* قال السيد :
في هامش الحديث الأخير من أحاديث الثقلين التي استدل بها : « وأنت تعلم... » وقد تقدمت عبارته.

فقيل :
« إن المؤلف لا يكفيه أن يبنى قصورا على أوهام ، ولا أن يستشهد بالباطل على ما يريد ، بل يذهب أبعد من ذلك ، فيتخرّص ـ رجما بالغيب ـ ويتهم نقلة الأحاديث ورواتها من أهل السنة : بأنهم خانوا الأمانة ، واختصروا كثيرا من رواياتهم ، خوفا من حاكم. ويقصد أنهم زوروا الحقائق ، وحذفوا ما يتعلق بالوصية لعلي بالخلافة ! وكأنه مقر ـ في قرارة نفسه ـ أن كل ما يستشهد به على هذه القضية لا يكفي ولا يشفي غليلا ، فمشى خطوة أخرى فيما وراء النصوص ، وهي مكذوبة ، وتقوّل من غير دليل ، واتهم من غير حجة ، وادعى أن هذه النصوص حدف أكثرها ، وألصقها تعلقا بالمسألة !! ».

أقول :
أما السب فلا نقابله فيه بالمثل !
والحق معا السيد ـ رحمه الله ـ فيما قال ، لأن المستفاد من تتبع ألفاظه حديث الغدير في كتب أهل السنة ـ ويساعده الاعتبار وشواهد الأحوال ـ هو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد خطبهم ـ :
ففي « المسند » : « فخطبنا » (1).
وفي « المستدرك على الصحيحين » : « قام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ،
____________
(1) مسند أحمد 4 | 372.
( 104 )

وذكّر ووعظ ، فقال ما شاء الله أن يقول » (1).
وفي « مجمع الزوائد » : « فوالله ما من شيء يكون إلى يوم الساعة إلا قد أخبرنا به يومئذ. ثم قال : أيها الناس... » (2).
فأين النص الكامل لتلك الخطبة ؟!
ولماذا لم يرووا مواعظ الرسول وإرشاداته ؟!
وإذا كان قد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بكل شيء يكون إلى يوم الساعة ، وبيّن وظيفة الأمة ، فما الذي حملهم على إخفائه عن الأمة ؟!
لقد حرموا الأمة من هدي الرسول وتعاليمه وإرشاداته ، بدلا من أن ينقلوها ويكونوا دعاة إليها وناشرين لها...
وإن الذي حملهم على كتم كثير من الحقائق ! وإن الذي منعهم من نقلها هو نفس ما منعهم من أن يقرّبوا إليه دواة وقرطاسا ليكتب للأمة كتابا لن يضلوا بعده !

* قال السيّد :
« 4 ـ والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيا متضافرة ، وقد صدع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف له شتى : تارة يوم غدير خم كما سمعت ، وتارة يوم عرفة في حجة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه والحجرة غاصة بأصحابه ، إذ قال : أيها الناس يوشك أن أقبض... ».
قال في الهامش : « راجعه في أواخر الفصل 2 من الباب 9 من الصواعق
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 3 | 109.
(2) مجمع الزوائد 9 | 105 وقد وثق رجاله.

( 105 )

المحرقة لابن حجر ، بعد الأربعين حديثا من الأحاديث المذكورة في ذلك الفصل ، ص 75 ».

قيل :
« يكفي أن يعلم أن هذا الذي ساقه على أنه قاله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في مرضه والحجرة غاصة بأصحابه ، ليس في كتاب من كتب الحديث المعتبرة ، وقد أورده من غير سند ، فالاحتجاج به ساقط حتى تثبت قضيتان : سنده أولا ، ثم صدق هذا السند. وهيهات له أن يثبت هاتين القضيتين ، وليس ذكره لكتاب الصواعق لابن حجر المكي بمصحح هذا الحديث ، ولا بدليل على صحة الاحتجاج به. فابن حجر هذا ليس من علماء الحديث ، ولا له في هذه الصناعة باع ولا ذراع. ومن تأمل كتابه ( الصواعق ) وما حشاه به من الاحاديث الضعيفة والموضوعة يتيقن أن كتابه لا يأبه به إلا أمثال المؤلف وبني جلدته. على أن ابن حجر لم يسلم حتى من هجوم المؤلف عبد الحسين ، وجازاه جزاء سنمار ».

أقول :
عدم اعتراضه إلا على حديث صدوره في مرضه في الحجرة ، ظاهر في موافقته على صدور حديث الثقلين يوم غدير خم ، ويوم عرفة في حجة الوداع ، وبعد انصرافه من الطائف ، وعلى منبره في المدينة ، ووجود ذلك في كتب الحديث المعتبرة ، وعليه يكون موافقا على صدور الحديث في مواقف متعددة ، فيناقض إنكاره ذلك في كلماته السابقة.
وأما رواية أنه قاله في مرض موته فقد جاء في « الصواعق » بعدما روى الحديث بعد انصرافه من الطائف عن ابن أبي شيبة : « وفي رواية... ».
فابن حجر لم يعز هذا الحديث إلى كتاب ، لكن بالتأمل في كلامه يظهر


( 106 )

تصحيحه له ، لأنه بعدما أورد الحديث السابق عن ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : « وفيه رجل اختلف في تضعيفه ، وبقية رجاله ثقات » (1). ثم أرود هذا الحديث ولم يتكلم على سنده بشيء... ونحن تكفينا رواية ابن حجر لهذا الحديث لا سيما مع سكوته عن سنده ، لأنه من كبار علماء أهل السنة المدافعين عن الخلفاء ومعاوية وحكومة الطلقاء ، كما لا يخفى على من راجع « الصواعق » و« تطهير الجنان » وغيرهما مما كتبه في هذا الشأن.
ومع ذلك... نذكر واحدا من رواة هذا الحديث ، المتقدمين على ابن حجر المكي... ألا وهو الحافظ السمهودي (2) ، فإنه نص على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك في مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ، كما في رواية لأم سلمة.
ولا بأس بنقل متن عبارته في التنبيه الخامس من تنبيهات حديث الثقلين :
« خامسها : قد تضمنت الأحاديث المتقدمة الحث البليغ على التمسك بأهل البيت النبوي وحفظهم واحترامهم والوصية بهم ، لقيامه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بذلك خطيبا يوم غدير خم ، كما في أكثر الروايات المتقدمة ، مع ذكره لذلك في خطبته يوم عرفة على ناقته ، كما في رواية الترمذي عن جابر ، وفي خطبته لما قام خطيبا بعد انصرافه من حصار الطائف ، كما في رواية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وفي مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت
____________
(1) الصواعق المحرقة : 75.
(2) هو : الحافظ نور الدين عليّ بن عبد الله سمهودي ، المتوفى سنة 911 هـ.
قال الحافظ السخاوي بترجمته بعد كلام له : « وبالجملة ، فهو إنسان فاضل متفنن متميز في الفقه والأصلين ، مديم للعمل والجمع والتأليف ، متوجه للعبادة وللمباحثة والمناظرة ، قوي الجلادة على ذلك ، طلق العبارة فيه ، مغرم به ، مع قوة نفس وتكلف ، خصوصا في مناقشات لشيخنا في الحديث ونحوه ». الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 5 | 245




( 107 )

الحجرة من أصحابه ، كما في رواية لأم سلمة.
بل سبق قول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : انظروا كيف تخلفوني فيهما.
وقوله : ألا وإني سائلكم كيف خلفتموني في كتابه وأهل بيتي.
وقوله : ناصرهما لي ناصر وخاذلهما لي خاذل.
و : أوصيكم بعترتي خيرا.
و : أذكركم الله في أهل بيتي.
على اختلاف الألفاظ في الروايات المتقدمة.
مع قوله ـ في رواية عبد الله بن زيد عن أبيه ـ : فمن لم يخلفني فيهم بتر عمره ، وورد عليّ يوم القيامة مسودا وجهه.
وفي الحديث الآخر : فإني أخاصمكم عنهم غدا ، ومن أكن خصيمه أخصمه ، ومن أخصمه دخل النار.
وفي الآخر : من حفظني في أهل بيتي فقد اتخذ عند الله عهدا.
مع ما اشتملت عليه ألفاظ الأحاديث المتقدمة على اختلاف طرقها ، وما سبق فيما أوصى به أمته وأهل بيته.
فأي حث أبلغ من هذا وآكد منه ؟!
فجزى الله تعالى نبيه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عن أمته وأهل بيته أفضل ما جزى أحدا من أنبيائه ورسله عليهم السلام » (1).

* قال السيد :
« 5 ـ على أن المفهوم من قوله : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن
____________
(1) جواهر العقدين ق2 ج1 | 115 ـ 116
( 108 )

تضلوا : كتاب الله وعترتي ) : إنما هو ضلال من لم يتمسك بهما معا كما لا يخفى.
ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث الثقلين عند الطبراني ـ : ( فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ).
قال ابن حجر : وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم : دليل على أن من تأهل منهم للمراتب العلية والوظائف الدينية كان مقدما على غيره » إلى آخر كلامه.

قيل :
في الاعتراض على الحديث عن الطبراني :
« هذا جزء من حديث رواه الطبراني عن زيد بن أرقم. وفي هذا السند : حكيم بن جبير. وهو ضعيف. ورمي بالتشيع كما قال المباركفوري. مجمع الزوائد 9 | 163.
على أن هذا الحديث ـ لو صح ـ فإن دلالته تشمل بني هاشم جميعا وهم عشيرته صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، لا أبناء عليّ وفاطمة فقط.
ومع غض النظر عن مناقشة ابن حجر المكي فيما استنبطه من حكم من هذا الحديث الضعيف ، هل يصح هذا الحديث دليلا على هذا الحكم ؟ ثم أليس في هذا الدليل على عدم أصالة آراء ابن حجر وضعفه الفاضح في الحديث واستنباطه الأحكام ؟ ».

أقول :
* أما المفهوم من حديث الثقلين ـ كما ذكره السيد ـ فلا ينكره أحد.


( 109 )

* وأما الحديث المؤيد فهذا سنده :
« حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا جعفر بن حميد (ح) حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا النضر بن سعيد أبو صهيب ، قالا ثنا عبد الله بكير ، عن حكيم بن جبير ، عن أبي الطفيل ، عن زيد بن أرقم ، قال : نزل النبي صلى الله عليه [ وآله ] » وسلم يوم الجحفة. ثم أقبل على الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
إني لا أجد لنبي إلا نصف عمر الذي قبله ، وإني يوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نصحت. قال : أليس تشهدون أن لا إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حق والنار حق وأن البعث بعد الموت حق ؟ قالوا : نشهد. قال : فرفع يديه فوضعهما على صدره ثم قال : وأنا أشهد معكم. ثم قال : ألا تسمعون ؟ قالوا : نعم. قال :
فإني فرطكم على الحوض ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، وإن عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله ؟
قال : كتاب الله طرف بيد الله [ عز وجل ] وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلوا ؛ والآخر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ، وسألت ذلك لهما ربي.
فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولاتعلّموهم فإنهم أعلم منكم.
ثم أخذ بيد عليّ ـ رضي الله عنه ـ فقال : من كنت أولى به من نفسه فعليّ وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » (1).
____________
(1) المعجم الكبير 5 | 166 ـ 167.
( 110 )

وهذا الحديث رواه الحافظ السيوطي بتفسير قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) (1).
وكذا الشيخ المتقي الهندي (2).
وقد روى الشيخ المتقي الهندي قبل ذلك هذا الحديث عن الطبراني عن زيد بن ثابت ، قال :
« إني لكم فرط ، إنكم واردون عليّ الحوض ، عرضه ما بين صنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب من قدحان الذهب والفضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين ؟
قيل : وما الثقلان يا رسول الله ؟
قال : الأكبر كتاب الله ، سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به لن تزلوا ولا تضلوا ؛ والأصغر عترتي ، وإنهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ؛ وسألت لهما ذلك ربي ، ولا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهما فإنهما أعلم منكم.
طب عن زيد بن ثابت » (3).
ألا يليق هذا الحديث المروي في هذه الكتب ، عن اثنين من مشاهير الأصحاب ، لأن يكون « مؤيدا » ؟!
* ثم إن الحديث عن زيد بن أرقم لم يناقش في سنده إلا من جهة « حكيم بن جبير ».. وقد راجعنا ترجمته في « تهذيب التهذيب » (4) فوجدناه من رجال أربعة من الصحاح الستة ، وإن من الرواة عنه :
« الأعمش ، والسفيانان ، وزائدة ، وفطر بن خليفة ، وشعبة ، وشريك ،
____________
(1) الدر المنثور 2 | 60.
(2) كنز العمال 1 | رقم 957.
(3) كنز العمّال 1 | رقم 946.
(4) تهذيب التهذيب 2 | 383.

( 111 )

وعلي بن صالح ، وجماعة ».. « وقال الفلاس : كان يحيى يحدث عنه ».
ثم إنّ السبب في تضعيف بعضهم إياه هو « التشيع » ليس إلا :
« قال ابن أبي حاتم : سألت أبا زرعة عنه فقال : في رأيه شيء. قلت : ما محله ؟ قال : الصدق إن شاء الله ».
وقد تقدم ـ ويأتي ـ أن « التشيع » غير قادح.
* وأما دعوى أن الحديث يشمل بني هاشم كلهم ، فجهل أو تجاهل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن التقدم على « عترته » وعن تعليمهم ، ويعلل ذلك : بأنهم أعلم منكم ، وكيف يشمل هذا جميع بني هاشم ؟!
وليت الرجل راجع كلمات شراح الحديث من أبناء مذهبه ! فإن الذي قاله ابن حجر المكي قد نص عليه غير واحد من أعلام الحديث والعلماء الحفاظ :
قال القاري في شرح المشكاة : « أقول : والأظهر هو أن أهل البيت غالبا يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله. فالمراد بهم أهل العلم منهم ، المطلعون على سيرته ، الواقفون على طريقته ، العارفون بحكمه وحكمته. وبهذا يصلح أن يكونوا مقابلا لكتاب الله سبحانه كما قال : ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ). ويؤيده ما أخرجه أحمد في المناقب ، عن حميد بن عبدالله بن زيد : أن النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم ذكر عنده قضاء قضى به علي بن أبي طالب فأعجبه وقال ك الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت... » (1).
وقا المناوي : « وعترتي أهل بيتي. تفصيل بعد إجمال ، بدلا أو بيانا. وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » (2).
____________
(1) المرقاة في شرح المشكاة 5 | 600.
(2) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 | 14.

( 112 )

وقال عبد الحق الهندي : « والعترة رهط الرجل وأقرباؤه وعشيرته الأدنون ، وفسره صلى الله عليه [ وآله ] بقوله : وأهل بيتي ، للإشارة إلى أن مراده هنا من العترة : أخص عشيرته وأقاربه. وهم أولاد الجد القريب. أي : أولاده وذريته صلى الله عليه [ وآله ] وسلم » (1).
وقال السمهودي : « الذين وقع الحث على التمسك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : هم العلماء بكتاب الله عز وجل ، إذ لا يحث صلى الله عليه [ وآله ] وسلم على التمسك بغيرهم ، وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق ، حتى يردا الحوض. ولهذا قال : لا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا » (2).
* وأما الحكم الذي استنبطه ابن حجر من الحديث ـ والذي لأجله تهجم عليه هذا الرجل ـ فهو موجود كذلك في كلام غير ابن حجر من أئمة الحديث :
ففي « جواهر العقدين » و« شرح المواهب اللدنية » و« فيض القدير » : « أن ذلك يفهم وجود من يكون أهلا للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة ، حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به ، كما أن الكتاب العزيز كذلك. ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أمانا لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض » (3).
____________
(1) أشعة اللمعات في شرح المشكاة 4 | 681.
(2) جواهر العقدين ق2 ج1 | 93.
(3) جواهر العقدين ق2 ج1 | 94 ، فيض القدير 3 | 15 ، شرح المواهب اللدنية 7 | 8.

( 113 )

حديث السفينة


قال السيد :
« 6 ـ ومما يأخذ بالأعناق إلى أهل البيت ويضطر المؤمن إلى الانقطاع في الدين إليهم : قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ».
قال في الهامش : « أخرجه الحاكم بالأسناد إلى أبي ذر ، ص151 من الجزء الثالث من المستدرك ».
* « وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له ».
قال في الهامش : « أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد ، وهذا هو الحديث 18 من الأربعين ، الخامسة والعشرين من الأربعين أربعين للنبهاني ، ص 261 من كتابه الأربعين أربعين حديثا ».

أقول :
أولا : لقد اقتصر السيد ـ رحمه الله ـ على هذين الفظين من ألفاظ حديث السفينة ، عن الحاكم النيسابوري والحافظ الطبراني ، بالإسناد إلى إثنين من الصحابة ، هما : أبوذر الغفاري ، وأبوسعيد الخدري. وهذا كاف للاحتجاج ، لكون الحاكم الطبراني من أكبر أئمة الحديث عند القوم.
وثانيا : حديث السفينة مروي في كتب القوم بالطرق الكثيرة عن عدة من الصحابة غير من ذكر ، وهم :
1 ـ أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام.


( 114 )

2 ـ عبد الله بن عباس.
3 ـ أبو الطفيل عامر بن واثلة.
4 ـ أنس بن مالك.
5 ـ عبد الله بن زبير.
6 ـ سلمة بن الأكوع.

وثالثا : إن رواة حديث السفينة من كبار الأئمة والحفاظ المشاهير كثيرون ، ومن أشهرهم :
1 ـ أحمد بن حنبل ، إمام الحنابلة (1).
2 ـ مسلم بن الحجاج ، صاحب الكتاب « الصحيح » عندهم.
3 ـ أحمد بن عبد الخالق البزار ، في « المسند ».
4 ـ أبو بكر الخطيب البغدادي ، في « تاريخ بغداد ».
5 ـ الفخر الرازي ، في « تفسيره » الكبير ، بتفسير آية المودة.
6 ـ شمس الدين الذهبي ، في « الميزان » بترجمة : الحسن بن أبي جعفر الجفري.
7 ـ ابن حجر العسقلاني ، في « المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية».

ورابعا : إن من أعلام القوم من ينص على صحة الحديث ، أو يعترف بتعدد طرقه وأن بعضها يقوي بعضا ، وإليك عبارات بعضهم :
1 ـ قال الحاكم النيسابوري بعد أن أخرجه : « هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ».
2 ـ وقال ابن حجر المكي : « وجاء من طرق عديدة يقوّي بعضها بعضا :
____________
(1) انظر : مشكاة المصابيح 3 | 1742 ، تاريخ الخلفاء : 573.
( 115 )

إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا. وفي رواية مسلم (1) : ومن تخلف عنها غرق. وفي رواية : هلك. وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له الذنوب » (2).
3 ـ وقال شمس الدين السخاوي : « وبعض هذه الطرق يقوّي بعضا » (3).
4 ـ وقال جلال الدين السيوطي : « أخرجه الحاكم وهو صحيح » (4) وقال : « رواه البزار وأبو يعلى في مسنديهما ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وصححه » (5).
5 ـ ابن حجر المكي في « شرح الهمزية للبوصيري » بشرح قوله :

آل بيت النبي طبتم وطاب الـ * ـمدح لي فيكم وطاب الثناء

قال : « وصح حديث : إن مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ».
6 ـ وقال العيدروس اليمني : « وصح حديث : إن مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها هلك » (6).
7 ـ وقال السيد أحمد زيني دحلان : « وصح عنه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم من طرق كثيرة أنه قال : إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ـ وفي رواية : هلك ـ ومثل أهل بيتي فيكم
____________
(1) هذه الكلمة حرفوها إلى « سلم » كما حرفوا صحيح مسلم بإسقاط الحديث ! والشاهد بما ذكرنا هو أن الشيخ الجهرمي ذكر الكلمة كذلك : « وفي رواية مسلم » في ترجمته الحديث في كتابه « البراهين القاطعة في ترجمة الصواعق المحرقة » إلى الفارسية.
(2) الصواعق المحرقة : 140.
(3) استجلاب ارتقاء الغرف ـ مخطوط.
(4) نهاية الإفضال في مناقب الآل ـ مخطوط.
(5) الأساس في مناقب بني العباس ـ مخطوط.
(6) العقد النبوي والسر المصطفوي ـ مخطوط.

( 116 )

كمثل باب حطة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له » (1).
8 ـ وقال الشيخ محمد بن يوسف التونسي المالكي ، المعرف بالكافي : « روى البزار عن ابن عباس ، وأبو داود عن ابن زبير ، والحاكم عن أبي ذر ـ بسند حسن ـ : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ».
وقال بعد كلام له : « ويدل على ذلك : الحديث المشهور المتفق على نقله : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق.
وهو حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان ، لا يمكن لطاعن أن يطعن عليه ، وأمثاله في الأحاديث كثيرة » (2).
وخامسا : وقد بلغ هذا الحديث من الثبوت مبلغا جعل كبار علماء اللغة من أهل السنة يوردونه في كتبهم ، ويستشهدون بألفاظه على المعاني اللغوية :
قال ابن الأثير « زخ : فيه (3) : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من تخلف عنها زخ به في النار. أي : دفع ورمي ، يقال : زخه يزخه زخا » (4).
وقال ابن منظور : « وفي الحديث : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من تخلف عنها زخ في النار. أي : دفع ورمي. يقال زخه يزخه زخا » (5).
وقال الزبيدي : « وفي حديث : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من تخلف عنها زخ به في النار. أي دفع ورمي » (6).
____________
(1) الفضل المبين في فضائل الخلفاء الراشدين وأهل البيت الطاهرين. ط هامش السيرة الدحلانية. باب ذكر فضائل أهل البيت عليهم السلام.
(2) السيف اليماني المسلول في عنق من يطعن في أصحاب الرسول : 9.
(3) النهاية : مادة « زخ ».
(4) أي : في الحديث.
(5) لسان العرب : مادة « زخ ».
(6) تاج العروس في شرح القاموس : مادة « زخ ».

( 117 )

وسادسا : لقد ذكر كبار المحققين من علماء الحديث عند القوم ، الشارحون للسنة الكريمة والأقوال النبوية في معن حديث السفينة ، عبارات فيها الاعتراف الصريح بدلالته على ما تذهب إليه الشيعة الإمامية ، ولا بأس بذكر بعض تلك العبارات :
قال الطيبي بشرح الحديث عن أبي ذر الغفاري : « قوله : وهو آخذ باب الكعبة. أراد الراوي بهذا مزيد توكيد لإثبات هذا ، وكذا أبوذر اهتم بشأن روايته ، فأورده في هذا المقام على رؤوس الأنام ليتمسكوا به. وفي رواية له بقوله : من عرفني فأنا من قد عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : ألا : إن مثل أهل بيتي... الحديث. أراد بقوله : فأنا أبوذر ، المشهور بصدق اللهجة وثقة الرواية ، وأنه هذا حديث صحيح لا مجال للرد فيه. وهذا تلميح إلى ما روينا عن عبد الله ين عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء ، أصدق من أبي ذر. وفي رواية أبي ذر : من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى بن مريم ، فقال عمر بن الخطاب ـ كالحاسد ! ـ : يا رسول الله أفتعرف ذلك ؟! قال : ذلك فارفوه. أخرجه الترمذي وحسنه الصغاني في كشف الحجاب.
شبة الدنيا بما فيها من الكفر والضلالات ، والبدع والأهواء الزائغة ، ببحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، ظلمات بعضها فوق بعض ، وقد أحاط بأكنافه وأطرافه الأرض كلها ، وليس فيه خلاص ومناص إلا تلك السفينة ، وهي : محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم » (1).
وقال القاري بمثل كلمات الطيبي واستشهد بها (2).
____________
(1) الكاشف ـ مخطوط.
(2) المرقاة في شرح المشكاة 5 | 610.

( 118 )

وقال السمهودي : « قوله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه. الحديث. ووجهه : إن النجاة ثبت لأهل السفينة من قوم نوح عليه السلام... ومحصلة : الحث على التعلق بحبلهم وحبهم وإعظامهم شكرا لنعمة مشرفهم صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، والأخذ بهدي علمائهم ومحاسن أخلاقهم وشيمهم. فمن أخذ بذلك نجا بمن ظلمات المخالفة ، وأدى شكر النعمة الوافرة ، ومن تخلف عنه غرق في بحار الكفران وتيّار الطغيان ، فاستوجب النيران » (1).
وقال المناوي [ إن مثل أهل بيتي ] فاطمة وعليّ وابنيهما ، وبينهما اهل العدل والديانة [ فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبهانجا ، ومن تخلف عنها هلك ] وجه التشبيه : أن النجاة ثبت لأهل السفينة من قوم نوح ، فأثبت المصطفى صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لأمته بالتمسك بأهل بيته النجاة ، وجعلهم وصلة إليها. ومحصوله : الحث على التعلق بحبهم وحبلهم وإعظامهم شكرا لنعمة مشرفهم ، والأخذ بهدي علمائهم ، فمن أخذ بذلك نجا من ظلمات المخالفة ، وأدى شكر النعمة المترادفة. ومن تخلف عنه غرق في بحار الكفران وتيار الطغيان ، فاستحق النيران ، لما أن بغضهم يوجب النار كما جاء في عدة أخبار ، كيف وهم أبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على عباده ، وهم فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة ، الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم ، وبرأهم من الآفات ، وافترض مودتهم في كثير من الآيات ، وهم العروة الوثقى ، ومعدن التقى.
واعلم أن المراد بأهل بيته في هذا المقام العلماء منهم ، اذ لا يحث على التمسك بغيرهم وهم الذين لا يفارقون الكتاب والسنة حتى يردوا معه على الحوض » (2).
____________
(1) جواهر العقدين ق2 ج1 | 126.
(2) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 2 | 519.

( 119 )

وقال ابن حجر المكي مثل ذلك ، وقد أورده السيد ـ رحمه الله ـ عبارته في المتن.

قيل :
« رواه الحاكم في المستدرك 3 | 151 عن أبي ذر. وفي سنده : مفضل ابن صالح ، وهو منكر الحديث كما قال البخاري وغيره. وضعفه المناوي في فتح القدير (1). وقال ابن عدي : أنكر ما رأيت له حديث الحسن بن علي ، وسائره أرجو أن يكون مستقيما. وقال الذهبي في الميزان : وحديث سفينة نوح أنكر وأنكر.
ومن رواته أيضا : سويد بن سعيد ، قال البخاري : هو منكر الحديث ويحيى بن معين كذبه وسبه. قال أبو داود : وسمعت يحيى يقول : هو حلال الدم. وقال الحاكم : ويقال إن يحيى لما ذكر له هذا الحديث قال : لو كان لي فرس ورمح غزوت سويدا.
وأما حنش فقد وثقه أبو داود ، وقال أبو حاتم : صالح ، لا أراهم يحتجون به ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقا البخاري : يتكلمون في حدثه ، وقال ابن حبان : لا يحتج به ، ينفرد عن علي بأشياء ، ولا يشبه حديثه حديث الثقات.
وروي الحديث من طريق أخرى فيها ضعيفان :
الحسن بن أبي جعفر الجفري. وعلي بن زيد بن جدعان.
أما الحسن بن أبي جعفر ، فقد قال فيه الفلاس : صدوق منكر الحديث. وقال ابن المديني : ضعيف ضفيف ، وضعفه أحمد والنسائي ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال مسلم بن إبراهيم ـ وهو تلميذه ـ : كان من خيار الناس رحمه الله ، وقال يحيى بن معين : ليس بشيء.
____________
(1) كذا. والصحيح : فيض القدير.
( 120 )

ثم ذكر له الذهبي أحاديث منكرة فيها هذا الحديث ، ثم قال : قال ابن عدي : هو عندي ممن لا يتعمد الكذب. وقال ابن حبان : كان الجفري من المتعبدين المجابين الدعوة ، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث فلا يحتج به. [ الميزان ].
وأما علي بن زيد بن جدعان ، فقال الذهبي : اختلفوا فيه. ثم ذكر من وثقه ثم قال : وقال شعبة : حدثنا علي بن زيد ( وكان رفاعا ، أي : كان يخطئ فيرفع الحديث الموقوف ) وقال مرة : حدثنا علي قبل أن يختلط ، وكان ابن عيينة يضعفه ، وقال حماد بن زيد : أخبرنا ابن زيد وكان يقلب الأحاديث.
وقال الفلاس : كان يحيى القطان يتقي الحديث عن علي بمن زيد.
وروي عن يزيد بن زريع قال : كان علي بن زيد رافضيا.
وقال أحمد العجلي : كان يتشيع وليس بالقوي.
وقال البخاري وأبو حاتم : لا يحتج به.
فهل ـ يا ترى ـ يصلح مثل هذا الحديث الهالك أن يأخذ بالأعناق ؟!! »

أقول :
أولا : إنه يكفي لاستدلال الشيعة بهذا الحديث كونه مخرجا في كتب أهل السنة ، من السنن والمسانيد والمجاميع الحديثية الشهيرة ، وبطرق متكثرة ، عن عدة من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو ـ كما قال الشيخ الكافي المالكي ـ : « حديث مشهور متفق على نقله » و« نقله الفريقان وصححه القبيلان » و« لا يمكن لطاعن أن يطعن عليه ».
وثانيا : إنه يكفي للاحتجاج تصحيح الحاكم وعدة من مشاهير الأئمة وقول آخرين : حديث مروي بطرق عديدة يقوي بعضها بعضا.
وثالثا : ظاهر كلام الرجل انحصار طرق هذا الحديث بما ذكره وخدش فيه. والحال أن طرقه كثيرة جدا كما اعترف بذلك غير واحد منهم.


( 121 )

ورابعا : إنه قد ورد بطرق ليس فيها أحد من الرواة الذين حاول تضعيفهم.. ومن ذلك :
رواية البزار في ( مسنده ) عن عبد الله بن الزبير.
ورواية الخطيب البغدادي في ( تاريخه ) عن أنس.
ورواية الدولابي بالإسناد عن أبي الطفيل عامر بن واثلة... (1).
ورواية أبي عبدالله القضاعي الأندلسي ، الشهير بابن الأبار ، في ( معجمه ) بالإسناد عن زاذان عن أبي ذر... (2).
وخامسا : إنه يشهد بصحة حديث السفينة روايات أخرى :
كالذي أخرجه ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : « إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح ، وكباب حطة في بني إسرائيل » (4).
وسادسا : لقد أخرج الحاكم هذا الحديث بطريقين (5) :
أحدهما : « أخبرني ميمون بن إسحاق الهاشمي ، ثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا يونس بن بكير ، ثنا المفضل بن صالح ، عن أبي إسحاق ، عن حنش الكناني ، قال : سمعت أبا ذر يقول ـ وهو آخذ بباب الكعبة ـ : أيها الناس ، من عرفني فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله
____________
(1) الكنى والأسماء 1 | 76.
(2) المعجم ـ لابن الأدبار ـ : 87 ـ 89.
(3) الدر المنثور 1 | 71 ـ 72.
(4) كنز العمال 2 | 277.
(5) ويلاحظ أنه يصحح أحدهما على شرط مسلم ، ويسكت عن الآخر ، وهذا مما يدل على دقة الحاكم وتثبته في الحديث ، وأنه لم يكن متساهلا في كتابه ـ كما يدعي بعض القوم ـ.

( 122 )

صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق.
وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه » (1).
والثاني : « أخبرني أحمد بن جعفر بن حمدان الزاهد ببغداد ، حدثنا العباس بن إبراهيم القراطيسي ، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، ثنا مفضل ابن صالح ، عن أبي اسحاق ، عن حنش الكناني ، قال : سمعت أبا ذر ـ وهو آخذ باب الكعبة ـ : من عرفني فأنا نم عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، ومثل حطة لبني إسرائيل » (2).
والحافظ الذهبي ـ وهو من أتباع ابن تيمية و إمام أتباعه ـ لم يخدش في السندين إلا من جهة « المفضل بن صالح ». فقد جاء في « تلخيص المستدرك » في آخر الحديث الأول :
« م. قلت : مفضل خرّج له الترمذي فقط. ضعفوه » (3).
وفي آخر الحديث الثاني :
« صحيح. قلت : مفضل واه » (4).
لكن صاحبنا أضاف التكلم في « حنش الكناني » التابعي المشهور ، وكأنه أشد تعصبا من الذهبي !!
وسابعا : إن المفضل بن صالح ـ الذي ضعفه الذهبي ـ من رجال الترمذي كما اعترف...
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 2 | 343.
(2) المستدرك على الصحيحين 3 | 151.
(3) تلخيص المستدرك ـ المطبوع بذيل المستدرك ـ 2 | 343.
(4) تلخيص المستدرك ـ المطبوع بذيل المستدرك ـ 3 | 151.

( 123 )

وهو على شرط مسلم كما نص عليه الحاكم واعترف الذهبي به أيضا.
والذي أوجب التكلم فيه منهم ما ذكره الترمذي بقوله : « ليس عند أهل الحديث بذاك الحافظ » فهم غير قادحين في ثقته ، ولا في حفظه ، إلا أنه ليس بذاك الحافظ !
وظاهر كلماتهم أن ذنب الرجل رواية فضائل أهل البيت :
قال ابن عدي ـ بعد أن أورد له أحاديث ـ : « أنكر ما رأيت له حديث الحسن بن علي ، وسائره أرجو أن يكون مستقيما ».
فابن عدي يوثق الرجل ، وإنما ينكر بعض أحاديثه ، وقد جعل أنكرها حديث الحسن. قال ابن حجر : « يعني : أتاني جابر فقال : اكشف لي عن بطنك. الحديث » ! (1).
إذن ، فالرجل لا مجال للقدح فيه ولا في رواياته ، وما ذكره الذهبي ليس إلا تعصبا ، وهو مشهور بالتعصب كما عرفت سابقا.
وثامنا : قوله : « وروي الحديث من طريق أخرى فيها ضعيفان : الحسن ابن أبي جعفر الجفري ، وعلي بن زيد بن جدعان » فيه :
إن « الحسن بن أبي جعفر الجفري » يروي هذا الحديث عن « علي بن زيد » كما عند المحدث الفقيه ابن المغازلي الشافعي ، حيث رواه بإسناده عن « الحسن بن أبي جعفر ، ثنا علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي ذر... » (2).
لكن قال الحافظ الهيثمي صاحب مجمع الزوائد :
« عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، ومن
____________
(1) تهذيب التهذيب 10 | 242.
(2) مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام : 132.

( 124 )

قاتلنا في آخر الزمان كمن قاتل مع الدجال. رواه البزار والطبراني في الثلاثة. وفي إسناد البزار : الحسن بن أبي جعفر الجفري. وفي إسناد الطبراني : عبد الله ابن داهر. وهما متروكان » (61).
فيظهر أن الطريق التي فيها « الحسن » لا يوجد فيه « علي بن زيد بن جدعان » أو يوجد ولا كلام فيه.
ومثله الحديث الآخر قال الهيثمي :
« وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلف عنها غرق. رواه البزار والطبراني. وفيه : الحسن بن أبي جعفر. وهو متروك » (62).
وذكر الحافظ الهيثمي الحديث بسند آخر ليس فيه واحد من الرجلين المذكورين. قال :
« وعن عبدالله بن الزبير : إن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها سلم ، ومن تركها غرق. رواه البزار. وفيه : ابن لهيعة ، وهو لين » (63).
وتاسعا : لنا أن نحتج بكل من :
الحسن بن أبي جفعر الجفري.
وعلي بن زيد بن جدعان.
* أما « الحسن » فقد روى عنه : أبو داود الطيالسي ، وابن مهدي ، ويزيد ابن زريع ، وعثمان بن مطر ، ومسلم بن إبراهيم ، وجماعة آخرين من مشاهير الرواة الأئمة ، وروايتهم عنه تدل على جلالته بالإضافة إلى :
____________
(1) مجمع الزوائد 9 | 168.
(2) مجمع الزوائد 9 | 168.
(3) مجمع الزوائد 9 | 168.

( 125 )

أن مسلم بن إبراهيم قال : كان من خيار الناس.
وقال عمرو بن علي : صدوق : منكر الحديث.
وقال أبو بكر بن أبي الأسود : ترك ابن مهدي حديثه ثم حدث عنه وقال : ما كان لي حجة عند ربي.
وقال ابن عدي : والحسن بن أبي جعفر أحاديثه صالحة ، وهو يروي الغرائب وخاصة عن محمد بن جحادة ، له عنه نسخة يرويها المنذر بن الوليد الجارودي عن أبيه عنه. وله عن محمد بن جحادة غير ما ذكرت أحاديث مستقيمة صالحة ، وهو عندي ممن لا يتعمد الكذب ، وهو صدوق.
وقال ابن حبان : من خيار عباد الله الخشن ، ضعفه يحيى وتركه أحمد ، وكان من المتعبدين المجابين الدعوة ، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه ، فإذا حدث وهم وقلّب الأسانيد وهو لا يعلم ، حتى صار ممن لا يحتج به ، وإن كان فاضلا.
فنقول :
1 ـ الرجل من رجال الترمذي وابن ماجة.
2 ـ روى عنه كبار الأئمة.
3 ـ شهد بعدالته : مسلم بن إبراهيم فقال : كان من خيار الناس.
فقال المعترض : « وهو تلميذه ».
قلت : كأنه يريد إسقاط هذه الشهادة لكون الشاهد تلميذا ، وكأن الرجل لا يدري أن هذا المورد ليس من موارد عدم قبول الشهادة ، بل الأمر
____________
(1) تهذيب التهذيب 2 | 227.
( 126 )

بالعكس ، إذ المفروض عدالة الشاهد ، فإذا كان تلميذا كان أكثر معرفة بحال المشهود له من غيره.
4 ـ شهد بعدالته : عمرو بن علي الفلاس إذ قال : صدوق. وسيأتي الكلام على قوله بعد ذلك : « منكر الحديث ».
5 ـ شهد بعدالته : ابن عدي.
6 ـ قال ابن حبان : من خيار عباد الله الخشن ، وكان من المتعبدين المجابين الدعوة ، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه ، فإذا حدث وههم قلّب الأسانيد وهو لا يعلم ، حتى صار ممن لا يحتج به وإن كان فاضلا.
أقول : هذه عبارة ابن حبان.. فقارن بينها وبين ما أورده المعترض :
« وقال ابن حبان : كان الجفري من المتعبدين المجابين الدعوة ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث ، فلا يحتج به ».
ولاحظ ! ممن هذا التحريف والتصرف ؟!
ولاحظ ! ممن هذا التحريف والتصرف ؟!
يقول ابن حبان ـ بعد الشهادة بكون « الحسن » من خيار عباد الله الخشن وأنه كان من المتعبدين المجابين الدعوة ـ : ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه ، فإذا حدث وهم قلّب الأسانيد وهو لا يعلم حتى صار ممن لا يحتج به وإن كان فاضلا.
فغاية ما كان « الحسن » أنه : « إذا حدث وهم وقلّب الأسانيد » لكن « وهو لا يعلم » أي : فهو ـ كما قال ابن عدي ـ : « ممن لا يتعمد الكذب ، وهو صدوق ». ولذا قال عنه الفلاس(1) ـ بعد أن قال : « صدوق » ـ : « منكر الحديث ».
فظهر :
أولا : لم ينقل المعترض كلمات التعديل والثناء.
____________
(1) ولا يخفى أن « عمرو بن علي الفلاس » هو نفسه من رواة حديث السفينة ، عن طريق « الحسن ابن أبي جعفر الجفري » ، أخرجه عن أبو بكر البزار في مسنده ، وهذا مما يشهد بما ذكرناه.