أقول :
لكن المهم ـ هنا ـ أنه « صدوق » عند الحافظ ابن حجر أيضا ، فقد قال : « الحسين بن حسن الأشقر ، الفزاري ، الكوفي ، صدوق ، يهم ويغلو في التشيع ، من العاشرة ، مات سنة 208. س » (1).
وإنما أعدنا ترجمة الرجل هنا لنؤكد على أن ابن حجر قد ناقض نفسه مرتين :
1 ـ في تضعيفه الرجل في « تخريج أحاديث الكشاف » مع وصفه بـ « الصدق » في « تقريب التهذيب » !
2 ـ في طعنه في الرجل بسبب التشيع أو الرفض ـ حسب تعبيره ـ مع أنه نص في « مقدمة فتح الباري » على أن الرفض ـ فضلا عن التشيع ـ غير مضر.
وبذلك يسقط طعنه في حديثنا ، وكذا طعن غيره تبعا له.

تنبيه :
قد اختلف طعن الطاعنين في رواية الأئمة : الطبراني ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والحاكم ، وابن مردويه : عن حسين الأشقر ، عن قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس...
فالسيوطي لم يقل إلا « بسند ضعيف » وتبعه الآلوسي.
____________
(1) تقريب التهذيب 1 | 175.
( 271 )

وابن حجر قال في « تخريج أحاديث الكشاف » : « وحسين ضعيف ساقط » فلا كلام له في غيره ، لكن في « فتح الباري » : « إسناده واه ، فيه ضعيف ورافضي ».
وابن كثير ـ وتبعه القسطلاني ـ قال عن حسين الأشقر : « شيخ شيعي محترق » وأضاف ـ خصوص إسناد ابن أبي حاتم لقوله : حدثنا رجل سماه ـ : « فيه مبهم لا يعرف ».
والهيثمي أفرط فقال : « رواه الطبراني من رواية حرب بن الحسن الطحان ، عن حسين الأشقر ، عن قيس بن الربيع. وقد وثقوا كلهم وضعفهم جماعة ، وبقية رجاله ثقات ».
وبما ذكرنا ـ في ترجمة الأشقر ـ يسقط كلام السيوطي والآلوسي ، وكذا كلام ابن كثير في « الأشقر » أما قوله : « فيه مبهم لا يعرف » فيرده أنه إن كان هو « حرب بن الحسن الطحان » فهو ، وإن كان غيره فالإشكال مرتفع بمتابعته.
وكذا يسقط كلام ابن حجر في « تخريج أحاديث الكشاف ».
أما كلامه في « فتح الباري » فيمكن أن يكون ناظرا إلى « الأشقر » فقط ، بأن يكون وصفه بالرفض وضعفه من أجل ذلك ، ويمكن أن يكون مراده من « ضعيف » غير الأشقر الذي وصفه بالرفض... وهذا هو الأظهر ، ومراده ـ على الظاهر ـ هو « قيس بن الربيع » الذي زعم غيره ضعفه ، فلنترجم له :

3 ـ ترجمة قيس بن الربيع :
وهو : قيس بن الربيع الأسدي ، أبو محمد الكوفي :


( 272 )

من رجال : أبي داود والترمذي ، وابن ماجة (1).
روى عنه جماعة كبيره من الأئمة في الصحاح وغيرها ، كسفيان الثوري ، وشعبة بن الحجاج ، وعبد الرزاق بن همام ، وأبي نعيم الفضل بن دكين ، وأبي داود الطيالسي ، ومعاذ بن معاذ ، وغيرهم (2).
وهذه بعض الكلمات في توثيقه ومدحه والثناء عليه باختصار :
قال : أبو داود الطيالسي عن شعبة : سمعت أبا حصين يثني على قيس ابن الربيع.
قال : قال لنا شعبة : أدركوا قيسا قبل أن يموت !
قال عفان : قلت ليحيى بن سعد : أفتتهمه بكذب ؟! قال : لا.
قال عفان : كان قيس ثقة ، يوثقه الثوري وشعبة.
قال حاتم بن الليث ، عن أبي الوليد الطيالسي : كان قيس بن الربيع ثقة حسن الحديث.
قال أحمد بن صالح : قلت لأبي نعيم : في نفسك من قيس بن الربيع شيء ؟ قال : لا.
قال عمرو بن علي : سمعت معاذ بن معاذ يحسن الثناء على قيس.
وقال يعقوب بن شيبة السدوسي : وقيس بن الربيع عند حميع أصحابنا صدوق ، وكتابه صالح ، وهو رديء الحفظ جدا مضطربه ، كثير الخطأ ، ضعيف في روايته.
وقال ابن عدي : عامة رواياته مستقيمة ، والقول فيه ما قال شعبة.
هذا ، وقد أخذ عليه أمور :
____________
(1) تهذيب الكمال 24 | 25 ، تهذيب التهذيب 8 | 350 ، وغيرهما.
(2) تهذيب الكمال 24 | 27.

( 273 )

أحدها : إنه ولي المدائن من قبل المنصور ، فأساء إلى الناس فنفروا عنه.
والثاني : التشيع ، نقله الذهبي عن أحمد (1).
والثالث : وجود أحاديث منكرة عنده. قال حرب بن إسماعيل : قلت لأحمد بن حنبل : قيس بن الربيع أي شيء ضعفه ؟ قال : روى أحاديث منكرة.
لكن قالوا : هذه الأحاديث أدخلها عليه ابنه لما كبر فحدث بها (2).
ولكونه صدوقا في نفسه ، ثقة ، وإن هذه الروايات مدخولة عليه وليست منه ، قال الذهبي : « صدوق في نفسه ، سيّئ الحفظ » (3).
وقال الحافظ ابن حجر : « صدوق ، تغير لما كبر ، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث بها » (4).
فإن كان يقصد في « مقدمة فتح الباري » تضعيف هذا الرجل فقد ناقض نفسه كذلك...

4 ـ ترجمة حرب بن حسن الطحان :
هذا الرجل لم يتعرض له بالتضعيف ، ولم ينقل كلاما فيه إلا الهيثمي ، ولكنه مع ذلك نص على أنه « وُثّق » ولم يذكر المضعف ولا وجه التضعيف.
____________
(1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3 | 393.
(2) تاريخ بغداد 12 | 456 ـ 462 ، تهذيب الكمال 24 | 25 ـ 37 ، سير أعلام النبلاء 8 | 41 ـ 44 ، تهذيب التهذيب 8 | 350 ـ 353.
(3) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3 | 393.
(4) تقريب التهذيب 2 | 128.

( 274 )

وقال ابن أبي حاتم : « سألت أبي عنه فقال : شيخ » (1).
وقال ابن حجر : « حرب الحسن الطحان. ليس حديثه بذاك. قاله لأزدي. انتهى.
وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن النجاشي : عامي الرواية. أي شيعي قريب الأمر. له كتاب.
روى عنه : يحيى بن زكريا اللؤلؤي » (2).

أقول :
لكن لا يلتفت إلى قول الأزدي ، كما نص عليه الذهبي ، حيث قال : « لا يلتفت إلى قول الأزدي ، فإن في لسانه في الجرح رهقا » (3).

تتمة :
فيها مطلبان :
الأول : قال الذهبي معقبا ـ على حديث خطبة الإمام الحسن عليه السلام ، الذي أخرجه الحاكم عن أبناء أئمة أهل البيت والذرية الطاهرة ـ : « ليس بصحيح » ! (4).
ولما كان هذا القدح مجملا ومبهما ، فإنه لا يعبأ به... وأظن أنه من جهة المتن والمعنى لا السند ، وعذر الذهبي في قدحه في مناقب آل البيت
____________
(1) الجرح والتعديل 3 | 252.
(2) لسان الميزان 2 | 184.
(3) ميزان الاعتدال 1 | 61.
(4) تلخيص المستدرك 3 | 172.

( 275 )

عليهم السلام معلوم !!
والثاني : قال ابن عساكر ـ بعد أن أخرج من طريق الطبراني حديث أبي أمامة الباهلي ـ : « هذا حديث منكر ، وقد وقع إليّ جزء ابن عباد بعلو وليس هذا الحديث فيه » (1).
وهذا الحديث بهذا اللفظ رواه عن طريق الطبراني الحافظ أبو عبد الله الكنجي ، وقال : « هذا حديث حسن عال ، رواه الطبراني في معجمه كما أخرجناه سواء ، ورواه محدث الشام في كتابه بطرق شتى » (2) والحافظ ابن حجر (3). ورواه لا عن طريق الطبراني : الحاكم الحسكاني النيسابوري (4).
أما عدم وجوده في الجزء الذي وقع إلى ابن عساكر من حديث طالوت بن عباد فغير مضر كما هو واضح.
وأما نكارة الحديث ففي أي فقرة منه ؟! أفي حديث الشجرة ؟! أو في قوله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : « لو أن عبدا... » ؟! أو في تلاوة آية المودة في هذا الموضع ؟!
أما حديث الشجرة فقد رواه من أئمة الحديث كثيرون (5)وإليه أشار أمير المؤمنين (6) ولم يقل أحد بنكارته.
وأما تلاوته الآية هنا ، فقد عرفت أنها نازلة في علي وفاطمة
____________
(1) تاريخ دمشق ، ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام 1 | 133.
(2) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب : 317.
(3) لسان الميزان 4 | 434.
(4) شواهد التنزيل 2 | 141.
(5) راجع الجزء الخامس من كتابنا الكبير « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار » ففيه روايات أنهما مخلوقان من نور واحد ، ومن شجرة واحدة.
(6) نهج البلاغة : 162.

( 276 )

وابنيهما.
بقي قوله : « ولو أن عبدا... » وأظنه يريد هذا ، وهو كلام جليل ، ومعناه دقيق ، وخلاصة بيانه أن الحب هو وسيلة الاتباع والقرب ، والعمل بلا درك حب النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم غير مقرب إلىالله سبحانه وتعالى ، وكل عمل لا تقرب فيه إليه فهو باطل ، وصاحبه نم أهل النار وبئس القرار.
هذا إذا أخذنا الكلام على ظاهره.
وأما إذا كان كناية عن البغض ، فالأمر أوضح ، لأن بغض النبي وأهل بيته مبعد عن الله عز وجل ، ولا ينفع معه عمل...
اللهم اجعلنا من المحبين للنبي وآله ، ومن المتقربين بهم إليك.

***


( 277 )

الفصل الثالث
في دفع شبهات المخالفين


وإذا ثبتت صحة الأحاديث الدالة على نزول الآية المباركة في « أهل البيت » حتى التي تكلم في أسانيدها ، بعد بيان سقوط ما تذرعوا به ، تندفع جميع الشبهات التي يطرحونها حول ذلك.
ولكنا مع ذلك نذكر ما قالوه في هذا الباب ، ونجيب عنه بالأدلة والشواهد القويمة ، ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ).
ولعل أشد القوم مخالفة في المقام هو ابن تيمية في « منهاج السنة » فلنقدم كلماته :
* يقول ابن تيمية : « ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قال : فقلت : إلا أن تودوا قربى محمد. فقال ابن عباس : عجلت ! إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله منهم قرابة فقال : قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا أن تؤدوني في القرابة التي بيني وبينكم.
فابن عباس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القران ، وهذا تفسيره الثابت عنه.
ويدل على ذلك أنه لم يقل : إلا المودة لذوي القربى ، ولكن قال : إلا المودة في القربى. ألا ترى أنه لما أراد ذوي قرباه قال : ( واعلموا أنما


( 278 )

غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ). ولا يقال : المودة في ذوي القربى ، وإنما يقال : المودة لذوي القربى ، فكيف وقد قال ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ؟!
ويبين ذلك : إن الرسول صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لا يسأل أجرا أصلا ، إنما أجره على الله ، وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلة أخرى غير هذه الآية وليست موالاتنا لأهل البيت من أجر النبي في شيء.
وأيضا ، فإن هذه الآية مكية ، ولم يكن علي قد تزوج بفاطمة ، ولا ولد له أولاد » (1).
* وقال ابن تيمية :
« وأما قوله : وأنزل الله فيهم ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) فهذا كذب ظاهر ، فإن هذه الآية في سورة الشورى ، وسورة الشورى مكية بلا ريب ، نزلت قبل أن يتزوج عليّ بفاطمة...
وقد تقدم الكلام على الآية وأن المراد بها ما بيّنه ابن عباس... رواه البخاري وغيره.
وقد ذكر طائفة المصنفين من أهل السنة والجماعة والشيعة ، من أصحاب أحمد وغيرهم ، حديثا عن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أن هذه الآية لما نزلت قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : علي وفاطمة وابناهما.
وهذا كذب باتفاق أهل المعرفة » ! (2).
____________
(1) منهاج السنة 4 | 25 ـ 27.
(2) منهاج السنة 4 | 562 ـ 563.

( 279 )

* وكرر ابن تيمية :
تكذيب الحديث المذكور..
وأن الآية في سورة الشورى هي مكية ، وأن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة..
وأن التفسير الذي في الصحيحين يناقض ذلك الحديث ، قال : سئل ابن عباس..
وأنه قال : ( قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ولم يقل : إلا المودة للقربى ، ولا المودة لذوي القربى كما قال : ( واعلموا )..
وأن النبي لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا البتة ، بل أجره على الله..
وأن القربى معرّفه باللام ، فلاب د أن تكون معروفة عند المخاطبين ، وقد ذكرنا أنها لما نزلت لم يكن قد خلق الحسن ولا الحسين ، ولا تزوج علي بفاطمة ، فالقربى التي بينه وبينهم ، فإنها معروفة عندهم (1).
* ولم يذكر ابن حجر العسقلاني في ( تخريج الكشفا ) إلا « المعارضة » قال : « وقد عارضه ما هو أولى منه ، ففي البخاري... » (2) وكذا في « فتح الباري » وأضاف : « يؤيد ذلك أن السورة مكية » (3).
* وقال ابن كثير : « وذكر نزول الآية في المدينة بعيد ، فإنها مكية ،
____________
(1) منهاج السنة 7 | 95 ـ 103.
(2) الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ـ مع الكشاف ـ 4 | 220.
(3) فتح الباري في شرح البخاري 8 | 458.

( 280 )

ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي ـ رضي الله عنه ـ إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحق تفسير هذه الآية بما فسّرها حبر الأمة... » (1).
* وقال القسطلاني : « والآية مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية منالهجرة. وتفسير الآية بما فسر به حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس أحق وأولى » (2).
* والشوكاني اقتصر على المعارضة وترجيح الحديث عن طاووس عن ابن عباس (3).
* وابن روزبهان ما قال إلا : « ظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم » (4).
* وقال عبد العزيز الدهولي ما حاصله :
« إنه وإن أخرج أحمد والطبراني ذلك عن ابن عباس ، لكن جمهور المحدثين يضعفونه ، لكون سورة الشورى بتمامها مكية ، وما خلق الحسن والحسين حينئذاك ، لو يتزوج علي بعد بفاطمة... والحديث في طريقه بعض الشيعة الغلاة ، وقد وصفه المحدثون بالصدق ، والظن الغالب أنه لم يكذب وإنما نقل الحديث بالمعنى. إذ كان لفظه « أهل بيتي » فخصهم الشيعي بالأربعة...
____________
(1) تفسير القرآن العظيم 4 | 101.
(2) إرشاد الساري في شرح البخاري 7 | 331.
(3) فتح القدير 4 | 537.
(4) إبطال الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحق ـ 3 | 20.

( 281 )

والمعنى المذكور لا يناسب مقام النبوة ، وإنما ذلك من شأن أهل الدنيا ، وأيضا ينافيه الآيات الكثيرة كقوله تعالى : ( ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله ) فلو كان خاتم الأنبياء طالبا للأجر لزم أن تكون منزلته أدنى من سائر الأنبياء ، وهو خلاف الإجماع » (1).
فهذه شبهات أعلام القوم في هذا المقام ، فلنذكر الشبهات بالترتيب ونتكلّم عليها :

1 ـ سورة الشورى مكية والحسنان غير موجودين :
ولعل هذه أهم الشبهات في المسألة ، وهي الأساس... ونحن تارة نبحث عن الآية المباركة بالنظر إلى الروايات ، وأخرى بقطع النظر عنها ، فيقع البحث على كلا التقديرين.
أما على الأول : فإن الآية المباركة بالنظر إلى الروايات المختلفة الواردة ـ سواء المفسرة بأهل البيت ، أو القائلة بأنها نزلت بمناسبة قول الأنصار كذا وكذا ـ مدنية ، ولذا قال جماعة بأن سورى الشورى مكية إلا الآيات :
قال القرطبي : « سورة الشورى مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة : إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة : ( قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) إلى آخرها » (2).
وقال أبو حيان : « قال ابن عباس : مكية إلا أربع آيات ، من قوله
____________
(1) التحفة الاثنا عشرية : 205.
(2) تفسير القرطبي 16 | 1.

( 282 )

تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) إلى آخر الأربع آيات فإنها نزلت بالمدينة » (1).
وقال الشوكاني : « وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة ( قل لا أسئلكم... ) (2).
وقا الآلوسي : « وفي البحر : هي مكية إلا أربع آيات من قوله تعالى : ( قل لا أسئلكم عليه أجرا ) إلى آخر آيات. وقال مقاتل : فيها مدني ، قوله تعالى : ( ذلك الذي يبشر الله عباده... ) واستثنى بعضهم قوله تعالى : ( أم يقولون افترى )...
وجوّز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب » (3).
وبهذا القدر كفاية.
ووجود آيات مدنية في سورة مكية أو بالعكس كثير ، ولا كلام لأحد في ذلك.
وأما على الثاني : فالآية دالة على وجوب مودة « القربى » أي : أقرباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والخطاب للمسلمين لا لغيرهم.
أما أنها دالة على وجوب مودة « قربى » النبي ، فلتبادر هذا المعنى منه ، وقد أذعن بهذا التبادر غير واحد من الأئمة ، نذكر منهم :
الكرماني ، صاحب « الكواكب الداري في شرح البخاري » (4).
والعيني ، صاحب « عمدة القاري في شرح البخاري ».
____________
(1) البحر المحيط 7 | 507.
(2) فتح القدير 4 | 524.
(3) روح المعاني 25 | 10.
(4) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري 18 | 80.

( 283 )

قال العيني بشرح حديث طاووس : « وحاصل كلام ابن عباس : إن جميع قريش أقارب النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وليس المراد من الآية بنو هاشم ونحوهم كما يتبادر الذهن إلى قول سعيد بن جبير » (1).
وأما أن الخطاب للمسلمين ، فلوجوه ، منها : السياق ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول :
( ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير * ذلك الذي يبشّر الله عباده الّذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور * أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور * وهو الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ).
فقد جاء الآية المباركة بعد قوله تعالى : ( ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ).

فإن قلت :
فبعدها : ( أم يقولون افترى على الله كذبا... ) ؟!
____________
(1) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 19 | 157.
( 284 )

قلت :
ليس المراد من ذلك المشركين ، بل المراد هم المسلمون ظظاهرا المنافقون باطنا ، يذل على ذلك قوله بعده : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) فالخطاب ليس للمشركين ، ولم تستعمل « التوبة » في القرآن إلا في العصاة من المسلمين.

فإن قلت :
فقد كان في المسمين في مكة منافقون ؟!

قلت :
نعم ، فراجع ( سورة المنافقون ) و( سورة المدثر ) وما قاله المفسرون (1).
وعلى هذا ، فقد كان الواجب على المسلمين عامة « مودة » أقرباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم... فهل ـ يا ترى ـ أمروا حينذاك بمودة أعمامه وبني عمومته ؟!
____________
(1) يراجع بهذا الصدد : تفاسير الفريقين ، خاصة في سورة المدثر ، المكية عند الجميع ، ويلاحظ اضطراب كلمات أبناء العامة وتناقضها ، في محاولات يائسة لصرف الآيات الدالة على ذلك عن ظواهرها ، فرارا ، من الإجابة عن السؤال بـ « من هم إذا ؟ » !!
أما الشيعة.. فقد عرفوا المنافقين منذ الوم الأول... وللتفصيل مكان آخر ، ولو وجدنا متسعا لوضعنا في هذه المسألة القرآنية التاريخية المهمة جدا رسالة مفردة وبالله التوفيق.

( 285 )

أما المشركون منهم.. فلا ، قطعا.. وأما المؤمنون منهم وقت نزول الآية أو بعده... فأولئك لم يكن لهم أي دور يذكر في مكة...
بل المراد « علي » عليه السلام ، فإنه الذي كان المشركون يبغضونه ويعادونه ، والمنافقون يحسدونه ويعاندونه ، والمؤمنون يحبونه ويوادونه.
ولا يخفى ما تدل عليه كلمتا « المودة » و« يقترف ».
ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل ـ في المدينة ـ عن المراد من « القربى » في الآية المباركة قال : « علي وفاطمة والحسن والحسين ».

2 ـ الرسول لا يسأل أجرا :
إن الرسول من قِبَل الله سبحانه وتعالى لا يسأل الناس أجرا على تبليغ الرسالة إليهم أصلا ، وإنما أجره على الله ، وهكذا كان الأنبياء السابقون :
قال نوح لقومه : ( إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) (1).
وقال هود : ( يا قوم لا أسئلكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ) (2).
وقال صالح : ( إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجي إلا على رب العالمين ) (3).
ومن هنا أصر بعضهم على أن الاستثناء منقطع ، وجوّز بعضهم ـ كالزمخشري وجماعة ـ أن يكون متصلا وأن يكون منقطعا.
____________
(1) سورة الشعراء 26 : 107 ـ 108.
(2) سورة هود 11 : 51.
(3) سورة الشعراء 26 : 143 ـ 145.

( 286 )

أقول :
ونبينا أيضا كذلك كما جاء في آيات عديدة ، منها :
(... قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين ) (1).
( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ) (2).
( قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) (2).
وقد أجاب المفسرون من الفريقين عن هذه الشبهة بأكثر من وجه ، وفي تفسيريّ الخازن والخطيب الشربيني منها وجهان...
ولكن يظهر ـ بالدقة ـ أن الآيات في الباب بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على أربعة أنحاء :
1 ـ ما اشتمل على عدم سؤال الأجر.
2 ـ ما اشتمل على سؤال الأجر لكنه « لكم ».
3 ـ ما اشتمل على عدم سؤال الأجر ، وطلب « اتخاذ السبيل إلى الله » عن اختيار.
4 ـ ما اشتمل على سؤال الأجر وهو « المودة في القربى ».
وأي تناف بين هذه الآيات ؟! يا منصفون !
____________
(1) سورة الأنعام 6 : 90.
(2) سورة سبأ 34 : 47.
(3) سورة الفرقان 25 : 57.

( 287 )

إنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يسأل الناس أجرا ، وإنما يريد منهم أن يتخذوا سبيلا إلى الله ، وهو ما لا يتحقق إلا بمودة أهل البيت ، وهو لهم... ولذا ورد عنهم عليه السلام : « نحن السبيل » (1)... نعم هم السبل وخاصة « إذا صارت الدنيا هرجا ومرحبا ، وتظاهرت الفتن ، وتقطعت السبل... » (2).
فإذن.. هم.. السبيل... وهذا معنى هذه الآية في محكم التنزيل ، ولا يخفى لوازم هذا الدليل فافهم واغتنم ، و ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن... ) وحسبنا الله ونعم الوكيل.

3 ـ لماذا لم يقل : إلا المودة للقربى ؟
وطرح هذه الشبهة من مثل الدهلوي غير بعيد ، لكنه من مثل ابن تيمية الذي يدّعي العربية عجيب !! وليته راجع كلام أهل الفن :
قال الزمخشري : « يجوز أن يكون استثناء متصلا ، أي : لا أسألكم أجرا إلا هذا وهو أن تودوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة ، لأن قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة.
ويجوز أن يكون منقطعا ، أي : لا أسئلكم أجرا قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم.
فإن قلت : هلا قيل : إلا مودة القربى ، أو : إلا المودة للقربى ؟ وما معنى قوله : ( إلا المودة في القربى ) ؟
____________
(1) فرائد السمطين ، وعنه في ينابيع المودة : 22.
(2) مجمع الزوائد 9 | 165.

( 288 )

قلت : جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد. تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله ، وليست « في » بصلة للمودة كاللام إذا قلت : إلا المودة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوفٍ تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس. وتقديره : إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى قرابة ، والمراد : في أهل القربى. وروي أنها لما نزلت قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وابناهما.
ويدل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم حسد الناس لي ، فقال أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن إيماننا وشمائلنا ، وذريتنا خلف أزواجنا ! » (1).
وقرره الفخر الرازي حيث قال : « أورد صاحب الكشاف على نفسه سؤالا فقال : هلا قيل : إلا مودة القربى ، أو : إلا المودة للقربى ، وما معنى قوله : ( إلا المودة في القربى ) ؟
وأجاب بأن قال : جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها كقولك : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد. تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله » (2)
وكذا أبو حيان واستحسنه (3).
____________
(1) الكشاف في تفسير القرآن 4 | 219 ـ 220.
(2) التفسير الكبير 27 | 167.
(3) البحر المحيط 7 | 516.

( 289 )

وقال النيسابوري : « ثم أمر رسوله بأن يقول : ( لا أسألكم ) على هذا التبليغ ( أجرا إلا المودة ) الكائنة ( في القربى ) جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ، ولهذا لم يقل : مودة القربى ، أو : المودة للقربى ، وهي مصدر بمعنى القرابة ، أي : في أهل القربى ، وفي حقهم » (1).
وقال أبو السعود بعد أن جعل الاستثناء متصلا : « وقيل : الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم أجرا قط ولكن أسألكم المودة.
و( في القربى ) حال منها. أي : المودة ثابتة في القربى متمكنة في أهلها أو في حق القرابة. والقربى مصدر كالزلفى ، بمعنى القرابة. روي : أنها لما نزلت قيل : يا رسول الله ، من قرابتك... » (2).
وراجع أيضا تفاسير : البيضاوي والنفسي والشربيني ، وغيرهم.

4 ـ المعارضة :
وهذه هي الشبهة الأخيرة ، وهي تتوقف على اعتبار ما أخرج أحمد وغيره عن طاووس عن ابن عباس ، والجواب عنها بالتفصيل في الفصل الرابع..

***

____________
(1) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري ـ 25 | 33.
(2) تفسير أبي السعود 8 | 30.