـ إمام الجرح والتعديل ـ اختلف في وثاقته وحجّيّة توثيقاته، لاَنّه كغيره طالما جرح شخصاً لاَنّه لا يوافق مذهبه أو لاَنّه يختلف معه في رأي ونظر ما، وطالما وثّق شخصاً لموافقته إيّاه في المذهب والمسلك، حتى أنّه قدح في الاِمام الشافعيّ وعدّه غير ثقة؟
وقد جرح الكثيرون ابن معين ولم يعدّونه ثقة، واعتمد عليه آخرون اعتماداً مطلقاً بحيث لا يقارنون بجرحه أو تعديله جرحاً أو تعديلاً آخر، مع أنّ الجميع ينتمون إلى مدرسة الرأي والاجتهاد.
ومثله حال الآخرين، فعبدالعزيز الماجشون وابن أبي حازم ومحمّدبن
( 498 )
إسحاق وغيرهم خدشوا في الاِمام مالك(1) ، وقد ألّف الدارقطنيّ جزءاً فيما خولف فيه مالك من الاَحاديث في الموطّأ وغيّر فيه، وفيه أكثر من عشرين حديثاً، وهو من مخطوطات الظاهريّة بدمشق(2) ، ونقل الخطيب البغداديّ فى تاريخه (ترجمة الاِمام أبي حنيفة) أسماء أكثر من 35 شخصاً قد قدحوا في الاِمام أبي حنيفة(3) ومثله قالوا عن الاِمام أحمد.
ثمّ إنّ بعض الرجاليّين ربّما وثَّقوا شخصاً ورفعوا بضبعه إلى السماء ثمّ رجعوا بعد مدّة بسبب اختلاف شخصيّ ـ لا دينيّ ولا مذهبيّ ـ فقدحوه وأنزلوه عن رتبته التي كانت له من قبل.
وهذا الاختلاف في الموثّق ومدى عدالته وحجّيّته يلزم منه وجود الدور الصريح ـ كما يعبر عنه في علم المنطق ـ فيما لو أردنا الاَخذ بكلامه. إذ كيف نأخذ برواية راوٍ أو نردّها اعتماداً على جرح أو تعديل شخصٍ لم تثبت وثاقته.
والاِمام الذهبيّ كان قد أعدَّ رسالة باسم «ذكر من يؤتمن قوله في الجرح والتعديل»(4) شرح فيه أُصول النقد، وطبقات النقّاد وكيفيّة أخذ أقوالهم.
لكنّا لو نظرنا في الموثِّقين عند مدرسة أهل البيت وجدنا الاتّفاق على تعديلهم والاَخذ بمدحهم وقدحهم، ولذلك لم نعهد أحداً منهم خدش في أبي العبّاس النجاشيّ، أو الكشّيّ، أو الطوسيّ، أو غيرهم من رجالييّهم، وهذا ما يدلّك على وحدة الفكر واتّحاد المسلك عندهم.
هذه هي بعض دواعي الانحراف والتحريف عند المدرستين، والبحث في أطرافه يستوجب مجلّداً إن لم نقل مجلّدات، ولو قدّر أن تدرس الدوافع بأجمعها دراسة مستوفية لكانت النتائج مذهلة إلى حدّ الاِعجاب.

____________
(1) انظر تهذيب الكمال ترجمة محمّد بن إسحاق.
(2) أضواء على السنّة المحمّديّة : 299 .
(3) تاريخ بغداد 13: 349 و370.
(4) توجد نسخة منه في آياصوفيا برقم 2953 .