السبب الثاني
ما طرحه الخليفة عمر بن الخطّاب

ويمكن أن يستنتج هذا الرأي من نصّين:
أ ـ عن عروة بن الزبير: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله (ص)، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً، وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي والله لا أُلبِسُ كتابَ الله بشيء أبداً(1).
وروي عن يحيى بن جعدة: «أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها. ثمّ كتب في الاَمصار: من كان عنده منها شيء فليمحُه»(2).
ب ـ عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر: إنّ عمر بن الخطّاب بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيُّها الناس! إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلايُبقينَّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي.
قال: فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف، فأتَوْه بكتبهم، فأحرقها بالنار!!
ثمّ قال: أُمنية كأُمنية أهل الكتاب(3).
وفي الطبقات الكبرى: «مثناة كمثناة أهل الكتاب»(4).

____________
(1) تقييد العلم: 49، حجّيّة السنّة 395 عن البيهقيّ في المدخل ، وابن عبدالبرّ.
(2) تقييد العلم: 53، حجّيّة السنّة: 395.
(3) حجّيّة السنّة: 395.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 140.

( 36 )
ويحتمل أن تكون مصحّفة «مشناة» وهي روايات شفويّة دوّنها اليهود ثمّ شرحها علماؤهم فسُمّي الشرح جماراً، ثمّ جمعوا بين الكتابين فسمّي مجموعها ـ الاَصل والشرحـ المشناة(1).
ومن هذين النصّين نفهم أنّ تعليل الخليفة لمنعه تدوين السنّة الشريفة ينحصر فيما يلي:
1 ـ الخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره.
2 ـ الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن.

أمّا التعليل الاَوّل: فيُرَدُّ عليه بأُمورٌ:
أوّلاً: إنّ هذا التبرير صدر تحت قناعات سابقة ولظروف خاصّة. لقوله: «وإنّي ذكرتُ قوماً...». و«أُمنية كأُمنية أهل الكتاب».
وسنشير إلى تلك الخلفيّات عند عرضنا للسبب الاَخير.
على أنّ هذا التصوّر لا يُستساغ من قبل الخليفة فيما يتّصل بالصحابة الاَوائل، لاَنّ هذه العلّة ممّا لا تشملهم. هذا أوّلاً.
ثانياً: يلاحظ أنّ هذا التعليل ينطوي على غير قليل من الغموض والاِبهام، الاَمر الذي يدعو إلى الشكّ في كونه السبب المباشر لمنع الخليفة، إذ لاينكر أحد من المسلمين أنّ ترك القرآن والانصراف إلى سواه منهيُّ عنه، وحرام شرعاً، لكنّ الادّعاء بأنّ الاشتغال بغير القرآن يؤدّي إلى تركه، خلط بَيِّن وكلام غير دقيق؛ إذ من الثابت أنّ ما يؤدّي إلى ترك القرآن هو ما يكون منافياً للقرآن، كالاَخذ بالتوراة والاِنجيل، وما فيهما من العقائد والآراء، وأمّا العناية بمفسِّر القرآن ومُبيّنه كما قال تعالى للنبيّ (ص): (لتُبَيِّنَ للِنّاسِ)(2) وعدّه موجباً لترك القرآن وهجرانه فهو إيهام وخلط بين حقّ وباطل.. ذلك أنّ الاِقبال
____________
(1) انظر دلائل النبوّة لاَبي نعيم: 638 ذيل رقم 428، والصحيح من سيرة النبيّ الاَعظم 1:59، الموسوعة العربيّة الميسّرة: 543 (تلمود)، تدوين السنّة الشريفة:340، وموسوعة المورد 4: 199 (الجمارة).
(2) النحل : 44 .

( 37 )
على الحديث إقبال على القرآن الكريم في تفسيره والكشف عن مضامينه.
ثالثاً: إنّ تعليل الخليفة هذا يستلزم اتّهام الصحابة بفقدانهم القدرة على التمييز بين كلام الله الذي حفظوه وتناقلوه، وبين كلام النبيّ (ص)، الذي صدر في مقام التفسير والشرح. في حين نعلم أنّ النصّ القرآنيّ بصياغته الخاصّة وبلاغته المتميّزة وجذبته الروحيّة ممّا لا يخفى على أحد، وممّا لا يمكن الخلط بينه وبين الحديث. إذ الآيات القرآنية وحدة موضوعيّة مترابطة ونسيج متماسك يستحيل اختلاطه بغيره من الكلام، وإذا أمكن حصول الالتباس في كلمات منه أو آيةٍ مثلاً، وهل هي من القرآن أم من كلام النبيّ ـ كما أسلفنا حصول ذلك لبعض الصحابةـ فإنّ ذلك أمر جزئيّ يمكن علاجه بأن يأمر الخليفة بالتثبّت منه عن طريق سؤال أكثر من صحابيّ، كما فعل ذلك أبو بكر عند جمعه القرآن، ولايحتاج علاج هذه القضيّة البسيطة إلى تعميم منع التحديث والتدوين كما فعل ذلك الخليفة عمر، ولذلك نرى أنّ أبا بكر لم يعلّل منعه للتدوين بالاختلاط لاَنّه حلّ هذا الاحتمال ولم يحوجه إلى اتّخاذ أُسلوب الخليفة عمر.
نعم، يصحّ هذا القول ـ على فرض التنزّل ـ لو اعتبرنا أنّ القرآن والحديث قد كانا بلا تمايز في صحيفة واحدة، ممّا هو مظنّة للخلط وفقدان للتمييز. لكنّ الواقع لم يكن كذلك، ولم يصنع هذا الصنيع المفترض أحد من المسلمين.
وهذه كتب التفسير بالمأثور ماثلة بين أيدي المسلمين، ولم يقع الخلط فيها بين القرآن والاَثر النبويّ، رغم تطاول الاَزمنة وامتداد العصور.

وأمّا التعليل الثاني: وهو الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن؛ لقوله: «لا أُلبس كتاب الله بشيء». فيردُّ عليه بأُمور أُخرى، هي:
أوّلاً: إنّ النصّ القرآنيّ يمتاز عن النصّ الروائيّ من حيث الاَُسلوب والبلاغة بمزايا ثابتة، إذ إنّ الاَوّل قد صدر على نحو الاِعجاز، فتحدّى مشركي العرب ـ وهم أهل البراعة في البيانـ أن يأتوا بمثله. وقد تكرّرت هذه الدعوة في القرآن بأساليب مختلفة وألفاظ قارعة كقوله (قُلْ فَأْتُوا بكتابٍ مِن عِند اللهِ
( 38 )
هُو أهدى مِنْهُما أتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صَادقِيِنَ
)(1).
أو: (قُل لَئن اجْتَمَعَتِ الاِنْسُ والجِنُّ على أن يَأتُوا بمِثْلِ هذا القُرآنِ لايَأتُونَ بِمِثْلِهِ ولو كانَ بَعْضُهُم لبعضٍ ظَهيرا)(2).
وفي آخر: (أمْ يقولون افتْرَاهُ، قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دونِ اللهِ إنْ كُنتمِ صادقِينَ)(3).
وقوله: (وإنْ كُنتم في ريبٍ ممّا نَزَّلْنا على عبدِنا فاْتُوا بسورةٍ من مثلهِ وادعُوا شُهداءكم من دونِ اللهِ إنْ كُنتم صادقين * فإن لَمْ تَفعلوا ولن تَفْعَلوا فاتّقُوا النّارَ التي وَقودُها الناسُ والحجارةُ أُعِدَّت للكافرين)(4).
وقد أدهشهم القرآن في بلاغته وفصاحته وقوّة تأثيره حتّى قالوا: (سِحْرٌ مُسْتَمِرّ)(5) ، بخلاف حديث رسول الله الذي لم يكن في مقام التحدّي والاِعجاز.
ثانياً: إنّ كلام النبيّ (ص) جاء على سبيل تبيين الاَحكام، ولميكن يُعْنَى بالصياغة البلاغيّة كما عني بتبيين الاَحكام، مع الاَخذ بنظر الاعتبار كون بعض الروايات التي صدرت عنه (ص) كانت تُنْقَل بالمعنى.
في حين نعلم أنّ المسلمين كانوا قد عرفوا القرآن وميّزوه وحفظوه، وكانوا يقدّرون منزلته الخاصّة في نفوسهم؛ لما جعل له من منزلة للمتعامل معه، فلايمسّونه بدون طهارة لقوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرون)(6) وكانوا يتهادون آياته ويرتّلونها آناء الليل وأطراف النهار.
وإذا كانت عنايتهم بالقرآن إلى هذا الحدّ، وأكثر من هذا الحدّ، فهل يتخوّف بعد ذلك من اختلاطه بالحديث؟!

____________
(1) القصص: 49.
(2) الاِسراء: 88.
(3) هود: 13.
(4) البقرة: 23 24.
(5) القمر : 2 .
(6) الواقعة : 79 .

( 39 )
وكيف يخفى على الصحابة ما جاء على نحو الاِعجاز من القول وبين ما لميكن في مقام الاِعجاز، حتّى يلزمنا القول بأنّ الصحابيّ لا يميّز بينهما؟!
نعم، قد يقال إنّ كلام النبيّ (ص) ليس مثل كلام سائر الناس، بل إنّه كلام سيّد البلغاء وأفصح العرب، وإنّه ليضاهي القرآن فصاحة وعمقاً ولذلك لايتيسّر لجميع الناس التمييز بينه وبين القرآن، ومن أجله يُخشى من حصول الخلط بينه وبين القرآن!
والواقع أنّ هذه المقارنة فيها كثير من التجوّز، وذلك لاَنّ السنّة النبويّة هي «قول وفعل وتقرير». ولو جرينا مع أصحاب هذا القول لما صحّ أن ينطبق إلاّ على السنّة القوليّة أو بعض السنّة القوليّة، لاَنّ بين تلك الاَقوال الصادرة عنه (ص) ما يجري مجرى الكلام المألوف من كلام الآدميّين مضافاً إلى أنّ الكثير من المرويّات عن الرسول كانت تنقل بالمعنى لا باللفظ.
ثالثاً: لو سلّمنا بالقول السابق، فإنّه لا يستلزم القول بلزوم ترك الحديث صيانة للقرآن؛ لاَنّ الحديث مفسِّر القرآن، وأنّ كتابته وتدوينه وكثرة مُدارسته ممّا يخدم المسلم في فهمه للقرآن، ولا تعارض بينه وبين القرآن.
بلى، إنّ التثبّت في النقل عن رسول الله (ص) هو ما يجب أن يُصار إليه ويؤكّد عليه، وهو ما أكّده (ص) بقوله: من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار. والمتأمّل في هذه الجملة يراها تقرِّر إمكان مجاراة السنّة النبويّة والكذب عليها، بعكس القرآن الذي لا يمكن لاَحد أن يضاهيه.
بعد هذا نتساءل: كيف ينسب إلى الخليفة عمر بن الخطّاب جهله بهذه الحقائق الواضحة، حتّى يدّعي ما لازِمُه عدم الفرق بين بلاغة القرآن المعجزة وبين بلاغة النصّ النبويّ الشريف؟!
ومن هذا كلّه نخلص إلى أنّ المبرَّرَينِ المطروحَينِ من قبل الخليفة عمربن الخطّاب لمنع حديث رسول الله لا يكفيان في التعليل، فلنبحث عن مبرّر آخر قد نجد فيه الجواب المقنع.


( 40 )


( 41 )


السبب الثالث
ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر

ذهب ابن قتيبة(1) وابن حجر(2) وغيرهماإلى أنّ النهي عن التدوين جاء لجهل الصحابة بالكتابة.
بَيدَ أنّ هذا الرأي لم يثبت أمام النقد والتمحيص، وواجه العديد من الاعتراضات والردود، منها ردّ محمّد عجاج الخطيب، إذ قال:
«لا يمكننا أن نسلّم بهذا بعد أن رأينا نيّفاً وثلاثين كاتباً يتولّون كتابة الوحي للرسول الكريم (ص)، وغيرهم يتولّون أُموره الكتابيّة الاَُخرى.
ولا يمكننا أن نعتقد بقلّة الكتّاب وعدم إتقانهم لها، فتعميم ابن قتيبة هذا لايستند إلى دليل»(3).
وقال في كتاب «السنّة قبل التدوين»: ونحن في بحثنا هذا لايمكننا أن نستسلم لتلك الاَسباب التقليديّة التي اعتاد الكاتبون أن يعلّلوا بها عدمالتدوين، ولانستطيع أن نوافقهم على ما قالوه من أنّ قلّة التدوين في عهده (ص) تعود قبل كلّ شيء إلى ندرة الكتابة، وقلّة الكتّاب وسوء كتابتهم، لا يمكننا أن نسلّم بهذا بعد أن رأينا نيّفاً وثلاثين كاتباً يتولّون كتابة الوحي للرسول الكريم(ص) وغيرهم يتولّون أُموره الكتابيّة الاَُخرى.
ولا يمكننا أن نعتدّ بقلّة الكتّاب، وعدم إتقانهم لها، وفيهم المحسنون المُتْقِنون أمثال: زيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولو قبلنا ـ جدلاًـ ما ادّعوه من ندرة وسائل الكتابة، وصعوبة تأمينها، لكفى في الردّ عليهم أنّ
____________
(1) تأويل مختلف الحديث: 366، وانظر توجيه النظر للجزائريّ: 10.
(2) هدى الساري: 4.
(3) أُصول الحديث وعلومه ومصطلحه: 146.

( 42 )
المسلمين دوّنوا القرآن الكريم، ولم يجدوا في ذلك صعوبة، فلو أرادوا أن يدوّنوا الحديث ما شقّ عليهم تحقيق تلك الوسائل، كما لم يشقّ هذا على من كتب الحديث بإذْن رسول الله (ص)، فلابدّ من أسباب أُخرى...(1) وقال الدكتور مصطفى الاَعظميّ:... وإن أنكرنا معرفتهم بالكتابة فكيف نحكم بكتابة القرآن نفسه؟ أما كان الصحابة يكتبون القرآن أوّل بأوّل؟!
ثمّ ما معنى (ولا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن؟) إذا كان الناس لايقدرون على الكتابة فلا داعي للمنع البتّة.
وهذا الحديث نفسه يشير إلى أنّهم كانوا يكتبون القرآن وغير القرآن أيضاً.
ثمّ وجود عدد كبير من كتّاب النبيّ (ص) وإدارة دولة عظيمة في عهد الخلفاء الراشدين تتطلّب وجود الكتّاب العارفين بالحساب وما شاكل ذلك.
إذَن لا محيص من القول بأنّه كان هناك عدد وافر من الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة حتّى عصر الصحابة أنفسهم. وسياسة النبيّ التعليميّة التي آتت أُكلها في عهد النبيّ نفسه لابدّ أن تكون قد أنتجت أضعاف ذلك بعدوفاته(ص).
إذاً ممّا لا شكّ فيه أنّه كان هناك عدد كاف من الصحابة في عصر النبيّ يعرفون القراءة والكتابة ولو أنّ الاَغلبيّة لم تكن تعرف الكتابةَّ
وبالرغم من هذا فإن الذين كانوا يعرفون كان فيهم الكفاية(2).
ثمّ إنّ الاَُستاذ الخطيب أراد تشخيص السبب المقنع لمنع التدوين فعاد لذكر بعض الاَسباب التقليديّة التي تهجم على الآخرين فيها فقال: لميكن السبب في عدم تدوين السنّة رسمياً في عهده(ص) جهل المسلمين آنذاك بالكتابة والقراءة، فكان فيهم القارئون الكاتبون الذين دوّنوا التنزيل الحكيم، بل كان ذلك لاَسباب أُخرى، أهمّها: الخوف من التباس القرآن بالسنّة، وكيلا يشغل المسلمون بكتابة السنّة عن كتابة القرآن ودراسته وحفظه..(3)!!

____________
(1) السنّة قبل التدوين لمحمّد عجاج الخطيب: 301302.
(2) دراسات في الحديث النبويّ: 73.
(3) السنّة قبل التدوين: 340.

( 43 )
ووقع في نفس هذا الخطأ الدكتور عبد الغنيّ، حين قال ردّاً على كلام ابن قتيبة: إنّ العمدة في ثبوت النهي حديث أبي سعيد الخدريّ. والمتبادر منه: أنّه أجاز كتابة القرآن لمن نهاه عن كتابة السنّة. ولو كانت علّة النهي خوف الخطأ في الكتابة، فكيف يُجيز لهم كتابة القرآن(1)؟
وقال السيّد هاشم معروف: ومن مجموع ذلك تبين أنّ الكتابة لمتكن بتلك الندرة بين المكيّين كما يدّعي البلاذريّ في فتوح البلدان، حيث قال: لقد ظهر الاِسلام وبين القرشيّين سبعة عشر رجلاً يحسنون الكتابة لا غير، وفي الاَوس والخزرج سكّان المدينة أحد عشر رجلاً تعلّموها من جيرانهم، وإذا صحّ أنّ الذين كانوا يحسنون الكتابة لا يتجاوزون هذا العدد الضئيل فلابُدّ وأن تكون في غيرهم معدومة أو أقلّ من ذلك...(2) وقد مرَّ عليك كلام أحمد أمين في فجر الاِسلام في ذلك(3).
قال الدكتور صبحي الصالح في علوم الحديث ومصطلحه: (فإذا رأينا أنّ تعويل الصحابة في حفظ الحديث إنّما كان على الاستظهار في الصدور لاعلى الكتابة في السطور، صار لزاماً علينا أن نلتمس لتعليل ذلك غير الاَسباب التقليديّة التي يشير إليها الباحثون عادة كلّما عَرَضوا لهذا الموضوع، فما نستطيع أن نتابعهم فيما يزعمون من أن قلّة التدوين على عهد رسول الله تعود بالدرجة الاَُولى إلى ندرة وسائل الكتابة، لاَنّها لم تك قليلة إلى هذا الحدّ الذي يُبالَغ فيه، وهي على كلّ حال قلّة نسبيّة قد تكون أحد العوامل في إهمال تدوين الحديث، ولكنّها بلا ريب ليست العامل الوحيد، فما منعت ندرة هذه الاَدوات صحابة الرسول من تجشّم المشاقّ وركوب الصعاب في كتابة القرآن كلّه في اللخاف والعُسب والاَكتاف والاَقتاب وقطع الاَديم.
ولو أنّ بواعثهم النفسيّة على تدوين الحديث كانت تضارع بواعثهم على كتابة القرآن حماسةً وقوّة لاصطنعوا الوسائل لذلك ولم يتركوا سبيلاً إلاّ
____________
(1) حجّيّة السنّة: 430 و444.
(2) دراسات في الكافي والصحيح: 14.
(3) انظر فجر الاِسلام: 13 ـ 14.

( 44 )
سلكوها، بَيدَ أنّهم من تلقاء أنفسهم وبتوجيه من نبيّهم نهجوا في جمع الحديث منهجاً يختلف كثيراً عن طريقهم في جمع القرآن)(1)
أمّا السيّد محمّد رضا الجلاليّ فقد علّق على رأي ابن حجر بقوله: والعجب من مُحَدِّث، رجاليّ، مؤرِّخ مثل الحافظ ابن حجر العسقلانيّ أن تخفى عليه حقيقة واضحة كهذه، فيقول: «لاَنّهم، كانوا لا يعرفون الكتابة»! وهذا يعني جميعهم، كما هو المتبادر من كلامه.
ولعلّ الحافظ السيوطيّ قد تنبّه إلى هذه الزلّة من ابن حجر، فعدّل عبارته، حيث يقول: «إنّ أكثرهم كانوا لا يحسنون الكتابة»(2).
وبهذا عرفت أنّ إطلاق جهل الصحابة بالكتابة غير سليم؛ لاَنّ من لايجيد الكتابة لايمكن أن يقال له: لا تكتب، فالنهي المزعوم عن التدوين بذاته دالّ على وجود المؤهّل منهم للكتابة، أو دالّ على وقوعها، وإلاّ فالنهي يكون لغواً، خاصّة إذا كان شديداً، فتأمّل.

____________
(1) علوم الحديث ومصطلحه: 6.
(2) تدوين السنّة الشريفة: 392 393، وقول السيوطيّ في تدريب الراويّ: 1: 89.

( 45 )

السبب الرابع
ما نقله الاَُستاد أبو زهو والشيخ عبد الغنيّ

قال الاَُستاذ أبو زهو: وشيء آخر جعل النبيّ (ص) ينهاهم عن كتابة الحديث، هو: المحافظة على تلك المَلَكة التي امتازوا بها في الحفظ، فلو أنّهم كتبوا لاتّكلوا على المكتوب، وأهملوا الحفظ فتضيع مَلَكاتهم، بمرور الزمن(1).
وقال الشيخ عبد الخالق عبد الغنيّ: القول الثاني: إنّه نهى عن كتابتها خوف اتّكالهم على الكتابة وإهمالهم للحفظ الذي هو طبيعتهم وسجيّتهم، وبذلك تضعف فيه ملكتهم.. ولذلك كان هذا النهي خاصّاً بمن كان قويّ الحفظ آمناً من النسيان(2).
وقال قبلها: الحفظ والكتابة يتناوبان في المحافظة على الشرع، وفي الغالب يضعف أحدهما إذا قوي الآخر. ومن هنا قد نفهم سبباً من الاَسباب التي حملت الصحابة على حثّ تلاميذهم على الحفظ، ونهيهم إيّاهم عن الكتابة!
وذلك: لاَنّهم كانوا يرون أنّ الاعتماد على الكتابة يُضعف فيهم ملكة الحفظ، وهي ملكة طبعوا عليها، والنفس تميل إلى ما طبعت عليه، وتكره ما يخالفه ويضعفه(3).
وقال الدكتور محمّد عجاج الخطيب: (وأبَوا أن ينكبّ أهل الحديث على دفاترهم ويجعلوها خزائن علمهم، ولم يعجبهم أن يخالف سبيل الصحابة في الحفظ والاعتماد على الذاكرة. وحُقّ لهم أن يكرهوا الاتّكال على الكتب، لاَنّ في الاتّكال على المكتوب وحده إضعافاً للذاكرة، وانصرافاً عن العمل به)(4).

____________
(1) الحديث والمحدّثون: 123.
(2) حجّيّة السنّة: 428، وانظر تدريب الراوي: 150.
(3) حجّيّة السنّة: 405.
(4) السنّة قبل التدوين: 333.

( 46 )
وعلّق صاحب تدوين السنّة الشريفة على كلام الشيخ عبد الغنيّ بقوله: وهذا الكلام ليس فيه وراء الخطابة أمرٌ علميّ ولا استدلال بشيء، بل هو بعيد عن الموضوعيّة، حيث إنّ البحث إنّما هو عن حرمة التدوين! وأين هذا الكلام من ذلك، فهو إنّما ينفق في سوق الرغبات والطبائع وما تحبّ أو تكره!
وهل هذا يوجب ترك أمر شرعيّ مهمّ ـ كالحديث ـ عرضةً للنسيان وغيره من آفات الذاكرة وعدم ضبطه وتوثيقه بالكتابة والتدوين(1)؟!
ولنا مع هذا الرأي وقفتان:
الاُولى: يردُّ هذا التوجيه لو فرضنا كون النهي قد صدر عن النبيّ (ص)، لكنّ هذا النهي ـ كما سترى فيما بعدـ لم يكن شرعيّاً، ولم يصحّ ما روي عنه (ص) في هذا المورد، بل إنّ أحاديث النهي قد صدرت تحت ظروف سياسيّة وقناعات سابقة من أشخاص معيّنين أرادوا للتحديث والتدوين أن لا ينطلقا في عالم أرحب.
الثانية: لو سلّمنا بصحّة هذا الرأي، فإنّ ذلك يستلزم أن تكون الكتابة محرّمة؛ مع أنّ كراهة الاتّكال على الكتابة لا تعني حرمتها، بل تعني عدمالرغبة فيها. فلو كانت محرّمة لما كتبها بعض الصحابة، ومن ثمّ كانوا إذا حفظوها مَحَوها، كما نقل ذلك عن القاضي عياض(2).
ثمّ ألا ترى القول بمنع تدوين الحديث بدافع المحافظة عليه أشبه شيء بالتناقض؟! وكيف يُتَصوّر أن يحثّ المعلّم تلاميذه على العلم ويحرّضهم على صون محفوظاتهم من النسيان ثمّ يوصيهم ألاّ يدوّنوها ولايتدارسوها؟!
أليس صون العلم والمحافظة عليه بالكتابة والتدوين أولى وأجدى من حفظه واستظهاره؟!
ولو تذكّرنا أنّ كلّ ما كُتِبَ قَرّ وكلّ ما حُفِظَ فَرّ، فَلِمَ التأكيد على حفظ الحديث وتجويزه من قبل الحفّاظ، والقول إنّ منع الكتابة جاء للمحافظة
____________
(1) تدوين السنّة الشريفة: 370.
(2) منهم: عاصم بن ضمرة (راجع المحدّث الفاصل)، وخالد الحذّاء (راجع تقييد العلم: 59)، وعبيدة (انظر جامع بيان العلم 1: 166).

( 47 )
علىالذاكرة؟! وماذا نفعل بقوّة الحافظة لو مات الصحابيّ الحافظ؟!! ألم تكن الملائكة أكمل من بني الاِنسان وأقدر منه على الحفظ، فلِمَ يكلفهم الله عزّ وجلّ بالكتابة مع ذلك ويقول: (كِراماً كاتِبين)(1)؟!.
قد يقال: إنّ الحافظة ملكة يمكن أن تُدرَّب وتُشحَذ لتكون قويّة حادّة، كما هو شأن حاسّة السمع عند الاَعمى التي تكون أقوى بكثير ممّا عند البصير، لاَنّه غالباً ما يستعين بها بدل البصر المفقود، وكذا التاجر الاَُمّيّ؛ فإنّ حافظته لكثرة اعتماده عليها وكثرة مزاولة استخدامها أقوى من حافظة التاجر المتعلّم لاَنّ الاَوّل يعتمد على الحافظة بخلاف الثاني.
لكن لو صحّ أنّ شأن الصحابة مع الحفظ كان على هذه الشاكلة، وأنّ العرب كانوا ذوي حافظة قويّة، وخصوصاً الصحابة الذين قيّضهم الله لحفظ الشرع وصيانته، وحمله وتبليغه لمن بعدهم.. فكيف يمكن تأويل ما أخرجه الخطيب في رواية مالك، والبيهقيّ في شعب الاِيمان، والقرطبيّ في تفسيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر، قال: «تعلّم عمر سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلمّا ختمها نحر جزوراً»(2)؟!
وماذا يمكننا أن نقول في ذلك؟ هل يجب أن نُخَطِّىََ الشيخ عبد الغني والاَُستاذ أبا زهو ومن ذهب إلى هذا الرأي، أم نخطّىَ ابن الجوزيّ والذهبيّ والقرطبيّ لروايتهم هذا الخبر عن عمر؟
لابُدّ إذَنْ أن يكون في الاَمر شيء آخر غير الحافظة والاعتزاز بها. وهو ما سيتّضح للقارى ـ لاحقاًـ إن شاء الله تعالى.
قال الاَُستاذ يوسف العشّ في مقدّمة كتاب تقييد العلم، «فذاكرة أكثر الناس أضعف من أن تتناول مادّة العلم بأجمعه، فتحفظها من الضياع، وتقيها من الشرود، ومهما قويت عند أُناس فلابدّ أن تهون عند آخرين، فتخونهم
____________
(1) الانفطار: 11.
(2) شرح النهج 12: 66، الدرّ المنثور 1: 21، سيرة عمر لابن الجوزيّ: 165، تفسير القرطبيّ 1: 40 وفيه في بضع عشرة سنة، تاريخ الاِسلام للذهبيّ (عهد الخلفاء الراشدين: 267).

( 48 )
وتضعف معارفهم»(1).
وقد عدّد أصحاب الجرح والتعديل في كتبهم أسماء مَن كان يخلط من الصحابة والرواة في كتبهم.
إنّ هذه الاَُمور تؤكّد أنّ المسألة لم تكن كما يصوّرها البعض، بل هناك شيء آخر ينبغي الاِشارة إليه، إذ إنّ السنّة النبويّة لم تكن حكراً على العرب، ليقال في التعليل: إنّهم أصحاب حافظة قويّة، حتّى يرد تعليل الشيخ عبدالغنيّ، والاَُستاذ أبي زهو، بل إنّ هناك من الفرس والاَتراك وغيرهما من كان يريد تدوين السنّة، فما الجواب في مثل هذه الحالة؟
ولو كان الحفظ واجباً في شيء، ألا تراه في القرآن أوجب؟
ولو كانت سعة الحفظ وقوّة الذاكرة مانعة من كتابه شيء، فلماذا لم تمنع من كتابة القرآن؟ مع وجود عدد كبير من حفّاظ الصحابة؟
وحديث ابن أبي مليكة، وإن كان من المراسيل، إلاّ أنّه قد جاء في كلام الاَعلام الذين تعرّضوا لمنع تدوين السنّة الشريفة.
وفيه دلالة على أنّ اعتماد التحديث عن رسول الله (ص) أصبح وسيلة مضادّة للخلفاء، وأنّ المسلمين سرعان ما أثّر فيهم فقد نبيّهم، فأحسّوا بضرورة حفظ سنّته، ومعرفة أحكام الدين التي بلّغها، فلذلك كانوا يُحَدِّثون عن رسول الله (ص) نشراً لاَحكامه، وحفظاً لها من الضياع والدثور.
وأنّ الصحابة باعتبارهم الجيل الاَوّل، كانوا ملزمين ببيان الاَحكام للناس، ورواية كلّ ما سمعوه من النبيّ (ص) للجيل الجديد المسمّى بجيل التابعين، إذ إنّهم بأمسِّ الحاجة لمعرفة أحكام الدين من خلال أقوال النبيّ وأفعاله، ولايتسنّى ذلك إلاّ بالاَخذ من الصحابة العدول، الذين هم بمنزلة المحفوظات الحيّة عن رسول الله بعد كتاب الله المبين.
وقد كان أبو بكر على علم بهذه الحاجة الدينيّة الماسّة من قِبَل التابعين، وبوجوب الاِجابة من قبل الصحابة، وكان على علم أيضاً بمدى ضرورتها، وقد عبّر عنها في قوله: «فمَن سألكم فقولوا...».

____________
(1) مقدّمة تقييد العلم: 8.

( 49 )
ومن خلال قول أبي بكر: «إنّكم تحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها» نفهم أنّ الخلاف في المسائل الفرعيّة آنذاك كان صادراً من جهة اختلاف وجوه النقل من قبل الصحابة. وهذا معناه إمّا كذب عدد منهم في النقل، كما أخبر النبيّ (ص) بقوله: «ستكثر عليكم القالةُ من بعدي» فتتعارض نقولاتهم مع نقول الصادقين من الصحابة. وإمّا وقوع النسيان، أو السهو، أو الغلط لدى بعض منهم، بحيث يحدث الاختلاف مع نقولات الحافظين الذاكرين الصحيحي النقل.
وإمّا أن تكون النقولات متعارضة ظاهراً إلى حدّ أن يخفى على غير المتمرِّس بالشريعة وجه الجمع والعثور على القرائن الحاليّة، أو المقاليّة التي يمكن بواسطتها رفع الاختلاف. وللاِمام عليّ بن أبي طالب بيان في وجه اختلاف الروايات عن رسول الله، ستقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
إذَن، من يريد التثبّت في الحديث يلزمه أن يحتاط في الاَخذ، ومن شكّ في صحّة حديث، فإنّه ينبغي عليه التحقيق فيه حتّى يتبيّن له المكذوب من الصحيح(1)، ولا يجوز أن يأمر بمحو الحديث وحرقه لمجرّد احتمال يَرِد عليه، وإلاّ فهو الاِضاعة والتفريط لا الاحتياط والضبط.

____________
(1) كما جاء في خبر الرسول الذي رواه رافع بن خديج عنه (ص) المارّ ذكره في ص23.

( 50 )


( 51 )

السبب الخامس
ما ذهب إليه الخطيب البغداديّ وابن عبد البرّ

قال الخطيب: إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله (ص) وتشديده عليهم في ذلك؟
قيل له: فعل ذلك عمر احتياطاً للدين، وحسن نظر للمسلمين، لاَنّه خاف أن ينكلوا عن الاَعمال، ويتّكلوا على ظاهر الاَخبار. وليس حكم جميع الاَحاديث على ظاهرها ولا كلّ من سمعها عرف فقهها؛ فقد يَرد الحديث مجملاً ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يُحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحُكم خلاف مأخذه، وفي تشديد عمر ـ أيضاًـ على الصحابة في روايتهم حفظ حديث رسول الله (ص) وترهيب من لميكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها(1).
قال الدكتور محمّد عجاج الخطيب، بعد نقله كلام الخطيب البغداديّ: هذا ما رآه ابن عبد البرّ والخطيب البغداديّ وغيرهما من أئمّة الحديث وإليه أذهب وبه أقول(2).
هذا كلام الخطيب في المسألة. وهو كلام تثار حوله عدّة أسئلة:
منها: أترى أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان أحرص من رسول الله على دينالله؟ وما معنى خوفه واحتياطه ورسول الله يقول للسائل: «حدِّث عنّي ولاحرج»؟ ويقول في آخر «اكتبوا ولا حرج»؟
وكيف لا يحتاط أبو ذرّ الغفاريّ وهو الصحابيّ الذي قال عنه رسول الله (ص):
«ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي
____________
(1) شرف أصحاب الحديث: 97 98.
(2) السنّة قبل التدوين: 106.

( 52 )
ذرّ» وابن مسعود وغيرهم.
ثمّ إنّ ما فعله عمر بن الخطّاب من حظر التحديث والتدوين، وجمعُهُ للصحابة المحدِّثين في حوزته إلى آخر حياته ـ من أمثال أبي ذرّ وابن مسعود وأبي مسعود وغيرهمـ ليشير بوضوح إلى افتعال ما نُسب لهؤلاء من روايتهم أحاديث منع التدوين والتحديث عن النبيّ (ص)، فقد ثبت من جهة أنّ الخليفة عمربن الخطّاب منع هؤلاء وفرض عليهم الاِقامة الاِجباريّة في المدينة، لتحديثهم عن رسول الله فلا يعقل في الجهة المقابلة أن يكون هؤلاء هم رواة أحاديث منع التدوين!! إذ لو كانوا كذلك لالتزموا بما سمعوا من منع النبيّ (ص) ولما حدّثوا عنه (ص) بشيء.
بلى، لو صحّ أنّهم من مانعي الرواية والتحديث لما احتاج الخليفة إلى جمعهم ونهيهم عن التحديث، لاَنّه تحصيل حاصل.
ثمّ ألم يكن في هذا القول ازدراء للصحابة؟ وتكذيب لما قاله ابن حجر عنهم: «فنفى عنهم الكذب والخطأ والسهو والريب والفخر»!
وإذا كان نقل الصحابة قد جاء تدريجيّاً واجتهاداً منهم، فهل يجوز لعمر نقض ما فعلوه؟
وإن لم يكن كذلك، فكيف يأمرهم أن يأتوه بمدوّناتهم؟
ألم يكن ذلك دليلاً على الجواز؟
وهل يعقل أن يمنع الرسول (ص) من تناقل حديثه الذي فيه بلاغ للناس؟ وهو القائل «رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها عني»
والعجيب أنّهم يدّعون أنّ في المنع احتياطاً للدين، ويفوت عليهم أنّ منع المنع هو الاحتياط للدين، لاَنّ معنى المنع هو ضياع كثير من الاَحكام وعدموصولها للمسلمين وإخفاء حكم الله، وأمّا التحديث والتدوين فهو وإن كان عرضة للخطأ والتصحيف وو... لكنّه أَعوَدُ على المسلمين من بقائهم في الجهل وعدم معرفة الاَحكام.
ولو تنزّلنا وقلنا بأنّ الخليفة الثاني منع من التدوين احتياطاً للدين، فإنّنا سنواجه مشكلة في سيرة الخليفة من كونه حادّاً سريعاً في اتّخاذ المواقف منذ
( 53 )
الجاهلية(1) وصدر الاِسلام.
فتراه يتسرّع في كثير من الاَُمور ثمّ يندم على ذلك، كما حصل ذلك في صلح الحديبيّة وفي أسرى بدر، ومثل ذلك ما تعجّل به عندما جيء بالحكمبن كيسان أسيراً للنبيّ (ص) فجعل النبيّ يدعوه إلى الاِسلام، فأطال، فقال عمر: علامَ تكلّم هذا يا رسول الله؟! والله لا يسلم هذا آخر الاَبد، دعني أضرب عنقه ويقدم على أُمّه الهاوية.
فكان النبيّ (ص) لا يقبل على عمر، حتّى أسلم الحكم.
قال عمر: فما هو إلاّ أن رأيته أسلم، حتّى أخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: كيف أردّ على النبيّ أمراً هو أعلم به منّي، ثمّ أقول: إنّما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله؟!
قال عمر: فأسلم، فحسن إسلامه، وجاهد في الله حتّى قُتِل شهيداً ببئر معونة ورسول الله راضٍ عنه. ودخل الجنان(2).
وكانت له مثل هذه المواقف في خلافة أبي بكر، فقد جاء نفر من مؤلّفة المسلمين إلى أبي بكر يطلبون سهمهم، فكتب لهم به، فذهبوا إلى عمر ليعطيهم، وأروه كتاب أبي بكر، فأبى ومزّق الكتاب، فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟! فقال: بل هو إن شاء(3).
وقد أكثر من سرعة البتّ في الاَُمور في فترة خلافته، فغرّب نصربن حجّاج، لاَنّ امرأة هتفت به، وشرّع الطلاق ثلاثاً، وأراد أخذ ذهب البيت الحرام ثمّ أعرض عن ذلك لمخالفة الصحابة إيّاه، ووو
ومع هذا الذي نراه من سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، لانستطيع أن نؤمن بأنّه فعل ذلك احتياطاً، لاَنّ التسرّع والاجتهاد يتنافى مع الحذر والاحتياط.
وماذا نقول عن فعل الصحابة؟!

____________
(1) انظر المنمّق: 130. وراجع المصادر في كيفيّة إسلامه وحِدَّته وتسرّعه وغضبه.
(2) طبقات ابن سعد 4: 137 ترجمة الحكم بن كيسان.
(3) انظر تفسير المنار 10: 496.

( 54 )
وهل يعقل أنّ الصحابة الاَجلاّء كانوا لا يرون الاحتياط في الدين؟ أم أنّهم كانوا يرون الاحتياط هو الاَخذ برؤية تخالف ما ذهب إليه الخليفة؟!
وكيف يصحّ أن يقال إنّ فعل الخليفة عمر كان للاحتياط، مع أنّا نرى الصحابة أشاروا عليه بتدوين السنّة، فانفرد برأيه وأحرق المدوّنات ومنع من التدوين، ترى كيف صار خلاف صحابة رسول الله (ص) احتياطاً؟!
إنّ الاحتياط في أن يوافق الخليفة رأي أكثر الصحابة لقوله تعالى(وأمرهم شورى بينهم)(1)، ولاِيمانه هو بمبدأ الشورى، فمخالفة ما أشار به الصحابة يعدّ نقضاً للاحتياط وهدماً لمبدأ الشورى الذي اتّخذه عمربن الخطّاب.
بعد كلّ هذا يتجلّى ضعف هذا الرأي، وعدم صموده أمام النقد والتمحيص فلذلك نرى أن ننتقل إلى سبب آخر عسى أن نقف على الحلّ فيه.

____________
(1) الشورى : 38.