مقدمات قبل الورود في

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات



( 40 )


( 41 )

وكتاب المراجعات يحتوي على مبحثين :
الأول : في إمامة المذهب.
والثاني : في الإمامة ، وهي الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويشتمل كل منهما على مراجعات...
ولا بد قبل الورود فيها من مقدمات :
* إن « التشيع » مذهب كسائر المذاهب ، له أصوله وقواعده في الأصول والفروع ، والشيعة الإمامية الاثنا عشرية غير محتاجة ـ في إثبات حقية ما تذهب إليه ـ إلى روايات الآخرين وأخبارهم ، ولا إلى ما قاله علماء الفرق الأخرى في كتبهم وأسفارهم.. فلا يتوهمن أحد أنهم ـ لاستدلالهم بشيء خارج عن نطاق أدلتهم وحججهم ـ يفقدون في ذلك المورد المستدل عليه الدليل المتقن على رأيهم ، فيلجأون إلى قول من غيرهم ، أو إلى خبر من غير طرقهم...
إلا أنهم لما كانوا واقعيين في بحوثهم ، منصفين في مناظراتهم مع أتباع


( 42 )

كل فرقة من الفرق ، يستندون إلى ما جاء في كتب تلك الفرقة وعلى لسان علمائها المعتمدين فيها ، وهذا ما تفرضه طبيعة المناظرة ، وتقضيه آدابها وقواعدها المقررة.
فاستشهاد الشيعة بخبر من كتاب.. أو استدلالهم بكلام عالم... لفرقة من الفرق.. لا يعني القبول بكل ما جاء في ذلك الكتاب ، أو على لسان ذاك العالم.. وإنما هو احتجاج على الطرف الآخر بما لا مناص له من الالتزام به ، بعد الإقرار بذلك الكتاب ، وبكون ذلك العالم من علماء مذهبه...
ويكفي للاحتجاج أن يكون ذلك الخبر المستدل به مقبولا لدى رواته ، وفي نظر المحدث الذي أورده في كتابه ، ولا يشترط أن يكون معتبرا عند جميع علماء تلك الطائفة ، وذلك :
لأن الغرض إثبات أن الذي تذهب إليه الشيعة مروي من طرق الخصم وموجود في كتبه ، وأن الراوي له موثوق به عنده ولو على بعض الآراء ، فيكون الخبر متفقا عليه ، والمتفق عليه بين الطرفين ـ في مقام المناظرة ـ لا ريب فيه.
ولأن الخبر أو الراوي المقبول المعتبر لدى كل علماء تلك الطائفة نادر جدا.
نعم ، إذا كان ضعيفا عند أكثرهم لم يتم الاستدلال والاحتجاج به عليهم.
* وعلى الجملة ، فإنه يكفي لصحة الاستدلال بكتاب أو بخبر أو بكلام عالم.. ألا يكون معرضا عنه لدى أكثر أئمة الفرقة المقابلة ؛ وأما أن يرد الاحتجاج ـ بما رواه الراوي الموثق من قبل بعضهم ـ بجرح البعض.. فهذا مما لا يسمع ، وإلا يلزم سقوط أخبار حتى مثل « البخاري » و« مسلم » في كتابيهما المعروفين بـ « الصحيحين » لوجود الطعن فيهما وفي كتابيهما ، من غير


( 43 )

واحد من كبار الأئمة الحفاظ (1).
فقد ذكر كبار الحفاظ امتناع الإمامين الجليلين : أبي زرعة وأبي حاتم الرازيّين عن الرواية عن « محمد بن إسماعيل البخاري » لأجل انحرافه في العقيدة في نظرهما ، وقال الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عن البخاري من أجل ما كان منه في المحنة.
ولأجل هذا ، فقد أورد ابن أبي حاتم الرازي البخاري في كتابه في « الجرح والتعديل » (2).
ولأجل تكلم أبي زرعة وأب حاتم ، وما صنعه ابن أبي حاتم.. فقد أورد الحافظ الذهبي البخاري في كتابه « المغني في الضعفاء » فقال : « حجة إمام ، ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللفظ » (3).
وأضاف الحافظ الذهبي بترجمة البخاري تكلم الإمام الكبير محمد بن يحيى الذهلي فيه ، وأنه كان يقول : « من ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه ، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه » (4).
بل ذكر الذهبي أن الإمام الذهلي أخرج البخاري ومسلما من مدينة نيسابور (5).
وقال بترجمة الذهلي : « كان الذهلي شديد التمسك بالسنة ، قام على محمد بن إسماعيل ، لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أن تلفظ
____________
(1) هذا حال البخاري إمامهم في الحديث ، وسنشير إلى حال إمامهم في العقائد وهو : أبو الحسن الأشعري. ولعلنا نتعرض لحال أئمتهم في الفقه وهم : الأئمة الأربعة ! وإمامهم في التفسير هو : الفخر الرازي... في المواضع المناسبة. إن شاء الله تعالى.
(2) وذكر ذلك الذهبي في : سير أعلام النبلاء 12 | 462.
(3) المغني في الضعفاء 2 | 557.
(4) سير أعلام النبلاء 12 | 453.
(5) سير أعلام النبلاء 12 | 455.

( 44 )

القاري بالقرآن مخلوق... وسافر ابن إسماعيل مختفيا من نيسابور وتألم من فعل محمد بن يحيى » (1).
وقد تألم غير واحد من أعلام القوم من موقف الذهبي من البخاري حين أورده في كتاب « الضعفاء ».
قال السبكي : « ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح : حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه بذلك.
وإليه أشار الرافعي بقوله : وينبغي أن يكون المزكون برآء من الشحناء والعصبية في المذاهب ، خوفا من أن يحملهم على جرح عدل أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة ، جرحوا بناء على معتقدهم ، وهم المخطئون والمجروح مصيب.
وقد أشار شيخ الإسلام ، سيد المتأخرين : تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه ( الاقتراح ) إلى هذا وقال : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام.
قلت : ومن أمثلته : قول بعضهم في البخاري : تركه أبو زرعة وأبو حاتم ، من أجل مسألة اللفظ.
فيا لله والمسلمين ! أيجوز لأحد أن يقول : البخاري متروك ؟! وهو حامل لواء الصناعة ، ومقدم أهل السنة والجماعة » (2).
فهذه عبارة السبكي ، ولم يصرح باسم القائل بذلك وهو الذهبي ، لكن المنّاوي صرح باسمه ، واتهمه بالغض والغرض من أهل السنة ، وكأنه ليس الذهبي من أهل السنة !! فقال بترجمة البخاري :
« زين الأمة ، افتخار الأئمة ، صاحب أصح الكتب بعد القرآن ، ساحب
____________
(6) سير أعلام النبلاء 12 | 283.
(7) طبقات الشافعية 1 | 190.

( 45 )

ذيل الفضل على مر الزمان ، الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم منه. وقال بعضهم : إنه آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض.
قال الذهبي : كان من أفراد العالم ، مع الدين والورع والمتانة. هذا كلامه في الكاشف.
ومع ذلك غلب عليه الغض من أهل السنة فقال في ( كتاب الضعفاء والمتروكين ) : ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ ، تركه لأجلها الرازيان.
هذه عبارته ، وأستغفر الله تعالى. نسأل الله السلامة ، ونعوذ به الخذلان » (1).
* ونستفيد من هذه القضية أمورا :
1 ـ ما ذكرناه سابقا من أنه لو اشترط ـ في صحة استدلالاتنا بأخبار القوم وأقوالهم ـ كون الخبر معتبراً عند جميعهم ، أو كون راويه موثقا عند كلهم .. لانسدّ باب البحث ، لعدم وجود هكذا خبر أو راو فيما بينهم.
2 ـ إن البخاري ومسلما مجروحان عند جماعة من الأئمة ، فتكون روايتهما في كتابيهما ـ كسائر الكتب والروايات ـ خاضعة لموازين الجرح والتعديل.. إن لم نقل بأن مقتضى الطعن المذكور فيهما سقوط رواياتهما عن الاعتبار رأسا.. وهناك أحاديث كثيرة في الكتابين قد نص العلماء المحققون الكبار على بطلانها ، يطول بنا المقام لو أردنا ذكرها ، فراجع بعض مؤلفاتنا (1).
3 ـ إن الذهبي ـ وهو من أكابر أئمة القوم في الجرح والتعديل ـ له مجازفات في تعديلاته وتجريحاته.. فليس كل ما يقوله الذهبي في حق الرجال حقا ، وإلا كان ما قاله وفعله في حق « البخاري » صحيحا مقبولا ، وقد قال
____________
(1) فيض القدير 1 | 24.
(2) التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف 293 ـ 336.

( 46 )

المناوي بعد نقله : « نسأل الله السلامة ونعوذ به من الخذلان ».
4 ـ إنه ينبغي أن يتفقد حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح ، وأن يكون المزكون والجارحون برآة من الشحناء والعصبية في المذهب. وهذا ما أكده الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضا ، حين قال :
« وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح : من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد ، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم ، بلسان النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتقوقف في جرح من ذكره منهم ، بلسان ذلقه وعبارة طلقة ، حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيدالله بن موسى وأساطين الحديث واركان الرواية. فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثق رجلا ضعفه قبل التوثيق... » (1).
* وقد تبع الجوزجاني بعض من كان على مسلكه من المتأخرين ، فأخذوا يطعنون في الراوي بمجرد روايته ما يدل على فضيلة لعليّ وأهل البيت عليهم السلام ، أو ما يدل على قدح في واحد من مناوئيهم ، ويقولون عنه « شيعي » « رافضي » ونحو ذلك ، والحال أن التشيع ـ كما يقول الحافظ ابن حجر ـ : « محبة عليّ وتقديمه على الصحابة » (2).
والذين يقدمون عليا عليه السلام على غيره من الصحابة كثيرون حتى في الصحابة.. قال الحافظ ابن عبد البر : « وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخبّاب وجابر وابي سعيد الخدري وزيد بن أرقم : إن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أول من أسلم. وفضله هؤلاء على غيره » (3).
فالتشيع لا يضر بالوثاقة عنهم ولا يمنع من الاعتماد. قال ابن حجر
____________
(1) لسان الميزان 1 | 16.
(2) هدي الساري 460.
(3) الاستيعاب 3 | 1090.

( 47 )

بترجمة « خالد بن مخلد القطواني الكوفي » وهو من رجال البخاري :
« من كبار شيوخ البخاري ، روى عنه وروى عن واحد عنه. قال العجلي : ثقة وفيه تشيع. وقال ابن سعد : كان متشيعا مفرطا. وقال صالح جزرة : ثقة إلا أنه يتشيع. وقال أبو حاتم ، يكتب حديثه ولا يحتج.
قلت : أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره ، سيما ولم يكن داعية إلى رأيه » (1).
وقال ابن حجر بترجمة « عباد بن يعقوب الرواجني » من رجال البخاري :
« رافضي مشهور ، إلا أنه كان صدوقا ، وثقه أبو حاتم ، وقال الحاكم : كان ابن خزيمة إذا حدث عنه يقول : حدثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه : عباد ابن يعقوب. وقال ابن حبان : كان رافضيا داعية. وقال صالح بن محمد : كان يشتم عثمان رضي الله عنه.
قلت : روى عنه البخاري في كتاب التوحيد حديثا واحدا مقرونا ، وهو حديث ابن مسعود : أي العمل أفضل ؟ وله عند البخاري طريق أخرى من رواية غيره » (2).
وقال الذهبي بترجمة « أبان بن تغلب » :
« شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته ، وقد وثقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم. وأورده ابن عدي وقال : كان غالبا في التشيع. وقال السعدي : زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحد الثقة العدالة والإتقان ؟! فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة ؟!
وجوابه : إن البدعة على ضربين ، فبدعة صغرى ، كغلو التشيع ، أو
____________
(1) هدي الساري : 398.
(2) هدي الساري : 410.

( 48 )

كالتشيع بلا غلو وتحرق ؛ فهذا كثير في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ؛ فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بينة » (1).

أقول :
وعلى هذا الأساس أيضا تسقط مناقشات بعض الكتاب في أسانيد الأحاديث التي يستدل بها الشيعة الاثنا عشرية من كتب أهل السنة.. لكن بعض المتعصبين يقدح في الرجل إذا كان شيعيا ـ أي يفضل عليا عليه السلام على غيره من الصحابة ـ ويكره الرواية عنه ، حتى وإن كان من الصحابة ، مع أن المشهور فيما بين أهل السنة عدالة الصحابة أجمعين ! قال الحافظ ابن حجر بترجمة « عامر بن واثلة أبو الطفيل الليثي المكي » :
« قال ابن عدي : كان الخوارج يرمونه باتصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته ، وليس بحديثه بأس. وقال ابن المديني : قلت لجرير : أكان المغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل ؟ قال : نعم. وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه : مكي ثقة. وكذا قال ابن سعد وزاد : كان متشيعا.
قلت : أساء أبو محمد ابن حزم فضعف أحاديث أبي الطفيل وقال : كان صاحب راية المختار الكذاب. وأبو الطفيل صحابي لا شك فيه ، لا يؤثر فيه قول أحد ، ولا سيما بالعصبية والهوى » (2).

قلت :
فالحمد لله الذي أجرى على لسان مثل ابن حجر العسقلاني أن ابن حزم
____________
(1) ميزان الاعتدال 1 | 5.
(2) هدي الساري : 410.

( 49 )

يتكلم « بالعصبية والهوى » وقد حط على هذا الرجل أبو بكر ابن العربي.
وقال أبو العباس ابن العريف الصالح الزاهد : « لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان ».
وقال مؤرخ الأندلس أبو مروان ابن حبان : « ومما يزيد في بغض الناس له تعصبه لبني أمية ، ماضيهم وباقيهم ، واعتقاده بصحة إمامتهم ، حتى نسب إلى النصب ».
وقال ابن خلّكان : « كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين ، لا يكاد يسلم أحد من لسانه. قال ابن العريف : كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين. قاله لكثرة وقوعه في الأئمة ، فنفرت منه القلوب ، واستهدف لفقهاء وقته ، فتمالؤا على بغضه ، وردوا قوله ، واجتمعوا على تضليله... ».
ووصفه الآلوسي عند ذكره بـ « الضال المضل ».
انظر : لسان الميزان 4 | 189 ، وفيات الأعيان 3 | 325 ، تفسير الآلوسي 21 | 76.

قلت :
ومما يشهد بنصبه قوله في المحلى 10 | 482 : « ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا رضي الله عنه إلا متأولا مجتهدا مقدراً على أنه صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطان شاعر الصفرية... ».
وقد كان على شاكلة ابن حزم في القول بالعصبية والهوى :
* أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ، فقد أفرط هذا الرجل في كتبه لا سيما في كتابيه « العلل المتناهية » و« الموضوعات » حتى رد عليه كبار المحققين ، فنصوا على بطلان كثير من أقواله وآرائه.
قال الحافظ النووي : « وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو المجلدين ،


( 50 )

أعني أبا الفرج ابن الجوزي ، فذكر كثيرا مما لا دليل على وضعه... ».
وقال الحافظ السيوطي : « فذكر في كتابه كثيرا مما لا دليل على وضعه ، بل هو ضعيف ، بل وفيه الحسن والصحيح ، وأغرب من ذلك : أن فيها حديثا من صحيح مسلم كما سأبينه.
قال الذهبي : ربما ذكر ابن الجوزي في الموضوعات أحاديث حساناً قوية.
قال : ونقلت من خط السيد أحمد بن أبي المجد قال : صنّف ابن الجوزي كتاب ( الموضوعات ) فأصاب في ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل والعقل ما لم يصب فيه إطلاقه بالوضع على أحاديث ، بكلام بعض الناس في أحد رواتها ، كقوله : فلان ضعيف أو : ليس بالقوي أو : ليّن ، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه ، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع ، ولا حجة بأنه موضوع سوى كلام ذلك الرجل وفي رواية. وهذا عدوان ومجازفة » (1).
وقال ابن عراق : « وللإمام الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي فيها كتاب جامع ، إلا أنّ عليه مؤاخذات ومناقشات... » (2).
وقد أورد ابن الجوزي في كتابه « العلل المتناهية في الأحاديث الواهية » حديث : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » فاعترضه بشدة كبار المحدثين المتأخرين عنه :
قال السخاوي : « وتعجبت من إيراد ابن الجوزي له في ( العلل المتناهية ) بل أعجب من ذلك قوله : إنه حديث لا يصح. مع ما سيأتي من طرقه التي بعضها في صحيح مسلم » (3).
____________
(1) تدريب الراوي 1 | 235.
(2) تنزيه الشريعة 1 | 3.
(3) استجلاب ارتقاء الغرف ـ مخطوط.

( 51 )

وقال السمهودي : « ومن العجيب ذكر ابن الجوزي له في ( العلل المتناهية ) فإياك أن تغتر به. وكأنه لم يستحضره حينئذ » (1).
وقال المنّاوي : « ووهم من زعم ضعفه كابن الجوزي » (2).
بل هناك كلمات كثيرة في الحط على ابن الجوزي نفسه :
قال ابن الأثير : « وفي هذه السنة ـ في شهر رمضان ـ توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي الحنبلي ، الواعظ ببغداد ، وتصانيفه مشهورة ، وكان كثير الوقيعة في الناس ، لا سيما في العلماء المخالفين لمذهبه » (3).
وقال أبو الفداء : « كان كثير الوقيعة في العلماء » (4).
وقال الذهبي : « له وهم كثير في توالفيه ، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحول إلى مصنف آخر ، ومن أن جل علمه من كتب وصحف ما مارس فيه أرباب العلم كما ينبغي » (5).
وقال ابن حجر : «... دلت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل لا ينتقد ما يحدث به » (6).
وقال السيوطي : « قال الذهبي في التاريخ الكبير : لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة ، بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه » (7).
وقال اليافعي : « وفيها أخرج ابن الجوزي من سجن واسط وتلقاه الناس ،
____________
(1) جواهر العقدين ـ مخطوط.
(2) فيض القدير 3 | 14.
(3) الكامل في التاريخ ـ حوادث سنة 597هـ.
(4) المختصر في أخبار البشر ـ حوادث سنة 597هـ.
(5) تذكرة الحفاظ 4 | 1342.
(6) لسان الميزان 2 | 84 ، ترجمة ثمامة بن أشرس.
(7) طبقات الحفاظ : 478.

( 52 )

وبقي في المطمورة خمس سنين ، كذا ذكره الذهبي... » (1).
* وأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني ، فد طعن في كثير من الرجال وفي كثير من الأحاديث والأخبار ، وفي كثير من مصنفات أهل السنة لروايتها ما يتمسك به الإمامية.. ولقد تمادى هذا الرجل في غية حتى انبرى كبار علماء أهل السنة من أهل المذاهب الأربعة للفتوى ضده ، ثم أمر بأن ينادى بالحط عليه والمنع من اتّباعه ، ثم حبس ، حتى مات في الحبس.
* وشمس الدين الذهبي ، صاحب المؤلفات الكثيرة وتلميذ ابن تيمية الحراني والملازم له (2) فقد حكم على كثير من الأحاديث الصحيحة بالوضع ، وطعن في كثير من الرجال وأسقط رواياتهم عن درجة الاعتبار.. وقد فعل ذلك بالنسبة إلى كثير من أئمة أهل السنة ومحدثيهم المشاهير في كتابيه « ميزان الاعتدال » و« المغني في الضعفاء » حتى أدرج في الثاني « محمد بن إسماعيل البخاري » كما تقدم.
وقال السبكي بترجمته : « كان شديد الميل إلى آراء الحنابلة ، كثير الازدراء بأهل السنة ، الذين إذا حضروا كان أبوالحسن الأشعري فيهم مقدم القافلة ، فلذلك لا ينصفهم في التراجم ، ولا يصفهم بخير إلا وقد رغم منه أنف الراغم. صنف ( التاريخ الكبير ) وما أحسنه لولا تعصب فيه ، وأكمله لولا نقص فيه وأي نقص يعتريه » (3).
وقال : « وأما تاريخ شيخنا الذهبي غفر الله له ، فإنه ـ على حسنه وجمعه ـ مشحون بالتعصب المفرط ، لا واخذه الله. فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين ، أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق ، واستطال بلسانه على أئمة الشافعيين
____________
(1) مرآة الجنان ـ حوادث سنة 595هـ.
(2) وكم لقي الذهبي من الأذى والعنت لهذه العلاقة بابن تيمية. قاله محقق كتاب « العبر » في المقدمة.
(3) طبقات الشافعية 2 | 22.

( 53 )

والحنفيين ، ومال فأفرط على الأشاعرة ، ومدح فزاد في المجسمة. هذا وهو الحافظ المدره ، والإمام المبجل ، فما ظنك بعوام المؤرخين » (1).
وعن تلميذه صلاح الدين العلائي : « الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي ، لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله الناس ، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ، ومنافرة التأويل ، والغفلة عن التنزيه ، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه ، وميلا قويا إلى أهل الإثبات. فإذا ترجم لواحد منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ، ويبالغ في وصفه ، ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن ، وإذا ذكر أحدا من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ، ويكثر نم قول من طعن فيه ، ويعيد ذلك ويبديه ، ويعتقده دينا وهو لا يشعر ، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها ، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها... » (2).
قال السبكي : « والذي أدركنا عليه المشايخ : النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله ، ولم يكن يستجرئ أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه » (3).
قال : « كان يغضب عند ترجمته لواحد من علماء الحنفية والمالكية والشافعية غضبا شديدا ، ثم يقرطم الكلام ويمزقه ، ثم هو مع ذلك غير خبير بمدلولات الألفاظ كما ينبغي ، فربما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها لما نطق بها » (4).
____________
(1) طبقات الشافعية 9 | 103.
(2) طبقات الشافعية 2 | 13.
(3) طبقات الشافعية 2 | 13.
(4) طبقات الشافعية 2 | 14.

( 54 )

أقول :
عجيب ! ابن الجوزي سجن ، ابن تيمية سجن حتى مات في السجن ، ابن حزم مزقت كتبه وأحرقت ونفي حتى مات في المنفى ، والذهبي ينهى عن النظر في كلامه ، ولا يعتمد قوله ، ويلاقي الأذى...
هذا حال هؤلاء في أهل السنة... وقد أصبحوا أئمة يقتدي بهم المتأخرون من الكتاب ويستندون إلى أقوالهم !!
وأيضا : إذا كان هؤلاء مشهورين بالتعصب وبالوقيعة في العلماء ـ إذا لم يكونوا على مذاهبهم ـ في أقوالهم في السِيَر والتواريخ وغيرها ، فكيف يرتجى منهم الإنصاف والإقرار بالحق مع الشيعة وأئمتهم ورجالهم... ؟!!

***