الفصل الرابع
في تناقضات علماء السنة تجاه معنى الآية


وجاء العلماء.. وهم يعلمون بمدلول الآية المباركة ومفاد الأحاديث الصحيحة الواردة بشأنها. وهم من جهة لا يريدون الاعتراف بذلك ، لأنه في الحقيقة نسف لعقائدهم في الأصول والفروع... ومن جهة أخرى ينسبون أنفسهم إلى « السنة » ويدعون الأخذ بها والاتباع لها... فوقعوا في اضطراب ، وتناقضت كلماتهم فيما بينهم ، بل تناقضت كلمات الواحد منهم...
فمنهم من وافق الإمامية ، بل ـ في الحقيقة ـ تبع السنة النبوبة الثابتة في المقام وأخذ بها.
ومنهم من وافق عكرمة الخارجي ومقاتل المجمع على تركه.
ومنهم من أخذ بقول الضحاك الضعيف ، خلافا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبار الصحابة.
فهم على طوائف ثلاث :
ونحن نذكر من كل طائفة واحدا أو اثنين :

فمن الطائفة الاولى :
أبو جعفر الطحاوي (1) قال : « باب بيان مشكل ما روي عن
____________
(1) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة المصري الحنفي ـ المتوفى سنة 321 هـ ـ توجد ترجمته مع الثناء البالغ في : طبقات أبي إسحاق الشيرازي : 142 ، والمنتظم 6 | 250 ، ووفيات الأعيان 1 | 71 ، وتذكرة الحفاظ 3 | 808 ،

=


( 209 )

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المراد بقوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) من هم ؟
حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا بكير بن مسمار ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا عليهم السلام ، وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي.
فكان في هذا الحديث أن المراد بما في هذه الآية هم : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين.
حدثنا فهد ، ثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا جرير بن عبد الحميد ، عن الأعمش ، عن جعفر ، عن عبد الرحمن البجلي ، عن حكيم بن سعيد ، عن أم سلمة ، قالت : نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين عليهم السلام ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ).
ففي هذا الحديث الذي في الأول ».
ثم إنه أخرج بأسانيد عديدة هذا الحديث عن أم سلمة ، وفيها الدلالة الصريحة على اختصاص الآية بأهل البيت الطاهرين ، وهي الأحاديث التي جاء فيها أن أم سلمة سألت : « وأنا معهم ؟ » فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
____________
=
والجواهر المضية في طبقات الحنفية 1 | 102 ، وغاية النهاية في طبقات القراء 1 | 116 ، وحسن المحاضرة وطبقات الحفاظ : 337 ، وغيرها.
وقد عنونه الحافظ الذهبي بقوله : « الطحاوي الإمام العلامة ، الحافظ الكبير ، محدث الديار المصرية وفقيهها » قال : « ذكره أبو سعيد ابن يونس فقال : عداده في حجر الأزد ، وكان ثقة ثبتا فقيها عاقلا لم يخلف مثله » قال الذهبي : « قلت : من نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه... » سير أعلام النبلاء 15 | 27 ـ 32.

( 210 )

وسلم : « أنت من أزواج النبي ، وأنت على خير ـ أو : إلى خير ـ ».
وقالت : « فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهل البيت ؟ فقال : إن لك عند الله خيرا. فوددت أنه قال نعم ، فكان أحب إليّ مما تطلع عليه الشمس وتغرب ».
وقالت : « فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه رسول الله وقال : إنك على خير ».
قال الطحاوي : « فدل ما روينا من هذه الآثار ـ مما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أم سلمة ـ ممّا ذكرنا فيها لم يرد به أنها كانت مما أريد به مما في الآية المتلوة في هذا الباب ، وأن المراد بما فيها هم : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموعلي وفاطمة والحسن والحسين دون من سواهم ـ يدل على مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله لأم سلمة في هذه الآثار من قوله لها : ( أنت من أهلي ) :
ما قد حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي وسليمان الكيساني ، قالا : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، أخبرني أبو عمار ، حدثني واثلة... فقلت : يا رسول الله ، وأنا من أهلك ؟ فقال : وأنت من أهلي.
قال واثلة : فإنها من أرجى ما أرجو !
وواثلة أبعد منه عليه السلام من أم سلمة منه ، لأنه إنما هو رجل من بني ليث ، ليس من قريش. وأم سلمة موضعها من قريش موضعها الذي به منه.
فكان قوله لواثلة : أنت من أهلي ، على معنى : لاتباعك إياي وإيمانك بي ، فدخلت بذلك في جملتي.
وقد وجدنا الله تعالى قد ذكر في كتابه ما يدل على هذا المعنى بقوله :


( 211 )

( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي ) (1) فأجابه في ذلك بأن قال : ( إنه ليس من أهلك ) إنه يدخل في أهله من يوافقه على دينه وإن لم يكن من ذوي نسبه.
فمثل ذلك أيضا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوابا لأم سلمة : « أنت من أهلي » يحتمل أن يكون على هذا المعنى أيضا ، وأن يكون قوله ذلك كقوله مثله لواثلة.
وحديث سعد وما ذكرناه معه من الأحاديث في أول الباب معقول بها من أهل الآية المتلوة فيها ، لأنا قد أحطنا علما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا من أهله عند نزولها لم يبق من أهلها المرادين فيها أحد سواهم ، وإذا كان ذلك كذلك استحال أن يدخل معهم فيما أريد به سواهم. وفيما ذكرنا من ذلك بيان ما وصفنا.
فإن قال قائل : فإن كتاب الله تعالى يدل على أن أزواج النبي هم المقصودون بتلك الآية ، لأنه قال قبلها في السورة التي هي فيها : ( يا أيها النبي قل لأزواجك... ) (3) فكان ذلك كلّه يؤذن به ، لأنّه على خطاب النساء لا على خطاب الرجال ، ثمّ قال : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ) الآية.
فكان جوابنا له : إن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله : ( إنما يريد الله ) الآية.. خطاب لأزواجه ، ثم أعقب ذلك بخطابه لأهله بقوله تعالى : ( ليذهب يريد الله ) الآية ، فجاء به على خطاب الرجال ، لأنه قال فيه : ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم ) وهكذا خطاب الرجال ، وما قبله فجاء
____________
(1) سورة هود 11 : 45.
(2) سورة هود 11 : 46.
(3) سورة الأحزاب 33 : 28.

( 212 )

به بالنون وكذلك خطاب النساء.
فعقلنا أن قوله : ( إنما يريد الله ) الآية ، خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ، ليعلمهم تشريفه لهم ورفعه لمقدارهم أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى.
ومما دل على ذلك أيضا ما حدثنا... عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت ( إنما يريد الله ) الآية.
وما قد حدثنا... حدثني أبو الحمراء ، قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...
في هذا أيضا دليل على أن هذه الآية فيهم. وبالله التوفيق » (1).

ومن الطائفة الثانية :
ابن الجوزي (2) والذهبي (3).. فإنها تبعا عكرمة البربري الخارجي ، ومقاتل بن سليمان ، على ما هو مقتضى تعصبهما وعنادهما لأهل البيت عليهم السلام !

ومن الطائفة الثالثة :
ابن كثير.. فإنه بعد أن ذكر فرية عكرمة قال : « فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن ، فصحيح ؛ وإن أريد أنهن المراد فقط
____________
(1) مشكل الآثار 1 | 332 ـ 339.
(2) وهذا ظاهر كلامه في زاد المسير 6 | 381 ، حيث ذكر هذا القول أولا وجعل يدافع عنه !
(3) سير أعلام النبلاء 2 | 207.

( 213 )

دون غيرهن ، ففي هذا نظر. فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ».
ثم أورد عدة كثيرة من تلك الأحاديث التي هي نص في اختصاص الآية بالرسول والوصي والحسنين والصديقة الطاهرة عليهم الصلاة والسلام ، وأن قول عكرمة مخالف للكتاب والسنة...
غير أن تعصبه لم يسمح له بالإذعان لذلك ، حتى قال بدخول الزوجات في المراد بالآية ! متشبثا بالسياق ، فقال : « ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم داخلات في قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) فإن سياق الكلام معهن... » (1).

اعتراف ابن تيمية بصحة الحديث :
والعجب أن ابن تيمية لا يقول بهذا ولا بذاك ! بل يذعن بصحة الحديث كما استدل العلامة الحلي ـ رحمه الله ـ ، قال العلامة :
« ونحن نذكر هنا شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ، ليكون حجة عليهم يوم القيامة ، فمن ذلك :
ما رواه أبو الحسن الأندلسي(2) في « الجمع بين الصحاح الستة » :
____________
(1) تفسير القرآن العظيم 3 | 415.
(2) وهو : رزين بن معاوية العبدري ، صاحب « تجريد الصحاح » المتوفى سنة 535 كما في سير أعلام النبلاء 2 | 204 حيث ترجم له ووصفه بـ : الإمام المحدث الشهير ، وحكى عن ابن عساكر : « كان إمام المالكيين بالحرم ». وترجم له أيضا في : تذكرة الحفاظ 4 | 1281 ، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 4 | 398 ، والنجوم الزاهرة 5 | 267 ، ومرآة الجنان 3 | 263 ، وغيرها.

( 214 )

موطأ مالك ، وصحيحي البخاري ومسلم ، وسنن أبي داود ، وصحيح الترمذي ، وصحيح النسائي : عن أم سلمة ـ زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) أنزل في بيتها : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ، ألست من أهل البيت ؟ فقال : إنك على خير ، إنك من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قالت : وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، فجللهم بكساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ».
فقال ابن تيمية :
« فصل : وأما حديث الكساء فهو صحيح ، رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة ، قال : خرج النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم أهل البيت ويطهركم تطهيرا ).
وهذا الحديث قد شركه فيه فامة وحسن وحسين ـ رضي الله عنهم ـ فليس هو من خصائصه ، ومعلوم أن المرآة لا تصلح للإمامة ، فعلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة ، بل يشركهم فيها غيرهم.
ثم إن مضمون هذا الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا.
وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله


( 215 )

عنهم الرجس وطهرهم ؛ تطهيرا واجتناب الرجس واجب على المؤمنين ، والطهارة مأمور بها كل مؤمن..
قال الله تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ) (1) وقال : ( خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها ) (2) وقال تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) (3).
فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور ، والصديق ـ رضي الله عنه ـ قد أخبر ألله عنه بأنه ( الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) (4).
وأيضا : فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ( رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) (5) لابد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور ، فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما ينال بذلك وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم.
فما دعا به النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأولين.
والنبي دعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك ، مما هو أعظم من
____________
(1) سورة المائدة 5 : 6.
(2) سورة التوبة 9 : 103.
(1) سورة البقرة 2 : 222.
(1) سورة الليل 92 : 17 ـ 21.
(1) سورة التوبة 9 : 100.

( 216 )

الدعاء بذلك ، ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأولين ، ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير ، دعا لهم النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به ، لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب ، ولينالوا المدح والثواب » (1).
هذا نص كلام ابن تيمية ، وأنت ترى فيه :
1 ـ الاعتراف بصحة الحديث الدال على نزول الآية المباركة في أهل الكساء دون غيرهم.
2 ـ الاعتراف بأنه فضيلة.
3 ـ الاعتراف بعدم شمول الفضيلة لغير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
فأين قول عكرمة ؟! وأين السياق ؟! وأين ما ذهب إليه ابن كثير ؟!

سقوط كلمات ابن تيمية :
وتبقى كلمات ابن تيمية ، فإنه بعد أعرض عن قول عكرمة ، وعن قول من قال بالجمع ، واعترف بالاختصاص بالعترة ، أجاب عن الاستدلال بالآية المباركة بوجوه واضحة البطلان :
* فأول شيء قاله هو : « هذا الحديث قد شركه فيه فاطمة... ».
وفيه : إن العلامة الحلي لم يدع كون الحديث من خصائص علي عليه السلام ، بل الآية المباركة والحديث يدلان على عصمة « أهل البيت » وهم : النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين..
____________
(1) منهاج السنة 5 | 13 ـ 15.
( 217 )

والمعصوم هو المتعين للإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، غير أن المرأة لا تصلح للإمامة.
* ثم قال : « ثم إن مضمون هذا الحديث أن النبي دعا لهم... بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس... فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور ».
وهذا من قلة فهمه أو شدة تعصبه :
أما أولا : فلأنه ينافي صريح الآية المباركة ، لأن « إنما » دالة على الحصر ، وكلامه دال على عدم الحصر ، فما ذكره رد على الله والرسول.
أما ثانيا : فلأن في كثير من « الصحاح » أن الآية نزلت ، فدعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي... فالله عز وجل يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت... ) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يعين « أهل البيت » وأنهم هؤلاء دون غيرهم.
وأما ثالثا : فلأنه لو كان المراد هو مجرد الدعاء لهم بأن يكونوا « من المتيقن » و« الطهارة مأمور بها كل مؤمن » « فغاية هذا أن يكون دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور » فلا فضيلة في الحديث ، وهذا يناقض قوله من قبل « فعلم أن هذه الفضيلة... » !!
وأما رابعا : فلأنه لو كان « غاية ذلك أن يكون دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور » فلماذا لم يأذن لأم سلمة بالدخول معهم ؟!
أكانت « من المتيقن الذين أذهب الله عنهم الرجس... » فلا حاجة لها إلى الدعاء ؟! أو لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد منها أن تكون « من المتيقن... » ؟!
أما خامسا : فلو سلمنا أن « غاية هذا أن يكون دعاء لهم... » لكن إذا


( 218 )

كان الله سبحانه « يريد » والرسول « يدعو » ـ ودعاؤه مستجاب قطعا ـ كان « أهل البيت » متصفين بالفعل بما دلت عليه الآية والحديث.
* فقال : « والصديق قد أخبر الله عنه... ».
وحاصله : إن غاية ما كان في حق « أهل البيت » هو « الدعاء » وليس في الآية ولا الحديث إشارة إلى « استجابة » هذا الدعاء ، فقد يكون وقد لا يكون ، وأما ما كان في حق « أبي بكر » فهو « الأخبار » فهو كائن ، فهو أفضل من « أهل البيت » !!
وفيه :
أولا : في « أهل البيت » في الآية شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا ريب في أفضليته المطلقة.
وثانيا : في « أهل البيت » في الآية فاطمة الزهراء ، وقد اعترف غير واحد من أعلام القوم بأفضليتها من أبي بكر :
فقد ذكر العلامة المناوي بشرح الحديث المتفق عليه بين المسلمين : « فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني » : « استدل به السهيلي (1) على أن من سبها كفر ، لأنه يغضبه ، وأنها أفضل من الشيخين ».
وقال : « قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها ، فيكونون بواسطتها بضعة منه ، ومن ثم لما رأت اُمّ الفضل في النوم أن بضعة منه وضعت في حجرها أولها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بأن تلد
____________
(1) عبد الرحمن بن عبد الله ، العلامة الأندلسي ، الحافظ العلم ، صاحب التصانيف ، برع في العربية واللغات والأخبار والأثر ، وتصدر للإفادة ، من أشهر مؤلفاته : الروض الأنف ـ شرح « السيرة النبوية » لابن هشام ـ توفي سنة 581 ، له ترجمة في : مرآة الجنان 3 | 422 ، النجوم الزاهرة 6 | 101 ، العبر 3 | 82 ، الكامل في التاريخ 9 | 172.
( 219 )

فاطمة غلاما فيوضع في حجرها ، فولدت الحسن فوضع في حجرها. فكل من يشاهد الآن من ذريتها بضعة من تلك البضعة وإن تعددت الوسائط ، ومن تأمل ذلك انبعث من قلبه داعي الإجلال لهم وتجنب بغضهم على أي حال كانوا عليه.
قال ابن حجر : وفيه تحريم أذى من يتأذى المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بتأذّيه ، فكل نم وقع منه في حق فاطمة شيء فتأذّت به فالنبي صلىالله عليه وآله وسلم يتأذّى بشهادة هذا الخبر ، ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها ، ولهذا عرف بالإستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا ( ولعذاب الآخرة أشد ) (1) » (2).
وثالثا : في « أهل البيت » في الآية : الحسن والحسين ، وإن نفس الدليل الذي أقامه الحافظ السهيلي وغيره على تفضيل الزهراء دليل على أفضلية الحسنين ، بالإضافة إلى الأدلة الأخرى ، ومنها « آية التطهير » و« حديث الثقلين » الدالين على « العصمة » ، ولا ريب في أفضلية المعصوم من غيره.
ورابعا : في « أهل البيت » في الآية : أمير المؤمنين عليه السلام ، وهي ـ مع أدلة غيرها لا تحصى ـ تدل على أفضليته على جميع الخلائق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وخامسا : كون المراد من الآية ( الأتقى... ) « أبو بكر » هو قول انفرد القوم به ، فلا يجوز أن يعارض به القول المتفق عليه.
وسادسا : كون المراد بها « أبو بكر » أول الكلام ، وقد تقدم الكلام على ذلك.
____________
(1) سورة طه 20 : 127.
(2) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 4 | 421.

( 220 )

* قال : « وأيضا : فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار... فما دعا به النبي... ».
وحاصله : أفضلية « السابقين الأولين... » من « أهل البيت » المذكورين.
ويرد عليه : ما ورد على كلامه السابق ، فإن هذا فرع أن يكون الواقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صرف « الدعاء ».. وقد عرفت أن الآية تدل على أن الإرادة الإلهية تعلقت بإذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيرا ، فهي دالة على عصمة « أهل البيت » وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعلن للأمة الإسلامية أنهم : هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
ثم إن الآية : ( السابقون الاولون... ) (1) المراد فيها أمير المؤمنين عليه السلام ، ويشهد بذلك تفسير قوله تعالى : ( والسابقون السابقون * أولئك المقربون ) (2) بعلي عليه السلام.
فعن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : « السّبّق ثلاثة ، السابق إلى موسى : يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى : صاحب ياسين ، والسابق إلى محمد صلى الله عليه [ وآله ] وسلم علي بن أبي طالب ».
قال الهيثمي : « رواه الطبراني ، وفيه : حسين بن حسن الأشقر ، وثّقه ابن حبان ، وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله حديثهم حسن أو صحيح » (3).

قلت :
« الحسين بن حسن الأشقر » من رجال النسائي في ( صحيحه ) وقد
____________
(1) سورة التوبة 9 : 100.
(2) سورة الواقعة 56 : 10 و11.
(3) مجمع الزوائد 9 | 102.

( 221 )

ذكروا أن للنسائي شرطا في صحيحه أشد من شرط الشيخين (1).. وقد روى عنه كبار الأئمة الأعلام : كأحمد بن حنبل ، وابن معين ، والفلاس ، وابن سعد ، وأمثالهم (2).
وقد حكى الحافظ بترجمته ، عن العقيلي ، عن أحمد بن محمد بن هانئ ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ يعني ابن حنبل ـ تحدث عن حسين الأشقر ؟! قال : لم يكن عندي ممن يكذب.
وذكر عنه التشيع فقال له العباس بن عبد العظيم : انه يحدث في أبي بكر وعمر. وقلت أنا : يا أبا عبد الله ! إنه صنف بابا في معايبهما. فقال : ليس هذا بأهل أن يحدث عنه » (3).
وكان هذا هو السبب في تضعيف غير أحمد ، وعن الجوزجاني : غال ، من الشتامين للخِيَرة (4). ولذا يقولون : له مناكير ، وأمثال هذه الكلمة مما يدل على طعنهم في أحاديث الرجل في فضل علي أو الحط من مناوئيه ، وليس لهم طعن في الرجل نفسه ، ولذا قال ابن معين : كان من الشيعة الغالية. فقيل له : فكيف حديثه ؟! قال لا بأس به. قيل : صدوق ؟ قال : نعم ، كتبت عنه (5).
ومن هنا قال الحافظ : « الحسين بن حسن الأشقر ، الفزاري ، الكوفي صدوق ، يهم ويغلو في التشيع ، من العاشرة ، مات سنة 208 ، س » (6).
وأما أبو بكر .. فلم يكن من السابقين الأولين :
____________
(1) تذكرة الحفاظ 2 | 700.
(2) تهذيب التهذيب 2 | 291.
(3) تهذيب التهذيب 2 | 291 ـ 292.
(4) تهذيب التهذيب 2 | 291 ـ 292.
(5) تهذيب التهذيب 2 | 291 ـ 292.
(3) تقريب التهذيب 1 | 175.

( 222 )

قال أبو جعفر الطبري : « وقال آخرون : أسلم قبل أبي بكر جماعة. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا كنانة بن جبلة ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن الحجاج بن الحجاج ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن محمد بن سعد ، قال : قلت لأبي :
أكان أبوبكر أولكم إسلاما ؟
فقال : لا ؛ ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ؛ ولكن كان أفضلنا إسلاما » (1).

تناقض ابن تيمية :
ثم إن ابن تيمية تعرض لآية التطهير في موضع آخر ، ولكنه هذه المرة لم ينص على صحة الحديث ! ولم يعترف بمفاده ! بل ادعى كون الأزواج من أهل البيت ! وهو القول الثالث الذي نسبه ابن الجوزي إلى الضحاك بن مزاحم ، وهذه هي عبارته.
« وأما آية الطهارة فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم ، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الجس عنهم ، فإن قوله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) وقوله تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ) وقوله : ( يريد ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) (2).
____________
(1) تاريخ الطبري 2 | 316 تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم.
( 223 )

فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا ، وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد ، فإنه لو كان كذلك لكان قد طهر كل من أراد طهارته. وهذا على قول هؤلاء القدرية الشيعة أوجه ، فإن عندهم أن الله يريد ما لا يكون! ويكون ما لا يريد !
فقوله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور كان ذلك متعلقا بإرادتهم وأفعالهم ، فإن فعلوا ما أمروا به طهروا وإلا فلا.
وهم يقولون : إن الله لا يخلق أفعالهم ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ، وإما المثبتون للقدر فيقولون : إن الله قادر على ذلك ، فإذا أهلمهم فعل ما أمر وترك ما حظر حصلت الطهارة وذهاب الرجس.
ومما يبين أن هذا مما أمروا به لا مما أخبروا بوقوعه : ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أدار الكساء على علي وفاطمة وحسن وحسين ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن عائشة ، ورواه أهل السنن عن أم سلمة.
وهو يدل على ضد قول الرافضة من وجهين :
أحدهما : أنه دعا لهم بذلك. وهذا دليل على أن الآية لم تخبر بوقوع ذلك ، فإنه لو كان قد وقع لكان يثني على الله بوقوعه ويشكره على ذلك ، ولا يقتصر على مجرد الدعاء به.
الثاني : إن هذا يدل على أن الله قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم ، وذلك يدل على أنه خالق أفعال العباد.
ومما يبين أن الآية متضمنة للأمر والنهي قوله في سياق الكلام : ( يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة... إنما يريد الله ليذهب...)


( 224 )

واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ).
وهذا السياق يدل على أن ذلك أمر ونهي.
ويدل على أن أزواج النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم من أهل بيته ، فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن.
ويدل على أن قوله ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) عم غير أزواجه ، كعلي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم ، لأنه ذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذر والمؤنث. وهؤلاء خصوا بكونهم من أهل البيت من أزواجه ، فلهذا خصهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء ، كما أن مسجد قباء أسس على التقوى ، ومسجده صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أيضا أسس على التقوى وهو أكمل في ذلك. فلما نزل قوله تعالى : ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم... ) (1) بسبب مسجد قباء تناول اللفظ لمسجد قباء ولمسجده بطريق الأولى.
وقد تنازع العلماء : هل أزواجه من آله ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد ، أصحهما أنهن من آله وأهل بيته ، كما دل على ذلك ما في الصحيحين من قوله : اللهم صلى على محمد وعلى أزواجه وذريته. وهذا مبسوط في موضع آخر » (2).

أقول : لقد حاول ابن تيمية التهرب من الالتزام بمفاد الآية المباركة والسنة
____________
(1) سورة التوبة 9 : 108.
(2) منهاج السنّة 4 | 21 ـ 24.

( 225 )

النبوية الثابتة الصحيحة الواردة بشأنها ـ كما اعترف هو أيضا ـ بشبها واهية وكلمات متهافتة ، ومن راجع كتب الأصحاب في بيان الاستدلال بالآية المباركة ـ على ضوء السنة المتفق عليها ـ عرف موارد النظر ومواضع التعصب في كلامه...
وقد ذكرنا نحن أيضا طائفة من الأحاديث المشتملة على وقوع إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم عنه من الله سبحانه بإرادته التكوينية غير المنافية لمذهب أهل البيت في مسألة الجبر والاختيار.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عيّن المراد من « أهل البيت » عليهم السلام في الآية المباركة بعد نزول الآية المباركة ، ودعا لهم أيضا ولا ريب في أن دعاءه مستجاب.
كما علمنا من الخصوصيات الموجودة في نفس الآية ، ومن الأحاديث الصحيحية الواردة في معناها أن الآية خاصة بأهل البيت ت وهذا ما اعترف به جماعة من أئمة الحديث كالطحاوي وابن حبان تبعا لأزواج النبي وأعلام الصحابة ـ وأنها نازلة في قضية خاصة ، غير أنها وضعت ضمن آيات نساء النبي ، وكم له من نظير ، حيث وضعت الآية المكية ضمن آيات مدنية أو المدنية ضمن آيات مكية.
وقد دلت الآية المباركة والأحاديث المذكورة وغيرها على أن عنوان « أهل البيت » ـ أي : أهل بيت النبي ـ لا يعم أزواجه ، بل لا يعم أحدا من عشيرته وأسرته إلا بقرينة.
هذا ، وفي صحيح مسلم في ذيل حديث الثقلين عن زيد بن أرقم ، أنه سئل : هل نساؤه من أهل بيته ؟ قال : « لا وأيم الله ، إن المرأة لا تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ».
وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث.


( 226 )

وأما ما رووه عنه من أن : « أهل بيته من حرم الصدقة من بعده » فيرد تطبيقه على ما نحن فيه الأحاديث المتواترة المذكور بعضها ، ومن الواضح عدم جواز رفع اليد عن مفادها بقول زيد هذا.

***