الفصل الخامس
في دفع شبهات المخالفين

وتخلص الكلام في الفصل السابق في أن الآية المباركة دالة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، إن لم يكن بالنص فبالدلالة على العصمة على الأفضلية للأحبية والأقربية وغيرهما من الوجوه... ولم يكن هناك أي مجال للطعن في سند الحديث أو التلاعب بمتنه...
فلننظر في كلمات المخالفين في مرحلة الدلالة :

* أما إمام المعتزلة ، فقد قال :
« دليل آخر لهم : وربما تعلقوا بآية المباهلة وأنها لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأن ذلك يدل على أنه الأفضل ، وذلك يقتضي أنه بالإمامة أحق ولا بد من أن يكون هو المراد بقوله ( وأنفسنا وأنفسكم ) الآية. لأنه عليه السلام لا يدخل تحت قوله تعالى : ( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) فيجيب أن يكون داخلا تحت قوله : ( وأنفسنا وأنفسكم ) ، ولا يجوز أن يجعله من نفسه إلا وهو يتلوه في الفضل.
وهذا مثل الأول في أنه كلام في التفصيل ، ونحن نبين أن الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل.
وفي شيوخنا من ذكر عن أصحاب الآثار أن عليا عليه السلام لم يكن


( 437 )

في المباهلة.
قال شيخنا أبو هاشم : إنما خصص صلى الله عليه وآله وسلم من تقرب منه في النسب ولم يقصد الإبانة عن الفضل ، ودل على ذلك بأنه عليه السلام أدخل فيها الحسن والحسين عليهما السلام مع صغرهما لما اختصا به من قرب النسب. وقوله : ( أنفسنا وأنفسكم ) يدل على هذا المعنى ، لأنه أراد قرب القرابة ، كما يقال في الرجل يقرب في النسب من القوم : أنه من أنفسهم.
ولا ينكر أن يدل ذلك على لطف محله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشدة محبته له وفضله ، وإنما أنكرنا أن يدل ذلك على أنه الأفضل أو على الإمامة... » (1)

أقول :
ويتلخص هذا الكلام في أمور :
الأول : إن الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل.
وهذا ـ في الواقع ـ تسليم باستدلال الإمامية بالآية على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام ، وكون الإمامة في من ليس بأفضل لم يرتضه حتى مثل ابن تيمية !
والثاني : إن عليا لم يكن في المباهلة.
وهذا أيضا دليل على تمامية استدلال الإمامية ، وإلا لم يلتجؤا إلى هذه
____________
(1) المغني في الإمامة : 20 القسم 1 | 142.
( 438 )

الدعوى ، كما التجأ بعضهم ـ كالفخر الرازي ـ في الجواب عن حديث الغدير ، بأن عليا لم يكن في حجة الوداع !
والثالث : إنه لم يكن القصد إلى الإبانة عن الفضل ، بل أراد قرب القرابة.
وهذا باطل ، لأنه لو أراد ذلك فقط ، لأخرج غيرهم من أقربائه كالعباس ، وهذا ما تنبه إليه ابن تيمية فأجاب بأن العباس لم يكن من السابقين الأولين ، فاعترف ـ حيث يدري أو لا يدري ـ بالحق.
هذا ، ولا يخفى أن معتمد الأشاعرة في المناقشة هو هذا الوجه الخير ، وبهذا يظهر أن القوم عيال على المعتزلة ، وكم له من نظير !!
* وقال ابن تيمية (1) :
« أما أخذه عليا وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة ، فحديث صحيح ، رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص. قال في حديث طويل : « لما نزلت هذه الآية : ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) دعا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي ».
ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية.
وقوله : ( قد جعل الله نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والاتحاد محال ، فبقي المساواة له ، وله الولاية العامة ، فكذا لمساويه ).
قلنا : لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة ، ولا دليل على ذلك ، بل حمله
____________
(1) أوردنا كلامه بطوله ، ليظهر أن غيره تبع له. لئلا يظن ظان أنا تركنا منه شيئا له تأثير في البحث !
( 439 )

على ذلك ممتنع ؛ لأن أحدا لا يساوي رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، لا عليا ولا غيره.
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة ، قال تعالى في قصة الإفك : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) وقد قال في قصة بني إسرائيل : ( فتوبوا إلى باررئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ) أي : يقتل بعضكم بعضا ، ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين ، ولا أن يكون من عبد العجل مساويا لمن لم يعبده.
وكذلك قد قيل في قوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، وإن كانوا غير متساويين.
وقال تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) أي : لا يلمز بعضكم بعضا فيطعن عليه ويعيبه ، وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن ، مع أنهم غير متساوين لا في الأحكام ولا في الفضيلة ، ولا الظالم كالمظلوم ، ولا الإمام كالمأموم.
ومن هذا الباب قوله تعالى : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) أي : يقتل بعضكم بعضا.
وإذا كان اللفظ في قوله : ( وأنفسنا وأنفسكم ) كاللفظ في قوله ( ولا تلمزوا أنفسكم ).. ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) ونحو ذلك ، مع أن التساوي هنا ليس بواجب ، بل ممتنع ، فكذلك هناك وأشد.
بل هذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة ، والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك في بعض الأمور ، كالاشتراك في الإيمان ، فالمؤمنون إخوة


( 440 )

في الإيمان ، وهو المراد بقوله : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) وقوله : ( ولا تلمزوا أنفسكم ).
وقد يكون بالاشتراك في الدين ، وإن كان فيهم المنافق ، كاشتراك المسلمين في الإسلام الظاهر ، وإن كان مع ذلك الإشتراك في النسب فهو أوكد ، وقوم موسى كانوا ( أنفسنا ) بهذا الاعتبار.
قوله تعالى : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) أي : رجالنا ورجالكم ، أي : الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب ، والرجال الذين هم من جنسكم ، والمراد التجانس في القرابة فقط ؛ لأنه قال : ( أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) فذكر الأولاد وذكر النساء والرجال ، فعلم أنه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث من الأولاد والعصبة ؛ ولهذا دعا الحسن والحسين من الأبناء ، ودعا فاطمة من النساء ، ودعا عليا من رجاله ، ولم يكن عنده أحد أقرب إليه نسبا من هؤلاء ، وهم الذين أدار عليهم الكساء.
والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه ، وإلا فلو باهل بالأبعدين في النسب وإن كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود ، فإن المراد أنهم يدعون الأقربين كما يدعو هو الأقرب إليه.
والنفوس تحنو على أقاربها ما لا تحنو على غيرهم ، وكانوا يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، ويعلمون أنهم إن باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم ، واجتمع خوفهم على أنفسهم وعلى أقاربهم ، فكان ذلك أبلغ في امتناعهم وإلا فالإنسان قد يختار أن يهلك ويحيا ابنه ، والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقي أقاربه في نعمة ومال ، وهذا موجود كثير ، فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين ،


( 441 )

فلهذا دعا هؤلاء.
وآية المباهلة نزلت سنة عشر ، لما قدم وفد نجران ، ولم يكن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس ، والعباس لم يكن من السابقين الأولين ، ولا كان له به اختصاص كعلي.
وأما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي ، وكان جعفر قد قتل قبل ذلك ، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر ، وجعفر قتل بمؤتة سنة ثمان ، فتعين علي رضي الله عنه.
وكونه تعين للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه ، لا يوجب أن يكون مساويا للنبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في شيء من الأشياء ، بل ولا أن يكون أفضل من سائر الصحابة مطلقا ، بل له بالمباهلة نوع فضيلة ، وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين ، ليست من خصائص الإمامة ، فإن خصائص الإمامة لا تثبت للنساء ، ولا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة ، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة.
وأما قول الرافضي : لو كان غير هؤلاء مساويا لهم أو أفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه ؛ لأنه في موضع الحاجة.
فيقال في الجواب : لم يكن المقصود إجابة الدعاء ، فإن دعاء النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وحده كاف ، ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم ، كما كان يستشقي بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين ، وكان يقول : وهل تنصرون أو ترزقون إلا بضعفائك ؟! بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم !
ومن المعلوم أن هؤلاء وإن كانوا مجابين ، فكثرة الدعاء أبلغ في


( 442 )

الإجابة ، لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه ، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل !
ونحن نعلم بالإضطرار أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة ، لكانوا أعظم الناس استجابة لأمره ، وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء ، لكن لم يأمره الله سبحانه يأخذهم معه ، لأن ذلك لا يحصل به المقصود.
فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعا ، كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم ، فلو دعا النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قوما أجانب لأتى أولئك بأجانب ، ولم يكن يشتد عليه نزول البهلة بأولئك الأجانب ، كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم ، فإن طبع البشر يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب ، فأمر النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أن يدعو قرابته وأن يدعو أولئك قرابتهم.
والناس عند المقابلة تقول كل طائفة للأخرى : ارهنوا عندنا أبناءكم ونساءكم ، فلو رهنت إحدى الطائفتين أجنبيا لم يرض أولئك ، كما أنه لو دعا النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم الأجانب لم يرض أولئك المقابلون له ، ولا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله.
فقد تبين أن الآية لا دلالة فيها أصلا على مطلوب الرافضي.
لكنه ـ وأمثاله ممن في قلبه زيغ ـ كالنصارى الذين يتعلقون بالألفاظ المجملة ويدعون النصوص الصريحة ، ثم قدحه في خيار الأمة بزعمه الكاذب ، حيث زعم أن المراد بالأنفس المساوون ، وهو خلاف المستعمل


( 443 )

في لغة العرب.
ومما يبين ذلك أن قوله : ( نساءنا ) لا يختص بفاطمة ، بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك ، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة ، فإن رقية وأم كلثوم وزينب كن قد توفين قبل ذلك.
فكذلك ( أنفسنا ) ليس مختصا بعلي ، بل هذه صيغة جمع كما أن ( نساءنا ) صيغة جمع ، وكذلك ( أبناءنا ) صيغة جمع ، وإنما دعا حسنا وحسينا لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما ، فإن إبراهيم إن كان موجودا إذ ذاك فهو طفل لا يدعى ، فإن إبراهيم هو ابن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب مصر ، وأهدى له البغلة ومارية وسيرين ، فأعطى سيرين لحسان بن ثابث ، وتسرى مارية فولدت له إبراهيم ، وعاش بضعة عشر شهرا ومات ، فقال النبي صلى الله عليه وآله [ وسلم ] : إن له مرضعا في الجنة تتم رضاعته ، وكان إهداء المقوقس بعد الحديبية بل بعد حنين » (1).

أقول :
كان هذا نص كلام ابن تيمية في مسألة المباهلة ، وقد جاء فيه :
1 ـ الاعتراف بصحة الحديث.
وفيه رد على المشككين في صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2 ـ الاعتراف باختصاص القضية بالأربعة الأطهار.
____________
(1) منهاج السنة 7 | 122 ـ 130.
( 444 )

وفيه رد على المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام ، المحرفين للحديث بنقص « علي » منهم أو زيادة غيرهم عليهم !!
3 ـ الاعتراف بأنهم هم الذين أدار عليهم الكساء.
وفيه رد على من زعم دخول غيرهم في آية التطهير ، بل فيه دلالة على تناقض ابن تيمية ، لزعمه ـ في موضع من منهاجه ـ دخول الأزواج أخذا بالسياق ، كما تقدم في مبحث تلك الآية.
4 ـ الاعتراف بأن في المباهلة نوع فضيلة لعلي.
وفيه رد على من يحاول إنكار ذلك.
ثم إن ابن تيمية ينكر دلالة الحديث على الإمامة مطلقا ، بكلام مضطرب مشتمل على التهافت ، وعلى جواب ـ قال الدهلوي عنه : ـ هو من كلام النواصب !!
* فأول شيء قاله هو : إن أحدا لا يساوي رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم.
ونحن أيضا نقول : إن أحدا لا يساويه لولا الآية والأحاديث القطعية الواردة عنه ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « علي مني وأنا من علي ، وهو وليكم بعدي » (1) وقوله ـ في قصة سورة البراءة ـ : « لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني » (2).
____________
(1) هذا حديث الولاية ، وهو من أصح الأحاديث وأثبتها ، وقد بحثنا عنه سندا ودلالة في الجزء الخامس عشر من أجزاء كتابنا الكبير « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار » وهو تحت الطبع.
(2) وهذا أيضا من أصح الأحاديث وأثبتها ، راجع : مسند أحمد 1 | 3 ، 151 ،

=


( 445 )

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لوفد ثقيف ـ : « لتسلمن أو لأبعثن عليكم رجلا مني ـ أو قال : مثل نفسي ـ ليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم ، وليأخذن أموالكم » قال عمر : فو الله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ ، فجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول : هو هذا. فالتفت إلى علي فأخذ بيده وقال : « هو هذا ، هو هذا » (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم منزلا إياه منزلة نفسه : « إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله » فاستشرف له أبو بكر وعمر وغيرهما ، كل يقول : أنا هو ؟ قال : لا ؛ ثم قال : « ولكن خاصف النعل » وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها (2).
إلى غير ذلك من الأحاديث ، وقد سبق ذكر بعضها أيضا.
فإذا كان هذا قول الله وكلام الرسول ، فماذا نفعل نحن ؟!
* ثم إنه أنكر دلالة لفظ « الأنفس » على « المساواة » في لغة العرب ، فقال بأن المراد منه في الآية هو من يتصل بالقرابة ، واستشهد لذلك بآيات من القرآن.
لكن ماذا يقول ابن تيمية في الآيات التي وقع فيها المقابلة بين « النفس » و« الأقرباء » كما في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا » (3) وقوله تعالى : ( الذين خسروا أنفسها
____________
=
وصحيح الترمذي ، والخصائص للنسائي ، والمستدرك على الصحيحين ، وراجع التفاسير في سورة البراءة.
(1) راجع : الاستيعاب 3 | 1109 ، ترجمة أمير المؤمنين.
(2) أخرجه أحمد 3 | 33 ، والحاكم 3 | 122 ، والنسائي في الخصائص ، وابن عبد البر وابن حجر وابن الأثير بترجمته. وكذا غيرهم.
(3) سورة التحريم 66 : 6.

( 446 )

وأهليهم ) (1) فكذلك آية المباهلة.
غير أن « النفس » في الآيتين المذكورتين مستعملة في نفس الإنسان على وجه الحقيقة ، أما في آية المباهلة فيه مستعملة ـ لتعذر الحقيقة ـ على وجه المجاز لمن نزل بمنزلة النفس ، وهو علي عليه السلام ، للحديث القطعي الوارد في القضية.
* ثم إنه أكد كون أخذ الأربعة الأطهار عليهم السلام لمجرد القرابة ، بإنكار الإستعانة بهم في الدعاء ، فقال : « لم يكن المقصود إجابة الدعاء فإن دعاء النبي وحده كاف » !!
لكنه اجتهاد في مقابلة النص ، فقد روى القوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم : « غذا أنا دعوت فأمنوا » (2) ، وأنه قد عرف أسقف نجران ذلك حيث قال : « إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها » أو : « لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها » (3).
* ثم قال ابن تيمية : « لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه ، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل... فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعا كأبنائهم ونسائهم ورجالهم... ».
وهذا كلام النواصب... كما نص عليه الدهلوي في عبارته.
وحاصل كلامه : أنه إنما دعاهم لكونهم أقرباءه فقط ، على ما كان عليه المتعارف في المباهلة ، فلا مزية لمن دعاه أبدا ، فلا دلالة في الآية على مطلوب الشيعة أصلا ، لكنهم كالنصارى...!!
____________
(1) سورة الزمر 39 : 15 ، وسورة الشورى 42 : 45.
(2) تقدم ذكر بعض مصادره.
(3) الكشاف ، الرازي ، البيضاوي وغيرهم ، بتفسير الآية.

( 447 )

لكنه يعلم بوجود الكثيرين من أقربائه ـ من الرجال والنساء ـ وعلى رأسهم عمه العباس ، فلو كان التعبير بالنفس لمجرد القرابة لدعا العباس وأولاده وغيرهم من بني هاشم !
فيناقض نفسه ويرجع إلى الاعتراف بمزية لمن دعاهم ، وأن المقام ليس مقام مجرد القرابة...!! انظر إلى كلامه :
« ولم يكن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس ، والعباس لم يكن من السابقين الأولين ، ولا كان له به اختصاص كعلي ، وأما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي... فتعين علي رضي الله عنه. وكونه تعين للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه لا يوجب... بل له بالمباهلة نوع فضيلة... ».
إذن !! لابد في المباهلة من أن يكون المباهل به صاحب مقام يمتاز به عن غيره ، ويقدمه على من سواه ، وقد ثبت ذلك لعلي عليه السلام بحيث ناسب أن يأمر الله رسوله بأن يعبر عنه لأجله بأنه نفسه ، وهذا هو المقصود من الاستدلال بالآية المباركة ، وبه يثبت المطلوب.
فانظر كيف اضطربت كلمات الرجل وناقض نفسه !!
* غير أنه بعد الإعتراف بالفضيلة تأبى نفسه السكوت عليها ، وإذ لا يمكنه دعوى مشاركة زيد وعمر وبكر...!! معه فيها كما زعم ذلك في غير موضع من كتابه فيقول :
« وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين... ».
وهكذا قال ـ في موضع من كتابه ـ حول آية التطهير لما لم يجد بدا من الإعتراف باختصاصها بأهل البيت...
لكنه غفل أو تغافل أن هذه المشاركة لا تضر باستدلال الشيعة بل


( 448 )

تنفع ، إذ تكون الآية من جملة الدلائل القعية على أفضلية بضعة النبي فاطمة وولديه الحسنين عليهم السلام من سائر الصحابة عدا أمير المؤمنين عليه السلام ـ كما دل على ذلك الحديث : « فاطمة بضعة مني... » وقد بينا ذلك سابقا ـ فعلي هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بالآية المباركة والحديث القطعي الوارد في شأن نزولها.

* وقال أبو حيان :
( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ).
اي : يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب بـ ( قل ) وبين من حاجه. وفسر على هذا الوجه ( الأبناء ) بالحسن والحسين ، وبنسائه فاطمة ، والأنفس بعلي. قاله الشعبي. ويدل على أن ذلك مختص بالنبي مع من حاجه ما ثبت في قاله صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) دعا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم فاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي.
وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ( ندع أبناءنا وأبناءكم ) على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاؤا لها لأمر النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته.
وقيل : المراد بـ ( أنفسنا ) الإخوان. قاله ابن قتيبة. قال تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) أي : إخوانكم.
وقيل : أهل دينه. قاله أبو سليمان الدمشقي.


( 449 )

وقيل : الأزواج.
وقيل : أراد القرابة القريبة. ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري.
... قال أبوبكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين إبنا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم.
وقال أبو أحمد ابن علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده تصح إلا من مكلّف.
وقد طول المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمنها : أنه دعاهم إلى المباهلة بالحسن والحسين وفاطمة وعلي إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ورضوا بالإقامة على دينهم ، وأن يؤدوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا وأخبر هو صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوته شاهد عظيم على صحة نبوته.
قال الزمخشري : فإن قلت... » (1).

أقول :
لعل تقديمه حديث مسلم عن سعد في أن المراد من ( أنفسنا ) هو علي عليه السلام... يدل على ارتضائه لهذا المعنى... لكن الحديث جاء في الكتاب محرفا بحذف « علي » !!
وليته لم يذكر الأقاويل الأخرى ، فإنها كلها هواجس نفسانية وإلقاءات شيطانه ، لا يجوز إيرادها بتفسير الآيات القرآنية.
____________
(1) البحر المحيط 2 | 479 ـ 480.
( 450 )

لكن يظهر منه الإعتماد على هذه الأقوال !! حين ينفي بها الإجماع على أن المراد من ( أنفسنا ) هو علي عليه السلام ، ليبطل استدلال الشيخ الحمصي بالآية على أفضلية الإمام على سائر الأنبياء ، كما سيأتي.

* وقال القاضي الإيجي وشارحه الجرجاني :
« ولهم ـ أي للشيعة ومن وافقهم ـ فيه أي ـ في بيان أفضلية علي ـ مسلكان :
الأول : ما يدل عليه ـ أي على كونه أفضل ـ إجمالا ، وهو وجوه : الأول : آية المباهلة ، وهي قوله تعالى : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ). وجه الإحتجاج : إن قوله تعالى : ( أنفسنا ) لم يرد به نفس النبي ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به علي ، دلت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل إنه عليه السلام دعا عليا إلى ذلك المقام ، وليس نفس علي نفس محمد حقيقة ، فالمراد المساواة في الفضل والكمال ، فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجة في الباقي ، فيساوي النبي في كل فضيلة سوى النبوة ، فيكون أفضل من الأمة.
وقد يمنع : إن المراد بـ ( أنفسنا ) عليّ وحده ، بل جميع قراباته وخدمه النازلون عرفا منزلة نفسه عليه السلام داخلون فيه ، تدل عليه صيغة الجمع » (1).
____________
(1) شرح المواقف 8 | 367.
( 451 )

أقول :
لا يخفى اعترافهما بدلالة الآية على الأفضلية ، وبكون علي في المباهلة ، « دلت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل » وبدلالة ( أنفسنا ) على « المساواة ».
غير انهما زعما دخول غيره معه في ذلك ، لكنهم قالا « وقد يمنع » وكأنهما ملتفتان إلى بطلان ما زعماه ، خصوصا كون المراد « خدمه » بالاضافة إلى « جميع قراباته » ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج معه حتى عمه ، فكيف يكون المراد « جميع قراباته وخدمه » ؟!!

* وقال ابن روزبهان :
« كان عادة أرباب المباهلة أن يجمعوا أهل بيتهم وقراباتهم لتشمل البهلة سائر أصحابهم ، فجمع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أولاده ونساءه ، والمراد بالأنفس هاهنا : الرجال ، كأنه أمر بأن يجمع نساءه وأولاده ورجال أهل بيته ، فكان النساء فاطمة والأولاد الحسن والحسين والرجال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وعلي.
وأما دعوى المساواة التي ذكرها فهي باطلة قطعا ، وبطلانها من ضروريات الدين ، لأن غير النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم من الأمة لا يساوي النبي أصلا ، ومن ادعى هذا فهو خارج عن الدين ، وكيف يمكن المساواة والنبي نبي مرسل خاتم الأنبياء أفضل أولي العزم ، وهذه الصفات كلها مفقودة في علي. نعم ، لأمير المؤمنين علي في هذه الآية


( 452 )

فضيلة عظيمة وهي مسلمة ، ولكن لا تصير دالة على النص بإمامته » (1).

أقول :
وفي كلامه مطالب ثلاثة :
الأول : إن ما صنعه النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم إنما كان جريا على عادة أرباب المباهلة...
وهذا كلام النواصب في الجواب عن هذه الآية ، كما نص عليه صاحب « التحفة الاثنا عشرية » ويرد عليه ما تقدم من أنه لو كان كذلك فلماذا لم يخرج العباس وبنيه وأمثالهم من الأقرباء ؟ لكن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليل على أن للمقام خصوصية ولمن دعاهم مراتب عند الله تعالى ، وليس جريا على عادة العرب في مباهلة البعض مع البعض.
والثاني : إن غير النبي من الأمة لا يساوي النبي أصلا.
وقد تقدم الجواب عنه عند الكلام مع ابن تيمية.
والثالث : إن لأمير المؤمنين في هذه الآية فضيلة عظيمة ، وهي مسلمة.
قلت : هي للأربعة كلهم لكن عليا أفضلهم ، فهو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله : لكن لا تصير دالة على النص بإمامته.
قلت : إن الآية تدل على المساواة بينه وبين النبي في الكمالات الذاتية ، ولا أقل من كونها دالة على فضضيلة عظيمة ـ باعترافه ـ غير حاصلة
____________
(1) إبطال الباطل ـ مخطوط. راجع : إحقاق الحق 3 | 62.
( 453 )

لخصومه ، فهو الأفضل ، فهو الإمام دون غيره بعد رسول الله.

* وقال عبد العزيز الدهلوي ما تعريبه :
« ومنها آية المباهلة ، وطريق تمسك الشيعة بهذه الآية هو أنه لما نزلت ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم .. إلى آخرها ) خرج رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم من بيته ومعه علي وفاطمة وحسن وحسين ، فالمراد من ( أبناءنا ) الحسن والحسين ، ومن ( أنفسنا ) الأمير ، وإذا صار نفس الرسول ـ وظاهر أن المعنى الحقيقي لكونه نفسه محال ـ فالمراد هو المساوي ، ومن كان مساويا لنبي عصره كان بالضرورة أفضل وأولى بالتصرف من غيره ؛ لأن المساوي للأفضل الأولى بالتصرف ، أفضل وأولى بالتصرف ، فيكون إماما ، إذ لا معنى للإمام إلا الأفضل الأولى بالتصرف.
هذا بيان وجه الإستدلال ، ولا يخفى أنه بهذا التقريب غير موجود في كلام أكثر علماء الشيعة ، فلهذه الرسالة الحق عليهم من جهة تقريرها وتهذيبها لأكثر أدلتهم ، ومن شك في ذلك فلينظر إلى كتبهم ليجد كلماتهم مشتتة مضطربة قاصرة عن إفادة مقصدهم.
وهذه الآية في الأصل من جملة دلائل أهل السنة في مقابله النواصب ، وذلك لأن أخذ النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم الأمير وأولئك الأجلة معه ، وتخصيصهم بذلك دون غيرهم يحتاج إلى مرجح ، وهو لا يخلو عن أمرين :
فإما لكونهم أعزة عليه ، وحينئذ يكون إخراجهم للمباهلة ـ وفيها بحسب الظاهر خطر المهلكة ، موجبا لقوة وثوق المخالفين بصدق نبوته


( 454 )

وصحة ما يخبر به عن عيسى وخلقته ، إذ العاقل ما لم يكن جازما بصدق دعواه لا يعرض أعزته إلى الهلاك والاستئصال.
وهذا الوجه مختار أكثر أهل السنة والشيعة ، وهو الذي ارتضاه عبد الله المشهدي في إظهار الحق ، فدلت الآية على كون هؤلاء الأشخاص أعزة على رسول الله ، والأنبياء مبرّأون عن الحب والبغض النفسانيين ، فليس ذلك إلا لدينهم وتقواهم وصلاحهم ، فبطل مذهب النواصب القائلين بخلاف ذلك.
وإما لكي يشاركونه في الدعاء على كفار نجران ، ويعينونه بالتأفين على دعائه عليهم فيستجاب بسرعة ، كما يقول أكثر الشيعة وذكره عبد الله المشهدي أيضا ، فتدل الآية ـ بناء عليه كذلك ـ على علو مرتبتهم في الدين وثبوت استجابة دعائهم عند الله.
وفي هذا أيضا رد على النواصب.
وقد قدح النواصب في كلا الوجهين وقالوا بأن إخراجهم لم يكن لشيء منهما وإنما كان لإلزام الخصم بما هو مسلم الثبوت عنده ، إذ كان مسلما عند المخالفين ـ وهم الكفار ـ أن البهلة لا تعتبر إلا بحضور الأولاد والختن والحلف على هلاكهم ، فلذا أخرج النبي أولاده وصهره معه ليلزمهم بذلك.
وظاهر أن الأقارب والأولاد ـ كيفما كانوا ـ يكونون أعزة على الإنسان في اعتقاد الناس وإن لم يكونوا كذلك عند الإنسان نفسه ، يدل على ذلك أنه لو كان هذا النوع من المباهلة حقا عنده صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لكان سائغا في الشريعة ، والحال أنه ممنوع فيها. فظهر أن ما صنعه إنما كان إسكاتا للخصم.


( 455 )

وعلى هذا القياس يسقط الوجه الثاني أيضا ، فإن هلاك وفد نجران لم يكن من أهم المهمات ، فقد مرت عليه حوادث كانت أشد وأشق عليه من هذه القضية ولم يستعن في شيء منها في الدعاء بهؤلاء ، على أن من المتفق عليه استجابة دعاء النبي في مقابلته مع الكفار ، وإلا يلزم تكذيبه ونقض الغرض من بعثته.
فهذا الكلام النواصب ، وقد أبطله ـ بفضل الله تعالى ـ أهل السنة بما لا مزيد عليه كما هو مقرر في محله ولا نتعرض له خوفا من الإطالة.
وعلى الجملة فإن آية المباهلة هي في الأصل رد على النواصب ، لكن الشيعة يتمسكون بها في مقابلة أهل السنة ، وفي تمسكنهم بها وجوه من الأشكال :
أما أولا : فلأنا لا نسلم أن المراد ( بأنفسنا ) هو الأمير ، بل المراد نفسه الشريفة ، وقول علمائهم في أبطال هذا الاحتمال بأن الشخص لا يدعو نفسه غير مسموع ، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث « دعته نفسه إلى كذا » و« دعوت نفسي إلى كذا » ( فطوعت له نفسه قتل أخيه ) و« أمرت نفسي » و« شاورت نفسي » إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء. فيكون حاصل ( ندع أنفسنا ) : نحضر أنفسنا.
وأيضا فلو قررنا الأمير من قبل النبي مصداقا لقوله ( أنفسنا ) فمن نقرره من قبل الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة ( ندع ). إذ لا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله : ( تعالوا ).
فظهر أن الأمير داخل في ( أبناءنا ) ـ كما أن الحسنين غير داخلين في الأبناء حقيقة وكان دخولهما حكما ـ لأن العرف يعد الختن ابنا ، من غير ريبة في ذلك.


( 456 )

وأيضا : فقد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة ومن ذلك قوله تعالى : ( يخرجون أنفسهم من ديارهم ) أي : أهل دينهم.. ( ولا تلمزوا أنفسكم ).. ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) فلما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة ، وقد كثرت معاشرته والألفة معه حتى قال : « علي مني وأنا من علي » كان التعبير عنه بالنفس غير بعيد ، فلا تلزم المساواة كما لا تلزم في الآيات المذكورة.
وأما ثانيا : فلو كان المراد مساواته في جميع الصفات ، يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ، والاختصاص بزيادة النكاح فوق الأربع ، والدرجة الرفيعة في القيامة ، والشفاعة الكبرى والمقام المحمود ، ونزول الوحي ، وغير ذلك من الأحكام المختصة بالنبي ، وهو باطل بالإجماع.
ولو كان المراد المساواة في البعض ، لم يحصل الغرض ، لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل صاحبها أفضل وأولى بالتصرف ، وهو ظاهرا جدا.
وأيضا : فإن الآية لو دلت على إمامة الأمير لزم كونه إماما في زمن النبي وهو باطل بالاتفاق ، فإن قيّد بوقت دون وقت ـ مع أنه لا دليل عليه في اللفظ ـ لم يكن مفيدا للمدعى ؛ لأن أهل السنة أيضا يثبتون إمامته في وقت من الأوقات » (1).
____________
(1) التحفة الاثنا عشرية : 206 ـ 207. وقد ذكرنا كلامه بطوله لئلا يظن ظان أنا أسقطنا منه شيئا مما له دخل في البحث مع الشيعة حول الآية المباركة.