السبب الاَخير
هو ما نذهب إليه:

( 85 )


اتّضح لنا بعد التجوال السريع، أنّ المبرّرات والاَسباب المذكورة لمنع التدوين غير ناهضة لاَن تكون سبباً تامّاً أو دليلاً مقنعاً يفسّر دواعيه. فما هوالسبب إذَن؟
والجواب عن ذلك يتّضح بعد بيان مقدّمتين.

المقدّمة الاَُولى
(نشوء فكرة الاجتهاد)

إذا وقف المطالع في تاريخ الاِسلام على مواقف الصحابة في عصر الرسالة والتشريع، وجد أنّهم كانوا طائفتين، باعتبار التعامل مع النصوص الصادرة عن الرسول (ص).
الطائفة الاَُولى: انتهجت منهاج الطاعة والامتثال لمطلق الاَحكام الصادرة عن الله ورسوله؛ وذلك لعدّة اعتبارات:
منها: قداسة تلك الاَحكام، باعتبارها صادرة عن الواحد الاَحد (عزّ وجلّ)، فضلاً عن قداسة نفس المُشرِّع.
ومنها: وجوب طاعة المُشرِّع، وعدم جواز مخالفته؛ لقوله تعالى(أطِيعُوا اللهَ وَرَسوُلَهُ)(1)، وقوله (ومَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ويَخْشَ اللهَ
____________
(1) الاَنفال : 20 ، 46 .

( 86 )
ويَتّقهَ فأولئك هُمُ الفائِزون)(1)، وقوله (ومَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهاكُمْ عُنْهُ فانْتَهُوا)(2)، وقوله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمّ لا يَجِدُوا في أنفسِهم حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسلِيما)(3)، وقوله (إنّما كانَ قول المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيْحكُم بينهم أن يَقولوا سَمِعْنا وأَطَعْنا وأولئكَ هُمُ المُفْلِحون)(4)، وقوله (وماكان لِمُؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسُولُه أمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الِخيَرةُ من أمْرِهِم، ومَن يَعْصِ اللهَ ورسُولَه فقد ضَلَّ ضَلالاً مُبينا)(5)وغيرها.
ومنها: أنّه لا مجال للعمل بآراءٍ شخصيّة لتنظيم سلوك الفرد والمجتمع، وذلك لتكامل الشريعة وبيان جميع الاَحكام في القرآن، فلا حاجة ولانقصان يحتاج معه إلى المكمّل للشريعة، بل هي كاملة تامّة بنفسها، قال تعالى: (وَنَزَّلنا عَليكَ الكِتابَ تِبياناً لكُلِّ شَيءٍ)(6).
فصارت سمة هذه الطائفة تعبُّدها بالنصوص الصادرة عن الرسول (ص) وليسللرأي عندهم في مقابل ذلكم البيان الاِلهيّ أيّ اعتبار، مع ملاحظة وقوع الخطأ والسهو والنسيان منهم؛ لعدم عصمتهم!! وستقف علىمصاديق ومواقف لهذه الطائفة لاحقاً.
والطائفة الثانية: هم الذين كانوا يتعاملون مع النبيّ كأنّه بشر غيركامل يصيب ويخطىَ ويَسبُّ ويَلعن ثمّ يَطْلُبُ المغفرة لاَُولئك(7). وهؤلاء هم الذين لم يعطوا للرسول القدسيّة والمكانة التي أعطاها الله إيّاه، ولم يتعاملوا معه كما أمر الله، وهذه حقيقة دلّ عليها القرآن والاَثر:
أمّا القرآن ففيه آيات عديدة:

____________
(1) النور : 52 .
(2) الحشر : 7 .
(3) النساء : 65 .
(4) النور : 51 .
(5) الاَحزاب : 36 .
(6) النحل : 89 .
(7) صحيح مسلم 4 : 2008|88 و 90 ، مسند أحمد 2 : 316 ـ 317 ، 449، وج3:400.

( 87 )
منها: قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهَروا له بالقول كجَهْرِ بعضكم لبعض، أن تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون)(1).
فالآية تشير إلى انعدام قدسيّة النبيّ (ص) عند بعض الصحابة، مع تأكيده سبحانه وتعالى على لزوم مراعاة مكانته (ص).
ومنها: قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا ما لَكُم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الاَرض...)(2).
وهي تدلّ على عدم الطاعة والامتثال والتثاقل عن الجهاد عند البعض.
ومنها: قوله تعالى: (إنّ الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه لَعَنهم الله...)(3)، وقوله: (ومنهم الذين يؤذون النبيّ)(4)، وهي صريحة في أنّ البعض من الصحابة كانوا يؤذون الرسول (ص).
ومنها: قوله: (ألَمْ ترَ إلى الذين نُهوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نُهوا عنه، ويتناجَون بالاِثمّ والعُدوان ومعصيةِ الرسول، وإذا جاءَوك حَيَّوك بما لم يُحَيِّك بهِ الله...)(5).
كلّ هذه النصوص القرآنيّة تدلّ على وجود رجال من بين الصحابة لايدركون حقيقة النبوّة، وما للنبيّ من مكانة في التشريع الاِسلاميّ، فتراهم يرفعون أصواتهم على صوت النبيّ (ص) ويتثاقلون عن الجهاد في سبيلالله ويعترضون على رسـول اللّه في أعمالـه، ويتّبعون ما تمليه المصـلحة التي يرونهاعليهم مع وجـود النصّ، ويفتـون بالرأي وهـم بحضـرته. وبعض هؤلاء كانوا منالذين يطلبون من رسول الله أن يُغيّر بعض الاَحكام تبعاً للمصالح، وهو يقول:(ما يكـون لي أن أُبـدِّله من تِلقاء نفسـي إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يُوحى
____________
(1) الحجرات : 2 .
(2) التوبة : 38 .
(3) الاَحزاب : 57 .
(4) التوبة: 61.
(5) المجادلة: 8.

( 88 )
إليّ)(1)،وسبحانه يؤكّد عليه (ص) في أكثر من سورة بمثل قوله تعالى: (ثمّ جعلناكَ على شريعةٍ من الاَمر فاتَّبِعْها ولا تَتّبع أهواءَ الذين لا يَعْلَمون)(2). وهؤلاء الصحابة لم يقتصروا على المنافقين ومن أرادوا المصالح من المؤلّفة قلوبهم، بل إنّ الحقائق التاريخيّة وكتب تراجم الصحابة تدلّنا بوضوح على أنّ عدداً آخر منهم كانوا يحملون أفكاراً مغلوطة في التعامل مع نصوص الله. ومع أقوال وأفعال النبيّ (ص) خصوصاً، كان ذلك لما يحملون من رواسب وقناعات عرفيّة يؤمنون معها بأنّ النبيّ ما هو إلاّ رجل قائد مجرّب يمكن أن يخطىَ ويصيب، فكانوا يعترضون عليه اعتراضات لا توجّه إلاّ لرجل عاديّ، مع أنّ الله سبحانه والسنّة النبويّة نفسها ردعت عن مثل هذه الاَفكار.
فقد ثبتت نصوص كثيرة عن رسول الله في هذا السياق:
منها قوله لبعض أصحابه: ما لكم تضربون كتاب الله بعضَه ببعض؟! بهذا هلك من كان قبلكم(3)، وقوله في حديث آخر: أيُتلعَّب بكتاب الله وأنا بين أظهركم(4)؟!
وفي ثالث: أبهذا أُمرتم؟ أو لهذا خُلقتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضاً ببعض انظروا ما أُمرتم به فاتّبعوه وما نُهيتم عنه فانتهوا(5).
إلى غير ذلك من الاَحاديث الكثيرة التي كرّسها النبيّ (ص) لاِبطال ذلك الفهم وإبداله بفهم آخر للنبيّ وعصمته، لاَنّ المجتمع آنذاك كان لا ينظر النظرة الواقعيّة للنبيّ بل يعتبره شخصاً عاديّاً يخطأ ويصيب و يسهو وينسى و... فلذلك اعتُرض على النبيّ (ص) في أكثر من واقعة وحادثة، كما وقع ذلك الاعتراض حول فكّ أُسارى بدر، وحول صلح الحديبيّة وغيرهما ممّا فعله النبيّ
____________
(1) يونس : 15 .
(2) الجاثية: 18.
(3) كنز العمّال 1: 193|977 عن مسند أحمد.
(4) صحيح مسلم كتاب الاِيمان.
(5) كنز العمّال 1: 383، 1661 ، وكذا سنن ابن ماجة.

( 89 )
(ص) وبيَّن لهم الصحيح المُنزل من الله سبحانه وتعالى.
لكنّ الدراسة الوافية تقودنا إلى أن نصرّح بحقيقة مرّة مفادها أنّ الكثير من سالكي هذا المسلك لم يرتدعوا ولم ينقادوا لما وُضِّح لهم، بل سعو وجدّوا في ترسيخ فكرتهم بعد رسول الله، ناسين أو متناسين وصايا الشارع المقدّس.
فمع بداهة عصمة دم من شهد الشهادتين، وتأكيد النبيّ (ص) على هذا في بدء الاِسلام نرى أُسامة بن زيد يقتل مرداس بن نهيك حين أغارت السريّة على قوم فيهم مرداس، وكان قد أسلم فلم يهرب من السريّة، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبَّر ونزل، وقال: لا إله إلاّالله، محمّد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أُسامةبن زيد وساق غنمه، فأخبروا رسول الله (ص) فوجد وجداً شديداً، وقال: قتلتموه إرادةَ ما معه؟! ثمّ قرأ الآية (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً)(1).
وأصرح من ذلك ما فعله خالد بن الوليد ببني جذيمة، قال ابن الاَثير في أحداث سنة8 هجريّة:
وفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان رسولالله (ص) قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكّة يدعون الناس إلى الاِسلام، ولميأمرهم بقتال، وكان ممّا بعث خالد بن الوليد، بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً... فلمّا نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا، فوضعوا السلاح، فأمر خالد بهم فكُتّفوا. ثمّ عرضهم على السيف فقتل منهم من قَتَل، فلمّا انتهى الخبر إلى النبيّ (ص) رفع يديه إلى السماء ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد، ثمّ أرسل عليّاً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فوَدّى لهم الدماء والاَموال...(2) واستمرّ هذا النهج، وظلّت تلك العقليّة تحكم وتؤثّر في الاَحداث والاَُمور حتّى في زمن الشيخين، قال ابن حجر: وكان فيه [أي في خالد] تقدّم
____________
(1) النساء : 94 . انظر تفسير الفخر الرازيّ 11 : 3 ، والكشّاف 1 : 552 ، وتفسير ابن كثير 1:851ـ852.
(2) الكامل في التاريخ 2 : 255 ـ 256 . وانظر سيرة ابن هشام 4 : 70 ـ 78 .

( 90 )
على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها أبو بكر(1).
ولم يكن أُسامة وخالد قد انفردا بهذا المسار، بل كان ذلك مساراً ومنهجاً عند الكثير من الصحابة، الذين كانوا يرتجلون المواقف والآراء ويعملون بها في زمان النبيّ (ص) خلافاً لكتاب الله وسنّة النبيّ (ص)، وكانت نسبة المرتئين المجتهدين عند المهاجرين أكثر بكثرة ساحقة ممّا هي عليه عند الاَنصار الذين سارت أغلبيّتهم الغالبة وفق نهج التعبّد المحض.
فهؤلاء الاَنماط من الصحابة كانوا هم البذور الاَوّليّة للاجتهاد والرأي، كما أصبحوا لاحقاً حجر الاَساس في منع التدوين والتحديث.
نعم، إنّ أمثال هؤلاء قد نَهَوا عبدَ الله بن عمرو بن العاص من تدوين حديث رسول الله، وهم الذين أشاعوا أفكاراً وآراءً عُدّت لاحقاً من ضمن شريعة سيّد المرسلين(2).

موقف الشيخين من المنهجين :
ولمّا كان بحثنا يدور حول سبب منع التدوين، فالذي يَهُمُّنا هو معرفة موقف الشيخَين من النصوص، وهل كان الشيخان من أنصار التعبّد المحض، أم من أصحاب الاجتهاد والرأي، كي يمكن رسم رؤيتنا في المنع على ضوئه، ونحن وإن كنّا لا نحبّذ الدخول في بحوث من هذا النوع، خوفاً من إثارة أُمور طائفيّة نحن في غنىً عنها، إلاّ أنّ الدراسة ألزمتنا بحث هذا الموضوع وغيره، لاَنّ تركه يعني كتمان بعض الحقائق وإسدال الستار عليها وعدم العثور على السبب الحقيقيّ الكامن وراء منع التدوين، بل تحجيم الفكر والعقيدة وعدمالحرّيّة في إبداء النظريّات والاَسباب.
وهذه النقاط هي التي ألزمتنا بعدم ترك هذا الجانب وإن ارتبط بمكانة
____________
(1) الاِصابة 1 : 414 .
(2) منها قولهم إنّ رسول الله خَفِي عليه أمر الوحي حتّى أخبره زيد بن نوفل بذلك، وهذا يخالف ما جاء في خصائص النبيّ وأنّ خاتم النبوّة مكتوب على كتفه، ومعناه أنّه (ص) لايحتاج إلى شهادة ابن نوفل وغيره على نبوّته!!

( 91 )
الشيخين وبعض الصحابة، وإليك بعض النصوص في ذلك:
منها: ما جاء في قصّة الرجل المتنسّك التي رواها أبو سعيد الخدريّ وأنسبن مالك وجابر بن عبد الله الاَنصاريّ وغيرهم من أعيان الصحابة، واللفظ للاَوّل، قال: إنّ أبا بكر الصدّيق جاء إلى النبيّ (ص) فقال: يا رسول الله! إنّي بوادِ كذا وكذا، فإذا رجل مُتخشّع، حسن الهيئة يصلّي.
فقال له النبيّ: اذهب فاقْتُله.
قال: فذهب إليه أبو بكر، فلمّا رآه على تلك الحال كرِه أن يقتله، فرجع إلى رسول الله.
فقال النبيّ لعمر: اذهب فاقتُله، فذهب عمر، فرآه على الحال الذي رآه أبو بكر.
قال: فرجع، فقال: يا رسول الله ! إنّي رأيته يصلّي متخشّعاً، فكرِهت أن أقتله.
قال: يا عليّ ! اذهب فاقتله، فذهب عليّ فلم يَرَه، فرجع عليّ فقال: يارسولالله! لم أره.
فقال النبيّ: إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يتجاوز تَراقِيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثمّ لا يعودون فيه حتّى يعود السهم من فوقه(1)
فالحقيقة أنّ موقف أبي بكر كان منطلقاً من الاجتهاد وتعرّفه على المصلحة وهو بحضرته (ص) لعدم ارتضائه قتل الرجل، لصلاته وخشوعه! ولم يكن خاضعاً ومتعبّداً بأمر الرسول (ص) كما هو بيّن.
وكذا الحال بالنسبة إلى الخليفة عمر بن الخطّاب فإنّه قد قدّر المصلحة ولميرتضِ قتل الرجل مع تأكيد الرسول على قتله بعد سماعه تعليل أبي بكر.
والآن نتساءل: ماذا يعني تأكيد رسول الله (ص) على قتل الرجل
____________
(1) الاِصابة 1 : 484 ، حلية الاَولياء 3 : 227 ، والعقد الفريد 2 : 244 ـ 245 تحقيق علي شيري، البداية والنهاية 7 : 298 ط 1 دار إحياء التراث العربيّ 1988 ، مسند أحمد 3:15 وغيره.

( 92 )
المتنسّك بعد سماعه تعليل أبي بكر وسبب انصرافه عن تنفيذ أمر النبيّ (ص) بقتله؟!
وهل يجوز أن يأمر رسول الله بقتل المصلّي الخاشع ومن لميستحقّ القتل؟! وكيف يمكن تصوّر خطِئه (ص) والاَمر يتعلّق بالنفوس؟!
وإذا جاز قتله أو وجب، لقوله (ص) (اذهب فاقتله) فلِمَ توانى الشيخان عن أمره؟
ألم يكونا يعلمان أنّ الله سبحانه قال: (وما آتاكمُ الرسولُ فخُذُوه وما نَهاكم عنه فانتهوا)(1)وقوله (إنَّهُ لَقولُ رسولٍ كريم * ذي قوّة عند ذي العرش مكين * مُطاعٍ ثَمّ أمين * وما صاحبكم بمجنون)(2).
وقوله (وما هو بقولِ شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تَذَكّرون)(3).
وقوله (ما ضلّ صاحبكم وما غوى* وما ينطق عن الهوى* إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى)(4).
إنّ عدم تعبّد الشيخين في امتثال أمر الرسول واجتهادهم بالرأي وتعرّفهم على المصلحة وهم بحضرة الرسول لاَمر يجب الوقوف عنده وهو جدير بالدرس والتحليل.
ومن ذلك: اعتراض عمر على رسول الله في صلح الحديبيّة وقوله له: ألَسْتَ نبيّ الله حقّاً؟
قال: بلى.
قال: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟
قال: بلى.
قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا؟

____________
(1) الحشر : 7 .
(2) التكوير: 19 ـ 22 .
(3) الحاقّة: 40 ـ 41.
(4) النجم: 2.

( 93 )
فقال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري.
قال: أوَ ليس كنت حدَّثتنا، أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال: بلى، أفأخبرتُك أنّا نأتيه العام؟!
قلت: لا.
قال: فإنّك آتيه ومطوّف به.
قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبيّ الله حقّاً؟
قال: بلى.
قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذَنْ؟
قال: أيّها الرجل! إنّه رسول الله، وليس يعصي ربّه، وهو ناصُره، فاستمسك بغرزه فوالله إنّه على الحقّ.
قلت: أليس كان يُحَدِّثنُا، أنّا سنأتي البيت ونطوّف به؟
قال: أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟
قلت: لا.
قال: فإنّك آتيه ومطوّف به(1).
فالشكّ في صحّة قول الرسول وعدم الاطمئنان بكلامه (ص) واضح في كلام الخليفة عمر بن الخطّاب، ولا يمكن لاَحد أن يماري في ذلك، لاَنّ تكرار عمر ومعاودة مسائلة أبي بكر، يعني عدم الاطمئنان بما قاله رسول الله (ص)، وقول أبي بكر لعمر (أيُّها الرجل! إنّه رسول الله وليس يَعصي ربّه) ليؤكّد ذلك الاَمر، وكذا تأكيده بلزوم التمسّك بغرزه (فاستمسك بغرزه فوالله إنّه على الحقّ).
ثمّ إنّ عمر ومع سماعه كلام أبي بكر نراه يصرّ على السؤال ويشكّك للمرّة الثالثة فيقول: «أليس كان يُحَدِّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوّف به...».
فهذا النصّ يوضّح أنّ عمر بن الخطّاب لم يكن من أتباع مسلك التعبّد
____________
(1) الخبر متواتر ورواه أغلب المفسّرين والمؤرّخين، وللتأكيد انظر تاريخ عمربن الخطّاب لابن الجوزيّ: 58.

( 94 )
المحض، فإنّه لو كان من أتباع هذا المسلك لامتثل كلامه (ص) ولما احتاج إلى قول أبي بكر أو غيره من الصحابة.
وثمّة مواقف أُخرى يفهم منها أنّه كان لعمر آراء خاصّة كان يجدّ في ترسيخها ويلزم بها الصحابة على الرغم من معرفته بمواقف الرسول منها.
منها: أنّه كان لا يرتضي البكاء على الميّت، وقد ضرب بعضَ الباكين على رقيّة بنت النبيّ وإبراهيم ابنه (ص) بحضرته (ص)، وقول رسول الله: إنّ القلب ليحزن والعين لتدمع، مشيراً إلى عدم جواز ضرب المصدومين والمنكوبين، بل يجب اتّخاذ أُسلوب الرحمة معهم لا الشدّة والضرب، وقد جاء عنه أنّه (ص) مسح عين فاطمة لمّا كانت تبكي على أُختها رقيّة، وأمَرَ نساء الاَنصار بالبكاء على عمّه حمزة وقوله (ص) (ولكنّ حمزة لا بواكي له) وقد بكى (ص) عليه.
وجاء عن عمر أنّه اعترض على رسول الله لمّا أراد أن يصلّي على منافق، وأخذ بثوبه (ص) وقال له: أتصلّي عليه وهو منافق(1)؟! ثمّ ندم عمر على ما فعله معه (ص).
ولا تنحصر مواقف عمر بهذه المفردات بل تتعدّاها إلى أبعد من ذلك، فإنّه أنكر على رسول الله فعله في أخذ الفداء من الاَسرى في بدر، لاَنّه كان يرى أن يعمد حمزة إلى أخيه العبّاس فيقتله، ويأخذ عليّ أخاه عقيلاً فيقتله، وهكذا كلّ مسلم له قرابة في أسرى المشركين يأخذ قريبه ويقتله بيده حتّى لايبقى منهم أحد.
فأعرض رسول الله عن هذا الرأي تعبُّداً بالوحي الموافق للرحمة والحكمة.
ولمّا كان التاريخ والفقه ـفي أحد مدارسهـ ممّا رسمته ريشة الحُكّام واختطّت أُصوله في زمن الشيخين، فإنّنا نجد من المؤرّخين والمحدّثين مَن ينال مِن رسول الله كي يبرّر ما فعله الشيخان معه (ص)، فيذهب إلى القول بأنّ ما قالاه هو تفسير لما نزل من القرآن في تلك الواقعة، وأنّه نزل قوله تعالى (ما
____________
(1) انظر تفاصيل الخبر في اجتهاد الرسول: 209 ـ 211 .

( 95 )
كانَ لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخنَ في الاَرض)(1)في التنديد برسولالله وأصحابه حيث آثروا ـحسب زعم هؤلاءـ عَرَض الحياة الدنيا على الآخرة فاتَّخذوا الاَسرى وأخذوا منهم الفداء قبل أن يُثخنوا في الاَرض، وزعموا أنّه لم يَسْلم يومئذٍ من الخطيئة إلاّ عمر. ونحن لا نريد التفصيل في تفسير هذه الآية، بل نكتفي بما قاله السيّد شرف الدين في ذلك، فقال:
«وكذب من زعم أنّه (ص) اتّخذ الاَسرى وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الاَرض، فإنّه بأبي وأمي إنّما فعل ذلك بعد أن أثخن في الاَرض، وقتل صناديد قريش وطواغيتها، كأبي جهل وعُتبة وشيبة والوليد وحنظلة، إلى سبعين من رؤوس الكفر وزعماء الضلال، كما هو معلوم بالضرورة الاَوّليّه، فكيف يمكن بعد هذا أن يتناوله (ص) اللَّوم المذكور في الآية، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً؟!
والصواب أنّ الآية إنّما نزلت في التنديد بالذين كانوا يودّون العير وأصحابه، على ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الواقعة فقال عزّ من قائل (وإذ يعدكم اللهُ إحدى الطائفتَين أنّها لكم وتَوَدُّونَ أنّ غَيْرَ ذاتِ الشوكةِ تكون لكم ويُريدُ الله أن يُحِقّ الحَقَّ بكلماتِه ويَقْطَعَ دابرَ الكافرين)(2)وكان (ص) قد استشار أصحابه، فقال لهم: إنّ القوم قد خرجوا على كلّ صعب وذلول فما تقولون: العير أحبُّ إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ، وقال بعضهم حين رآه (ص) مُصرّاً على القتال: هلاّ ذكرت لنا القتال لنتأهّبَ له، إنّا خرجنا للعير لا للقتال! فتغيّر وجه رسول الله فأنزل الله تعالى:(كَمَا أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيِتْكَ بالحَقّ وإنّ فَريقاً مِنَ المؤمنينَ لكارِهُونَ* يُجادلِونَك في الحقّ بعدَما
____________
(1) الاَنفال : 67 .
(2) الاَنفال : 7 .

( 96 )
تَبيّنَ كأنّما يُساقون إلى الموت وهُمْ يَنْظُرون)(1).
وحيثأراد الله عزّ وجلّ أن يقنعهم بمعذرة النبيّ (ص) في إصراره على القتال وعدم مبالاته بالعير وأصحابه قال عزّ من قائل (ما كان لنبيّ) من الاَنبياء المرسلين قبل نبيّكم محمّد (ص) (أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الاَرض).
فنبيُّكم لا يكون له أسرى حتّى يُثْخِنَ في الاَرض على سنن غيره من الاَنبياء :، ولذلك لم يبالِ إذ فاته أسر أبي سفيان وأصحابه (تُرِيدُونَ عرض الدنيا والله يريد الآخرة) باستئصال ذات الشوكة، من أعدائه (والله عزيز حكيم) والعزّة والحكمة تقتضيان يومئذ اجتثاث عزّ العدوّ وإطفاء جمرته، ثمّ قال تنديداً بهم وتهديداً لهم (لولا كتاب من الله سبق ) في علمه الاَزليّ بأن يمنعكم من أخذ العير وأسر أصحابه لاَسرتم القوم وأخَذْتُم عيرهم، ولو فعلتم ذلك (لَمَسّكم فيما أخَذْتُم) قبل أن تثخنوا في الاَرض (عذاب عظيم)(2) هذا معنى الآية الكريمة وحاشا الله أن يريد منها ما ذكره أُولئك الجهلاء)(3).
وقال كذلك: (ولهم في أُحُد حالات تشهد بما قلناه، وذلك أنّ رسول الله (ص) قد استقبل المدينة في هذه الغزوة وترك أُحداً خلف ظهره وجعل الرُّماة وراءه، وكانوا خمسين رجلاً أمَّرَ عليهم عبد الله بن جبير ؛ وقال له ـفيما نَصَّ عليه المُؤِّرخون والمُحدِّثون كافّةـ: انضح عنّا الخيل بالنَّبل لايأتونا من خلفنا واثبتْ مكانك إن كانت لنا أو علينا.
____________
(1) الاَنفال : 5 ـ 6 .
(2) الاَنفال : 67 ـ 68 .
(3) الفصول المهمّة: 113.

( 97 )
وحضّهم علىذلك بما لا مزيد عليه وشدّد عليهم الاَمر في طاعة أميرهم عبداللهبن جبير، لكنّهم واأسفاه لميتعبّدوا يؤمئذٍ بأوامره ونواهيه (ص) ترجيحاً لآرائهم عليها، وذلك حيث حمي الوطيس واشتدّ بأس المسلمين على فيالق المشركين وعلى أصحاب لوائهم، فقتلهم أميرالمؤمنين واحداً بعد واحد، وبقي لواؤهم مطروحاً على الاَرض لايدنو منه أحد، فانكشف الكفّار حينئذٍ عن المسلمين هاربين على غيرانتظام، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن، فلمّا نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبّوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلّهم، الذي أُمروا أن لايفارقوه، فنهاهم أميرهم عبداللهبن جبير؛ عنه فلم ينتهوا، وقالوا: ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون؟! فقال عبدالله: والله لا أجاوز أمر رسول الله، وثبت مكانه مع أقلّ من عشرة، فنظر خالدبن الوليد المخزوميّ إلى قلّة مَن في الجبل من الرُّماة فكرّ بالخيل عليهم ومعه عكرمةبن أبي جهل فقتلوهم ومَثَّلوا بعبداللهبن جبير فأخرجوا حشوة بطنه وهجموا على المسلمين وهم غافلون وتنادوا بشعارهم يا للعزّى يالهبل!...) إلى آخر أخبار واقعة أُحد.
ومن الطريف هنا أن أُشير إلى نكتة قال بها أنصار مدرسة (اجتهاد النبيّ) و(اجتهاد الصحابة)، وهي: إنَّ للمجتهد أجرين إن أصاب الواقع، وأجراً إن أخطأ، فإنّهم ومع قولهم بهذا يذهبون إلى أنّ الله عاتب رسوله لاَخذ الفداء على أسرى بدر، فإن كان رسول الله قد اجتهد في هذه المسألة ـحسب زعمهمـ وأنّ المجتهد مأجور، فما معنى بكائه (ص) وقرب العذاب منه وقوله (ص) (إنّ العذاب قَرُبَ نُزوله، ولو نزل لَما نَجا منه إلاّ عمر)(1).

____________
(1) الفصول المهمّة: 116.

( 98 )
بهذا فقد عرفنا: أنّ من بين الصحابة من كان يعتدّ برأيه قبال قول النبيّ وفعله، فيسعى جادّاً لتصحيح فعل النبيّ! مُذكِّراً إيّاه (ص) بخطِئهِ وأنّ ما فعله يخالف شريعة السماء، والعياذ بالله!
وهناك ـفي الاتّجاه المقابلـ جماعة من الصحابة آخرون يعتقدون بلزوم امثتال أوامر الرسول وعدم جواز مخالفة قول النبيّ وفعله لاعتقادهم بقوله تعالى (ما كان لهم الخيرة....)(1).
وفي الذكر الحكيم الكثير من الآيات التي توضّح هذا المعنى، منها قوله تعالى: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وِاذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتّى يستأذنوه إنّ الذين يستأذنونَكَ أُولئك الذين يؤمنون بالله)(2).
وقوله تعالى (يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِما يُحييكم، واعلموا أنّ الله يَحُول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون * واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب)(3).
وعن الزبير بن العوّام في تفسير قوله (واتّقوا فتنة):... ونحن مع رسولالله وما ظننّا أنّا خصصنا بها خاصّة(4).
وعنه أيضاً: لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيّون بها(5)
وقال السدّيّ: نَزَلت في أهل بدر خاصّة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا(6).
ومن تلك الاَُمور التي عدّت من المصلحة وتَعَرَّفها الخليفة عمربن الخطّاب وهو بحضرة الرسول هو ما وقع عند موته (ص) وقوله (ص): ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً، فقال عمر: إنّ الرجل ليهجر،
____________
(1) القصص : 68 .
(2) النور: 62.
(3) الاَنفال: 24 ـ 25 .
(4) تفسير ابن كثير 2 : 488 ـ 489 .
(5) نفس المصدر .
(6) نفس المصدر .

( 99 )
حسبنا كتاب الله.
وأودّ هنا أن أُلفت نظر القارىَ إلى نكتة في هذه المسألة وهي: أنّ طلب الدواة والكتف من أجل الكتابة كانت بأمر من النبيّ (ص) لئلاّ تضلّ أُمّته من بعده. وقد رأيت مخالفة عمر له (ص)، وذلك تماماً بعكس ما حدث عند موت أبيبكر، فإنّ أبا بكر أراد عند موته أن يوصي، فذكر بعض الكلمات فأُغمي عليه، فأضاف عثمان بن عفّان اسم عمر كخليفة لاَبي بكر، ولمّا أفاق أبو بكر أمضى ما كتبه عثمان. فتثبيت اسم عمر هنا لم يَعدّوه هجراً، وأمّا تدوين رسولالله كتاباً، كي لا تضلّ أُمّته بعده فهو حسب زعمهم الهجر؟!!
أتساءل: لماذا لا يُرمى أبو بكر بالهجر ورُمي به الرسول، في حين كانت حالة أبي بكر لدى احتضاره أشدّ من حالة النبيّ (ص)؟! وكيف بهم يأخذون بكلام عمر في تسمية أعضاء مجلس الشورى وهو مريض، ولا يأخذون بكلام رسولالله الذي لا ينطق عن الهوى؟!
ولِمَ انقسموا بين يدي رسول الله ولم ينقسموا بين يدي عمر؟ ولماذا لانسمع أحداً يقول عن الفاروق إنّه قد هَجَرَ في فعله وقراره، مع لحاظ الفارق بين منزلة عمر ومنزلة النبيّ؟!
ألم يكن من حقّ كلّ مسلم أن يوصي، فَلِمَ وقف عمر بن الخطّاب أمام وصيّة رسول ربّ العالمين إذاً؟ فهل هو أقلّ شأناً من أيّ مسلم عاديّ؟!
إن كان رسول الله لم يوصِ وترك الاَُمّة لتنتخب قائدها، فلِمَ يُعَيِّن أبو بكر من يَخْلفهُ في الاَمر؟ أليس هذا الفعل هو مخالفة لسنّة رسول الله؟!
وهل تُصَدِّق أنّ النبيّ ترك أُمَّته سُدى وهو النبيّ الذي أخبر أُمّته ما فعلته الاَُمم السابقة بأديانها، وكان يرى الناس لم يكمل إيمانهم بعد، وهم قريبو عهد بالجاهليّة، دون راعٍ، مع ما ثبت عنه (ص) من أنّه ما كان يترك المدينة إلاّ وقد خَلَّف عليها أحداً، فكيف يتركها بعده هملاً؟ مضافاً إلى ذلك ترى أبا بكر لايترك الاَُمِّة إلاّ ويُعيّن عمر مكانه، وكذا الحال بالنسبة إلى عمر فإنّه لميتركهم إلاّ وعَيَّنَ الستّة، أصحاب الشورى، فهل تُصَدِّق بعد هذا أنّ رسول الله تركهم سدى ولم يُخَلِّفْ عليهم أحداً، في حين رأينا تأكيده (ص) على اتّباع جيش
( 100 )
أُسامة حتّى آخر لحظة من حياته!! ألم يدلّ هذا على اهتمامه(ص) بأمر الخلافة والوصاية؟!
بهذا فقد استبان لك أنّ الشيخين لم يكونا من المتعبّدين بكلّ ما قاله الرسول، بل كانا يتعرّفان المصلحة وهم بحضرته.
وقد أطلقنا خلال بحثنا هذا على كلّ من أخذ بقول الرسول وامتثل أمره دون الشاكّ السائل عن العلّة والمصلحة فيه اسم (التعبّد المحض).
وأمّا الذين كانوا يعتدّون بآرائهم ويرون لاَنفسهم حقّ البيان في الاَحكام فقد أطلقنا عليهم اسم: (الاجتهاد والرأي).
وكان كلا الاتّجاهين قائماً في عهد الرسول ثمّ من بعده، فلو أخذنا حكم صيام الدهر مثلاً، فترى البعض من الصحابة يصومه غير مُبالٍ بتكرار النهي عن النبيّ فيه، وقوله (من صام أوّل الشهر ووسطه وآخره كأنَّما صام الدهر).
نعم، إنّ من بين الصحابة من كان يصوم الاَيام الثلاثة في كلّ شهر امتثالاً لاَمر الرسول (ص) كي يحصل على فضيلة صيام الدهر، ومنهم من كان يصومها في جميع الاَيام مع سماعه نهي رسول الله.
وكذا الحال بالنسبة إلى نحر الاِبل وأكل لحومها يوم تبوك، فمع إجازة النبيّ لنحرها برز هناك من الصحابة من أنكر نحرها(1).
ومثله الحال بالنسبة إلى غزوة أُحد، فالنبيّ (ص) لمّا هجم عليه خمسة من المشركين، فأصاب أحدهم جبهته والآخر كسر رباعيّته وثالث فَكَمَ وَجْنَتَهُ ورابع...ـإلخ، فلم يرتضِ النبيّ (ص) إعلام المشركين بأنّه حيّ لميمت كي لايعاودوا الكرّة على المسلمين، فلمّا عرف كعب بن مالك أنّ رسول الله (ص)، حيّ نادى: يا معشر المسلمين ! أبشروا هذا رسول الله (ص) لم يُقتل، فأشار إليه النبيّ (ص) أن أنْصِت، مخافة أن يسمعه العدوّ فيثب عليه، فسكت الرجل.
ثمّ أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: أفي القوم محمّد؟
فقال رسول الله: لا تجيبوه، مخافة أن يعرف أنّه حيّ فيشدَّ عليه بمن معه من أعداء الله ورسوله.

____________
(1) انظر صحيح البخاريّ ، كتاب الجهاد والسير ، باب حمل الزاد في الغزو.

( 101 )
ثمّ نادى: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمّداً؟
فقال عمر: اللّهمّ لا، وإنّه والله لَيسمع كلامك.
فقال أبو سفيان: أنت أصدق من ابن قما(1).
نعم، أجاب عمر أبا سفيان مع تأكيد الرسول على عدم إجابته ونهيه عنه، وما كان فعل عمر إلاّ لكونه متأوّلاً فأخطأ!
وكذا الحال بالنسبة إلى قسمة قسمها رسول الله من الصدقات، فأتاه عمر قائلاً: يارسولالله! لَغير هؤلاء أحقّ منهم؛ أهل الصفة، فقال رسول الله: إنّكم تسألوني الفحش...(2).
وفي البخاريّ: قال عبد الله: قَسَمَ النبيُّ قسمةً كبعض ما كان يقسم، فقال رجل من الاَنصار: والله إنّها لقسمة ما أُريدَ بها وجه الله. قلت: أمّا أنا لاَقولن للنبيّ، فأتيته وهو في أصحابه فساررته، فشقّ ذلك على النبيّ وتغيّر وجهه وغضب حتّى وددت أنّي لم أكن أخبرته، ثمّ قال: قد أُوذي موسى عليه السلام بأكثر من ذلك فصبر(3) ؟!
وعن طلحة وعثمان أنّهما قالا: أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولاننكح نساءه إذا مات؟! لو مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام.
وكان طلحة يريد عائشة، وعثمان يريد أُمّ سلمة، وكانا يريدان بفعلهما إيذاء الرسول، فأنزل سبحانه قوله (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولاأن تَنكِحُوا أزواجَه مِن بعدِه أبداً)(4). وقوله تعالى (إن تُبدوا ما في أنفسكمأو تُخفوه...)(5). وقوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لَعَنهم اللهُ في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً)(6).

____________
(1) تاريخ ابن الاَثير، طبقات ابن سعد، السيرة الحلبيّة.
(2) مسند أحمد 1 : 20 عن الاَعمش عن شقيق عن سلمان بن ربيعة، ومسلم في الزكاة.
(3) البخاريّ كتاب الآداب، باب الصبر على الاَذى 8|31.
(4) الاَحزاب: 53.
(5) البقرة: 284.
(6) الاَحزاب: 57.

( 102 )
ومن تلك النصوص الكثيرة ما أخرجه البخاريّ في كتاب الآداب: أنّ النبيّ رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس، فبلغ النبيّ فغضب ثمّ قال: ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه، فوالله إنّي لاَعلمُهم وأشدُّهم خشية(1).
وبهذا فقد عرفنا أنّ القرآن قد صرّح بوجود رجال من الصحابة يَلْمِزُونَهُ في الصدقات، وبينهم من إذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها وتركوه (ص) قائماً، ومنهم من يؤذي الرسول، ومنهم من يتخلّف عن الجهاد، ويرفع صوته على صوت الرسول ولا يمتثل أمره و...
ومنهم مؤمنون يتّبعونه على أمرٍ جامع، مطيعين لاَوامره منتهين عن نواهيه، غير مخالفين لحكمه (ص). فحنظلة (غسيل الملائكة) لم يتخلّف عن المعركة إلاّ بعد حصوله على إجازة من الرسول في البقاء عند زوجته ليلة الزفاف، في الوقت نفسه نرى تخلُّف عدد كثير من الصحابه عن الجهاد دون استئذان أو...
ألا يعني موقف حنظلة (غسيل الملائكة) أنّه كان من أتباع التعبُّد المحض، وأنّ الآخرين من أتباع الاجتهاد والرأي والمصلحة؟
وممّا يخطر بالبال: أنّ النبيّ وبتأكيده على بعض المفردات كان يريد امتحان رجال معنيين من أُمّته، فما قصّة الرجل المتنسّك ذي الثديّة، وطلب تدوين كتاب عند موته (ص) وتأمير أُسامة بن زيد ـوهو شابّ لم يتجاوز الثامنة عشرةـ على رجال أمثال أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، إلاّ نقاط جديرة بالوقوف عندها.
ونحن أطلقنا على الآخرين اسم الاجتهاد والمصلحة، نظراً إلى أجوبتهم بها، فإن قيل لهم: لِمَ تخلّف فلان عن الجهاد؟ قالوا: تعرَّف المصلحة ولاَجله تخلَّف، أو تأوَّل فأخطأ، أو اجتهد، ولكلّ مجتهد إن أصاب أجران وإن أخطا أجر واحد و...
ويبدو لنا أن غالب المسائل المطروحة سابقاً كانت بمثابة الامتحان الاِلهيّ لهؤلاء الصحابة ولتمييز المؤمن المتعبّد من غيره، لاَنّ الثابت في الشريعة هو
____________
(1) صحيح البخاريّ ، كتاب الآداب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 8: 31.

( 103 )
لزوم إطاعة أوامر الرسول والانتهاء عن نواهيه، وليس للمؤمنين الخِيَرة في أمرهم، ولم يختصّ الامتثال ولزوم الطاعة فيما صدر بالتبليغ والاَحكام الشرعيّة حسب، بل هو حكم مطلق عامّ شامل؛ فإنّ حكم الآية بل الآيات النازلة في ذلك مطلق وليس فيه قيد التبليغ وتبيين الاَحكام (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللهُ ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم)(1)وبه يلزم أن يسلِّم المؤمن بما قضى به الرسول ولا يجوز له التخلُّف عمّا أمر به.
وعليه فمن المحتمل القريب أن تكون رزيّة يوم الخميس بعد طلب النبيّ (ص) الكتف والدواة وامتناع عمر من جلبهما للنبيّ (ص) ثمّ رميه بالهجر إنّما كان لاَجل أن يتعرّف الآخرون على موقف هؤلاء الصحابة من رسول الله، وكذا الحال بالنسبة إلى تأميره أُسامة بن زيد وهو ابن ثمان عشرة سنة على رجال أمثال أبي بكر وعمر، فإنّها جاءت لمعرفة المطيع والمتخلّف!
فجاء عنه (ص) أنّه قال: «أيّها الناس، ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري أُسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبل».
فاتَّضح جليَّاً وجود اتّجاهين في عصر الرسول، أحدهما يُشَرِّع المصلحة ويقول بالرأي قبال نصّ الرسول، ولا يتعبَّد بقوله بل يعترض على فعله (ص) ويتعرّف المصلحة مع وجود النصّ، كما رأيت في كثير من القضايا التي ذكرناها.
وهناك رجال يتعبّدون بقوله (ص)، ويرتضون المبيت على فراشه ليدرؤا بأنفسهم الخطر عن رسول الله! وقد تبيّن أنّ الشيخين كانوا من أتباع نهج الاجتهاد والرأي.

تحليلٌ واستنتاج
إذا اتّضح ذلك نقول: إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد حَدَّد سبب نهيه عن التدوين بأمرين: أحدهما: التأثّر بأهل الكتاب، والآخر الخوف من الاَخذ بأقوال
____________
(1) الاَحزاب : 36 .

( 104 )
الرسول وترك القرآن، لكنّ ابن حزم استبعد أن يكون نهي عمر قد تعلَّق بالسُّنَّة النبويّة، وحمَلَ نهيه على خصوص الاَخبار عمَّن سلف من الاَُمم السابقة.
فقال: ...وإنّما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله (ص) لو صحّ فهو بيّن في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة(1)، وإنّما نهى عن الحديث بالاَخبار عمَّن سلف من الاَُمم وعمّا أشبه.
وأمّا بالسنن عن النبيّ (ص) فإنّ النهي عن ذلك هو مجرّدٌ، وهذا ما لايَحِلُّ لمسلم أن يظنّه بِمَنْ دون عمر من عامّة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه . ودليل ما قلنا: أنّ عمر قد حدّث بحديث كثير عن النبيّ (ص)، فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروهاً، فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحلّ لمسلم أن يظنّ بعمر أنّه نهى عن شيء وفعله(2)...
واستبعد آخرون منهم الدكتور محمّد عجاج الخطيب تبعاً، لابن حزم أن يكون عمر بن الخطّاب قد منع الصحابة من التحديث، أو أنّه سجن ابن مسعود وغيره، لعدم قبول العقل صدور ذلك من خليفة كعمر بن الخطّاب!
لكنّ الواقف على مُجريات الاَحداث في الصدر الاَوّل يعرف سُقم كلام ابن حزم ومن تبعه من الاَعلام، وبُعده عن الواقع، لاَنّ توارد الروايات عن عمر بالمنع ممّا لا يمكن إنكاره أو دفعه. وقد وردت روايات المنع مطلقة لمتخصّ صحابيّاً دون آخر، ولا نوعاً من الحديث دون نوع آخر، بل ثبت أنّ عمر كان شديد العنف على المُحَدّثين والكاتبين للحديث، وهذا ممّا لا ينكره إلاّ مُكابر، فلذلك راح ابن حزم ومن حذا حذوه يختلقون الاَعذار ويضعون المبرّرات لفعل الخليفة، ولم يكن عندهم أكثر من مجرّد الاستبعاد والاستغراب الذي لايقوم على أساس علميّ.
وأمرُه قُرْظة وأصحابه بالاِقلال من الرواية عن النبيّ لا يخلو من وجهين:
الاَوّل: أن يكون الخليفة عمر بن الخطّاب يتهّمهم جميعاً بالكذب على
____________
(1) مفاد الحديث: أنّ عمر أرسل قرظة بن كعب مع مجموعة من الصحابة وفداً إلى الكوفة، فأمرهم بالاِقلال من الحديث، فقال لهم: أقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) وأنا شريككم.
(2) الاِحكام في أُصول الاَحكام 2: 266.

( 105 )
الرسول، وهذا فيه ما فيه.
الثاني: أن يكون الخليفة قد أمر بكتمان ما أنزل الله على لسان نبيّه.
وهذان الوجهان لا يلتزم بهما، ولا بواحد منهما ابن حزم وأتباعه، وإن كنّا نميل إلى الاَوّل منهما ـمع ضميمة شيء آخر معهـ بقرينة اتّهام عمر لعمّاله ومُشاطرته أموالهم، وبملاحظة سيرته: من شدّته على الصحابة وضربه إيّاهم: فمُجمل سيرة عمر مع الصحابة تدلّ بوضوح على أنّه كان لا يثقُ بالصحابة وأنّه كان يجابههم بأنواع الكلام اللاذع، وكان يظهر معايبهم على ملاَ من المسلمين.
وعلى كلِّ حال، فإنَّ ابن حزم ومن جرّ جرّه لا يرتضي هذين الوجهين، لذلك اضطرّوا إلى حمل نهي عمر على النهي عن التحديث بأخبار الاَُمم السالفة، وهذا حَمْلٌ تَبَرُعيّ لم يدلّ عليه دليل من روايات منعه؛ لاَنّها جميعاً مطلقة، ولاَنّ سيرته في المنع أعمّ من هذا التخصيص، ولاَنّ قسوته بلغت حدّاً لايفرّق بين التحديث بالسنّة أو بأخبار الاَُمم، حتّى أنّه منع عمّاراً في تحديثه بواقعة قطعيّة وقعت له في زمن النبيّ ـالتيمّمـ كان عمر نفسه شاهِدَها.
وعليه فالخبر لا يمتّ إلى ما قيل عن الاَُمم السالفة إلاّ بنحوِ عناية، وهي إحدى الوجوه التي نذهب إليها في منع الخليفة عمر بن الخطّاب عن التحديث. وذلك يتّصل بخلفيّات نفسيّة الخليفة عمر، إذ الثابت عنه أنّه كان قد واجه منعاً نبويّاً صارماً من التحديث على عهد رسول الله، وذلك بعد أن نهاهُ (ص) عن تتبّعه لاَخبار اليهود وتحديثه بها في بدء الدعوة، فيحتمل أن يكون نهيه اليوم هو نتيجة ردّة فعل سلبيّة مُني بها من عهد الرسول، فصار عمر يكره التحديث والتدوين بشكل مطلق، سواء كان من سنّة النبيّ أو غيرها، وسواء كان من صحيح ما ورد من أخبار الاَُمم السالفة أو سقيمها، فقد ورد عن خالدبن عرفطة أنّ عمر قال: انطلقتُ أنا.. فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ثمّ جئت به في أديم.
فقال لي رسول الله: ما هذا في يدك يا عمر؟
قلت: يا رسول الله، كتاب انتسخته لنزداد به علماً إلى علمنا.
فغضب رسول الله حتّى احمرّت وجنتاه، ثمّ نودي بـ «الصلاة جامعة»، فقالت الاَنصار: أُغضِبَ نبيّكم! السِّلاح السِّلاح، فجاؤوا حتّى أحدقوا بمنبر
( 106 )
رسولالله.
فقال (ص): يا أُيها الناس! إنّي قد أُوتيت جوامع الكَلِم وخواتيمه، واخْتُصِرَ لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة، فلا تَتَهوَّكوا ولايغرّنكم المُتَهَوِّكون.
قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربّاً، وبالاِسلام ديناً، وبك رسولاً، ثمّ نَزَل رسول الله (ص)(1).
وفي آخر عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر بن الخطّاب فقال: يارسولالله! إنّي مررت بأخ لي من يهود، فكتب لي جوامع من التوراة، قال: أفلاأعرضها عليك؟
فتغيّر وجه رسول الله (ص)، فقال عبد الله [بن ثابت]: مَسَخ الله عقلك! ألا ترى ما بوجه رسول الله؟!
فقال عمر: رضيت بالله ربّاً، وبالاِسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً(2).
وقد ثبت أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب وقع منه الاختلاط باليهود، وأنّه كَتَب من كتبهم، وأنّه كان يقرأ ويكتب، فأحبّ ما ورد عنهم، ولم يكن قرأه ليردّ عليه أو يُفنّده، وإنّما قرأه معجَباً به وليزداد علماً إلى علمه، لذلك غَضب رسولالله هذا الغضب الشديد، لاَنّه (ص) كان قد حذّر من اليهود، وبَيَّنَ القرآن الكريم في أكثر من سورة مَكرهم وخداعهم، منها قوله تعالى: (يا أيُّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهودَ والنصارى أولياء بعضُهم أولياءُ بعض ومن يَتَولّهم منكم فإنّهُ منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)(3).
وقوله تعالى: (لَتجدَنّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود...)(4).
فكأنّ الخليفة عمر ـبعد هذه الواقعةـ حدثت في داخله هزّة عنيفة وردّة
____________
(1) تقييد العلم: 52.
(2) المصنّف لعبد الرزّاق 10: 313 رقم 19213 ، ومجمع الزوائد 1: 174 وفيه: يارسول الله! جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق ، فتغيّر وجه رسول الله...
(3) المائدة: 51.
(4) المائدة: 82.

( 107 )
فعل سلبيّة، جعلته يتّخذ تلك المواقف القاسية من المحدّثين والمدوّنين، فيحبس هذا ويضرب ذاك، وتراه يؤكّد في منعه (أُمنية كأُمنية أهل الكتاب)، وغيرها.
ويوَكّد هذا ما جاء في مقدّمة خبر خالد بن عُرفطة،آنف الذكر، قال: كنت جالساً عند عمر فأُتي برجل من عبد قيس، مسكنه بالسُّوس، فقال له عمر: أنت فلانبن فلان العبديّ؟ قال: نعم.
قال: وأنت النازل بالسوس؟
قال: نعم، فضربه بقناةٍ معه؟
فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟!
فقال له عمر: اجلس، فجلس فقرأ عليه. «بسم الله الرحمن الرحيم، الر، تلك آياتُ الكتاب المبين* إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون* نحن نقصّ عليك أحسن القصص) إلى (لَمِن الغافلين)(1)فقرأها عليه ثلاثاً، وضربه ثلاثاً.
فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟!
فقال: أنت الذي انتسخت كتاب دانيال؟
قال: مُرْني بأمرك أتّبِعْه؟
قال: انطلقْ فامْحُه بالحميم والصوف الاَبيض، ثمّ لا تقرأه ولا تقريه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنّك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس، لاَنهكنّك عقوبة. ثمّ قال: اجلس، فجلس بين يديه، وعند ذلك نقل له قصّته المارّة مع رسولالله، فقال: انطلقتُ أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب... إلى آخره.
والواقع أنّ المنع في هذه الرواية جيّد و صحيح، وهو الاَُسلوب الصحيح لو اقتُصر عليه لكنّ المأسوف له أنّ التدوين قد لحقه من الاجتهاد والرأي شيء غيرقليل من التدخّل الذي أربك مسيرته ومحتواه.
وقد حدَثت مثل هذه الردّة السلبيّة عند أُسامة بن زيد حين قتل امرءاً
____________
(1) يوسف : 1 ـ 3 .

( 108 )
مسلماً، لاَنّه ظنّ أنّه أسلم خوفاً من السيف، فرجَع أُسامة وقد نَزَل قوله تعالى(ولا تقولوا لِمَنْ ألقى إليكم السلمَ لستَ مُؤمناً تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا..)(1) ؟ فصار أُسامه متخوّفاً وَجِلاً حتّى امتنع من الخروج والقتال مع عليّبن أبي طالب ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين. متذرّعا بذريعة أنّه لايقتل المسلمينَ، متناسياً الآيات والسيرة النبويّة والاَحاديث وإجماع الصحابة على قتل الزاني المحصن المسلم، والمنكر ضروريّة من ضروريّات الدين من المسلمين، وقتل الباغي من المسلمين و... تناسى كلّ ذلك ورأي واجتهد في عدمجواز قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وعمل طبق ذلك وإن كان اجتهاده مخالفاً للكتاب والسنّة !!
فإذا جَمَعْتَ هذا مضافاً إلى اتّهامه الصحابة بالخيانة والكذب، وتهديده وسجنه جماعة من المحدّثين، وضربه آخرين..
إذا جمعت هاتين المقدّمتين عرفت سرّ إباحة الخليفة عمر التَّحديث لنفسه ومنعه الآخرين منه.
فهو يرى لنفسه الاَهليّة الكاملة والحقّ المطلق في ذلك لاَنّه خليفة، ولايرى ذلك للآخرين لاَنّهم موضع للشَّكّ وعدم الاطمئنان، أو أنّهم معرّضون للخطأ والزلل.
فلم يبق عذر لابن حزم في التمحُّل واختلاق الاَعذار وتوجيه وقع فيه الخليفة عمر بن الخطّاب.
وقد بيّنا وجه ما وقع فيه الخليفة للباحثين، مع أنّنا لسنا بمسؤولين عن تهافت الخليفة واختلاف فعله مع قوله بعد ثبوت ذلك عنه بلا خلاف.

تبريران آخران
هذا وقد حمل بعضهم نهي عمر عن التحديث والتدوين بقوله:
فهو إذ يطلب الاِقلال من الرواية، فإنَّما يطلبُه من باب الاحتياط لحفظ
____________
(1) النساء : 94 .

( 109 )
السُّنن والتَّرهيب في الرواية.
وأمّا مَنْ كان يتقن ما يحدَّثُ به، ويعرف فقهه وحكمه فلا يتناوله أمر عمر(1)0؟.
إنّ اللبيب ليعجب من مثل هذه الاَقوال، لاَنَّ الاحتياط هنا لا مورد له، إذ المحدِّث إن كان ثقة صدوقاً فلا معنى لمنعه عن التحديث ولا معنى للاحتياط، خاصّة وأنَّ بعض هؤلاء المنهيين من التَّحديث قد ورد فيهم نصّ عن رسولالله (ص) يدلّ على جلالة قدرهم وصدق قولهم.
إنّ الاحتياط كلّ الاحتياط هو أن يحثّ الخليفة أمثال هؤلاء على التحديث وتناقل كلّ ما سمعوه وتلقَّوه عن النبيّ (ص)، لكي لا تبقى بعض سنّة النبيّ مجهولة للناس ، ولكي لا يبقى المسلمون في دوّامة من الجهل بالاَحكام.
وأمّا الاحتياط بمعنى احتمال خطأ الراوي أو سهوه أو نسيانه أو... فهذا يردّ في كلام الخليفة نفسه ، ولا يمكنه إلزام الآخرين دون إلزام نفسه به.
ولا نكاد نقضي العجب ممّن زعم أنّ نهي الخليفة لا يتناول مَن تيقّن ما يحدِّثُ به ويعرف فقهه وحكمه ، مع أنّه قد سجن أبا ذرّ وابن مسعود وأبا مسعود الاَنصاريّ وأبا الدرداء ، ونهى عمّاراً وأبا موسى الاَشعري وأمثالهم مع كون أغلبهم من عيون الصحابة والرعيل الاَوّل في الاِسلام.
وأبعد شيء يقال هنا : هو أنّ النهي والحبس والضرب والمنع لايتناغم ولايتلاءم مع نفسيّة عمر ، باعتباره خليفة وصحابيّاً كبيراً ، فلابُدّ أن نَرْبأ به عن ارتكاب مثل تلك الاَعمال.
إلاّ أنّ الواقع الذي لا يمكن دفعه هو أنّ الخليفة عمربن الخطّاب كان معروفاً منذ زمن رسول الله بالشدّة والغِلظة، وكذلك في خلافة أبي بكر. ولمّا انبسطت يده في خلافته راح يحمل الدُّرَّة فيضرب هذا ويُعاقب ذاك ويسجن ثالثاً وينفي رابعاً ويُغرّب خامساً ممّا يمكن علاجه بدون ذلك من التهذيب والاِرشاد!
وقد نقل لنا المؤرّخون صوراً متعدّدة من أُسلوب الخليفة، حتّى جاء في
____________
(1) السنّة قبل التدوين: 105.

( 110 )
شرح النهج الجديد أنّه كان في أخلاق عمر وألفاظه جفاءً وعنجهيّةً ظاهرة(1). وأنّه كان شديد الغلظَة، وَعْر الجانب، خشَن الملمس، دائم العبوس، وكان يعتقد أنّ ذلك هو الفضيلة، وأنّ خلافه نقص(2).
فلا غرابة ولا بِدْع إذا اتَّخذ الخليفة ذلك الموقف الصارم المتشدّد من مخالفيه في التحديث، خصوصاً بعد ردعه من قِبل النبيّ لاستنساخه كتب اليهود، كلّ ذلك مع لحاظ الروح القبليّة التي كانت طافحةً عليه، مضافاً إلى مساس هذا التحديث بأصل مشروعيّة خلافته.
والاَغرب من كلِّ هذا أن نرى الخليفة يسجن أبا الدرداء الذي خالفه في عدَّة مفردات فقهيّة، وأبا ذرّ وابن مسعود اللذين كانا لا يتّفقان معه في تحريمه للمتعة، وهكذا الحال بالنسبة للآخرين الذين لم يسمح لهم في الخروج من المدينة. فيبدو أنّ الخليفة اشتدّ عليهم لتحديثهم بما لا يحلو ولايروق له، وإلاّ لماذا يسجن هؤلاء ويترك أبا هريرة صاحب الـ (5374) حديثاً مطلق العنان دون حبس ولا ضرب ولا تعزير، بل اكتفى بتهديده وإبعاده ثمّ جوّز له التحديث دون غيره؟!
ويلحظ هذا النفس واضحاً عند عمر بن الخطّاب حين أرسل وفداً من الاَنصار إلى الكوفة ، وشيّعهم إلى موضع قرب المدينة ، فقال لهم: أتدرون لِمَ شيّعتكم أو مشيت معكم ؟
فقالوا : نعم ، لحقّ صحبة رسول الله (ص) ولحقّ الاَنصار .
قال عمر : لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكم به... فأقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) وأنا شريككم(3).
فهو يمنعهم أو يحدّ من تحديثهم لاَنّهم من الاَنصار ؛ أتباع التعبّد الذين يروون ما لا يعجب الخليفة ولا يحبّ انتشاره بين المسلمين لئلاّ يظهر عجزه
____________
(1) شرح النهج 1 : 183 .
(2) انظر شرح النهج 6 : 327 .
(3) انظر الطبقات الكبرى 6 : 7 ، سنن الدارميّ 1 : 85 ، جامع بيان العلم 2:120، تذكرة الحفّاظ 1:7، كنز العمّال 2 : 284 | 4017 وغيرها .

( 111 )
العلميّ.
إنّ المبرّرات المختلقة التي قيلت أو قد تُقال في الدفاع عن الخليفة لانراها تصمد أمام النقد ولا تقوم أمام التحقيق العلميّ كما أثبتنا ذلك.
فلذا ترى محور الاستبعاد يبتني على ما رسموه من هالة لشخص الخليفة في نفوسهم، كالملاحظ في قول ابن حزم «وهذا ما لا يحلّ لمسلم أن يظنّه بمن دون عمر من عامّة المسلمين ، فكيف بعمر رضي الله عنه »!
ونرى أيضاً أنَّ أسباباً أُخرى ـستأتي هي التي جعلت الخليفة يمنع التدوين والتحديث ، ويوسّع دائرة الاجتهاد والرأي وتعرّف المصلحة، وما ماشاها من أدلّة كانت مرتسمة في ذهن طائفة من الصحابة منذ زمن النبيّ (ص)، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطّاب . والخليفة بتأكيده على تلك الاَُسس جدَّ في ترسيخ هذه الفكرة.