تذكرة الفقهاء الجزء الأول ::: 1 ـ 15

تذكرة الفقهاء
تأليف
العلامة الحلي
الحسن بن يوسف بن المطهر
المتوفى سنة 726 ه‍
الجزء الأول
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث


(3)
بسم الله الرحمن الرحيم


(4)

(5)
    الحمد الله الذي علم الانسان ما لم يعلم ، وصلّى الله على نبيه المصطفى ورسوله المسدد محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
    وبعد : فإن من الحقائق الراهنة التي لا بدّ من التسليم بها : أنّ التراث الفقهي عند الشيعة الامامية يشكل ثروة عظيمة ، والجهد المبذول في سبيله يتميز بين فقه المذاهب الأخرى باتسامه بالموضوعية ، وابتعاده عن التحيز والعصبية وتجاوز الواقعية ، ولمراعاته الدقيقة لأصول البحث العلمي والجدل الحر المنفتح على الآراء المختلفة لجميع المذاهب الاسلامية.
    وإذا كان الكثير من المصادر الفقهية ، والموسوعات المتخصصة قد أصابها التلف والضياع عبر العصور المتوالية بما جرى فيها من الظلم على طائفة الشيعة خاصة ، وعلى عموم المسلمين نتيجة للكثير من الفتن المتلاحقة ، والحروب والغزوات من قبل المغول وغيرهم ، والسعي المحموم من قبل المراكز الأوربية من خلال الآلاف من المستشرقين والتجار الذين كانوا يجوبون الوطن الاسلامي الكبير بحثا عن المخطوطات النادرة والنفيسة لتنقل بصلافة وجرأة إلى المكتبات المتفرقة في أوربا بعيدا عن أصحابها


(6)
الشرعيين والذين هم بأمس الحاجة إليها ، مضافاً إلى حالات الاهمال واللامبالاة الموجودة لدى البعض ممن توارثوا هذا التراث العظيم من خلال نسخه المخطوطة.
    نعم إذا أدركنا كلّ هذه الحقائق فإنا سنجد أمامنا آفاقا واسعة تترجم الشكل العميق والرصين لنشأة الكثير من المفاهيم والأدلة الخاصة بالأدلة الشرعية الاجمالية لمفهوم الفقه الاسلامي بشكل عام ، مع أن هناك أكثر من عشرة قرون تم خلالها تدوين هذا الفقه وضبطه في مؤلفات فقهية مختصرة وموسعة.
    وأيا يكن فنحن من خلال بحثنا المختصر هذا سنحاول أن نستعرض ولو جانبا محددا عن ماهية الفقه ودوره المؤثر في تنظيم حياة البشرية ، مستطرقين من خلالها إلى شرح مبسط عن المذاهب الفقهية الاسلامية وصولا إلى صلب حديثنا عن الفقه المقارن ، وما كتب فيه ، وما هي أبعاده.

الفقه لغة واصطلاحا
    الفقه كما قد تتوافق على ذلك جميع المصادر لغوياً : بأنه العلم بالشي والفهم له.
    فقد ذكر الجوهري في الصحاح : الفقه : الفهم. قال أعرابي لعيسى ابن عمر : شهدت عليك بالفقه.
    تقول منه : فقه الرجل ، بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. وافقهتك الشيء (1).
1 ـ الصحاح ـ فقه 6 : 2243.

(7)
    وجاء في القاموس المحيط : الفقه ( بالكسر ) : العلم بالشي والفهم له والفطنة ، غلب على علم الدين لشرفه (1).
    وفي لسان العرب : الفقه : العلم بالشي والفهم له ، والفقه الفطنة (2).
    وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى في كتابه الكريم ( قَالوا يا شُعَيبُ ما نَفقَهُ كَثيراً مِمّا تَقولُ ) (3) أي لا نعلم ولا نفهم حقيقة كثير مما تقول (4).
    يقول ابن القيم : والفقه أخص من الفهم ، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه ، هذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة ، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم.
    ويقول الآمدي : الفهم عبارة عن جودة الذهن ، من جهة تهيؤه لاقتناص كلّ ما يرد عليه من المطالب ، وإن لم يكن المتصف به عالماً ، كالعامي الفطن (5).
    وأما اصطلاحاً فإن كلمة الفقه في أول الأمر كانت تطلق على معارف الشريعة ، حيث فسر بذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وآله : « رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».
    وبهذا المعنى فسر قوله تعالى ( فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدِّينِ وَليُنذِروا قَومَهُم إذا رَجَعُوا إلَيهم لَعَلَّهم يَحذرون ) (6).
    وكذلك قوله صلّى الله عليه وآله : « من يرد الله به خيراً يفقهه في
1 ـ القاموس المحيط 4 : 289.
2 ـ لسان العرب 13 : 522.
3 ـ هود 11 : 91.
4 ـ تفسير الطبري 12 : 64.
5 ـ الأحكام في أصول الأحكام 1 : 7.
6 ـ التوبة 9 : 122.


(8)
الدين ».
    إلا أن التمايز التدريجي للمعارف الدينية المختلفة ، وتبلور الشكل المستقل لهذا العلم ، واستقلاله بقواعد وأحكام حيث انحصر بحدود الأحكام الشرعية الخاصة بأفعال المكلفين أدى إلى خروج الفقه اصطلاحاً عن حدود المعنى السابق ليدخل مرحلة أخرى من مراحل تطوره ، وليصبح له مدلوله المقتصر على الأحكام العملية ، أي ما يسمى بالعبادات والمعاملات ، وحيث يستمر في التطور والترقي عند ما يتوسع الفقهاء في مدلول كلمة الفقه هذه ، وذلك الاجتهاد المختص ، فأصبحت هذه الكلمة تطلق على العلم بالأحكام الشرعية الفرعية العملية بطرقها المختلفة ، أو المستمدة من الأدلة التفصيلية (1) ومن خلال هذا الاستعراض الموجز يظهر بوضوح أن الفقه هو ـ تحديداً ـ العلم بالأحكام العملية دون الاعتقادية ، وأن الاجتهاد يتأطر ضمن المواضع التي ليس لها أحكام قطعية تدل عليها النصوص الثابتة التي لا تحتمل خلافاً ، فلا يسمى العلم بالضروريات فقهاً ، ولا الاعتقادات ولا الموضوعات الخارجية ، بل يختص بالأحكام الفرعية الظنية المستنبطة.

بين الفقه والفقهاء
    لعل التأمل في المكانة التي تحتلها الفقه والفقهاء في نظر الشارع المقدس إليهما تظهر بوضوح عمق الأثر الذي لا يمكن الاعراض عنه في حياة البشرية جمعاء ، والمسير الحثيث نحو الآخرة المطمئنة السعيدة.
1 ـ في كتب معالم الأصول ( ص 66 ) : والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.

(9)
    أجل إنّ للفقه وحملته مكانة عظيمة قد لا يرقى إليها شأن آخر ، مهما علا ، ولا غرو في ذلك ، فالفقه يعد ـ بلا شك ـ القانون والمعيار الذي يستطيع من خلاله المسلم إدراك حقيقة عمله أحلال هو أم حرام ، بل أصحيح هو أم فاسد ، وما أدق وأعظم هذا الأمر في حياة المسلم.
    ولذلك نجد الأحاديث المستفيضة التي تحتوي على جمل وكلمات عظيمة من الاطناب والثناء تنهال على هذا العلم المقدس وأهله.
    قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين » (1).
    وقال صلّى الله عليه وآله : « فقيه أشدّ على الشيطان من ألف عابد » (2).
    وقال أيضاً : « إنّ رجالاً يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقّهون في الدين ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً » (3).
    وقال صلّى الله عليه وآله : « خصلتان لا تجتمعان في منافق : حسن سمت ، ولا فقه في الدين » (4).
    وقال صلّى الله عليه وآله : « خياركم أحاسنكم أخلاقاً إذا فقهوا » (5).
    وسئل صلّى الله عليه وآله : من خير الناس ؟ فقال : « أفقههم في دين الله ... » (6).
1 ـ أمالي المفيد 1 : 158 / 9 ، صحيح البخاري 1 : 16 ، سنن الدارمي 1 : 74 ، مسند أحمد 1 : 306.
2 ـ سنن الترمذي 5 : 48 / 2681.
3 ـ أمالي الطوسي 2 : 92 ، سنن الترمذي 5 : 30 / 2650 ، سنن ابن ماجة 1 : 92 / 249.
4 ـ أمالي المفيد 1 : 274 / 5 ، سنن الترمذي 5 : 49 / 2684.
5 ـ مسند أحمد 2 : 467.
6 ـ مسند أحمد 6 : 68.


(10)
    وقال صلّى الله عليه وآله : « أفضل العبادة الفقه ... » (1).
    وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « من اتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا » (2).
    وقال عليه السلام : « القرآن جعله الله ... وربيعاً لقلوب الفقهاء » (3).
    وقال الامام الصادق عليه السلام : « ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام » (4).

الفقه الاسلامي ونشأة المذاهب الفقهية
    لقد كانت الحقبة الزمنية الممتدة من بدايات القرن الثاني وحتى منتصف القرن الرابع الهجري تقريباً مقطعاً هاماً ، وانعطافاً ملحوظاً في تبلور ونشأة الكثير من الأفكار والأطروحات العقائدية والفكرية المختلفة على طول الأرض الاسلامية ، وإن كانت تتبلور بشكل أوضح في بعض المدن الحساسة كبغداد مثلا ، والتي أصبحت حاضرة كبيرة من حواضر الثقافة الاسلامية ، ضاهت برفعتها ، وخلال فترة الكوفة والمدينة ودمشق.
    ولا غرو في ذلك فإن ذلك العصر كان شاهداً لعدّة من التغيرات الواضحة في البنية الفكرية وقواعدها المعروفة ، لطروء الكثير من المؤثرات الداخلية والخارجية الفاعلة ، والتي وجدت في الكثير من مرابعها الاستعداد النفسي والحضاري لتلقيها والتأثر بها ، بل وبناء الجم الوفير من التصورات
1 ـ الخصال : 30 / 104.
2 ـ نهج البلاغة 3 : 259.
3 ـ نهج البلاغة 3 : 42.
4 ـ المحاسن : 229 / 165.


(11)
استناداً وتأثّراً بالفعل الخاص بها.
    فلقد توسعت الاسلامية ، وضربت بأطناب سلطتها في أصقاع بعيدة وقاصية من أرض المعمورة ، ودخلت تحت ظل وجودها الكثير من الشعوب والقوميات المختلقة ، بعقائدها وأفكارها الخاصة والمعقدة ، بل وذات العمق الحضاري الذي تضرب جذوره في أعماق سحيقة من التأريخ ، وكان لا بدّ من أن تنبعث هذه الأفكار بشكل أو بآخر لتجد لها موطأ قدم على أرض الواقع المعاشي ، وتلك حقيقة لا ينفيها العقلاء ، فأوجدت هذه الحالة بعدين جديدين أمام الفكر الاسلامي وقاعدته الواسعة :
    1 ـ العبد الأول : ويتمثل بقدرة الفكر السلامي على رد جميع الشبهات والأفكار الدخيلة اعتماداً على قدرة هذا الفكر على التطور والاستيعاب وإيجاد البدائل.
    2 ـ البعد الثاني : ويتمثل بالتأثر بشكل أو بآخر ، بهذه الأفكار وتسرّبها بأكثر من شكل وستار إلى البعض لتطرح من جديد بثوب إسلامي شرعي.
    ولقد كان موقف أئمة أهل البيت عليهم السلام واتّباعهم يمثل بوضوح الشق الأول بريادة الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ، حيث كان تأسيسه لمدرسته العلمية يمثل في أهم أبعاده السد الحائل أمام نفوذ الكثير من تلك الأطروحات الغريبة إلى داخل البنيان الاسلامي ، وحاجزا أمام نشوء حالة الاختلاط المريب والتسرب البطيء الذي يشكل مع الأيام وجوداً خطراً على عموم البنيان الاسلامي العظيم.
    إن التأمل اليسير في حجم التسرب الفكري والعقائدي الذي أصاب رواد الشق الثاني الذي أشرنا إليه آنفا يبيّن بوضوح عظم الأثر الذي تركته هذه المدرسة المباركة الكبرى.
    إن هذا العصر كان شاهداً للكثير من التطورات والتغيرات المهمة


(12)
والكبرى وعلى أصعدة واسعة ومختلفة تركت آثارها الواضحة على البناء الفكري والثقافي للمجتمع الاسلامي ، ومن ذلك انتشار صناعة الورق أبان تلك الفترة الزمنية ، فكان ذلك سببا مباشرا في سهولة الحصول على الكتب والمؤلفات التي كان يصعب الحصول عليها بعسر استنساخها على أوراق البردي أو الرق.
    مضافا إلى ما شهده العصر العباسي الأول من اعتناء واسع بالترجمة عن الثقافات الأجنبية ، والتي بدأت في عصر المنصور ( ت 158 ه‍ ) وبلغت أوجها في عصر المأمون بعد أن انشاء أبوه الرشيد دار الحكمة وجلب إليها الكتب من أنحاء المعمورة ، واستقدم العديد من المختصصين بالترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ، وكان من نتيجة ذلك أن نشأت طبقة متضلعة بالترجمة عمدت إلى تعريب الكثير من المؤلفات الرومانية والفارسية واليونانية والهندية وغيرها ، فواجه المفكر المسلم ، والعامة من الناس ثقافات جديدة وغريبة ، فتعاملوا معهما كما أشرنا سابقا بين المد والجزر.
    ولعل من الحلقات الكبرى في هذا الوضع الجديد على الساحة الاسلامية ، والذي عمد إلى استثمار الفرص الأخرى التي أشرنا إليها ، هو نشوء الدولة العباسية ، واستقرار دفة الأمور بيديها.
    فبعد أن استقر المقام بالعباسيين على سدة الدولة الاسلامية ، وجدوا أن من غير المنطقي استمرارهم في التمسك بالكثير من الشعارات التي تاجروا بها ردحا من الزمن ، واتخذوها وسيلة للوصول إلى قمة الهرم في الدولة الاسلامية ، وحيث كانوا يدركون خطر الاستمرار في التمسك بها والدعوة إليها على وجودهم وتربعهم على سدة الحكم.
    ومن أهم تلك الشعارات التي نادوا بها طويلا ، وكانت العامل الأكثر حساسية في التفاف الكثير حولهم ، هو شعار الدعوة لآل محمد صلّى الله


(13)
عليه وعليهم ، والذي أكسبهم الكثير من الشرعية عند عموم المسلمين.
    نقول بعد ذلك الأمر كان لا مناص أمام الدولة العباسية وحكامها إلّا البحث عن البدائل الأخرى ، فعمدوا إلى تقريب العلماء والمفكرين ، لا لغرض علمي أو ديني كما توهمه البعض أو يريد أن يصوره للآخرين ، بل لغرض سياسي بحت ، هو إضفاء صفة الشرعية على حكمهم ، فكان أن ارتاد بلاطهم الكثيرون من المستجدين فتات موائدهم ، بهدف إزواء فقهاء أهل البيت عليهم السلام.
    كما أن الدولة شخصت بشكل أو بآخر نمو الكثير من المذاهب والمعتقدات المختلفة لأغراض شتى متفاوتة ، بين الجهل ، وإضفاء صفة الحرص على العلم على دولتهم ، وإيجاد البدائل الممكنة قبالة مذهب أهل البيت عليهم السلام.
    بلى إننا عندما نجزم بحقيقة توجه الدولة العباسية المعادي لخط أهل بيت النبوة عليهم السلام لا يعني ذلك مخالفتنا الفكرية والعقائدية لتطور الأفكار ونموها بقدر ما أردنا الاشارة إليه من تدبير خطير تعاهدته أيدي العباسيين بالرعاية والاهتمام.
    ولذا فإن البذور الأولى لنشأة المذاهب الفقهية الاسلامية قد تكونت إبان حكم الدولة العباسية ، وأخذت تشتد بمرور الأيام ثم تبين استقلالها وتفرقها بوضوح بعد تردي أوضاع هذه الدولة ، وانقسام الحياة الفكرية العامة لدى المسلمين ، وسعي تلاميذ أصحاب المذاهب الفقهية المختلفة الدؤوب في الدعوة إلى مذاهبم ، بعيدا عن مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وحيث بقي طوال تلك المدة عرضة للمطاردة والتنكيل ، يقابله اعتناق البعض من الحكام لمذاهب معينة وفرضهم على الساحة أن تكون خالية مما عداه من المذاهب الأخرى إلّا المذهب الذي يؤمن به.


(14)
المذاهب الاسلامية وأدلتها الشرعية
    لعله من نافلة القول إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد رحل من هذا العالم بعد السنين التي عاش فيها بين المسلمين ، يتأملون عبادته من طهارة وصلاة وصوم وحج وغير ذلك فيتبعونه في ذلك ، ويرجعون إليه فيما اختلفوا فيه أو شكوا في صوابه ، وأما ما يروى من الروايات المذكورة في مظانها من مفهوم الاجتهاد في عصره صلّى الله عليه وآله فإنه كان لا يتجاوز علمية بذل الجهد لا كما أصبح عليه الآن مما يدل عليه اصطلاحاً من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
    كما إننا لا نتفق مع الرأي القائل بوقوع الاجتهاد من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله كما ذهب إلى ذلك الآمدي في الأحكام (1) وغيره ، لأن ذلك يتنافى صراحةً مع قوله تعالى ( وَما ينطِقُ عنِ الهوى ).
    وما رواه أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كنت أكتب كلّ شيء اسمعه من رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتاب !
    فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم ، فأومأ باصبعه إلى فيه فقال : « أكتب ، فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلّا حق » (2).
    ولأن الاجتهاد كما نعلم يفيد الطن ، وقد اتفق على ذلك الجميع ، ومنهم الآمدي في الأحكام حيث قال : الاجتهاد مخصوص باستفراغ الوسع
1 ـ الأحكام في أصول الأحكام 1 : 398.
2 ـ سنن أبي داود 3 : 334 / 3446.


(15)
في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد فيه (1).
    فإذا كان كذلك فلم كان صلّى الله عليه وآله يتوقف في العديد من الأحكام حتى يرد عليه الوحي من قبل الله تعالى ، وقد كان بإمكانه الاجتهاد في ذلك وعدم الانتظار ؟ ثم إنّ في الاعتقاد بذلك مدخلا خطيرا يضعف القول القطعي بأن الشرع الذي جاء به رسول الله صلّى الله عليه وآله هو من الله تعالى ، كما أنّه يوهن الثقة المطلقة بأحكامه صلّى الله عليه وآله طالما أن الاجتهاد محتمل الحالتين : الخطأ والصواب ، وذلك منفي عن الرسول صلّى الله عليه وآله قطعا.
    نعم لقد رحل رسول الله صلّى الله عليه وآله وخلف لامته شيئين اثنين ، جعلهما المرجع السليم لهذه الأمة عند الاختلاف ، ألا وهما : كتاب الله عز وجل ، وعترته أهل بيته عليهم السلام ، بنص قوله صلّى الله عليه وآله : « إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (2).
    إلا أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يتخلفوا عن امتثال أمره حتى قبيل موته صلّى الله عليه وآله ، فكانت أولى هذه المسائل قضية الخلافة الشرعية عنه صلّى الله عليه وآله ، فخالفوا في ذلك النص الصريح ، والأمر الواقع ، فكان في ذلك أول خروج عن الخط النبوي القويم ، وأوضح انحراف عن الالتزام بالشق الثاني المتمثل بالثقل الآخر الذي خلّفه رسول
1 ـ الأحكام 4 : 396.
2 ـ سنن الترمذي 5 : 662 / 3786 ، 663 / 3788 ، مسند أحمد 3 : 17 و 5 : 181 ، مستدرك الحاكم 3 : 109 و 148 ، أسد الغابة 2 : 12.
تذكرة الفقهاء الجزء الأول ::: فهرس