الفصل الخامس
دلالة الآية على الإمامة والولاية

وكيف كان... فالآية المباركة تدل على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام من وجوه :

1 ـ القرابة النسبية والإمامة :
إنه إن لم يكن النسبية دخل وأثر في الإمامة والخلافة ، فلا ريب في تقدم أمير المؤمنين عليه السلام ، إذ كلما يكون وجها لاستحقاقها فهو موجود فيه على النحو الأتم الأكمل الأفضل... لكن لها دخلا وأثرا كما سنرى..
ولقد أجاد السيد ابن طاووس المحلي حيث قال ـ ردا على الجاحظ في رسالته العثمانية ـ ما نصه :
« قال : وزعمت العثمانية : إن أحدا لا ينال الرئاسة في الدين بغير الدين. وتعلق في ذلك بكلام بسيط عريض يملأ كتابه ويكثر خطابه ، بألفاظ منضدة ، وحروف مسددة كانت أو غير مسددة. بيان ذلك :
إن الإمامية لا تذهب إلى أن استحقاق الرئاسة بالنسب ، فسقط جميع ما أسهب فيه الساقط ، ولكن الإمامية تقول : إن كان النسب وجه الإستحقاق فبنو هاشم أولى به ، ثم علي أولاهم به ، وإن يكن بالسبب فعلي أولى به إذ


( 312 )

كان صهر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن يكن بالتربية فعلي أولى به ، وإن يكن بالولادة من سيدة النساء فعلي أولى به ، وإن يكن بالهجرة فعلي مسببها بمبيته على الفراش ، فكل مهاجري بعد مبيته في ضيافته عدا رسول الله ، إذا الجميع في مقام عبيده وخوله ، وإن يكن بالجهاد فعلي أولى به ، وإن يكن بحفظ الكتاب فعلي أولى به ، وإن يكن بتفسيره فعلي أولى به على ما أسفلت ، وإن يكن بالعلم فعلي أولى به ، وإن يكن بالخطابة فعلي أولى به ، وإن يكن بالشعر فعلي أولى به.
قال الصولي فيما رواه : كان أبو بكر شاعرا وعمر شاعرا وعلي أشعرهم.
وإن يكن بفتح أبواب المباحث الكلامية فعلي أولى به ، وإن يكن بحسن الخلق فعلي أولى به ، إذ عمر شاهد به ، وإن يكن بالصدقات فعلي ـ على ما سلف ـ أولى به ، وإن يكن بالقوة البدنية فعلي أولى به ، بيانه : باب خيبر ، وإن يكن بالزهد فعلي أولى به في تقشفه وبكائه وخشوعه وفنون أسبابه وتقدم إيمانه ، وإن يكن بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في فضله فعلي أولى به ، بيانه : ما رواه ابن حنبل وغيره على ما سلف ، وإن يكن بالقوة الواعية فعلي أولى به ، بيانه : قول النبي صلى الله عليه وآله : « إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك وتعي ، وحق على الله أن تعي » ، وإن يكن بالرأي والحكم فعلي أولى به ، بيانه : شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله له على ما مضى بالحكمة ، وغير ذلك مما نبهنا عليه فيما مضى.
وإذا تقرر هذا بأن معنى التعلق لمن يذكر النسب إذا ذكره ، ولهذا تعجب أمير المؤمنين عليه السلام حيث يستولى على الخلافة بالصحابة ،


( 313 )

ولا يستولى عليها بالقرابة والصحابة.
ثم إني أقول : إن أبا عثمان أخطأ في قوله : « إن أحدا لا ينال الرئاسة في الدين بغير الدين ».
بيانه : أنه لو تخلى صاحب الدين من السداد ما كان أهلا للرئاسة ، وهو منع أن ينالها أحد إلا بالدين ، والاستثناء من النفي إثبات حاضر في غير ذلك من صفات ذكرتها في كتابي المسمى « بالآداب الحكيمة » متكثرة جدا ، ومنها ما هو ضروري ، ومنها ما هو دون ذلك.
ومن بغي عدو الإسلام أن يأتي متلفظا بما تلفظ به ، وأمير المؤمنين عليه السلام الخصم ، وتيجان شرفه المصادمة ، ومجد سؤدده المدفوع ، إذ هو صاحب الدين ، وبه قام عموده ، ورست قواعده ، وبه نهض قاعده ، وأفرغت على جيد الإسلام قلائده.
وأقول بعد هذا : إن للنسب أثرا في الرئاسة قويا.
بيانه : أنه إذا تقدم على أرباب الشرف النسبي من لا يدانيهم ، وقادهم من لا يقاربهم ولا يضاهيهم ، كانوا بالأخلق عنه نافرين آنفين ، بل إذا تقدم على أهل الرئيس الفائت غير عصبته ، وقادهم غير القريب الأدنى من لحمته ، كانوا بالأخلق عنه حائدين متباعدين ، وله قالين ، وذلك مظنة الفساد في الدين والدنيا ، وقد ينخزم هذا اتفاقا ، لكن المناط الظاهر هو ما إليه أشرت ، وعليه عوّلت.
وأقول : إن القرآن المجيد لما تضمن العناية بالأقربين من ذرية رسول الله صلى الله عليهم ومواددتهم ، كان ذلك مادة تقديمهم مع الأهلية التي لا يرجح غيرهم عليهم فيها ، فكيف إذا كان المتقدم عليهم لا يناسبهم فيها ولا يدانيها ؟!


( 314 )

قال الثعلبي بعد قوله تعالى ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) بعد أن حكى شيئا ثم قال : فأخبرني الحسين بن محمد [ قال : ] حدثنا برهان بن علي الصوفي ، [ قال : ] حدثنا حرب بن الحسين الطحان [ قال : ] حدثنا حسين الأشقر ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس ، ، قال : لما نزلت ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قالوا : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وابناهما.
وروى فنونا جمة غير هذا من البواعث على محبة أهل البيت ، فقال : أخبرنا أبو حسان المزكي ، [ قال : ] أخبرنا أبو العباس ، محمد بن إسحاق ، [ قال : ] حدثنا الحن بن علي بن زياد السري ، [ قال : ] حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، [ قال : ] حدثنا حسين الأشقر ، [ قال : ] حدثنا قيس ، [ قال : ] حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى )فقالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وولدهما.
وقال : أخبرنا أبو بكر بن الحرث ، [ قال : ] حدثنا أبو السبح ، [ قال : ] حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ، [ قال : ] أخبرنا إسماعيل بن يزيد ، [ قال : ] حدثنا قتيبة بن مهران ، [ قال : ] حدثنا عبد الغفور أبو الصباح ، عن أبي هاشم الرماني ، عن زاذان ، عن علي رضي الله عنه ، قال : فينا في آل حم ، إنه لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن ، ثم قرأ ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ).
وقال الكلبي : قل لا أسألكم على الإيمان جعلا إلا أن توادوا قرابتي ،


( 315 )

وقد رايت أن اذكر شيئا من الآي الذي يحسن أن تتحدث عنده » (1).

أقول :
لا ريب في أن للنسب والقرب النسبي تأثيرا ، وأن للعناية الإلهية بـ « القربى » ـ أي : بعلي والزهراء بضعة النبي وولديهما ـ حكمة ، وفي السنة النبوية على ذلك شواهد وأدلة نشير إلى بعضها بإيجاز :
أخرج مسلم والترمذي وابن سعد وغيرهم عن واثلة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : « إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفى من بني هاشم » (2).
قال النووي بشرحه : « استدل به أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفء لهم ، ولا غير بني هاشم كفء لهم إلا بني عبد المطلب ، فإنهم هم وبنو هاشم شيء واحد ، كما صرّح به في الحديث الصحيح » (1).
وعقد الحافظ أبو نعيم : « الفصل الثاني : في ذكر فضيلته صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بطيب مولده وحسبه ونسبه وغير ذلك » فذكر فيه أحاديث كثيرة بالأسانيد ، منها ما تقدم ، ومنها الرواية التالية :
« إن الله عز وجل حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه ، ثم حين
____________
(1) بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية 387 ـ 391.
(2) جامع الأصول 9 | 396 عن مسلم والترمذي ، الطبقات الكبرى 1 | 20 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى : 62.
(3) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15 | 36.

( 316 )

خلق القبائل جعلني من خير قبيلتهم ، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم ، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم أبا وخيرهم نفسا » (1).
وذكر الحافظ محب الدين الطبري بعض هذه الأحاديث تحت عنوان « ذكر اصطفائهم » و« ذكر أنهم خير الخلق » (2).
وقال القاضي عياض : « الباب الثاني في تكميل الله تعالى له المحاسن خلقا وخلقا ، وقرانه جميع الفضائل الدينية والدنيوية فيه نسقا » فذكر فيه فوائد جمة في كلام طويل (3).
إذن ، هناك ارتباط بين « آية المودة » و« آية التطهير » وأحاديث « الاصطفاء » و« أنهم خير خلق الله ».
ثم إن في أخبار السقيفة والاحتجاجات التي دارت هناك بين من حضرها من المهاجرين والأنصار ما يدل على ذلك دلالة واضحة ، فقد أخرج البخاري أن أبا بكر خاطب القوم بقوله : « لن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا » (4) ولا يستريب عاقل في أن عليا عليه السلام هو الأشرف ـ من المهاجرين والأنصار كلهم ـ نسبا ودارا ، فيجب أن يكون هو الإمام.
بل روى الطبري وغيره أنه قال كلمة أصرح وأقرب في الدلالة ، فقال
____________
(1) دلائل النبوة 1 : 66 | 16.
(2) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : 10.
(3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : 46.
(4) صحيح البخاري | كتاب الحدود ـ الباب 31 ، وانظر : الطبري 3 | 203 ، سيرة ابن هشام 2 | 657 ، وغيرهما.

( 317 )

الطبري إنه قال في خطبته : « فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم ولدينهم ، وكل الناس لهم مخالف زار عليهم ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم وإجماع قومهم عليهم.
فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن به وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم في ذلك إلا ظالم » (1).
وفي رواية ابن خلدون : « نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره ، ولا ننازع في ذلك » (2).
وفي رواية المحب الطبري عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب : « فكنا ـ معشر المهاجرين ـ أول الناس إسلاما ، ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه ، ونحن أهل الخلافة ، وأوسط الناس أنسابا في العرب ، ولدتنا العرب كلها ، فليس منهم قبيلة إلا لقريش فيها ولادة ، ولن تصلح إلا لرجل من قريش... » (3).
وهل اجتمعت هذه الصفات ـ في أعلى مراتبها وأسمى درجاتها ـ إلا في علي عليه السلام ؟! إن عليا عليه السلام هو الذي توفرت فيه هذه الصفات واجتمعت الشروط... فهو « عشيرةالنبي » و« ذو رحمه » و« وليه » وهو « أول من عبد الله في الأرض وآمن به » فهو « أحق الناس بهذا الأمر من بعده » و« لا ينازعه في ذلك إلا ظالم » !!
____________
(1) تاريخ الطبري 3 | 219.
(2) تاريخ ابن خلدون 2 | 854.
(3) الرياض النضرة 1 | 213.

( 318 )

ومن هنا نراه عليه السلام يحتج على القوم في الشورى بـ « الأقربية » فيقول : « أنشدكم بالله ، هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في الرحم منّي ، ومن جعله نفسه وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه ؟! قالوا : اللهم لا » الحديث (1).
وهذا ما اعترف به له عليه السلام طلحة والزبير ، حين راجعه الناس بعد قتل عثمان ليبايعوه ، فقال ـ في ما روي عن ابن حنفية ـ : « لا حاجة لي في ذلك ، عليكم بطلحة والزبير.
قالوا : فانطلق معنا. فخرج علي وأنا معه في جماعة من الناس ، حتى أتينا طلحة بن عبيدالله فقال له : إن الناس قد اجتمعوا ليبايعوني ولا حاجة لي في بيعتهم ، فابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله.
فقال له طلحة : أنت أولى بذلك مني وأحق ، لسابقتك وقرابتك ، وقد اجتمع لك من هؤلاء الناس من قد تفرق عني.
فقال له علي : أخاف أن تنكث بيعتي وتغدر بي !
قال : لا تخافن ذلك ، فوالله لا ترى من قبلي أبدا شيئا تكره.
قال : الله عليك كفيل.
ثم أتى الزبير بن العوام ـ ونحن معه ـ فقال له مثل ما قال لطلحة ورد عليه مثل الذي رد عليه طلحة » (2).
هذا ، وقد كابر الجاحظ في ذلك ، في رسالته التي وضعها للدفاع عن العثمانية ، فرد عليه السيد ابن طاووس الحلي ـ طاب ثراه ـ قائلا :
____________
(1) الصواعق المحرقة : 93 عن الدارقطني.
(2) كنز العمال 5 | 747 ـ 750.

( 319 )

« وتعلق بقوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ).
وليس هذا دافعا كون القرابة إذا كان ذا دين وأهلية أن يكون أولى من غيره وأحق ممن سواه بالرئاسة.
وتعلق بقول رسول الله لجماعة من بني عبد المطلب : إني لا أغني عنكم من الله شيئا.
وهي رواية لم يسندها عن رجال ، ولم يضفها إلى كتاب.
ومما يرد عليها ما رواه الثعلبي ، قال : وأخبرنا يعقوب بن السري ، [ قال : ] أخبرنا محمد بن عبدالله الحفيد ، [ قال : ] حدثنا عبد الله بن أحمد ابن عامر ، [ قال : ] حدثني أبي ، حديث علي بن موسى الرضا عليه السلام ، قال : حدثني أبي موسى بن جعفر ، [ قال : ] حدثنا أبي جعفر بن محمد ، [ قال : ] حدثنا أبي محمد بن علي ، [ قال : ] حدثنا أبي علي بن الحسين ، [ قال : ] حدثنا أبي الحسين بن علي ، [ قال : ] حدثنا أبي علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد ن ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها ، فأنا جازيه [ به ] غدا إذا لقيني في القيامة.
ومن كتاب الشيخ العالم أبي عبد الله محم بن عمران بن موسى المرزباني « في ما نزل من القران في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام » ما يشهد بتكذيب قصد الجاحظ ما حكايته :
ومن سورة النساء ، حدّثنا عليّ بن محمّد ، قال : حدّثني الحسن بن الحكم الحبري ، قال : حدّثنا حسن بن حسين ، قال : حدثنا حيان ابن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : ( واتقوا الله


( 320 )

الذي تساءلون به والأرحام )... الآية ، نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته وذوي أرحامه ، وذلك أن كل سبب ونسب منقطع [ يوم القيامة ] إلا ما كان من سببه ونسبه ( إن الله كان عليكم رقيبا ).
والرواية عن عمر شاهدة بمعنى هذه الرواية حيث ألح بالتزويج عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
وتعلق بقوله تعالى : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ).
أقول : إن الجاحظ جهل أو تجاهل ، إذ هي في شأن الكافرين ، لا في سادات المسلمين أو أقرباء رسول رب العالمين.
بيانه : قوله تعالى : ( ولا هم ينصرون ).
وتعلق بقوله تعالى : ( يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ) ولم يتمم الآية ، تدليسا وانحرافا ، أو جهلا ، أو غير ذلك ، والأقرب بالأمارات الأول ، لأن الله تعالى تمم ذلك بقوله : ( ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم ).
وخلصاء الذرية والقرابة مرحومون بالآي والأثر ، فسقط تعلقه ، مع أن هذا جميعه ليس داخلا في كون ذي الدين والأهلية لا يكون له ترجيح في الرئاسة وتعلق له بالرئاسة.
وتعلق بقوله تعالى : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) وليس هذا مما يدخل في تقريره الذي شرع فيه ، وإن كان حديثا خارجا عن ذلك ، فالجواب عنه : بما أن المفسرين أو بعضهم قالوا في معنى قوله تعالى : ( سليم ) أي : لا يشرك ، وهذا صحيح.


( 321 )

وتعلق بقوله تعالى : ( اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود ) وليس هذا من الرئاسة الدنياوية في شيء.
وبعد ، فهو مخصوص بقرابة النبي عليه السلام بالأثر السالف عن الرضا.
وبعد ، فإن المفسرين قالوا عند قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قالوا : الشفاعة ، وإذا كان الرسول شافعا في عموم الناس فأولى أن يشفع في ذريته ورحمه ، وكذا قيل في قوله تعالى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) إنها الشفاعة.
وتعلق بقوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ ابني آدم ) وليس هذا مما حاوله من سابق تقريره في شيء.
وتعلق في قصة نوح وكنعان ، وليس هذا مما نحن فيه في شيء ، أين كنعان من سادات الإسلام ؟!
وتعلق بقوله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) وللإمامية في هذا مباحث سديدة ، إذ قالوا : من سبق كفره ، ظالم لا محالة فيما مضى ، فلا يكون أهلا للرئاسة ، فهذه واردة على الجاحظ لا له.
ورووا في شيء من ذلك الرواية من طرق القوم ، وساق ما لا صيور له فيما نحن بصدده » (1).

2 ـ وجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة :
إنه ليس المراد من « المودة » هو « المحبة المجردة » ، لا سيما في مثل
____________
(1) بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية : 391 ـ 397.

( 322 )

الآية المباركة ( ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة... ) فإنه قد جعلت « المودة » ـ بناء على اتصال الاستثناء ـ أجرا للرسالة ، ومن المعلوم أنه لولا التساوي والتناسب بين الشيء ومقابله لم يصدق على الشيء عنوان « الأجر » ، وحينئذ فإذا لاحظنا عظمة الرسالة المحمدية عند الله وعند البشرية اهتدينا إلى عظمة هذا الأجر وهو « المودة في القربى ».
وكذا بناء على الانقطاع ، لأن الروايات قد دلت على أن المسلمين اقترحوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يدفعوا إليه في مقابل أداء الرسالة من الأموال ما يكون معه في سعة فأجاب ـ بناء على هذا القول ـ بالرد وأنه لا يسألهم أجرا أصلا ، ثم قال : ولكن « المودة في القربى » فجعلها هي الشيء المطلوب منهم والواجب عليهم..
فإيجاب المودة ـ في مثل هذا المقام ، دون غيرها مما كان بالإمكان أن يطلبه منهم ـ يدل على أن هذا الأمر أهم الأشياء عند الله والرسول.
وعلى الجملة .. ليس المراد مجرد المودة والمحبة ، بل هي المحبة المستتبعة للانقياد والطاعة ، قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (1) والاتباع يعني إطاعة الأمر كما في الآية المباركة : ( وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ) (2).
والاتباع ، والانقياد التام ، ، والإطاعة المطلقة ، هو معنى الإمامة والولاية... قال العلامة الحلي : « الرابعة : قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) روى الجمهور...
____________
(1) سورة النساء 4 : 31. وراجع التفاسير كالرازي 8 | 17.
(2) سورة النور 24 : 54.

( 323 )

ووجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة » (1).
وقال أيضا : « البرهان السابع : قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) روى أحمد بن حنبل...
وغير علي من الصحابة والثلاثة لا تجب مودته ، فيكون علي أفضل فيكون هو الإمام ، ولأن مخالفته تنافي المودة وبإمتثال أوامره تكون مودته ، فيكون واجب الطاعة ، وهو معنى الإمامة » (2).

3 ـ وجوب المحبة المطلقة يستلزم الأفضلية :
وأيضا ، فإن عليا ممن وجبت محبته ومودته على نحو الإطلاق ، ومن وجبت محبته كذلك كان هو الأحب ، ومن كان أحب الناس إلى الله ورسوله كان أفضلهم ، ومن كان أفضل كان هو الإمام... فعلي عليه السلام هو الإمام بعد رسول الله.
أما المقدمة الأولى فواضحة جدا من الآية المباركة.
وأما المقدمة الثانية فواضحة كذلك ، ومما يدل على أن عليا عليه السلام أحب الخلق إلى الله ورسوله : حديث الطائر ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد أهدي إليه طائر ـ : « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، فجاء علي فأكل معه » رواه عنه من الصحابة :
1 ـ علي أمير المؤمنين عليه السلام.
2 ـ عبد الله بن عباس.
3 ـ أبو سعيد الخدري.
____________
(1) نهج الحق : 175.
(2) منهاج الكرامة ـ المطبوع في آخر المجلد الثاني من « منهاج السنة » ـ : 74.

( 324 )

4 ـ سفينة.
5 ـ أبو الطفيل عامر بن واثلة.
6 ـ أنس بن مالك.
7 ـ سعد بن أبي وقاص.
8 ـ عمرو بن العاص.
9 ـ أبو مرازم يعلى بن مرة.
10 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.
11 ـ أبو رافع.
12 ـ حبشي بن جنادة.
ورواه عنهم من التابعين عشرات الرجال.
ومن مشاهير الأئمة والحفاظ والعلماء في كل قرن ، أمثال :
أبي حنيفة ، إمام المذهب.
وأحمد بن حنبل ، إمام المذهب.
وأبي حاتم الرازي.
وأبي عيسى الترمذي.
وأبي بكر البزار.
وأبي عبد الرحمن النسائي.
وأبي الحسن الدارقطني.
وأبي عبد الله الحاكم النيسابوري.
وأبي بكر ابن مردويه.
وأبي نعيم الأصفهاني.
وأبي بكر البيهقي.


( 325 )

وأبي عمر ابن عبدالبر.
وأبي محمد البغوي.
وأبي الحسن العبدري.
وأبي القاسم ابن عساكر.
وابن حجر العسقلاني.
وجلال الدين السيوطي.
وعلى الجملة ، فهذا الحديث نص في أن عليا أحب الخلق إلى الله ورسوله (1).
وأما المقدمة الثالثة فهي واضحة جدا كذلك ، وقد نص غير واحد منه على ذلك أيضا :
قال ولي الدين ابن العراقي ، في كلام له نقله الحافظ القسطلاني وابن حجر المكي عنه : « المحبة الدينية لازمة للأفضلية فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر » (2).
وقال الرازي بتفسير ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) : « والمراد من محبّة الله تعالى له إعطاؤه الثواب » (3).
ومن الواضح : أن من كان الأحب إلى الله كان الأكثر ثوابا ، والأكثر ثوابا هو الأفضل قطعا.
وقال ابن تيمية : « والمقصود أن قوله : ( وغير علي من الثلاثة لا تجب
____________
(1) وهو يشكلّ الجزئين الثالث عشر والرابع عشر من كتابنا الكبير : « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار » وهما تحت الطبع.
(2) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية ، الصواعق المحرقة : 97.
(3) تفسير الرازي 8 | 17.

( 326 )

مودته ) كلام باطل عند الجمهور ، بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنة من مودة علي ، لأن وجوب المودة على مقدار الفضل ، فكل من كان أفضل كانت مودته أكمل...
وفي الصحيح : إن عمر قال لأبي بكر يوم سقيفة ـ بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله » (1).
وقال التفتازاني : « إن ( أحب خلقك ) يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر منه ، عملا بأدلة أفضليتهما » (2)
وعلى الجملة ، فإن هذه المقدمة واضحة أيضا ولا خلاف لأحد فيها.
وأما المقدمة الرابعة فبديل العقل والنقل ، وبه صرّح غير واحد من أعلام أهل الخلاف ، حتى أنهم نقلوا عن الصحابة ذلك كما تقدم في بعض الكلمات في فصل الشبهات ، وقال الشريف الجرجاني في الشورى وأنه لماذا جعلت في هؤلاء الستة دون غيرهم :
« وإنما جعلها شورى بينهم ، لأنه رآهم أفضل ممن عداهم وأنه لا يصلح للإمامة غيرهم » (3).
وقال ابن تيمية : « تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم » (4).
وقال محب الدين الطبري : « قولنا : لا ينعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل » (5).
____________
(1) منهاج السنة 7 | 106 ـ 107.
(2) شرح المقاصد 5 | 299.
(3) شرح المواقف 8 | 365.
(4) منهاج السنة : 3 | 277 الطبعة القديمة.
(5) الرياض النضرة ـ باب خلافة أبي بكر ـ 1 | 216.

( 327 )

وكذا قال غيرهم... ولا حاجة إلى ذكر كلماتهم.
وإلى هذا الوجه أشار العلامة الحلي في كلامة السابق.
وقال المحقق نصير الدين الطوسي في أدلة أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام : « ووجوب المحبة ».
فقال العلامة بشرحه : « هذا وجه تاسع عشر وتقريره : إن عليا عليه السلام كان محبته ومودته واجبة دون غيره من الصحابة ، فيكون أفضل منهم. وبيان المقدمة الأولى : إنه كان من أولى القربى ، فتكون مودته واجبة لقوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) » (1).

4 ـ وجوب المحبة المطلقة يستلزم العصمة :
وأيضا : فإن إطلاق الأمر بمودتهم دليل على عصمتهم ، وإذا ثبتت العصمة ثبتت الإمامة ، وهذا واضح.
أما أن إطلاق الأمر بمودتهم ـ الدال على الإطاعة المطلقة ـ دليل على عصمتهم ، فيكفي فيه كلام الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم ) (2).
فإنه قال :
« إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأن كان بتقدير إقدامه على الخطأ
____________
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 310.
(2) سورة النساء 4 : 59.

( 328 )

يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنه محال فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أن ( أولي الأمر ) المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوما » (1).
فهذا محل الشاهد من كلامه ، وأمّا من « اُولي الأمر » الذين أمرنا بإطاعتهم ؟ فذاك بحث آخر..
وعلى الجملة ، فوجوب الإطاعة والاتباع على الإطلاق ـ المستفاد من وجوب المحبة المطلقة ـ مستلزم للعصمة.
وقد ذكر هذا الوجه غير واحد من علمائنا :
قال البياضي العاملي رحمه الله : « جعل الله أجر رسالة نبيه في مودة أهله في قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ).
قالوا : المراد القربى في الطاعات ، أي : في طاعة أهل القربى.
قلنا : الأصل عدم الإضمار ، ولو سلم فلا يتصور إطلاق الأمر بمودتهم إلا مع عصمتهم.
قالوا : المخاطب بذلك الكفار ، يعني : راقبوا نسبي منكم ، يعني القرشية.
قلنا : الكفار لا تعتقد للنبي أجرا حتى تخاطب بذلك.
____________
(1) تفسير الرازي 10 | 144.
( 329 )

على أن الأخبار المتفق عليها تنافي الوجهين ، ففي صحيح البخاري... » (1).
وقال السيد الشبر : « وجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة ، لأن المودة إنما تجب مع العصمة ، إذ مع وقوع الخطأ منهم يجب ترك مودتهم كما قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) (2). وغيرهم عليهم السلام ليس بمعصوم اتفاقا. فعلي وولداه الأئمة » (3).

دحض الشبهات المثارة على دلالة الآية على الإمامة :
أقول :
وهذا كلام السيد الشهيد التستري في الرد على ابن روزبهان ، الذي أشكل على العلامة الحلي..
* قال ابن روزبهان : « ونحن نقول : إن مودته واجبة على كل المسلمين ، والمودة تكون مع الطاعة ، ولا كل مطاع يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى ».
فأجاب السيد رحمه الله : « وأما ما ذكره من أنه لا يدل على خلافة علي عليه السلام فجهالة صرفة أو تجاهل محض ! لظهور دلالة الآية على أن مودة علي عليه السلام واجبة بمقتضى الآية ، حيث جعل الله تعالى أجر الإرسال إلى ما يستحقبه الثواب الدائم مودة ذوي القربى ، وإنما يجب
____________
(1) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1 | 188.
(2) سورة المجادلة 58 : 22.
(3) حق اليقين في معرفة أصول الدين 1 | 270.

( 330 )

ذلك مع عصمتهم ، إذ مع وقوع الخطأ عنهم يجب ترك مودتهم لقوله تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) الآية. وغير علي ليس بمعصوم بالاتفاق ، فتعين أن يكون هو الإمام.
وقد روى ابن حجر الباب الحادي عشر من صواعقه عن إمامه الشافعي شعرا في وجوب ذلك برغم أنف الناصب ، وهو قوله :

يا أهل بيت رسول الله حبكم * فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكـم من عظيم القدر أنكم * من لم يصل عليكم لا صلاة له

على أن إقامة الشيعة للدليل على إمامة علي عليه السلام على أهل السنة غير واجب بل تبرعي ، لاتفاق أهل السنة معهم على إمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غاية الأمر أنهم ينفون الواسطة وأهل اسنة يثبتونها ، والدليل على المثبت دون النافي كما تقرر في موضعه ، إلا أن يرتكبوا خرق الإجماع بإنكار إمامته مطلقا ، فحينئذ يجب على الشيعة إقامة الدليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل » (1).
وقال الشيخ المظفر في جواب ابن روزبهان بعد كلام له : « فيتعين أن يكون المراد بالآية : الأربعة الأطهار ، وهي تدل على أفضليتهم وعصمتهم وأنهم صفوة الله سبحانه ، إذ لو يكونوا كذلك لم تجب مودتهم دون غيرهم ، ولم تكن مودتهم بتلك المنزلة التي ما مثلها منزلة ، لكونها أجرا للتبليغ والرسالة الذي لا أجر ولا حق يشبهه.
ولذا لم يجعل الله المودة لأقارب نوح وهود أجرا لتبليغهما ، بل قال
____________
(1) إحقاق الحق ـ في الرد على ابن روزبهان ـ 3 | 23.
( 331 )

لنوح : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله ) وقال لهود : ( وقل لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ).
فتنحصر الإمامة بقربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ لا تصح إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، لا سيما بهذا الفضل الباهر مضافا إلى ما ذكره المصنف ـ رحمه الله ـ من أن وجوب المودة مطلقا يستلزم وجوب الطاعة مطلقا ، ضرورة أن العصيان ينافي الود المطلق ، ووجوب الطاعة مطلقا يستلزم العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم بالإجماع ، فتنحصر الإمامة بهم ولا سيما مع وجوب طاعتهم على جميع الأمة.
وقد فهم دلالة الآية على الإمامة الصحابة ، ولذا اتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضهم فقالوا : ما يريد إلا أن يحثنا على قرابته بعده ، كما سمعته من بعض الروايات السابقة (1) وكل ذي فهم يعرفها من الآية الشريفة ، إلا أن القوم أبوا أن يقروا بالحق ويؤدوا أجر الرسالة ، فإذا صدرت من أحدهم كلمة طيبة لم تدعه العصبية حتى يناقضها... » (2) !
* وبالتأمل في الوجوه التي ذكرناها وما نص عليه علماؤنا ، يظهر الجواب عن كلام السعد التفتازاني حيث ذكر في مباحث الأفضلية قائلا :
« القائلون بأفضلية علي رضي الله عنه تمسكوا بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) الآية... وقوله تعالى : ( قل لا
____________
(1) المعجم الكبير 12 | 26 ، وغيره.
(2) دلائل الصدق لنهج الحق 2 | 125 ـ 126.

( 332 )

أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قال سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين نودهم ؟ قال : علي وفاطمة وولداها. ولا يخفى أن من وجبت محبته بحكم نص الكتاب كان أفضل. وكذا من ثبتت نصرته للرسول بالعطف في كلام الله تعالى عنه على اسم الله وجبريل ، مع التعبير عنه بـ « صالح المؤمنين » وذلك قوله تعالى : ( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ). فعن العباس ـ رضي الله عنه ـ أن المراد به علي... ».
قال : « والجواب : أنه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتصافه بالكمالات واختصاه بالكرامات ؛ إلا أنه لا يدل على الأفضلية ـ بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله ـ بعد ما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر ثم عمر ، والاعتراف من علي بذلك !
على أن في ما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصل ، مثل : إن المراد بأنفسنا نفس النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم كما يقال : دعوت نفسي إلى كذا. وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي ـ رضي الله عنه ـ فلا اختصاص به » (1).

أقول :
قد عرفت أن الآية المباركة تدل على وجوب محبة علي عليه السلام ، ووجوب المحبة المطلقة يدل على أنه الأحب عند الله ورسوله ، والأحبية دالة على الافضلية.
____________
(1) شرح المقاصد 5 | 295 ـ 299.
( 333 )

وأيضا : وجوب المحبة المطلقة يستلزم العصمة وهي شرط الإمامة.
وأما دعوى أفضلية أبي بكر وعمر فأول الكلام... كدعوى عدم الاختصاص بعلي عليه السلام ، لقيام الإجماع على عدم عصمة أبي بكر وعمر...
* وقد اضطرب ابن تيمية في هذا المقام ، فقال : « إنا نسلم أن عليا تجب مودته وموالاته بدون الاستدلال بهذه الآية ، لكن ليس في وجوب موالاته ومودته ما يوجب اختصاصه بالإمامة والفضيلة. وأما قوله : والثلاثة لا تجب مودتهم ؛ فممنوع ، بل يجب أيضا مودتهم وموالاتهم ، فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ، ومن كان يحبه الله وجب علينا أن نحبه ، فإن الحب في الله والبغض في الله واجب ، وهو أوثق عرى الإيمان ، وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين ، وقد أوجب الله موالاتهم ، بل قد ثبت أن الله رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن ، وكل من رضي الله عنه فإنه يحبه ، والله يحب المتقين والمحسنين والمسقطين والصابرين... » (1).
فإن الرجل قد خصم نفسه باعترافه بوجوب محبة : المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين... بل مطلق المؤمنين... فإن أحدا لا ينكر شيئا من ذلك ، ومن يقول بأن المؤمن ـ إذا كان مؤمنا حقا ـ لا يجب أن نحبه لا سيما إذا كان مع ذلك من أهل التقوى والإحسان والصبر ؟!
لكن الكلام في المحبة المطلقة ، وفي الأحبية عند الله ورسوله ، المستلزمة للأفضلية وللعصمة ووجوب الطاعة... هذه الأمور التي لم يقل أحد بوجودها في غير علي عليه السلام ، لا سيما العصمة ، إذ قام الإجماع
____________
(1) منهاج السنة 7 | 103 ـ 104.
( 334 )

على عدمها في غيره.
ثم إن ابن تيمية شرع يستدل ببعض الأخبار التي يروونها عن النبي صلى الله عليه وآله سلم في أن أحب الناس إليه عائشة !! قيل : فمن الرجال ؟ قال : أبوها ! وأن عمر قال لأبي بكر في السقيفة : أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله !!
وكل عاقل يفهم ما في الاستدلال بمثل هذه الأخبار !!
* ولقد أحسن الآلوسي حيث لم يستدل بشيء من أخبارهم في هذا البحث ، فإنه قد انتحل كلام عبد العزيز الدهلوي واعتمده في الجواب عن استدلال الإمامية ، إلا أنه بتر كلامه ولم يأت به إلى الآخر ! وهو ما سنشير إليه :
قال الآلوسي : « ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه ، قال : علي كرم الله تعالى وجهه وأجب المحبة ، وكل واجب المحبة واجب الطاعة ، وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة. ينتج : علي رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة. وجعلوا الآية دليل الصغرى.
ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث :
أما أولا : فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها : لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي. وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول. وقيل في هذا المعنى : إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة ، فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقرابتهم. وأيضا فيه منافاة ما لقوله تعالى :


( 335 )

( وما تسألهم عليه من أجر ).
وأما ثانيا : فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة ، فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات : إن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية ، مع أنه لا يجب طاعة كل منهم.
وأما ثالثا : فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة ، أي الزعامة الكبرى ، وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ، ونص : ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) يأبى ذلك.
وأما رابعا : فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى : أهل البيت واجبو الطاعة ، ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا تنتج النتيجة التي ذكروها ، ولو سلمت جميع مقدماتها ، بل تنتج أهل البيت صاحبوا الإمامة ، وهم لا يقولون بعمومه.
إلى غير ذلك من الأبحاث. فتأمل ولا تغفل » (1).

أقول :
هذا كله كلام الدهلوي بعينه ! وقد جاء بعده في « التحفة الاثنا عشرية » الاستدلال بأحاديث.
* قال الدهلوي : « روى أبو طاهر السلفي في مشيخته عن أنس ، قال : قال رسول الله : حب أبي بكر وشكره واجب على كل أمتي.
وروى ابن عساكر عنه نحوه. ومن طريق آخر عن سهل بن سعد
____________
(1) روح المعاني 29 | 33.
( 336 )

الساعدي.
وأخرج الحافظ عمر بن محمد بن خضر الملا في سيرته عن النبي : أنه قال : إن الله تعالى فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كما فرض عليكم الصلاة والصوم والحج.
وروى ابن عدي ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، أنه قال : حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق.
وروى ابن عساكر ، عن جابر : إن النبي قال : حب أبي بكر وعمر من الإيمان ، وبغضهما كفر.
وروى الترمذي أنه أتي بجنازة إلى رسول الله فلم يصل عليه وقال : إنه كان يبغض عثمان فأبغضه الله ».
ثم إنه التفت إلى عدم جواز إلزام الإمامية بما اختص أهل السنة بروايته ، فأجاب قائلا : « إنه وإن كانت هذه الأخبار في كتب أهل السنة فقط ، لكن لما كان الشيعة يقصدون إلزام أهل السنة بروايتهم فإنه لا بد من لحاظ جميع روايات أهل السنة ، ولا يصح إلزامهم برواية منها.
وإن ضيقوا على أهل السنة ، أمكن إثبات وجوب محبة الخلفاء الثلاثة من كتاب الله واقوال العترة ، فقوله تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) نزل ـ بالإجماع ـ في حق المقاتلين للمرتدين ، وقد كان الثلاثة أئمة هؤلاء المقاتلين ، ومن أحبه الله وجبت محبته. وعلى هذا القياس » !
هذا آخر كلام الدهلوي (1).
____________
(1) التحفة الاثنا عشرية : 205.