2 ـ عطيّة من رجال البخاري في الأدب المفرد :

والبخاري وانْ لم يخرج عن عطيّة في كتابه المعروف بالصحيح ، أخرج عنه في كتابه الآخر ( الأدب المفرد ) ... وهذا الكتاب وانْ لم يلتزم فيه بالصحّة لكنْ من البعيد أن يخرج فيه عمّن يراه من الكذّابين ! !

3 ـ عطيّة من رجال أبي داود :

وأبو داود السجستاني أخرج عنه في كتابه الذي جعلوه من الصّحاح الستة ، وقال الامام الحافظ إبراهيم الحربي لمّا صنف أبو داود كتابه : « ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد » نقله قاضي القضاة ابن خلّكان (1) . وفي المرقاة في شرح المشكاة : « قال الخطابي شارحه : لم يصنّف في علم الدين مثله ، وهو أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من الصحيحين . وقال أبو داود : ما ذكرت فيه حديثاً أجمع الناس على تركه . وقال ابن الأعرابي : من عنده القرآن وكتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم ألبتة. وقال الناجي : كتاب الله أصل الاسلام وكتاب أبي داود عيد الاسلام ، ومن ثمَّ صرّح حجة الاسلام الغزالي باكتفاء المجتهد به في الأحاديث ، وتبعه أئمة الشافعيّة على ذلك » (2) .
فهذا طرف من كلمات القوم في وصف كتاب أبي داود الذي أخرج فيه عن عطية العوفي .

4 ـ عطيّة من رجال الترمذي :

والترمذي أيضاً أخرج عن عطيّة في كتابه المعدود من الصحاح الستّة
____________
(1) وفيات الأعيان 2|138 .
(2) المرقاة في شرح المشكاة 1|22 .

( 83 )

عندهم ، والذي حكوا عنه أنه قال : « صنّفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به ، وعرضته على علماء العراق فرضوا به ، وعرضته على علماء خراسان فرفضوا به ، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلّم » (1) .

5 ـ عطيّة من رجال ابن ماجة :

وابن ماجة القزويني أيضاً أخرج عن عطية في كتابه الذي نصَّ ابن خلكان على كونه أحد الصحاح الستة (2) ، وقد نقل عن ابن ماجة قوله : « عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه وقال : أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع أو أكثرها . ثم قال : لعلّه لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً ممّا في إسناده ضعف » (3) .

6 ـ عطيّة من رجال أحمد في المسند :

وأحمد بن حنبل أخرج عنه فأكثر ، ومن ذلك روايات حديث الثقلين ، ولا بدَّ من البحث هنا في جهاتٍ :
الأولى : في رأي أحمد في مسنده وأنه هل شرط الصحيح أولا ؟
والثانية : في رأي العلماء في مسند أحمد .
والثالثة : في رأي أحمد في عطية .
أما رأيه في عطية فسنتكلّم عليه عندما نتعرض لطعن من طعن فيه .

رأي أحمد في المسند :

أمّا رأي أحمد بن حنبل في مسنده فقد ذكر الحافظ السيوطي عن بعض
____________
(1) اُنظر مقدّمة الشيخ أحمد محمد شاكر لصحيح الترمذي .
(2) وفيات الأعيان 3|407 .
(3) تذكرة الحفاظ 2|189 .

( 84 )

العلماء : أن أحمد شرط في مسنده الصحيح (1) . وذكر قاضي القضاة السبكي بترجمة أحمد من ( طبقاته ) عن عبدالله بن أحمد قال : « قلت لأبي : لم كرهت وضع الكتب وقد عملت المسند ؟ فقال : عملت هذا الكتاب إماماً إذا اختلف الناس في سنّةٍ عن رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم رجع إليه » .
قال السبكي : « قال أبو موسى المديني : لم يخرج إلاّ عمّن ثبت عنده صدقه وديانته ، دون من طعن في أمانته . ثم ذكر باسناده إلى عبد الله ابن الامام أحمد ـ رحمه الله ـ قال : سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان ، قال : لم أخرج عنه في المسند شيئاً ، لمّا حدّث بحديث المواقيت تركته » .
وأورد السبكي ما ذكره المديني بإسناده إلى حنبل بن اسحاق قال : « جمعنا عمّي ـ يعني الامام أحمد ـ لي ولصالح ولعبدالله ، وقرأ علينا المسند ، وما سمعه معنا ـ يعني تماماً ـ غيرنا ، وقال لنا : إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فارجعوا إليه ، فإنْ كان فيه والاّ ليس بحجة » .
قال السبكي : « قال أبو موسى : ومن الدّليل على أنّ ما أودعه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ مسنده قد احتاط فيه إسنادا ومتناً ، ولم يورد فيه إلاّ ما صحَّ عنده : ما أخبرنا به أبو علي الحداد . قال : أنا أبو نعيم وأنا ابن الحصين وأنا ابن المذهب قال : أنا القطيعي ، ثنا عبدالله قال : حدثني أبي ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، عن أبي التياح قال : سمعت أبا زرعة يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أنه قال : يهلك أمتي هذا الحي من قريش . قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : لو أنّ الناس اعتزلوهم . قال عبدالله : قال أبي في مرضه الذي مات فيه : إضرب على هذا الحديث ، فإنه خلاف الأحاديث عن النبي . يعني قوله : اسمعوا وأطيعوا .
____________
(1) تدريب الراوي 1|171 ـ 172 .

( 85 )

وهذا مع ثقة رجال إسناده حين شذّ لفظه مع الأحاديث المشاهير أمر بالضرب عليه . فكان دليلاً على ما قلناه » (1) .
وقال شاه ولي الله الدهلوي بعد ذكر طبقةٍ من الكتب : « وكاد مسند أحمد يكون من جملة هذه الطبقة ، فإنّ الإمام أحمد جعله أصلاً يعرف به الصحيح والسقيم . قال : ما ليس فيه فلا تقبلوه » (2) .

آراء العلماء في المسند :

وقال جماعة من أعلام الحفّاظ بصحّة أحاديث المسند كلّها ، ومنهم :
الحافظ أبو موسى المديني .
وقاضي القضاة السبكي .
والحافظ أبو العلاء الهمداني .
والحافظ عبد المغيث بن زهير الحربي ، وله في ذلك مصنَّف .
والحافظ ابن الجوزي عدّ المسند من دواوين الإسلام ، وذكره قبل الصحيحين . وهذه عبارته في مقدمة كتابه الموضوعات :
« فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام كالموطّأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي ونحوها ، فانظر فيه . فإنْ كان له نظير في الصحاح والحسان فرتّب أمره ، وإنْ ارتبت فيه فرأيته يباين الأصول فتأمل رجال اسناده ، واعتبر أحوالهم من كتابنا المسمّى بالضعفاء والمتروكين ، فإنك تعرف وجه القدح فيه » (3) .
وقاضي القضاة السبكي ، في كتابه الذي ألفه في زيارة قبر النبي صلّى الله
____________
(1) طبقات الشافعية الكبرى 2|31 ـ 33 .
(2) حجة الله البالغة : 134 .
(3) الموضوعات 1|99 .

( 86 )

عليه وآله وسلّم ، وتعرّض فيه للردّ على ابن تيمية ، قال في البحث حول حديث : « من زار قبري وجبت له شفاعتي » بعد ذكر أنه في مسند أحمد : « وأحمد ـ رحمه الله ـ لم يكن يروي إلاّ عن ثقة ، وقد صرّح الخصم ـ يعني ابن تيمية ـ بذلك ، في الكتاب الذي صنّفه في الرّد على البكري ، بعد عشر كراريس منه ، قال : إنّ القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان ، منهم من لم يرو إلاّ عن ثقة عنده كمالك ... وأحمد بن حنبل ...
وقد كفانا الخصم مؤنة تبيين أن أحمد لا يروي الاّ عن ثقة .
وحينئذٍ لا يبقى له مطعن فيه » (1) .
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي : « قال شيخ الإسلام ـ يعني ابن حجر العسقلاني ـ في كتابه : تعجيل المنفعة في رجال الأربعة : ليس في المسند حديث لا أصل له إلاّ ثلاثة أحاديث أو أربعة ، منها حديث عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفاً ، قال : والاعتذار عنه أنه ممّا أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهواً ، أو ضرب وكتب من تحت الضرب » .
قال السيوطي : « وقال في كتابه : تجريد زوائد مسند البزاز : إذا كان الحديث في مسند أحمد لم نعزه إلى غيره من المسانيد » .
قال : « وقال الهيثمي في زوائد المسند : مسند أحمد أصح صحيحاً من غيره » .
قال : « وقال ابن كثير : لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته ... » .
قال : « وقال الحسيني في كتابه : التذكرة في رجال العشرة : عدة أحاديث
____________
(1) شفاء الاسقام في زيارة خير الأنام 10 ـ 11 .

( 87 )

المسند أربعون ألفاً بالمكرر » (1) .
وقال الدكتور أحمد عمر هاشم ـ استاذ الحديث بجامعة الأزهر ـ في تعليقه على كتاب تدريب الراوي في هذا الموضع : « وللشيخ ابن تيميّة في ذلك كلام حسن ، فقد ذكر في التّوسل والوسيلة : انه إنْ كان المراد بالموضوع ما في سنده كذّاب ، فليس في المسند من ذلك شيء ، وإنْ كان المراد ما لم يقله النبي ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لغلط راويه وسوء حفظه ، ففي المسند والسنن من ذلك كثير » .

7 ـ توثيق عطيّة من قبل الأئمة :

هذا ، وبالاضافة إلى كلّ ما تقدّم ... نجد في ترجمة عطيّة :
وثّقه ابن سعد وقال : له أحاديث صالحة .
وقال الدوري عن ابن معين : صالح .
ووثّقه الحافظ سبط ابن الجوزي (2) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : يعدّ في التشيع ، روى عنه جلّة النّاس .
وأبو حاتم وابن عدي ـ وإنْ ضعّفاه ـ قالا : يكتب حديثه .

8 ـ طعن بعضهم في عطيّة بسبب تشيّعه :

ثم إنْ المستفاد من كلمات القوم بترجمة عطية : ان السّبب العمدة في تضعيفه هو تشيّعه ، فعندما نراجع تهذيب التهذيب نجد :
ان الجوزجاني لم يضعّفه وإنما قال : « مائل » . وعن ابن عدي : « قد روى عن
____________
(1) تدريب الراوي 1|139 .
(2) تذكرة خواص الأمة : 42 .

( 88 )

جماعةٍ من الثقات ، ولعطية عن أبي سعيد أحاديث عدة وعن غير أبي سعيد ، وهو مع ضعفه يكتب حديثه ، وكان يعدّ مع شيعة أهل الكوفة » . والبزار لم يضعّفه وإنما ذكر تشيعه ونصَّ على أنه مع ذلك فقد روي عنه جلّة الناس ، والساجي قال : « ليس بحجة » ولم يذكر لقوله دليلاً إلاّ : « كان يقدّم علياً على الكل » .
وقال ابن حجر : « قال ابن سعد : خرج عطية مع ابن الاشعث ، فكتب الحجاج الى محمد بن القاسم أنْ يعرضه على سبّ علي ، فإنْ لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته ، فاستدعاه فأبى أنْ يسب ، فأمضى حكم الحجاج فيه ، ثم خرج إلى خراسان ، فلم يزل بها حتى ولي عمر بن هبيرة العراق ، فقدمها فلم يزل بها إلى أنْ توفي سنة 11 » .

9 ـ النّظر في الطّاعن وكلامه :

لقد ضُرب الرّجل أربعمائة سوطاً وحلقت لحيته ... بأمرٍ من الحجّاج ... ثم جاء من لسانه وسوط الحجاج شقيقان فقال عنه : « مائل » أو ضعّفه ، أو اتّهمه ... وما ذلك كلّه إلاّ لأنّه أبى أنْ يسبَّ عليّاً ... !!
لقد عرفت في المقدمة أنّ التشيع لا يضّر بالوثاقة ، كما نصّ عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في ( شرح البخاري ) ، وبنى عليه في غير موضع ، منها في ترجمة خالد بن مخلّد حيث قال : « أمّا التشيّع فقد قدمّنا أنّه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضرّه ، لا سيّما ولم يكن داعيةً إلى رأيه » (1) .
والجوزجاني الذي قال عن عطية « مائل » : كان ناصبيّاً منحرفاً عن علي عليه السلام ، وكان يطلق هذه الكلمة على الرواة الشيّعة ... فاستمع الى ابن حجر يقول :
« خ د ت : إسماعيل بن أبان الورّاق الكوفي ، أحد شيوخ البخاري ولم يكثر
____________
(1) مقدمة فتح الباري : 398 .

( 89 )

عنه ، وثّقه النسائي ، ومطين ، وابن معين ، والحاكم أبو أحمد ، وجعفر الصائغ ، والدارقطني ، وقال في رواية الحاكم عنه : أثنى عليه أحمد وليس بقوي .
وقال الجوزجاني : كان مائلاً عن الحق ولم يكن يكذب في الحديث : يعني : ماعليه الكوفيون من التشيع .
قلت : الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي ، فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان . والصواب موالاتها جمعياً ، ولا ينبغي أنْ يسمع قول مبتدع في مبتدع » (1) .

أقول :

فلا يسمع قول الجوزجاني في عطيّة وأمثاله إلاّ ناصبي منحرف عن علي !! وأيضاً : قد عرفت ـ في المقدمة ـ تنبيه الحافظ ابن حجر على عدم الإعتداد بالطعن بسبب الاختلاف في العقائد قائلاً : « واعلم أنه وقع من جماعةٍ الطعن في جماعةٍ بسبب اختلافهم في العقائد ، فينبغي التنّبه لذلك وعدم الاعتداد به إلاّ بحق » (2) .
وقد ذكرنا أنّ الحافظ ابن أبي حاتم الرازي أورد إمامهم الأكبر البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل ) ، وأورده الحافظ الذهبي في كتاب ( المغني في الضعفاء ) لطعن جماعةٍ من الأئمة في البخاري بسبب اختلافه معهم في مسألة اللّفظ ، وهي من أهم المسائل في العقائد ... حتى تضجّر العّلامة السبكي والعلاّمة المنّاوي من فعل الحافظ الذهبي هذا !!
وممّا يؤكّد ماذكرنا من كون الرجل من رجال الصحاح ، وأنّ تضعيف بعضهم
____________
(1) مقدمة فتح الباري : 387 .
(2) مقدمة فتح الباري : 382 .

( 90 )

إيّاه إنما هو لأجل الاختلاف في العقائد ، وأنه لا يعتّد به : حذف الحافظ ابن حجر اسم عطية العوفي من ميزان الاعتدال ، وعدم ذكره في ( لسان الميزان ) ، مشيراً إلى أنّه لا ينبغي الاصغاء إلى تكلّم الجوزجاني ومن كان على شاكلته ... في مثل عطيّة التابعي الثقة المعتمد عليه في الكتب المعوّل عليها عندهم ...

10 ـ رأي أحمد في عطيّة :

بقي أنْ نعرف رأي أحمد في عطيّة الذي أكثر عنه في المسند :
جاء في تهذيب التهذيب عن أحمد أنه قال : « هو ضعيف الحديث . ثم قال بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيسأله عن التفسير ، وكان يكنّيه بأبي سعيد فيقول : قال أبو سعيد .
قال أحمد : وحدثنا أبو أحمد الزبيري : سمعت الكلبي يقول : كنّاني عطية أبو سعيد » .

أقول :

هنا نقاط نضعها على الحروف ، أرجو أن يتأمّلها المحقّقون المنصفون ، بعد الالتفات الى ماذكرناه حول ـ رأي أحمد في المسند ـ وبعد البناء على ثبوت هذا النقل عن أحمد الذي أكثر من الرواية عن عطيّة عن أبي سعيد :
1 ـ إنّ السبب في قوله : « ضعيف الحديث » هو ماذكره قائلاً : « بلغني » ثم نظرنا فإذا في الجملة اللاحقة يذكر السند الذي بلغه الخبر به وهو : « أبو أحمد الزبيري سمعت الكلبي يقول... » .
2 ـ هذا الكلبي هو : محمد بن السائب المفسّر المشهور ، ووفاته سنة


( 91 )

(146) (1) وقد عرفت أن عطيّة مات سنة (111) (2) ، وهذا ما يجعلنا نتردّد في أصل الخبر ففي أيّ وقت حضر عطيّة التفسير عند الكلبي ؟ وأيّ مقدارٍ سمع منه ؟
3 ـ قال ابن حجر : « قال ابن حبّان ـ بعد أنْ حكى قصته مع الكلبي بلفظ مستغربٍ فقال : سمع من أبي سعيد أحاديث ، فلمّا مات جعل يجالس الكلبي يحضر بصفته ، فإذا قال الكلبي قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم كذا فيحفظه ، وكنّاه أبا سعيد ، ويروي عنه ، فاذا قيل له : من حدّثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد ، فيتوهّمون أنه يريد أبا سعيد الخدري ، وانما أراد الكلبي ـ قال : لايحلّ كتب حديثه إلاّ على التعّجب » .
يفيد هذا النقل :
( أ ) أنّ السبب في تضعيف ابن حبّان أيضاً هو هذه القصّة ...
( ب ) أنّ القصة ـ إنْ كان لها أصل ـ قد زاد القوم عليها أشياء من عندهم .
( ج ) أنّ هذا اللفظ مستغرب بحيث التجأ ابن حجر إلى الطعن فيه .
واعلم أنّ « الدكتور » أورد اللفظ المذكور عن ابن حبان بواسطة ابن حجر وأسقط كلمته « بلفظٍ مستغرب » ! ! .
4 ـ إنّ الكلبي المذكور رجل قد أجمعوا على تركه ، متهم عندهم بالكذب والرفض ، قال ابن سعد : « قالوا : ليس بذاك ، فيه روايته ضعيف جداً » (3) .
وقال الذهبي في وفيات سنة ( 146 ) : « فيها : محمد بن السائب أبو نضر الكلبي الكوفي ، صاحب التفسير والأخبار والأنساب ، أجمعوا على تركه ، وقد اتهم بالكذب والرفض . قال ابن عدي : ليس لأحدٍ أطول من تفسيره » (4) .
____________
(1) أنظر : العبر وغيره حوادث 146 .
(2) وهو قول ابن سعد ومطيّن والذهبي . قال الذهبي في تاريخ الإسلام : « وقال خليفة : مات سنة 127 . وهذا القول غلط » .
(3) تهذيب التهذيب 9|159 .
(4) العبر 1|158 .

( 92 )

وفي طبقات المفسرين : « محمد بن السائب بن بشر الكلبي ، أبو النضر الكوفي النسابة المفسر ، روى عن : الشعبي وجماعة . وعنه : إبنه ، وأبو معاوية ، ويزيد ، ويعلى بن عبيد ، وخلف . متهم بالكذب ، ورمي بالرفض . قال البخاري : تركه القطاّن وابن مهدي . قال مطيّن : مات سنة (146) .
أخرج له : أبو داود في المراسيل ، والترمذي وابن ماجة في التفسير .
وله تفسير مشهور ، وتفسير الآي الذي نزل في أقوامٍ بأعيانهم ، وناسخ القرآن ومنسوخه » (1) .

فأقول :

إذا كان هذا الرجل مجمعاً على تركه ومتّهماً بالكذب والرفض، فكيف روى عنه الجماعة وحتى بعض أصحاب الصحاح ؟
الواقع : إنهم كانوا يعتمدون عليه في التفسير ، فقد ذكر ابن حجر عن ابن عدي : « حدّث عنه ثقات من الناس ورضوه في التفسير » ولذا روى عنه الترمذي وابن ماجة في التفسير كما عرفت ، ولم يكونوا يعتمدون عليه في الحديث ، كما عرفت من عبارة ابن سعد حيث قال : « في روايته ضعيف جداً » ، بل إنّ مثل عطيّة الذي لازم جماعةً من كبار الصحابة وروى عنهم في غنىً عن الرواية عن الكلبي .
لكنّهم حيث كانوا يأخذون منه التفسير كانوا يحاولون التستّر على ذلك ... لأنّه كان يفسّر الآي ويذكر الأقوام الذين نزلت فيهم بأعيانهم ـ ولعلّه لذا رمي بالكذب والرفض ـ وكذلك كان عطيّة ، فإنّه كان يكنّيه لئلاّ يعرف الرجل فتلاحقه السّلطات ، لا لغرض التدليس والتلبيس ... ويشهد بذلك كلام قاضي القضاة ابن خلكان بترجمة الكلبي : « روى عنه سفيان الثوري ومحمد بن اسحاق ، وكانا
____________
(1) طبقات المفسرين 2|149 .

( 93 )

يقولان : حدثنا أبو النصر ، حتى لا يعرف »(1) . فلو كان مايفعله عطيّة مضراً بوثاقته لتوجّه ذلك بالنسبة الى سفيان وابن اسحاق ...
بل لتوجّه الطعن في البخاري وكتابه المشهور بالصحيح ، فإنّ كان يروي عن « محمد بن يحيى الذهلي » ـ الذي طرد البخاري من نيسابور ، وكتب إلى الري ضده ، فترك أئمة القوم في الري الحضور عنده والسّماع منه ـ فقد جاء بترجمة الذهلي : أن البخاري يروي عنه ويدلّسه كثيراً ، لا يقول : (محمد بن يحيى ) بل يقول : ( محمد ) فقط ، أو (محمد بن خالد ) أو ( محمد بن عبدالله ) ينسبه إلى الجد ويعمّي اسمه ، لمكان الواقع بينهما » (2) .
فهذا واقع الحال في رواية عطيّة عن الكلبي ان ثبت أصل القضية .
ويؤكّد ما ذكرناه توثيق ابن سعد وابن معين وغيرهما عطيّة ، وروايتهم عنه ، فلو كان صنيع عطية مضراً بو ثاقته لما وثّقوه ولا رووا عنه .
ولا سيّما أحمد وأرباب الصّحاح ... ويحيى بن معين الذي روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وسائر الأئمة ، وقد وصفوه بإمام الجرح والتعديل وجعلوه المرجوع اليه في معرفة الصحيح والسقيم ، وربّما قدّموا رأيه على رأي البخاري في الرجال ...

الكلمة الأخيرة :

وأخيراً ... لو كان أحمد يرى ضعف حديث عطيّة فلماذا روى عنه بكثرة في المسند الذي عرفت رأيه فيه ؟
لقد تنبّه « الدكتور » إلى هذا الاعتراض فانبرى للجواب عنه ، وهذه عبارته :
____________
(1) وفيات الأعيان 3|436.
(2) سير أعلام النبلاء 12|275.

( 94 )

« وقد يقال هنا : إذا كان الامام أحمد يرى ضعف حديث عطيّة فلماذا روى عنه ؟ والجواب : ان الإمام أحمد إنما روى في مسنده ما اشتهر ، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم . ويدل على ذلك انّ ابنه عبد الله قال : قلت لأبي : ما تقول في حديث ربعي بن خراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد ؟ قلت : نعم . قال : الاحاديث بخلافه . قلت : فقد ذكرته في المسند ؟ قال : قصدت في المسند المشهور ، فلو أردت أن اقصد ما صحّ عندي لم أرو من هذا المسند إلاّ الشيء بعد الشي اليسير . وقد طعن الامام أحمد في أحاديث كثيرة في المسند ، وردَّ كثيراً ممّا روي ، ولم يقل به ، ولم يجعله مذهباً له .
وعندما عدّ ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرجها الإمام أحمد في مسنده ، وثار عليه من ثار ، ألّف ابن حجر العسقلاني كتابه ( القول المسددّ في الذبّ عن المسند ) . فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي ، ثم أجاب عنها ، وممّا قال : الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شيء من أحاديث الاحكام في الحلال والحرام . والتساهل في ايرادها مع ترك البيان بحالها شائع . وقد ثبت عن الامام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : اذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، واذا روينا في الفضائل ونحوه تساهلنا . وهكذا حال هذه الاحاديث .
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسّك بالعترة » .

نقول :

هذه عبارة « الدكتور » كما هي بلا زيادةٍ ولا نقصان ، وعليك بمراجعة « المسند تحقيق شاكر ـ طلائع الكتاب 1|57 » و « ص 11 من القول المسدّد » هل ترى من اختلافٍ بين ما فيهما وما نقله عنهما ؟ !


( 95 )

والمهمّ فيها هو الجواب عن السؤال ... والجواب هو قوله :
« ما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسّك بالعترة » .
أي : إن أحمد يرى ضعف حديث عطيّة ، لكنّه روى فضائل أهل البيت والتمسّك بالعترة عن عطيّة وأمثاله لتساهله في الفضائل .
لكن هذا الجواب غير مسموع ، ولو كلّف « الدكتور » نفسه وراجع روايات أحمد عن عطيّة عن أبي سعيد الخدري فقط ، لو جد فيها الفضائل ، والاحكام في الحلال والحرام ، والتفسير ، والمواعظ ...
وبتعبير آخر : إنّ هذا الجواب من « الدكتور » يؤكّد الأدلّة التي أقمناها على وثاقة عطية عند أحمد وغيره من الأئمة ، والبيان الذي ذكرناه لقصّة روايته على الكلبي ـ إنْ صحّت ـ ... لأنّ المفروض أنه « قد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، واذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا » هذا هو المفروض ... وقد وجدنا أحمد يروي عن عطية الحلال والحرام ...
فهل « الدكتور » يجهل هذا ؟ أو يتجاهله ؟ !
نعم ... إن أحمد كما روى حديث التمسك بالعترة عن عطية عن أبي سعيد الخدري ... وهو من أحاديث الفضائل ، كذلك روى عن عطية عن أبي سعيد الخدري ... من أحاديث الحلال والحرام بكثرة ...
ففي نظرةٍ سريعة في الجزء الثالث في مسند أبي سعيد الخدري ، الذي يبدء من الصفحة (2) وينتهي في صفحة (98) نجد روايته عنه في الصفحات : 7 ، 9 ، 10 ، 13 ، 14 ، 17 ، 20 ، 21 ، 22 ، 27 ، 31 ، 32 ، 38 ، 39 ، 40 ، 42 ، 43 ، 45 ، 54 ، 55 ،


( 96 )

65 ، 73 ، 74 ، 80 ، 83 ، 89 ، 93 ، 97 ، 98 ...
فمثلاً في الصفحة ( 43 ) روى عنه حديثاً في حكم الأضحيّة .
وفي الصفحة ( 45 ) حديثاً في أن الجنين ذكاته ذكاة أمّه .
وفي الصفحة ( 54 ) و ( 73 ) في حكم غسل الجنابة ...
وهكذا ...
هذا في رواياته عن عطية عن أبي سعيد الخدري ... ولو وجدنا فراغاً لعددنا روايات أحمد عن عطيّة عن غير أبي سعيد من الصّحابة ، لا سيّما ما كان منها في الاحكام والحلال والحرام ... إلاّ أن فيما ذكرنا غنى وكفاية .

ثم قال « الدكتور » :

« 2 ـ الرواية الثانية للترمذي رواها عن علي بن المنذر الكوفي ، عن محمد بن فضيل . ثم انقسم السند إلى طريقين ، انتهى الأول الى عطيّة عن أبي سعيد . والثاني : إلى زيد بن أرقم . ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل ... والذي جمع بين الطريقين في هذا الإسناد هو : علي بن المنذر الكوفي ، أو محمد بن الفضيل . ولكن الثاني روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة عن زيد بن أرقم . فيستبعد الجمع عن طريقه . فلم يبق إلاّ علي بن المنذر .
وهو من شيعة الكوفة . قال ابن أبي حاتم : سمعت منه مع أبي وهو صدوق ثقة : سُئل عنه أبي فقال : محلّه الصدق . قال النسائي : شيعي محض ثقة . وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن نمير : هو ثقة صدوق . وقال الدارقطني : لا بأس به . وكذا قال مسلمة بن قاسم وزاد : كان يتشيع . وقال الاسماعيلي : في القلب منه شيء لست أخيره . وقال ابن ماجة : سمعته يقول : حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها


( 97 )

راجلاً (1) .
وما سمعه منه ابن ماجة يجعلنا نتردّد كثيراً في الاحتجاج بقوله ، فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً ؟ ليس من المستبعد اذن أنْ يجمع راوٍ شيعي كهذا بين روايتين في مناقب أهل البيت تتفّقان في شيء وتختلفان في شيءٍ آخر » .

ترجمة علي بن المنذر الكوفي :
ونقول :

لقد تقدّم لفظ الترمذي حديث الثقلين في كتابه الذي يعدّ من ( الصّحاح الستة ) عند القوم ، وكما ذكرنا من قبل فإنّ مجرد إخراج الترمذي لهذا الحديث الشريف يكفي للاحتجاج به عليهم ، لا سيّما وأنّه أخرجه من طريقين عن اثنين من كبار الصحابة بعد أن أخرجه عن جابر بسندٍ آخر ، ونصّ على أنّ « في الباب عن : أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد » ممّا يدلُّ على شدّة اعتنائه به وسعيه وراء اثباته .
والحاصل : إنّه قد أخرج الحديث بثلاثة طرق عن ثلاثة من الصحابة ، واكتفى بالنسبة إلى رواية غيرهم بالإشارة .
وقد أخرج الترمذي الرواية الثانية بطريقيها عن شيخه : علي بن المنذر الكوفي ... ولننظر إلى ترجمته في تهذيب التهذيب :
« ت س ق ( الترمذي والنسائي وابن ماجة ) .
علي بن المنذر بن زيد الأودي ويقال : الأسدي . أبو الحسن الكوفي الطريقي .
____________
(1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .

( 98 )

روى عن : أبيه ، وابن عيينة ، وابن فضيل ، وابن نمير ، ووكيع ، والوليد بن مسلم ، وسحاق بن منصور السلولي ، وأبي غسّان النهدي ، وجماعة .
وعنه : الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، ومطيّن ، ومحمد بن يحيى بن منده ، وزكريا السجزي ، وابن أبي الدنيا ، وعبدالله بن عروة ، وعبدالله محمد بن سيار الفرهياني ، وعمر بن محمد بن بجير ، والهيثم بن خلف ، وابو علي ابن مصقلة ، والحسن بن محمد بن شعبة ، وجعفر بن أحمد بن سنان القطان ، ويزيد بن الهيثم القاضي ، ويحيى بن صاعد ، وأحمد بن الحسين بن اسحاق الصدفي ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، ومحمد بن جعفر بن رباح الأشجعي . وآخرون .
قال ابن أبي حاتم : سمعت منه مع أبي وهو صدوق ثقة . سئل عنه أبي فقال : محلّه الصدق . وقال النسائي : شيعي محض ثقة . وذكره ابن حبّان في الثقات ، وقال مطين : مات في ربيع الآخر سنة 256 سمعت ابن نمير يقول : هو ثقة صدوق .
قلت : وقال الإسماعيلي : في القلب منه شيء لست أخيره .
وقال ابن ماجة : سمعته يقول : حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً .
وذكر ابن السمعاني : انه قيل له الطريقي ، لأنه ولد بالطريق .
وقال الدارقطني : لابأس به . وكذا قال مسلمة بن قاسم وزاد : كان يتشيع » (1) .
هذا كلّ ما جاء في تهذيب التهذيب ... وهل تجد فيه إلاّ التوثيق . بل التصريح بكونه صدوقاً ؟
أمّا كلمة الإسماعيلي فلا تدل على قدح ، ولا نعلم ما كان في قبله !
____________
(1) تهذيب التهذيب 7|337 .

( 99 )

وأمّا انه « كان يتشيّع » فلا يضر كما تقدم ...
لقد ظهر :
1 ـ أنّه من مشايخ الترمذي .
2 ـ أنّه من مشايخ ابن ماجة .
وذلك في كتابيهما المعدودين من الصّحاح الستة عندهم ، وقد عرفت شأن الكتابين عندهما وعند القوم .
3 ـ أنّه من مشايخ النّسائي ، وقد أخرج عنه في كتابه الذي نقلوا عنه القول بأنّ كلّ ما فيه صحيح ، والذي أطلق عليه الصّحة جماعة من كبار أئمتهم . قال السيوطي : « قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر : قد أطلق اسم الصّحة على كتاب النسائي : أبو علي النيسابوري ، وأبو أحمد ابن عدي ، وأبو الحسن الدارقطني ، وأبو عبدالله الحاكم ، وابن منذه ، وعبد الغني بن سعيد ، وأبو يعلى الخليلي ، وأبو علي ابن السكن ، وأبو بكر الخطيب ، وغيرهم » بل نقلوا عن بعض أكابرهم : « أن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم » (1) .
4 ـ وأنّه من مشايخ جماعة كبيرة من كبار الأئمة ، أمثال : مطيّن ، وأبي حاتم ، وابن منده ، والسجزي ، وابن صاعد ، وابن أبي حاتم ...
5 ـ وأنّه وثّقه : أبو حاتم الرازي ، والنّسائي ، وابن حبان ، وابن نمير وغيرهم ...
6 ـ وأنّه قال أبو حاتم وولده عبد الرحمن : صدوق . وقال النسائي : ثقة .
أمّا النسائي فقد تقدّم أن له شرطاً في الرجال اشد من شرط البخاري ومسلم . وأمّا أبو حاتم فقد ذكر الذهبي أنه متعنّت في الرجال يجب التوقف عن قبول قدحه
____________
(1) راجع مقدمة شرح السيوطي على سنن النسائي .

( 100 )

أمّا لو وثّق فالزم توثيقه ... وسنذكر عبارة الذهبي كاملةً ...
فهذا حال علي بن المنذر الكوفي ...
يقول « الدكتور » حيث لم يجد مجالاً للطعن في الرجل : « وقال ابن ماجة : سمعته يقول : حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً . وما سمعه منه ابن ماجة يجعلنا نتردّد كثيراً في الاحتجاج بقوله ، فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً ؟ » .
بالله عليك !! يأتي الرجل بعد مئات السّنين فيشكّك في عدالة رجل ، ويتردد في الاحتجاج بقوله لشيءٍ سمعه منه ابن ماجة ولم يتردّد ـ ابن ماجة ـ في الاحتجاج بقوله ! كأنّ هذا الرجل يرى نفسه أفهم وأتقى من ابن ماجة وأبي حاتم الرازي والنّسائي والترمذي و و ... !! إنْ كان كذلك فأهلاً وسهلاً !!
إنّ هذا الأمر لا يوجب التردّد في العدالة والاحتجاج به ، والاّ لم يوثّقه القوم ولم ينصوا على أنّه صدوق ...
والواقع : ان الذي قد وفّق له علي بن المنذر ـ وانْ كان لا يتيسّر لكلّ أحدٍ ـ قد حصل لكثيرٍ من الناس ، على ما يذكر في تراجمهم(1) بل لقد ذكر القوم بتراجم مشايخهم من هذا الباب ما يستغربه أولو الألباب ، ولننقل من ذلك : حكايتين ، والعهدة على الراوي :
ذكر الحافظ ابن الجوزي (2) عن موسى بن هارون قال : « رأيت الحسن بن الخليل مرةً بعرفات وكلّمته ، ثم رأيته يطوف بالبيت ، فقلت : ادع الله لي أن يقبل
____________
(1) بل ذكر صاحب ( الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ) بترجمة : « صالح بن يوسف أبي شعيب المقنع الواسطي الأصل » : أنّه « يقال : انه حج تسعين حجة راجلاً ، في كلّ حجة يحرم من صخرة بيت المقدس » انظر ج 1 ص 296 .
(2) وهو صاحب ( العلل المتناهية ) الذي أورد فيه حديث الثقلين بأحد أسانيده ، وحذّر العلماء من الاغترار بذلك ، الاّ أنّ « الدكتور » ... !

( 101 )

حجي . فبكى ودعا لي . ثم أتيت مصر فقلت : إن الحسن كان معنا بمكة ، فقالوا : ما حجّ العام ، وقد كان يبلغني أنه يمرّ إلى مكة في كلّ ليلة فما كنت أصدّق ، حتى رأيته فعاتبني وقال : شهرتني ، ما كنت أحبّ أنْ تحدّث بها عني ، فلا تعد بحقّي عليك » (1) .
وقال ابن العماد : « ذكر السخاوي في طبقاته : انّ الشيخ معالي سأل الشيخ سلطان بن محمد البعلبكي المتوفى سنة 641 فقال : يا سيدي كم مرّة رحت إلى مكة في ليلة ؟ قال : ثلاث عشرة مرة . قلت : قال الشيخ عبدالله اليونيني : لو أراد أنْ لا يصلّي فريضةً إلاّ في مكة لفعل » (2) .

سماع الأعمش من حبيب بن أبي ثابت حديث الثقلين :

وثمة تشكيك آخر لا أساس له من « الدكتور » .
يقول : « والأعمش وحبيب من الثقات ، وثبت سماع الأعمش من حبيب ، وسماع حبيب من زيد بن أرقم ، إلا أنّ في هذه الرّواية لم يثبت السّماع » .

أقول :

في هذه العبارة أمور :
1 ـ الاعتراف بوثاقة الأعمش وحبيب بن أبي ثابت . وحينئذٍ لا يضر كونهما مدلّسين ، إذ لو كان تدليسهما مضراً بالوثاقة لما وثّقهما .
2 ـ الاعتراف بسماع الأعمش من حبيب ، وسماع حبيب من زيد .
3 ـ دعوى أنه في هذه الرواية لم يثبت السّماع !! فما الدليل ؟
____________
(1) صفة الصفوة 4|293.
(2) شذرات الذهب 5|211.

( 102 )

لقد أخرج حديث الثقلين الحافظ النسائي بإسناده عن الأعمش عن حبيب عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم (1) .
وأورده الحافظ ابن كثير عن النسائي في سننه ثم قال : « قال شيخننا أبو عبدالله الذهبي : هذا حديث صحيح » (2) .
وأخرجه الحاكم بثلاثة طرق عن يحيى بن حماد ، في أحدها عبدالله بن أحمد عن أبيه ، قال : « ثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش قال : ثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم ... » ثم صححه هو الذهبي على شرط الشيخين (3) .
وأخرجه الحاكم في « ذكر زيد بن أرقم الانصاري » من كتاب « معرفة الصحابة » من (مستدركه ) بإسناده عن حبيب عن يحيى بن جعدة عن زيد ، وصحّحه هو والذهبي على شرط الشيخين ، وقد تقدّم لفظه (4) .
وقال الحافظ السخاوي في كتابه الجليل ( استجلاب ارتقاء الغرف ) . بعد تفسير قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) : « وإذْ قد بان لك الصحيح في تفسير هذه الآية فأقول : قد جاءت الوصيّة الصريحة بأهل البيت في غيرها من الأحاديث ، فعن سليمان بن مهران الأعمش عن عطيّة بن سعد العوفي وجبيب بن أبي ثابت ، أوّلهما عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ وثانيهما عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : اإني تارك فيكم الثقلين ، ما انْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ...
أخرجه الترمذي في جامعه وقال : حسن غريب » .
____________
(1) خصائص علي . رقم الحديث : 79 .
(2) البداية والنهاية 5|209 .
(3) المستدرك 3|109 .
(4) المستدرك 3|533 .