السبب الاَوّل

ما طرحه الخليفة أبو بكر

ويستنتج ذلك من نصّين:
أ ـ ورد عن عائشة أنَّها قالت: «جَمَع أبي الحديث عن رسول الله (ص) وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً.
قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلّب لشكوى أو لشيء بَلَغك؟
فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هَلُمِّي الاَحاديث التي عندك.
فجئته بها، فدعا بنار فحرقها.
فقلت: لِمَ أحرقتها؟
قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنتُه ووثقتُ [به]، ولم يكن كما حدّثني فأكون نقلت ذلك»(1).
ب ـ جاء في تذكرة الحفّاظ: ومن مراسيل ابن أبي مُليكة: «أنّ الصدِّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنَّكم تحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً. فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه»(2).
وقبل مناقشة النصّين، لنا استفهامان لا بدّ من الاِجابة عنهما:
الاَوّل: هل جمع الخليفة الاَوّل أحاديثه في زمن الرسول الاَعظم، وبأمر منه(ص)، أم أنّه قد جمعها بعده نظراً للظروف السياسيّة والحاجة الاجتماعيّة؟

____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1: 5، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 30، حجّيّة السنّة: 394.
(2) تذكرة الحفّاظ 1: 2 3، حجّيّة السنّة: 394.

( 18 )
الثاني: هل وقع المنع من التحديث وتدوين السنّة الشريفة في زمن متأخّر، أم أنّ رسول الله (ص) قد نهى عن التدوين في عهده (ص). كما نُقل عن أبي سعيد الخدريّ، عنه (ص): «ومَن كَتَبَ عنّي غير القرآن فَلْيَمْحُه»(1)؟
من خلال تعبير النصّ الاَوّل «جمع أبي الحديث» يمكن أن نستشم أنَّ تدوين الحديث من قبل الخليفة جاء لاحقاً، خصوصاً حينما عرفنا أنّه أخذها من بعض الرجال، لقوله «خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل إئتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد نقلت ذلك».
فخشية الخليفة من نسبة تلك الاَحاديث إلى رسول الله لقوله «ولميكن كما حدّثني فاكون قد نقلت ذلك» لا يتلاءم مع فرض وقوع عمليّة الجمع في عهده (ص)، إذ لو كان الجمع في عهده (ص) لاَمكن للخليفة عرض المنقول على رسول الله (ص) للتثبّت من المشكوك فيه.
فإن قيل: إنّه فات عليه أن يعرض ما سمعه بواسطةٍ على رسول الله (ص) للتأكد من صحّته أو عدمها، قلنا: إنّنا لا نعقل أن يخفى ذلك على أبي بكر مع قربه من النبيّ واستحكام الشكّ في نفسه، كما نستبعد أن يكون قد ترك هذا الاَمر المهمّ وسوّف فيه حتّى كادت تدركه الوفاة، مع أنّ الصحابة كان لايخفى عليهم ضرورة أن يسألوا النبيّ (ص) في أبسط المسائل وعند أدنى شكّ.
وأمّا إحراق الاَحاديث وتخوّفه من انتسابها إلى رسول الله (ص): لقوله: «فأكون قد نقلت ذلك» وتقارب ذلك مع موت الخليفة: «خشيت أن أموت» فإنّها توضَّح أنّ الخليفة قد جمعها في آواخر عهده، وأنّه لم يسمع منها حديثاً واحداً عن رسول الله (ص) مباشرة، وإلاّ فكيف يبيح لنفسه حرق ما سمعه شفاهاً من رسول الله (ص)؟!
مضافاً إلى ذلك: أنّ الخليفة لو كان قد جمع تلك المرويّات في عهد النبيّ(ص) لذكر ذلك المؤرِّخون وأصحاب السِّيَر، ولما تقَّلبَ ليلته!
ولَمَا شكّ في جواز التدوين وعدمه بعد ذلك!

____________
(1) شرح صحيح مسلم، للنوويّ 17 ـ 18: 340 كتاب الزهد ب16 ح12، مسند أحمد 3:12، 21، 39 باختلاف يسير، تقييد العلم: 29.

( 19 )
ولَجَاءَ في كلام عائشة: «إنّ أبي قد جمع الحديث في زمن رسول الله (ص)» أو «أملى رسول الله (ص) على أبي، فكتب» أو ما شابه ذلك.
نعم، إنّ الخليفة كان قد كتب لاَنس بن مالك حينما كان عامله على البحرين كتاباً فيه فرائض الصدقة(1)، وقد كتب إلى عمرو بن العاص كذلك(2).
وهذا لا ينافي ما نُقل عنه من إحراقه صحيفته، لاَنّ ما كتبه لاَنس كان عبارة عن تدوين أمر الصدقة وجباية الاَموال، وهو ممّا يقوّم أمر الدولة ولايمكن للخليفة أن يتناساه، وقد جاء عن عمرو بن حزم أنّه دوّن كتاباً فيه الصدقات عن رسول الله، وللخليفة عمر بن الخطّاب كتاباً في نفس الاَمر كذلك، كان موجوداً عند حفصة ثمّ عند آل أبي الخطّاب، فالكتابة بما يقوّم أمر الدولة شيء وما عُلِّل في منع التدوين شيء آخر.
أمّا الاستفهام الثاني: فيمكن الاِجابة عنه بجلاءٍ من خلال فعل الشيخين وسيرة المسلمين، فقد جمع الخليفة الاَوّل خمسمائة حديث، وهذا دليل كافٍ على عدم ورود نهي منه (ص) فيه، إذ لو كان قد صدر نهي سابق لما دوّن الخليفة ما دوّن من أحاديث.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الخليفة الثاني، إذ لو كان التدوين محظوراً من قبل لما جمع الصحابة واستشارهم بالاَمر. ولما أرشدوه إلى التدوين(3).
ولو تنزّلنا وقلنا بورود المنع عن التدوين عموماً وعن السنّة خصوصاً، فما معنى ما صحَّ عنه (ص) من أنّه أمَر المسلمين بكتابة «الاَحكام التي قالها يوم فتح مكّة»(4)، أو أنّه ـ بعد هجرته من المدينة ـ أمر بكتابة أحكام الزكاة ومقاديرها، فكُتب في صحيفتين وبِقيَتا محفوظَتين في بيت أبي بكر الصدّيق وأبي بكر بن عمر بن حزم(5). وما معنى ما ثبت من قوله(ص) «اكتُبوا ولاحرج»
____________
(1) تقييد العلم 87، السنن الكبرى 4: 84.
(2) موطّأ مالك: 1|5، ألف ، كما في الدراسات: 94.
(3) تقييد العلم: 49، حجّيّة السنّة: 395.
(4) صحيح البخاريّ 1: 39 باب كتابة العلم.
(5) تاريخ الفقه الاِسلاميّ، للدكتور محمّد يوسف: 173.

( 20 )
وما ساوقها من العبارات الصريحة في الحثّ على تدوين الاَحكام والسنّة النبويّة.
وبهذا ندرك أنَّ التدوين لم يكن محظوراً في عهد رسول الله (ص)، وأنّ الشيخين لم يدوّنا حديثه (ص) في أيّام حياته، بل إنّ الخليفة الاَوّل دوّنها بعد وفاته (ص).
وإنّ الكتابة، وتدوين العلم كان ممّا أكّد عليه القرآن الحكيم بقوله: (ن، والقلم وما يسطرون)(1) و(الذي علّم بالقلم)(2) و(لا تسئموا أن تَكْتُبوه صغيراً أو كبيراً)(3) و(فاكْتُبوه)(4) و(عِلْمُها عند ربِّي في كتاب)(5) .
وإنّ العرب كانوا يُجِلُّون الكتّاب، ويميلون إلى الكتابة، وقد ذكر ابن حبيب البغداديّ قائمة بأسماء الاَشراف المتعلّمين وفقهائهم في العصر الجاهليّ وصدر الاِسلام(6) .
قال ابن سعد: «كان الكامل عندهم في الجاهليّة وأوّل الاِسلام: الذي يكتب بالعربيّة ويُحسن العوم والرمي»(7) .
وفي مكّة(8) … والمدينة(9) والطائف(10) والاَنبار(11) والحيرة(12) ودومة
____________
(1) القلم: 1.
(2) العلق: 4.
(3) البقرة: 282.
(4) البقرة: 282.
(5) طه: 52.
(6) انظر المحبر: 475 477.
(7) الطبقات الكبرى: 3|2|91 طبعة ليدن 1904 ـ 1940 تحقيق سخاو.
(8) الدراسات، للاَعظميّ ص: 44 عن مصادر الشعر الجاهليّ: 52، القصد والاَُمم لابن عبدالبرّ: 22.
(9) فتوح البلدان، للبلاذريّ: 583.
(10) فتوح البلدان، للبلاذريّ: 579.
(11) عيون الاَخبار 1: 43، القصد والاَُمم: 22.
(12) فتوح البلدان: 579، القصد والاَُمم: 22.

( 21 )
الجندل(1) كانت تعقد الكتاتيب للدراسة؛ وجاء عن رسول الله (ص) أنّه أنشأ في مسجده صُفّة كان عبد الله بن سعيد بن العاصّ يعلِّم فيها الراغبين الكتابة والخطّ(2).
قال الدكتور أحمد أمين: إنّ الاَُمّيّة لم تكن متفشّية بين العرب بالشكل الذي يتصوّره بعض الكتّاب والمستشرقين، وبخاصّة عرب الحيرة وبادية الشام؛ لاَنّهم عاشوا زمناً طويلاً مع جيرانهم الفرس والروم، وبحكم الظروف التي كانت تحيط بهم والمراحل التي مرّوا بها مع تلك الاَُمم المتحضّرة ليس من البعيد عليهم أن يتعلّموا الكتابة، وأن يأخذوا عنهم العلوم والعادات التي تمسّ حياتهم وتسهل لهم سبل العيش والحياة الحرّة الكريمة(3).
فإذا كان القرآن يشرّع الكتابة والتدوين، والسنّة تُعنى بأمر الكتابة حتّى تجعل فداء أسرى بدر من المشركين في مقابل تعليم كلّ واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة(4)، فلا معنى إذَن للقول بمنع تدوين السنّة الشريفة من قبل رسول الله (ص).
ثمّ ألاَ يلفت أنظارنا عتاب الرسول لاَقوام، وقوله لهم: «ما بال أقوام لايُفَقّهون جيرانهم، ولا يعلّمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولاينهونهم؟! وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم ولا يتفقّهون ولا يتّعظون؟!...»(5).
وقد سأل رسول الله (ص) وفد عبد القيس: «كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم وضيافتهم إيّاكم؟
قالوا: خير إخوان، ألانُوا فراشنا، وأطابوا مطعمنا، وباتوا وأصبحوا يعلّموننا كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا (ص).
فأعجب النبيّ (ص) وفرح بنا، ثمّ أقبل علينا رجلاً رجلاً يعرضنا على ما
____________
(1) المحبر: 475.
(2) انظر الاستيعاب، لابن عبد البرّ 2: 374.
(3) فجر الاِسلام: 13 14.
(4) الطبقات، لابن سعد 2: 22، سيرة ابن هشام، للسهيليّ 2: 92.
(5) مجمع الزوائد 1: 164.

( 22 )
تعلّمنا وعلّمنا...»(1).
وروى حذيفة أنّ رسول الله (ص)، قال: «اكتبوا لي من تلفّظ بالاِسلام من الناس، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل»(2).
وقد دوّن أصحاب السير أنّ رسول الله (ص) كان له ثلاثة وأربعون أو خمسة وأربعون كاتباً للوحي.
فإذا ضممنا هذا التأكيد على التعليم والتعلّم والقراءة والكتابة، إلى ما أسلفنا من أمر النبيّ بالتدوين وممارسة الصحابة له على عصره (ص) وبعده بمدّة ـ حتّى نهى أبو بكر عنهـ علمنا أنّ نسبة منع التدوين والتحديث إلى رسول الله ما هو إلاّ مغالطة يهدف منها تصوير الاِسلام بصورة مشوّهة، صارت مبرّراً لاَعداء الاِسلام في القول: بأنّ المسلمين يخالفون العلم، ولايرتضون التحديث عن رسول الله (ص) وتدوين السنّة، لاَنّا نراهم ينقضون موقفهم ويذهبون إلى تدوينه لاحقاً؟! فلو كان جائزاً فلماذا منعوه، وإن كان ممنوعاً فَلِمَ دوّنوه؟!
نعم، إنّ القول بمنع التدوين يناقض ما ورد عنه (ص)، من قوله: «اكتبوا»(3) و«قيّدوا»(4) وقوله: «اكتب فوالذي نفس حقّ(5)، أو «استعن على حفظك بيمينك»(6). ومثل هذا كثير ممّا لانريد الاِطالة فيه. وإذا اتّضح ذلك، فلنناقش النصّ الاَوّل متسائلين:
لماذا بات ليلته يتقلّب كثيراً؟
ألِعِلَّةٍ كان يشكو منها، أم أنّ شيئاً خطيراً من أمر الخلافة وشؤون المسلمين قد أرَّقه وأذهب عنه النوم؟

____________
(1) مسند أحمد 4: 206.
(2) صحيح البخاريّ 4: 87.
(3) سنن الترمذيّ 4: 146|2805.
(4) مستدرك الحاكم 1: 106.
(5) المستدرك على الصحيحين 1|5 106، تقييد العلم: 80 81، مسند أحمد 2: 162، جامع بيان العلم 1: 71.
(6) سنن الترمذيّ 4: 145|2804.

( 23 )
لقد وقفت سابقاً على كلام عائشة: «أتتقلّب لشكوى، أو لشيء بلغك؟»، واستمعت لتعليل الخليفة.
ترى هل يصحّ هذا التعليل الذي ورد عن الخليفة: «لم يكن كما حدّثني»؟
وهل يسوّغ تعليله إحراق ما جمعه؟
ولماذا يحرقه ولا يميثه بالماء، أو يدفنه في الاَرض مثلاً؟!
أمّا السؤال الاَوّل: فبقرينة «فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هلمّي الاَحاديث التي عندك، فجئته...» نعرف سبب تقلّب الخليفة وأنّه لم يكن لعلّةٍ كان يشكو منها أو لاَمر يتعلّق بالغزوات والحروب، بل إنّه بات ليلته يتقلّب بسبب ما كان في هذه الصحيفة من أحاديث، حتّى بات يعتقد أنّ نقل الحديث عن رسول الله (ص) مدعاة للاختلاف، من دون فرق بين المفردات المحدَّث بها، وبدون تمييز بين ما سُمِعَ مباشرة عن النبيّ أو بواسطة؛ لقوله في مرسلة ابن أبي مُليكة: «لا تُحدّثوا شيئاً» في حين ثبت أنّ الخليفة كان لايذهب إلى ذلك في بادىَ الاَمر.
وأمّا تعليله لاِحراق الاَحاديث بقوله: «خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته،ووثقت [به]، ولم يكن كما حدّثني، فأكون نقلت ذلك».. فإنّ عدّة مؤاخذات ترد عليه:
الاَولى: كيف انقلب المؤتمن الثقة إلى غير موثوق ومؤتمن؟
ثمّ أيحتاج أبو بكر أن تكون بينه وبين رسول الله في الحديث واسطة؟!
إنّ ما يقال من ملازمة أبي بكر للنبيّ طيلة حياته لا يتلاءم مع احتياجه في النقل عنه (ص) إلى بواسطة، إذ إنّ ملازمته للنبيّ تنفي الحاجة إلى الواسطة في النقل، وخصوصاً لمن يقال إنّه أوّل من أسلم.
الثانية: إذا كان ناقل الخبر ثقة مأموناً لقوله (ائتمنته ووثقته)، فهل يمكن أن نسقط مرويّاته عن الاعتبار ولا نأخذ بها، بمجرّد احتمال الكذب أو السهو؟
ألم يكن لازم هذا القول إنكار حجّيّة خبر الثقة، ولا يمكننا بعده أن نعتمد على خبر أيّ ناقل لاِمكان احتمال الكذب فيه؟

( 24 )
روى رافع بن خديج، قال:مرّ علينا رسول الله (ص) يوماً، ونحن نتحدّث، فقال: ما تحدّثون؟
فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله.
قال: تحدّثوا، وليتبوّأ مقعده ـ من كذب عليّ من جهنّم!
ومضى لحاجته، وسكت القوم، فقال(ص): ما شأنهم لا يتحدّثون؟!
قالوا: الذي سمعناه منك يا رسول الله!
قال: إنّي لم أُرِدْ ذلك، إنّما أردتُ من تعمّد ذلك، فتحدّثنا.
قال: قلتُ: يا رسول الله! إنّا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟
قال: اكتبوا، ولا حرج(1).
وهذا النصّ صريح فيما قلناه، من أنّ التحديث والتدوين كانا أمراً جائزاً مشروعاً في عهد النبيّ (ص)، وأنّ جملة «تحدّثوا» تؤكد جواز التحديث مع لزوم التثبّت فيه حتّى لا يقع أحد في الكذب عليه (ص)، وأنّ احتمال كذب الراوي، أو التخوّف من الكذب لا يسوّغ للخليفة إهمال الحديث.
بل إنّ رسول الله (ص) دعا إلى التثبّت في نقل الرواية، لمعرفة صحيحها من سقيمها، ولم يُشرّع (ص) سدّ باب الرواية والتحديث، فكان على الخليفة أن يصحّح الاَحاديث؛ إن كان فيها شيء مكذوب حذفه، وإن كان فيها ما يوجب التوضيح وضّحه، وإن كان فيها أمر آخر أشار إليه، لا أن يُبيد ما جمعه، بفرض الشكّ والاحتمال.
إنّ العلم عموماً ممّا لا يستساغ محوه، فكيف بكلام النبيّ الكريم؟! وعلى هذا فالمرويّات ممّا لا يجوز إحراقها بحال من الاَحوال خصوصاً وأنّ أكثرها ممّا فيه اسم الله وأحكامه التي لا يجوز إهانتها بتاتاً. وإنّه إذا أراد إتلافها كانت أمامه سبل أُخرى لا غبار عليها، مثل محوها بالماء، أو دفنها في الاَرض أو...
ثمّ إنّ المسلمين أحسّوا بالترابط الجذريّ بين التحديث والتدوين ـ وذلك يدلّ على وعيهم وثقافتهمـ فسألوا النبيّ (ص) عن جواز كتابة أحاديثه إذ
____________
(1) تقييد العلم: 73، الكامل لابن عديّ 1: 36.

( 25 )
احتملوا أن يمنع أو أن يقيّده النبيّ (ص) بقيود أو يشترط في كتابته شروطاً، فأجابهم النبيّ (ص) بجواب «أكتبوا ولا حرج». فنفى الضير في الكتابة ورفَعَ الحرج، إذ على المسلم أن يتثبّت ممّا يدوّنه عن الرسول وأن لايدوّن المكذوب، وليس بعد هذا شرط.
الثالثة: لو اعتقدنا أنّ احتمال الكذب يُسقط الرواية من الاعتبار كما قال الخليفة للزم طرح جميع ما روي عن رسول الله في الصحاح والمسانيد؛ لاِمكان ورود مثل هذا الاحتمال فيها، وهذا ممّا لا يقول به أحدٌ؛ لاَنّ القول بذلك من شأنه أن يُسِقط أصلاً من أُصول التشريع الاِسلاميّ، وأن يقضي على السنّة النبويّة الشريفة قضاءً تامّاً، وأن يُلغي كلّ الاَحكام الفرعيّة المسلّمة من الاَحاديث.
ترى، كيف يقول الخليفة بهذا؟ أخفي عليه أنّ النبيّ (ص) كان يعمل بإخبار الصحابة العدول فيما يتّصل بالتهيّؤ والاِعداد للغزوات والحروب؟! وما مفهوم آية النبأ وآيات أُخرى إلاّ دليلٌ على أنّ المسلمين كانوا يعملون بخبر العدول، ويتوقّفون عند خبر الفسّاق. بل إنّ السيرة العقلائيّة قاضية بالاَخذ بخبر الثقة العدل ويبقى مجرّد احتمال الكذب أو الخطأ أو السهو أو... مرفوعاً بأصالة العدم في الجميع.
وعليه، يكون ما ذهب إليه ابن حجر من أنّ الله قد نفى عن الصحابة: الكذب، والسهو، والريب، والفخر.. مخالفاً لشهادة الخليفة بما علمت، حيث ظنّ ببعض الصحابة ظنّاً ـ يتناول فيهم هذه الاحتمالاتـ ويرتقي إلى درجة الكذب، وأبو بكر أدرى بحال الصحابة من ابن حجر بداهةً.
ولو سلّمنا جدلاً أنّ مجرّد الشكّ والاحتمال يسقط الخبر عن الحجّيّة عند الشاكّ، فلا نسلّم سقوط الخبر عن الحجّيّة عند الآخرين غير الشاكّين في المرويّات، فكان على الخليفة أن ينقل المرويّات ويشير إلى شكّه فيمن شكّ فيه لعدم مطابقة إخباره للواقع، لاَيّ سبب كان. وللمخبَر بالخبر أن يعمل به، أو لايعمل وفقاً لما يفرضه عليه الدِّين.
والثابت أنّ هذا التبرير ـ لو سلم ـ لا يوجب منع غيره، فالخليفة بمنعه كان
( 26 )
يهدف المنع من التحديث مطلقاً لقوله في النصّ الثاني: «فلا تحدّثوا عن رسول الله».
فلو كان التدوين جائزاً فما معنى النهي؟ ولو صحّ النهي عنه (ص) فلماذا جمع أبو بكر خمسمائة حديث(1)؟!
إنّ منع الخليفة من تناقل حديث رسول الله، وحرقه لما جمعه من أحاديث عنه (ص) لا يستند إذَن إلى أصل شرعيّ.
أمّا النصّ الثاني: فإنّه يجسِّم حال الاَُمّة بعد رسول الله (ص)، وأنّ الخليفة أرجع سبب اختلافهم إلى اختلاف النقل عنه (ص)؛ لقوله: «إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً».
فمهما يكن الاَمر، فإنّ الحاجة إلى التحديث من جهة ووجود الاختلاف في المرويّات من جهة أُخرى. كان أمراً مهمّاً قائماً لابُدّ من حلِّه بطريقة ما.
وقد نحا الخليفة الاَوّل منحى المنع من التحديث، والاقتصار على القرآن كحلّ لهذه الاَزمة التي ظهرت بوضوح بعد فقد النبيّ (ص)؛ تخلّصاً من الروايات المختلفة التي يبدو أنّ الخليفة عجز عن الجمع بينها، ممّا اضطرّه إلى منعها جميعاً دون استثناء، خصوصاً مع علمه بتوسّع دائرة الخلاف بتطاول الاَزمان في الحديث عن النبيّ (ص).
وموقف الخليفة أبي بكر، في منعه للتحديث، يثير عدّة تساؤلات:
أوّلها: إنّ النبيّ (ص) كان يبعث أعيان الصحابة معلّمين للناس، ومنذرين. وكان يأمر الناس بالاَخذ عنهم، والتفقّه على أيديهم، خصوصاً بعد «آية الاِنذار».
ومنع الصحابيّ من رواية ما سمعه والعمل به، يعني إلغاء وظيفة العالِم الشرعيّة في تعليم الناس وتبصيرهم. وأمّا حدوث التقوّل والافتراء من قبل بعض الصحابة، فهو يستدعي ردع المتقوّل ومنع المفتري ذاته من التحديث، ولامعنى لمنع الجميع.

____________
(1) كما مرّ في ص17.

( 27 )
وأمّا إذا استعصى حكم ولم يُهتَد فيه إلى وجه الصواب، فبالاِمكان الرجوع إلى النبيّ (ص) ما دام حيّاً. والرجوع بعد وفاته إلى مشاورة سائر الصحابة ممّن سمع في ذلك أثراً عن النبيّ (ص) للاطمئنان وللتأكُّد من صحّة النقل، وهو ما رأيناه عند بعض الصحابة.
ثانيها: إنّه كان بإمكان الخليفة جمع الصحابة ضمن لجنة، والاستماع إلى منقولاتهم، وتثبيت ما هو الصحيح، وحذف المشكوك فيه؛ توحيداً للمنقول عنه(ص). وكان ذلك الاَمر سهلاً يسيراً؛ لاَنّ الصحابة لم يذهبوا بعدُ في أقطار الارض للغزو والفتح كما حدث بعدئذٍ في زمن عمر ولم يفصل بينهم زمن طويل عن زمان النبيّ (ص)، ممّا يعني قلّة نسيانهم وندرة خطئهم، ووجود فرصة ذهبيّة لتوحيد نقولاتهم بأيسر سبيل، خصوصاً مع إمكان التعرّف على حال الراوي من قريب دون تعدّد الوسائط في النقل، إذ إنَّ أغلبهم ما يزال في المدينة على قيد الحياة.
ثالثها: إنّ المنع من التحديث، وبتطاول الاَمد، سيضاعف من عدد الاَحكام المجهولة عند المسلمين، وذلك ما يحدو بهم أن يستنبطوها من المسلّمات والمرويّات العامّة،وبذلك تختلف وجوه الاستنباط وتتعدّد وجهات النظر، بينما ينتفي كلّ هذا الاختلاف لو كان التحديث محكماً والتدوين جارياً. ونظراً لالتفات الخليفة إلى نقطة: «الناس بعدكم أشدّ اختلافاً» كان لزاماً عليه أن لايترك الناس يتخبّطون في الجهالة فيما يتّصل بالاَحكام الشرعيّة، أو يرتكسون في اختلاف أدهى وأمرّ، بسبب ظهور حالة تعدّد وجهات النظر الشخصيّة لكلّ مستنبط. وقد اقتضى هذا المنع أنّ الخليفة الاَوّل رغم سابقته في الاِسلام، وقربه من الرسول ـ لم يُرْوَ عنه إلاّ مائة واثنتان وأربعون روايةـ كما قال ابن حزم(1).
فلو قيست المرويّات المجموعة مع ما قد أُتلف منها لاستبان أنّ ما أُتلف وأُبيد كان كثرة كاثرة.
رابعها: إنّه لا يمكن منع التحديث بالاَحاديث مع العلم القطعيّ باحتوائها أُمّهات المسائل ممّا يحتاجه المسلمون في حياتهم الدينيّة والدنيويّة، إذ إنّ
____________
(1) راجع كتاب أسماء الصحابة، وما لكلّ واحد منهم من العدد لابن حزم الاَندلسيّ.

( 28 )
إضاعة الاَحكام وإبادتها يدخل في دائرة المحرّم والممنوع؛ لاَنّه يؤول إلى إضاعة معالم الدين وأحكامه، فكان الموقف المناسب أن تُوَحَّد المرويّات وفقاً لمقياس ما يتّخذه الخليفة، وأن يلجم الكذّابين ويمنعهم من التحديث، وأن يرفع الخلاف الظاهريّ بعرض الروايات على القرآن أو منقولات الصحابة الآخرين المثبتين، إلى غير ذلك من سبل ضبط الحديث، والاَخذ به ممّا يتّبعه المسلمون اليوم.
ثمّ إنّ أمر الخليفة الصحابة أن يقولوا لمن يسألهم عن مسألة ما: «بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه»... ففيه مسامحة واضحة، إذ كيف يمكن معرفة الاَحكام الشرعيّة من القرآن وحده دون الرجوع إلى السنّة الشريفة؟ ثمّ ألم يكن القرآن حَمّال أوجه، منه المجمل ومنه المبيّن، والمحكم والمتشابه، والعامّ والخاصّ، والناسخ والمنسوخ؟ فكيف يمكن الوقوف على حلال الله وحرامه من القرآن وحده؟! ثمّ كيف يكِلُ الناسَ إلى القرآن وهو القائل عن الكلالة: أقول فيها برأيي فإن كان صحيحاً فمن الله وإن كان خطأً فمن نفسي!!
ولماذا تمنّى أن يسأل الرسول (ص) عن ميراث الجدّ والجدّة بعد موته(ص) إذا كان ما ورد في القرآن من حلال وحرام يكفيه؟!
ولو صحّ قول الخليفة، فَبِمَ نفسِّر كلام رسول الله (ص) في حديث الثقلين، حيث رسم أصلَين للتشريع الاِسلاميّ هما (الكتاب والسنّة) أو (الكتاب والعترة) كما في روايات أُخرى؟
ألا يعني ذلك أنّ العتِرة أو السنّة ماثلان حاضران بين المسلمين، ولذلك تراه يقول (ص): «تركتُ فيكم»؟
وهذا يعني أنّه لابُدّ من وجود مفسّرٍ للقرآن من سنّة أو عترة، استناداً إلى كلام النبيّ (ص)، وهذا يعني مرّة أُخرى أنّه لا يمكن فهم أحكام الله من القرآن وحده.
ولابدّ أنّ رسول الله قد أرشد المسلمين إلى سنّة واضحه وعترة شاخصة حين أرجع أُمّته إليها.

( 29 )

حديث الاَريكة :
ويذكّرنا قول أبي بكر في هذا السياق بحديث الاَريكة الذي روي عن رسول الله (ص) بطرق متعدّدة:
حيث جاء في مسند أحمد، وسنن ابن ماجة، وأبي داود، والدارميّ، والبيهقيّ(1)، وغيرها: «أنّ رسول الله قال: يوشك الرجل متّكىَ على أريكته، يحدّث بحديثي، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدناه فيه من حلال أحللناه ومن حرام حرّمناه».
وجاء في ذيل بعض النصوص السابقة: «ألاَ وإنيّ قد أُوتيتُ القرآن ومثله»(2).
وفي آخر: «ألاَ إنّي أُوتيت الكتاب ومثله معه»(3).
وفي ثالث: «يأتيه الاَمر ممّا أمرتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتّبعناه»(4).
وروى الخطيب البغداديّ في كتاب «الكفاية» عن جابر بن عبدالله، أنّ رسول الله (ص) قال: «لعلّ أحدكم أن يأتيه حديثٌ من حديثي، وهو متّكىَ على أريكته، فيقول: دَعُونا مِن هذا، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه»(5).
وروى ابن حزم بسنده عن العرباص بن سارية: أنّه حضر رسول الله (ص) يخطب الناس، وهو يقول: «أيحسب أحدكم متّكئاً على أريكته، قد يظنّ
____________
(1) مسند أحمد 4: 132، سنن ابن ماجة 1: 6|12، سنن أبي داود 4: 200|4604، سنن البيهقيّ 9: 331، دلائل النبوّة 1: 25، 6: 549، الاِحكام لابن حزم 2: 161 الكفاية في علم الدراية: 9.
(2) مسند أحمد 4: 131، الكفاية للخطيب: 8 ـ 10.
(3) مسند أحمد 4: 131، سنن أبي داود 4: 200|4604.
(4) سنن ابن ماجة 1: 6|13، المستدرك 1: 108، الكفاية للخطيب:10، الفقيه والمتفقّه 1:88.
(5) الكفاية: 10.

( 30 )
أنّ الله تعالى لم يحرّم شيئاً إلاّ ما في القرآن، ألا وإنّي والله قد أمرتُ ووعظتُ ونهيتُ عن أشياء، إنّها لمثل القرآن».
قال ابن حزم: صدق النبيّ (ص) هي مثل القرآن، ولا فرق في وجوب كلّ ذلك علينا.
وقد صدّق الله تعالى هذا، إذ يقول: (مَن يُطعِ الرَّسُولَ فَقدْ أطاعَ الله)(1).
وهي أيضاً مثل القرآن في أنّ كلّ ذلك وحي من عند الله تعالى، قال الله عزّ وجلّ: (وما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إن هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى)(2).
وقبل أن نترك حديث الاَريكة لنقرأ هذا النصّ.
«فإذا كانت «الاَريكة» كما يقول أهل اللغة: سريراً مُنَجّداً في قُبّة أو بيت(3)أو مطلق «السرير» كما فسّر به الشافعيّ(4) والحازميّ(5).. فإنّ أو الحاكم والخليفة الذي يحكم الناس ويتحكّم بأُمورهم. وإذا لاحظنا الفعل (يُوشك) الوارد في كلام الرسول (ص) وهو لفظ يستعمل للدلالة على قرب تحقّق العمل، لاَنّه من أفعال المقاربة، وإذا بحثنا عن ذلك بين الخلفاء لما وجدنا أقرب عهداً إلى زمان رسول الله (ص) من الخليفة الاَوّل الذي قعد على أريكة الحُكم بعد النبيّ مباشرة، وتصدّى للحديث بعين ما أنبأ به النبيّ (ص)، فيما رواه الذهبيّ: أنّ الصدّيق ـ أبابكرـ جمع الناس، بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنّكم تحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ
____________
(1) النساء: 80.
(2) الاَحكام، لابن حزم 1: 159، والآيتان من سورة النجم: 3، 4.
(3) النهاية لابن الاَثير 1: 40.
(4) الرسالة للشافعيّ: 89 91، مناقب الشافعيّ للبيهقيّ 1: 330.
(5) الاعتبار: 7.

( 31 )
اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: (بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله، وحَرِّموا حرامه)(1).
إذا علمنا ذلك، اتضح لنا أنّ أبا بكر لم يأبَ أن يكون هو ذلك الرجل الذي أنبأ الرسول (ص) بمجيئه، متّكئاً علىأريكته، مجابهاً الحديث بقوله: (بيننا وبينكم كتاب الله...).
فكان هذا من أعظم دلائل النبوّة وأوضح أعلامها(2).
والغريب أنّ التاريخ لم يحفظ لنا معارضة للحديث من حاكم مقتدر أشدّ وأقرب عهداً من وفاة النبيّ (ص) من أبي بكر ومن عمر بن الخطّاب. ومن هذا نفهم أنّ غيرهما لم يكن مقصوداً بهذه الاَحاديث. وأمّا من جاء بعدهما فإنّما استَنّ بسنّتهما، ولم يمنع الحديث بأشدّ من منعهما.»(3)
أيُّ المنعَين أَسَبقُ :
بعد هذا كلّه نلتقي بمسألة أُخرى، هي: هل كان منع الخليفة للتدوين والتحديث قد حدث في وقت واحد، أم على التعاقب؟
ظاهر الاَمر أنّ الخليفة الاَوّل لاَسباب نذكرها في السبب الاَخير دوّن الحديث، ثمّ حظر التحديث أوّلاً. ولعلّه كان يتوخّى من ذلك الحظر ممارسة التشريع، والمحافظة على السلطة التشريعيّة، إضافة إلى ما له من سلطة سياسيّة، بمعنى أنّه كان يريد توحيد السلطتين الاِداريّة والتشريعيّة، ممّا يسهّل تثبيت الخلافة الاِسلاميّة(4).

____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1: 2 3.
(2) انظر دلائل النبوّة للبيهقيّ 1: 24 و6: 549.
(3) انظر تدوين السنّة الشريفة: 356، 357، بتصرف.
(4) سيتّضح هذا المدّعى في السبب الاَخير إن شاء الله تعالى .

( 32 )
وبعد أن مُنع التحديث تضاعفت الحاجة لتدوين الآثار النبويّة، بسبب رحيل النبيّ (ص)، أوّلاً، وبسبب حظر التحديث من قبل الخليفة ثانياً، وبسبب بروز اتّجاه الرأي وتحرّكه في دائرة الفراغ، ممّا اضطرّ بعض الصحابة إلى أن يدوّنوا مسموعاتهم ويحتفظوا بها للاَجيال القادمة، ولذلك ثنّى الخليفة أبوبكر بمنع التدوين بعد منعه التحديث.. وهذا التسلسل في المنع ليس بذي أهمّيّة بالغة إذا ما قيس بتأثير الحدث تاريخيّاً، لاَنّ المنع بكلا شقّيه ـ التحديثيّ والتدوينيّـ كان في أمد لا يتجاوز الاَربع سنين، وكانت هي البذرة الاَُولى في هذا السبيل، ثمّ سار على خطاها عمر بن الخطّاب، ومَن بعده من المانعين، واستمرّت ـ إلاّ في خلافة عليّ بن أبي طالبـ حتّى فتح التدوين في زمن متأخّر من العهد الاَمويّ.
والواقع أنّ أبا بكر وعمر وعثمان نجحوا في منع التدوين نجاحاً كبيراً، ولكنّهم لم يلاقوا مثل هذا النجاح في منع التحديث؛ فالصحابة والتابعون وتابعو التابعين لم يلتزموا بحظر التحديث، وإن كانوا قد تظاهروا بالانصراف عن التدوين، إلى أن فتح عمر بن عبد العزيز باب التدوين.
وحين انفتح التدوين الحكوميّ ـ في زمن الاَمويّينـ صار مقدّمة لشيوع ظاهرة تدوين موضوعات الحديث على مصراعيه، ممّا أتاح للحكّام جمع أكبر عدد من المدوّنين ليدوّنوا لهم ما يروقهم من الاَحاديث بعد أن كان الوضع قد تفشّى منذ أوائل العهد الاَمويّ، وقد فصّلنا الكلام عن هذا في كتابنا «وضوء النبيّ»(1)، وقلنا إنّ معاوية أمر كعب الاَحبار أن يجلس في المسجد ويقصّ للناس، كي يضع له ما يريد من أحاديث، ويعارض ما لا يعجبه منها، فكان أنْ وُضِعَ على لسان الرسول أحاديث كثيرة.
من هنا يمكن أن نقول: إنّ رأي الخليفة أبي بكر هو رأي واحد، بكلا شقّيه. ومفاده الحَجْر على التحديث والتدوين، وإن كان قد علّل منعه للتحديث أوّلاً بتخوّفه من الاختلاف في المرويّات، وأدّاه ذلك إلى دعوته للاَخذ بكتاب الله وحده.

____________
(1) وضوء النبيّ: المدخل ص256.

( 33 )
وقد استحكم الشكّ في قلبه ـ بسبب الاختلاف الذي منع على أساسه التحديث ـ فسرى حتّى شمل أصحابه العدول المؤتمنين، فغدا يُسقط جميع المرويّات، حتّى التي دوّنها هو بنفسه، ولذلك تشدّد أكثر، وراح يحظر التدوين أيضاً بعد منعه التحديث.
وقد قال الدكتور حسين الحاجّ حسن في كتابه «نقد الحديث» وهو في معرض الكلام عن نشأة الحديث: «أمّا إذا انتقلنا إلى عصر الصحابة وجدناهم غالباً يكرهون تدوين الحديث، بينما يرغبون في روايته، وهو أمر غريب، يحبّون رواية الحديث ويكرهون تدوينه! سؤال يحتاج إلى بحث وتفسير»(1)!!
هذا هو الظاهر الذي يمكن أن نفهمه من تعلِيلَي أبي بكر، مع أنّ واقع المنع يمكن أن يستند إلى أسباب أُخر، غير ما أظهره في هذين التعليلين، إذ أوضحنا سقوطهما عن الاعتبار بما مرّ من الاِشكالات.أمّا الاَسباب الواقعيّة للمنع، فسيأتيك وجهها في السبب الاَخير إن شاء الله.
وبذلك عرفنا أنّ تعليل الخليفة لمنع التدوين، تعليل غير مقنع، ولايثبت أمام البحث والمناقشة.

____________
(1) نقد الحديث 1: 142.