تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 76 ـ 90
(76)
    قال : ولحق إبليس باُمّ الغلام حين زارت البيت ، فقال لها : ما شيخ رأيته بمنى ؟
    قالت : ذاك بعلي.
    قال : فوصيف رأيته ؟
    قالت : ذاك ابني.
    قال : فإنّي رأيته وقد أضجعه ، وأخذ المدية ليذبحه.
    قالت : كذبت ! إبراهيم أرحم الناس ، فكيف يذبح ابنه ؟
    قال : فوربّ السماء والأرض ، وربّ هذه الكعبة ، قد رأيته كذلك.
    قالت : ولم ؟
    قال : زعم أنّ ربّه أمره بذلك.
    قالت : حقّ له أن يطيع ربّه ، فوقع في نفسها أنّه قد اُمر في ابنها بأمرٍ ، فلمّا قضت منسكها (1) أسرعت في الوادي راجعة إلى منى ، واضعة يدها (2) على رأسها ، فلمّا جاءت [ سارة ] (3) واُخبرت الخبر ، قامت إلى ابنها تنظر مكان السكّين من نحره فوجدته خدشاً في حلقه ، ففزعت واشتكت ، وكان بدؤ مرضها الذي هلكت فيه. (4)
    وهذا يعقوب إسرائيل الله ابتلاه الله بفراق يوسف ، فبكى عليه حتى
1 ـ في المجمع : نسكها.
2 ـ في المجمع : يديها.
3 ـ من المجمع.
4 ـ مجمع البيان : 4 / 454 ـ 455 ، عنه البحار : 12 / 135.
    وانظر قصص الأنبياء : « المسمّى عرائس المجالس » للثعلبي : 93 ـ 94.


(77)
ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم (1).
    روى أبو حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين عليه السلام أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً يتصدّق منه ويأكل هو وعياله ، وأنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً قوّاماً اعترى باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره ، وكان مجتازاً غريباً فهتف على بابه فاستطعم هو وهم يسمعونه فلم يصدّقوا قوله ، فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استعبر وشكا جوعه إلى الله سبحانه ، ورات طاوياً ، واصبح صائماً صابراً حامداً لله تعالى ، وبات يعقوب وآل يعقبو بطاناً ، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم ، فابتلاه الله سبحانه في يوسف عليه السلام ، وأوحى إليه أن استعدّ لبلائي ، وارض بقضائي ، واصبر للمصائب ، فرأى يوسف الرؤيا في تلك الليلة.
    وروي أنّ يعقوب عليه السلام كان شديد الحبّ ليوسف ، وكان يوسف من أحسن الناس وجهاً.
    وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله ، قال : اُعطي يوسف شطر الحسن ، والنصف الآخر لسائر الناس.
    وقال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه ، جعد الشعر ، ضخم العين ، مستوي الخلقة ، أبيض اللون ، وكان إذا تبسّم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلّم رأيت شعاع النور يلتهب عن ثناياه ، ولا يستطيع أحد وصفه ، وكان حسنه كضوء النهار عن (2) الليل ، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله عزّ وجلّ
1 ـ إشارة للآية : 84 من سورة يوسف.
2 ـ في المجمع : عند.


(78)
وصوّره ونفخ فيه من روحه. (1)
    فحسده إخوته ودبّروا في أمره ، وذلك انّ يعقوب كان شديد الحبّ ليوسف ، وكان يؤثره على سائر أولاده فحسدوه ، ثم رأى الرؤيا فصار حسدهم له أشدّ.
    وقيل : إنّ يعقوب عليه السلام كان يرحمه وأخاه لصغرهما فاستثقلوا ذلك ، ودبّروا في هلاكه كما حكى سبحانه عنهم في قوله : ( اقتلوا يوسفَ أو اطرحوهُ أرضاً يخلُ لكمْ وجهُ أبيكمْ ) (2) أي اطرحوه في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه. (3)
    ولمّا أقبلوا إلى أبيهم وسألوه أن يرسل يوسف معهم وأظهروا النصيحة والمحبّة والشفقة على يوسف ، ولمّا همّ يعقوب أن يبعثه معهم وحثّهم على حفظه ، وقال : ( إنّي ليحزنني أن تذهبوا بهِ وأخافُ أن يأكلهُ الذئبُ وأنتم عنهُ غافلونَ ) (4) وكانت أرضهم مذأبة ، وكانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت.
    وقيل : إنّ يعقوب رأى في منامه كان يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه ، وإذا ذئب منها يحمي عنه ، فكأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف فلم يخرج الا بعد ثلاثة أيّام ، فمن ثمّ قال ذلك فلقّنهم العلّة وكانوا لا يدرون.
    وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله قال : لا تلقّنوا الكذب فيكذبوا ، فإنّ بني يعقوب لم يعلموا أنّ الذئب يأكل الانسان حتى لقّنهم أبوهم.
1 ـ مجمع البيان : 3 / 212 و 220.
2 ـ سورة يوسف : 9.
3 ـ مجمع البيان : 3 / 212.
4 ـ سورة يوسف : 13.


(79)
    وهذا يدلّ على أنّ الخصم لا ينبغي أن يلقن حجّة.
    ولمّا ذهبوا به أخرجوه عن يعقوب مكرّماً ، فلمّا وصلوا إلى الصحراء أظهروا له العداوة وجعلو يضربونه وهو يستغيث بواحد واحد منهم فلا يغيثه ، وكان يقول : يا أبتاه ، فهمّوا بقتله ، فمنعهم يهوذا ـ وقيل : لاوي ـ فذهبوا به إلى الجبّ ، فجعلوا يدلونه فيه وهو يتعلّق بشفيره ، ثمّ نزعوا عنه قميصه وهو يقول : لا تفعلوا ، ردّوا عليّ القميص أتوارى به.
    فيقولون : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً يؤنسنك (1) ، فدلّوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها فألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثمّ آوى إلى صخرة فيها فقام عليها ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
    وقيل : وكّل الله به ملكاً يحرسه ويطعمه.
    وقيل : إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا اُلقي في النار عرياناً أتاه جبرئيل عليه السلام بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه ، فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه السلام ، فلمّا مات ورثه إسحاق ، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب ، فلمّا شبّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنق يوسف ، فكان لا يفارقه ، فلمّا اُلقي في البئر عرياناً جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ ، فأخرج منه القميص وألبسه إيّاه.
    قيل : وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه لمّا فصلت العير من مصر ، وكان يعقوب بفلسطين فقال : ( إنّي لأجدُ ريحَ يوسفَ ) (2).
    وفي كتاب النبوّة ، عن الحسن بن محبوب ، عن الحسن بن عمارة ، عن
1 ـ كذا في المجمع ، وفي الأل : والإحدى عشر كوكباً تؤنسك.
2 ـ سورة يوسف : 94.


(80)
مسمع أبي سيّار (1) ، عن الصادق عليه السلام قال : لمّا ألقى إخوة يوسف يوسف في الجبّ نزل عليه جبرئيل وقال : يا غلام ، من طرحك في الجبّ ؟
    قال : إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ، ولذلك في الجبّ طرحوني.
    فقال : أتحبّ أن تخرج من هذا الجبّ ؟
    فقال : ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
    فقال له جبرئيل : إنّ إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك : قل : اللهم إنّي أسألك [ بأن لك الحمد لا إله الا أنت بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والاكرام ] (2) أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً ، وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب ، فجعل الله له من ذلك يومئذ فرجاً ، ومن كيد المرأة مخرجاً ، وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب.
    وروي أنّ يوسف عليه السلام قال في الجب : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ارحم ضعفي وقلّة حيلتي وصغري.
    قال مجاهد : أوحى الله إليه وهو في الجبّ ونبّأه وأوحى إليه أن اكتم حالك ، واصبر على ما أصابك ، فإنّك ستخبر (3) إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك.
    ولمّا فعلوا بيوسف ما فعلوا جاءوا أباهم عشاءً يبكون (4) كما ذكر سبحانه
1 ـ كذا في المجمع ، وفي الاصل : مسمع بن سيّار.
2 ـ من المجمع.
3 ـ كذا في المجمع ، وفي الاصل : تجير.
4 ـ إشارة إلى الآية : 16 من سورة يوسف.


(81)
ليلبسوا على أبيهم ، وإنّما أظهروا البكاء ليوهموا أنّهم صادقون ، وفي هذا دلالة على أنّ البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه.
    ولمّا سمع يعقوب بكاءهم وصياحهم فزع وقال : ما لكم ؟
    فقالوا : ( يا أبانا ذهبنا نستبقُ ـ على الأقدام ؛ وقيل : ننتصل (1) ونترامى فننظر أيّ السهام أسبق ـ وتركنا يوسفَ عند متاعنا فأكلُه الذئبُ وما أنتَ بمؤمنٍ لنا ـ أي مصدّق ـ ولو كنّا صادقين ) (2). وأظهروا ليعقوب قميص يوسف ملطّخاً بالدم ، وقالوا : هذا دم يوسف حين أكله الذئب ؛ قيل : إنّهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على القميص ولم يمزّقوا الثوب ، ولم يخطر ببالهم انّ الذئب إذا أكل إنساناً يمزّق ثوبه ؛ وقيل : إنّ يعقوب قال : أروني القميص ، فأروه إيّاه ، فلمّا رآه صحيحاً قال : يا بنيّ ، ما رأيت ذئباً أحلم من هذا الذئب ! أكل ابني ولم يخرق قميصه.
    وقيل : إنّه لمّا قال لهم يعقوب ذلك ، قالوا : بل قتله اللصوص.
    فقال عليه السلام : فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إليه أحوج من قتله ؟ ( بل سوّلتْ لكمْ أنفسكمْ أمراً ـ أي زيّنت لكم ـ فصبرٌ جميلٌ ) (3) أي صبري صبر جميل لا أشكو إلى الناس.
    وقيل : إنّما يكون الصبر جميلاً إذا قصد به وجه الله تعالى ، وفعل للوجه الذي وجب.
    وقيل : إنّ البلاء نزل على يعقوب في كبره ، وعلى يوسف في صغره بلا
1 ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : نتناصل.
2 ـ سورة يوسف : 17.
3 ـ سورة يوسف : 18.


(82)
ذنب كان منهما ، فأكبّ يعقوب على حزنه ، وانطلق يوسف في رقّه ، وكان (1) ذلك بعين الله سبحانه يسمع ويرى ، وكلّ ذلك امتحان من الله ، ومكث يوسف عليه السلام في الجبّ ثلاثة أيّام. (2)
    ثم جاءت السيارة من قبل مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق ، وانطلقوا يهيمون حتى نزلوا قريباً من الجب ، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران ، وإنّما هو للرعاة والمجتازة ، وكان ماؤه ملحاً فعذب ، فبعثوا رجلاً يقال له مالك بن داغر (3) ليطلب الماء ( فأدلى دلوهُ ) فتعلّق يوسف عليه السلام بالدلو (4) ، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون.
    فنادى أصحابه وقال : ( يا بُشرى هذا غلامٌ وأسرّوهُ ) (5) من أصحابهم لئلّا يطلبوا منهم الشركة فيه ، وكانت إخوته قريب منهم فآتوهم وقالوا : هذا عبد لنا أبق منّا واختفى في الجب (6) ، وقالوا له بالعبرانية : لئن قلت أنا أخوهم قتلناك ، فتابعهم (7) على ذلك لئلّا يقتلوه ، وطلبوا من القافلة أن يشروه منهم ، فأذعنوا لهم بذلك ، فشروه منهم كما قال سبحانه : ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) (8) أي ناقص لا بركة فيه لأنّه حرام ، وقوله سبحانه : ( معدودة ) أي قليلة ، وذكر العدد عبارة عن القلّة ، وقيل : إنّهم كانوا لا يزنون من الدراهم دون
1 ـ في المجمع : وكلّ.
2 ـ مجمع البيان : 3 / 216 ـ 218. وانظر : عرائس المجالس : 110 ـ 116.
3 ـ في العرائس : دعر ، وفي المجمع : زعر ، وكذا في الموضع الآتي.
4 ـ في المجمع : بالحبل.
5 ـ سورة يوسف : 19.
6 ـ في المجمع : الموضع.
7 ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : فبايعهم.
8 ـ سورة يوسف : 20.


(83)
الاُوقية ، وكانوا يزنون الاُوقية وهي أربعون درهماً فما زاد عليها ؛ وقيل : كانت الدراهم عشرين ، وكانوا إخوته عشرة فاقتسموها درهمين درهمين.
    ذكر أبو حمزة الثمالي أنّ مالك بن داغر وأصحابه لم يزالوا يتعرّفون من الله الخير في سفرهم ذلك حتى فارقوا يوسف ففقدوا ذلك ، وتحرّك قلب مالك ليوسف فأتاه ، فقال : اخبرني من أنت ؟
    فانتسب له يوسف ولم يكن مالك يعرفه ، فقال : أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فالتزمه مالك وبكى وكان مالك رجلاً عاقراً لا يولد له ، فقال ليوسف : لو دعوت ربّك أن يهب لي ولداً ، فدعا يوسف ربّه أن يهب له ولداً ويجعلهم ذكوراً ، فولد له اثنا عشر بطناً ، في كلّ بطن غلامان ( وكانوا فيه من الزاهدينَ ) (1) أي من الزاهدين في شرائه لأنّهم لم يروا عليه آثار العبوديّة ، ووجدوا فيه علامات الأحرار ، فلذلك زهدوا فيه. (2)
    ولمّا عرض للبيع في سوق مصر تزايدوا فيه حتى بلغ ثمنه وزنه ورقاً ومسكاً وحريراً ، فاشتراه العزيز بهذا الثمن ، وقال لامرأته راعيل ـ ولقبها زليخا ـ : ( أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتّخذهُ ولداً ) (3) ، وإنّما قال ذلك لما رأى على يوسف من الجمال والعقل والهداية في الأمور ، والعزيز هو خان الملك وخليفته وكان اسمه اطفير (4) ، والمل هو الريان بن الوليد (5) وكان أصله
1 ـ سورة يوسف : 20.
2 ـ مجمع البيان : 3 / 219 ـ 220. وانظر : عرائس المجالس : 116.
3 ـ سورة يوسف : 21.
4 ـ في العرائس : قطفير بن رحيب ، وفي المجمع : واسمه قطفير ، وكان لا يأتي النساء ؛ وقيل : إنّ اسمه اظفير.
5 ـ في العرائس : الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام.


(84)
من العماليق ؛ وقيل : إنّه لم يمت حتى آمن بيوسف واتّبعه على دينه ، ثم مات ويوسف عليه السلام حيّ فملك بعده قابوس بن مصعب (1) ، فدعاه يوسف إلى الاسلام فأبى أن يقبل. (2)
    ولمّا أن استقرّ في منزل اطفير راودته زوجته زليخا عن نفسه ، ورامت منه أن يواقعها ، وعلق قلبها بحبّه لما رأت من جماله وهيبته ؛ قيل : إنّ يوسف عليه السلام كان إذا مشى في أزقّة مصر أشرق نور وجهه على الحيطان كما يشرق نور انعكاس نور الشمس على الحائط إذا قابلت الماء ، كما قال سبحانه : ( ولقد همّت به وهمّ بها ) معناه همّت هي بالفاحشة وهمّ يوسف بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال : هممت بفلان أي بضربة أو إيقاع مكروه به ، فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهاناً على انّه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها أو قتلوه ، أو ادّعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنّه دعها إليه وضربها لامتناعها منه فأخبر سبحانه أنّه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظنّ اقتراف الفاحشة به ويكون التقدير : ( لو لا أن رأى برهان ربّه ) لفعل ذلك. (3)
    ويؤيّد انّه لم يهمّ بالفاحشة قوله سبحانه : ( كذلك لنصرفَ عنه السوءَ والفحشاء ) (4) وقوله ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب. (5)
    ثم انّ يوسف لمّا رأى شدّة إقبالها عليه والتزامها له ولّى فارّاً منها قاصداً
1 ـ في العرائس : قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام.
2 ـ مجمع البيان : 3 / 221. وانظر : عرائس المجالس : 117.
3 ـ مجمع البيان : 3 / 223 ـ 224. وانظر : عرائس المجالس : 118.
4 ـ سورة يوسف : 24.
5 ـ مجمع البيان : 3 / 225.


(85)
للخروج من الباب ، فسبقته إلى الباب وأرامت منعه من الخروج لتقضي شهوتها منه ، ورام هو الفرار منها ، فلحقته قبل أن يصل إلى الباب ، والتزمته بقميصه من ورائه فقدّته ـ كما حكى سبحانه ـ وإذا سيّدها من وراء الباب ، فلمّا رأته اندهشت وورّكت الذنب (1) على يوسف لتبرئ ساحتها عند زوجها وقالت : ( ما جزاءُ من أرادَ بأهلكَ سوءاً الا أن يُسجَن أو عذابٌ أليمٌ ) (2)
    وأراد يوسف براءة ساحته فقال : ( هيَ راَودتني عن نفسي ) لمّا ذكرت المرأة ذلك لم يجد يوسف بدّاً من تنزيه نفسه ، ولو كفّت عن الكذب لم يذكر يوسف شيئاً من ذلك ، ( وشهدَ شاهدٌ من أهلَها ) وهو صبيّ في المهد ؛ قيل : إنّه كان ابن اُخت زليخا وهو ابن ثلاثة أشهر ، فقال : ( إن كان قميصه قُدّ من قبلٍ فصدقتْ وهوَ منَ الكاذبينَ وإن كان قميصهُ قدَّ من دبرٍ فكذَبت وهو من الصادقينَ ) (3) لأنّه لو كان مقبلاً عليها لكان قميصه قدّ من قبل ، فلمّا كان فارّاً منها كان القدّ من دبر لأنّه هو الهارب منها ، وهي الطالبة له ، وهذا الأمر ظاهر ، فلمّا رأى زوجها ذلك علم خيانة المرأة ، فقال : ( إنّه من كيدكنَّ إنّ كيدكنَّ عظيمٌ ) (4) ثم أقبل على يوسف ، فقال : ( يوسفُ أعرضَ عن هذا ) ولا تذكر هذا الحديث طلباً للبراءة فقد ظهر صدقك وبراءتك ، ثم أقبل على زليخا وقال : ( واستغفري لذنبك ) (5) ؛ قيل : إنّه لم يكن غيوراً فسلبه الله الغيرة لطفاً منه بيوسف حتى كفي شرّه ، ولهذا قال ليوسف : ( أعرض عن هذا ) ، واقتصر على
1 ـ وَرّكَ فلان ذنبه على غيره تَوْريكاً : إذا أضافه إليه وقَرَفَه به ، وإنّه لمُوَرّكٌ في هذا الأمر : أي ليس له فيه ذنب. « لسان العرب : 10 / 512 ـ ورك ـ ».
2 ـ سورة يوسف : 25.
3 ـ سورة يوسف : 26 و 27.
4 و 5 ـ سورة يوسف : 28 و 29.


(86)
هذا القدر ، ثم قال لها : ( واستغفري لذنبك ) فإنّ الذنب منك. (1)
    ثم قال الله سبحانه : ( ثمَّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآياتِ ) (2) ، وذلك انّ زليخا لم تزل تفتِل منه (3) في الذِّروْةِ ، والغارب (4) ، وكان مطواعاً لها وجملاً ذلولاً ، زمامه بيدها حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه ، وكيد النساء أعظم من كيد الشيطان لانّ كيد الشيطان بالوسوسة ، وكيد النساء اللطف لأنّه بالمشاهدة وقوله سبحانه : ( ومِن شرّ النفّاثاتِ في العقدِ ) (5) والمصريّات أعظم النساء كيداً لأنّه معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق والحيل.
    وعن بعض العلماء : انّي أخاف من النساء أكثر ممّا أخاف من الشيطان لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول : ( إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً ) (6) وفي النساء : ( إنّ كيدكنّ عظيم ) وخاصّة إذا قارن ذلك عدم الغيرة في الأزواج ، وهذا الأمر مركوس في طبيعة أكثر رجال مصر.
    قال شيخنا الشهيد شمس الدين محمد بن مكّي رضي الله عنه في كتاب الدروس : إنّ شرب ماء النيل يميت القلب ، والأكل في فخارها ، وغسل الرأس بطينها يذهب بالغيرة ويورث الدياثة. (7)
    ولمّا كثر اللغط في شأنها وشأن يوسف ، وشاع الأمر بذلك ، وتكلّمت
1 ـ مجمع البيان : 3 / 227.
2 ـ سورة يوسف : 35.
3 ـ في « ح » : أي من زوجها.
4 ـ في حديث الزبير : فما زال يَفتِلُ في الذَروَةِ والغارب حتى أجابته عائشة إلى الخروج. « لسان العرب : 1 / 644 ـ غرب ـ ».
5 ـ سورة الفلق : 4.
6 ـ سورة النساء : 76.
7 ـ الدروس : 3 / 47.


(87)
النسوة بذلك انّ ( امرأةُ العزيز تراوُد فتاها عن نفسهِ ) (1) ، وأظهروا الانكار لفعلها وأشهروا خطأها دعتهنّ واستضافتهنّ وأظهرت حبّها إيّاه واستكتمتهنّ فأظهرنه ، وأعتدت لكلّ واحدة منهنّ متّكأً ـ أي وسادة ـ ، وقدّمت لهنّ الفواكه أوّلاً ، ( وآتت كلّ واحدةٍ منهنّ سكّيناً ) لتقطيع الفواكه ، وكانت قد أجلست يوسف غير مجلسهنّ ، وأمرته بالخروج عليهنّ في هيأته ، ولم يكن يتهيّأ له أن لا يخرج لأنّه بمنزلة العبد لها ، ( فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ ) أي أعظمنه وتحيّرن في جماله إذ كان كالقمر ليلة البدر ( وقطّعنَ أيديهُنَّ ) (2) بتلك السكاكين ، فما أحسسن إلا بالدم ، ولم يجدن ألم القطع لاشتغال قلوبهنّ بيوسف عليه السلام ، والمعنى : جرحن أيديهنّ ، وليس معناه أبنّ أيديهنّ ، لأنّ هذا مستعمل في الكلام ، تقول للرجل : قطعت يدي : أي خدشتها. (3)
    ثم قال الله سبحانه : ( ثمّ بدَاَ لهم من بعِدِ ما رأوا الآياتِ ـ الدالّة على براءة يوسف [ وهي قدّ القميص من دبره وجزّ الأيدي ] (4) ـ ليسجننّهُ حتّى حينٍ ) (5) ، وذلك انّ المرأة قالت لزوجها : إنّ هذا العبد قد فضحني في الناس ، من حيث إنّه يخبرهم انّي راودته عن نفسه ، ولست اُطيق أن أعتذر بعذري ، فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر ، وإمّا أن تحبسه كما حبستني.
    فحبسه لذلك بعد علمه ببراءته وليظهر للناس انّ الذنب كان له لأنّه ما يحبس الا المجرم ، وقيل : كان الحبس قريباً منها فأرادت انّها تكون إذا أرادت
1 ـ سورة يوسف : 30.
2 ـ سورة يوسف : 31.
3 ـ مجمع البيان : 3 / 330.
4 ـ من المجمع.
5 ـ سورة يوسف : 35.


(88)
أن تراه أشرفت عليه ورأته ، وقوله : ( وليسجننّهُ حتّى حينٍ ) قيل : حتى ينسى حديث الامرأة معه. (1)
    ولمّا اُدخل السجن اُدخل معه غلامان للملك أحدهما صاحب شرابه ، والآخر صاحب طعامه اُنهي إلى الملك الأعظم أنّهما يريدان يسمّانه فأدخلهما إلى السجن ، وكان يوسف لمّا دخل السجن عرّفهما انّه يعبّر الرؤيا ، فقال أحد العبدين للآخر : هلمّ حتى نجرّبه ، فقال أحدهما وهو الساقي : رأيت أصل كرمة (2) عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته إيّاها.
    وقال الآخر : إنّي رأيت كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منها ( نبّئنا بتأويلهِ إنّا نراكَ من المحسنينَ ) (3) إنّك ذو أفعال جميلة.
    قيل : إنّما نسباه إلى الاحسان لأنّه كان إذا ضاق على رجل مكانه وسّع له ، وإن احتاج جمع له ، وإن مرض قام عليه ؛ وقيل : إنّه كان يعين المظلوم ، وينصر الضعيف ، ويعود العليل ، وكان يحبو كلّ رجل بما يؤتى به ذلك اليوم من منزله من الطعام ، وهذا مثل قول عيسى : ( واُنبّئكم بما تأكلونَ وما تدّخرونَ في بيوتكمْ ) (4) ( ذلكما ممّا علّمني ربّي ) (5).
    وقيل : قالا له : من أين عرفت ذلك ولست بكاهن ولا عرّاف ؟
1 ـ مجمع البيان : 3 / 232.
2 ـ في المجتمع : حبلة.
3 ـ سورة يوسف : 36.
4 ـ سورة آل عمران : 49.
5 ـ سورة يوسف : 37.


(89)
فأخبرهما انّه رسول الله ، وانّه سبحانه علّمه ذلك.
    وكان يوسف قبل ذلك في السجن لم يدعهم إلى الله لأنّهم كانوا يعبدون الأصنام ، فلمّا رأى إقبالهم عليه وتوجّههم إلى قبول قوله وحسن اعتقادهم فيه رجا منهم القبول فأظهر انّه نبيّ ودعاهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
    وروي أنّ أهل السجن قالوا له : قد أحببناك حين رأيناك.
    فقال : لا تحبّوني ، فوالله ما أحبّني أحد الا دخل عليّ من حبّه بلاء ، أحبّتني عمّتي فنسبت إلى السرقة ، وأحبّني أبي فاُلقيت في الجبّ ، وأحبّتني امرأة العزيز فاُلقيت في السجن. (1)
    ثم أقبل عليهم بالدعاء إلى الله سبحانه ، فقال : ( يا صاحبي السجنِ أأربابٌ متفرّقونَ ـ أي متباينون من حجر وخشب لا تضرّ ولا تنفع ـ خيرٌ أمِ اللهُ الواحدُ القهّارُ ) (2) الذي إليه الحشر والنشر (3) ، وبيده النفع والضرّ ، أهو خير أم هذه الأصنام التي تعبدونها ( ذلك ـ الذي بيّنت من توحيد الله (4) وعبادته وترك عبادة غيره هو ـ الدينُ القيّمُ ) (5) أي المستقيم الذي لا عوج فيه.
    ثمّ عبّر عليه السلام رؤياهما ، فقال : أمّا العناقيد الثلاثة فهي ثلاثة أيّام تبقى في السجن ، ثمّ يخرجك الملك في اليوم الرابع وتعود إلى ما كنت عليه ، وأمّا الآخر فقال له : أنت تصلب وتأكل الطير من رأسك ، فقال : ما رأيت شيئاً
1 ـ مجمع البيان : 3 / 232 ـ 233.
2 ـ سورة يوسف : 39.
3 ـ في المجمع : الخير والشرّ.
4 ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : الذي يثبت من توحيد الله.
5 ـ سورة يوسف : 40.


(90)
وكنت ألعب ، فقال يوسف : ( قُضيَ الأمرُ الذي فيه تستفيتيان ) (1) ، وما قلته لكما فإنّه نازل بكما ، ( وقال للذي ظنَّ ـ أي تحقّق ـ أنّه ناجٍِ منهما ـ وهو الساقي ـ اذكرني عندَ ربّكَ ) (2) أي اذكرني عند الملك انّي محبوس ظلماً ، فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند ربّه حتى لبث في السجن سبع سنين.
    وعن النبي صلى الله عليه وآله قال : عجبت من أخي يوسف عليه السلام كيف استعان (3) بالمخلوق دون الخالق ؟!
    ولولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث يعني قوله : ( اذكرني عند ربّكَ ).
    وروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : جاء جبرئيل عليه السلام إلى يوسف فقال : يا يوسف ، من جعلك أحسن الناس ؟
    قال : ربّي.
    قال : فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوتك ؟
    قال : ربّي.
    قال : من ساق إليك السيّارة ؟
    قال : ربّي.
    قال : فمن صرف عنك الحجارة ؟
    قال : ربّي
1 ـ سورة يوسف : 41.
2 ـ سورة يوسف : 42.
2 ـ في المجمع : استغاث.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس