فصل
في النبوة


تقتضي حكمة الصانع ـ تعالى ـ إعلام العبد أن كماله فيما هو؟
وكم هو؟
وكيف هو؟
وأين هو؟
ومتى هو؟
وهذه الأشياء مما لا تهتدي إليه عقول البشر؛ لأنها تفاصيل مقتضى العقل ؛ لأنه يقتضي أن طلب الكمال حسن، والهرب من الهلاك واجب، وهو دفع المضرة: ولكنه لا يهتدي إلى طريق كل واحدٍ منهما ـ من الكمال والهلاك ... .
فيختار الحكيم من(1) يستعد لقبول تفاصيل الكمال، ولكن بواسطة الملائكة ـ الذين هم خواص حضرنه ـ فيفضي إليه ما هو سبب كمالهم ؛ فيسمى «نبياً».
وقبوله من الملائكة يسمى «وحياً».
وتبليغه الى الخلق يسمى «نبوة».
_________
(1) في المخطوط جاءت كلمة (إن) هنا، ويمكن أن تكون شرطية، فليلاحظ.
(36 )

ولا بد ان يكون ممن لا يغير ما يوحى إليه، ويؤمن عليه من الكذب، والتغيير، ويسمى «عصمة» وهي: لطف يختار عنده الطاعة، ويصرفه عن المعصية، مع قدرته على خلافه.
فيظهر الله عليه من العلم ما يدل على صدقه بعد دعواه، ويكون ذلك خارقاَ للعادة، ومما يعجز عنه غيره؛ فيسمى «معجزاً».
وما يظهره من الطريق إلى النجاة والدرجات، يسمى «شريعة».
ثم لا تخلو تلك الشريعة من أن تتعلق بمصالح العبد آجلاً، أو عاجلاً:
فالمصالح الآجلة تسمى «عباداتٍ».
والمصالح العاجلة تسمى «معاملاتٍ».
كما هي مذكورة في كتب الفقه.
فيضع كل أمرٍ موضعه، ويعلم كل من يطلب مبدأه، ومعاده، والطريق إليه، وينظم الخلق على نظام مستقيم.
وتلك الغاية التي يعلمنا أنها كمالنا، تسمى «معاداً وآخرة».
ويعلمنا ـ أيضاً ـ مقادير العبادات، والمعاملات، وكيفياتها، وأين يختص بالتوجه اليه؟ كالقبلة، ومتى يجب ؟ كأوقات العبادات.
ومتى خالفنا ذلك؛ إلى ماذا يصير أمرنا؟ ونهلك هلاكاً دائماً؟ أو منقطعاً؟
هذه كلها مما لا يعلم الا بواسطةٍ.
فعلمنا أن الخلق محتاجون ـ في هذه الوجوه ـ إلى من يعلمهم
(37 )

هذه الاشياء.
فلما ثبت ـ على الجملة ـ وجوب النبوة؛ بقي علينا أن نثبت نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو:
أن الناس ضربان:
ضرب منهم من ينكر النبوة، أصلاً.
ومنهم من يثبتها، ولكنه ينكر نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد بينا أن الدليل على صحة نبوة كل نبيٍ العلم المعجز.
وإذا تقرر هذا، فظهور معجز نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أجلى، وأمره في ذلك أعلى، فهو بالنبوة أولى.
وهو: القرآن؛ الظاهر بين ظهراني البر والفاجر، والباهر بفصاحته على فصاحة كل ماهرٍ.
وغيره، مما ذكر أقله لا يحتمله هذا الموضع، فضلاً عن أكثره.
ولما ثبت ـ بالتجربة ، وعليه البراهين المعقولة التي ليس هيهنا موضع ذكرها ـ أن الانسان لا يبقى في الدنيا أبداً؛ فلا بد أن يرجع النبي إلى معاده، ويبقى بعده من يحتاج إلى هذه الأشياء وإلى النظام في أمور الخلق، فيفضي جميع ما تحتاج اليه أمته الى من يؤمن عليه من التغيير والتبديل.
وهو الكلام في الإمامة.

* * *

(38 )

فصل
في الإمامة

إعلم أن الوصول إلى الكمال والتمام لا يحصل إلا بالنظام، وذلك لا يتم إلا بوجود الإمام.
فوجوده مقرب إلى الطريق المفضي إلى الكمال.
ويأمر بالعدل، وينهى عن الفحشاء والمنكر، فلا بد من وجوده، ما دام التكليف باقياً.
ويجب أن يؤمن عليه مثل ما يؤمن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من التغيير والتبديل ، فيكون «معصوما».
ويجب أن يكون أعلم أهل زمانه ، فيما يتعلق بالمصالح الدينية والدنيوية.
ونعلم أنا لا نعرف من هذه صفته إلا بإعلامٍ من قبل الله، وهو:
إما أن يعلمنا على لسان نبيه، وهذا هو «النص».
وإما بالعلم المعجز عقيب دعواه، عند فقد حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا ثبت هذا، فالإمام ـ على هذه الصفات، بعد نبينا
(39 )

صلى الله عليه وآله وسلم ، بلا واسطةٍ ـ أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام.
لأن الناس ضربان:
أحدهما لا يوجب الإمامة ، وهذا يكذبه فعله، واحتياجه إلى الإمام.
والآخر يوجبها.
والقائل بوجوبها على ضربين:
منهم من قال بوجوبها شرعاً ، وهو باطل؛ لأنه لو لم يرد الشرع لعلمنا أن الخلق لابد لهم من ناظمٍ يكون أعلم منهم بنظمهم على طريقٍ مستقيمٍ.
ومن قال بوجوبها عقلاً: يعتبر الصفات التي ذكرناها ، وكل من أثبت الصفات لم يثبتها إلا لأمير المؤمنين عليٍ عليه الصلاة والسلام.
فالقول بوجوب العصمة، مع إثباتها لغيره، خروج عن الإجماع.
ولأن الأخبار المتواترة ـ من طريق الخاصة والعامة ـ دلت على تنصيص النبي عليه وآله السلام، عليه وعلى أولاده.
والأخبار المتواترة تفضي إلى العلم؛ إذا لم تكن عن تواطؤٍ، ولا ما يجري مجرى التواطؤ؛ من المراسلة، وهذا لا يمكن في رواة أخبار النص مع تباعد الديار، وعدم معرفةأهل كل بلدٍ لأهل بلدٍ آخر؛ فعلم
(40 )

أنه لا جامع لهم على نقل هذه الأخبار إلا صدقها.
وبعده لأولاده، إلى الثاني عشر عجل الله فرجه، والدليل على إمامته نص النبي عليه، ونص آبائه، وقولهم حجة.
ودليل وجوده ـ على الجملة ـ هو ما دل على أن الزمان ـ مع بقاء التكليف ـ لا يجوز أن يخلو من إمامٍ معصومٍ هو أعلم أهل زمانه.

[سبب غيبة الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه]

بقي علينا أن نبين سبب غيبته عليه الصلاة والسلام، وهو السبب المحوج للأنبياء إلى الغيبة:
مثل هرب موسى عليه السلام، الذي دل عليه القرآن، حيث قال: (... ففررت منكم لما خفتكم ....)[الآية (21) من سورة الشعراء(26)].
وهرب يونس عليه السلام.
ودخول(2) إبراهيم عليه السلام النار.
ودخول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الغار.
فإذا لم يوجب هرب الأنبياء خللاً في نبوتهم، فبأن لا يوجب هرب الإمام ـ مع أن الأعداء الآن أكثر ـ أولى.
وأما طول حياته؛ فمما لايتعجب منه.
لأن هذا الإنكار: إما أن يكون ممن يثبت قدرة الله، أو ممن لا
_________
(2) في النسخة: ودخل.
(41 )

يثبتها:
فمن أثبتها : إن شك في أن الله ـ تعالى ـ قادر على إبقائه أحداً، مع انه قادر على جميع المقدورات؛ فهو كمن شك في أن الله ـ تعالى ـ عالم بجميع الجزئيات، مع أنه عالم بجميع المعلومات.
وأن كان لا يثبته قادراً على ذلك: فالكلام معه لا يكون في الإمامة، والغيبة، ولكنه في كونه ـ تعالى ـ قادراً، ومن ثم إلى هنا بون بعيد.
فعلمنا أن ذلك غير منكرٍ.
وإذا كان سبب الغيبة الخوف، والله عالم بجميع المعلومات؛ فمهما علم أن تلك العلة المحوجة زالت؛ أظهره.
فإن قلت: فالله قادر على إزالة الخوف، فإذا لم يزله فهو محوجه إلى الغيبة؟!
قلنا: إزالة علة المكلف في التكليف واجبة، ولكن حمله على فعل التكليف بالقهرغير جائزٍ فضلاً عن أن يكون واجباً، لأنه لو حمله على ذلك بالجبر؛ لزال التكليف، وبطل الثواب والعقاب.

* * *

(42 )

فصل

في الكلام في العدل والوعد والوعيد

الطاعة: فعل يعرض العبد لعوضٍ مع التعظيم، ويسمى ذلك العوض المقارن «ثواباً».
والمعصية: فعل يفضي إلى عوضٍ يقارن الاستخفاف، ويسمى ذلك «عقاباً».
والعبد مخلوق على أنه يقدر على أكتساب كلي الطرفين، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: (وهديناه النجدين) [الآية(10) من سورة البلد(90)] طريق الخير، وطريق الشر.
ولو لم يقدر على ذلك؛ لما امره الله تعالى ولا نهاه، كما أنه لم يأمره بتغيير هيئاته، وألوانه، وأشكاله، التي لا يقدر الإنسان على تغييرها.
وإذا ثبت هذا؛ فالعبد معرض بالطاعات والتكاليف العقلية والشرعية، لعوضٍِ مقارنٍ للتعظيم ، وهو «الثواب».
وهذا هو الذي بينا أن العبد مخلوق له، وهو أنه خلق لا لانتفاع الخالق، بل لانتفاع الخلق.
وكلما كان النفع أجل وأجمل؛ دل على أن فاعله أجود وأكمل.
وأجل المنافع أن تكون دائمةً لا تزول.
(43 )

ولما ثبت ـ قطعاً ـ أن هذه الدار ليست بدار الخلود؛ ثبت أن دار الخلود غير هذه، وهي دار الآخرة.
فعلم أن هناك بقاءاً لا فناء معه، وعلماً لا جهل معه، ولذةً لا نفرة معها، وعزاً لا ذل معه.
ولما لم تصل إلى تفاصيل ما قلناه عقول البشر؛ شرحه الشرع بالجنة، والحور، والقصور، والنهار، والأشجار والأثمار.
وكل من فوت(1) [على] نفسه هذه الدرجات؛ بقي في دركات الهلاك، وهي مقابلات ما قلناه، من الفناء، و الجهل، والنفرة، والذل.
وشرح جميع ذلك السمع بالجحيم، والحميم، والعقاب، والعذاب الأليم، والعقارب،والحيات، والنيران، واللظى، أعاذنا الله ـ تعالى ـ منها.
ولما كان الخلق في باب التكليف على درجتين: مطيعٍ، وعاصٍ؛ كان العدل أن يبني دارين: جنةٍ ونارٍ.
والمطيع: إما أن يكون في الغاية القصوى ، وهو الذي يطيع ولا يعصي، كالملائكة، والأنبياء، والأئمة ـ على الصحيح من المذهب ـ.
وإما أن يطيع ويعصي، كسائر المسلمين، من المجرمين.
وإما أن يعصي ولا يطيع، كالشياطين، والكفرة.
و[لما] كانت الطاعة ضربين: علمي، وعملي؛ كان العوض في
_________
(1) كذا في النسخة، واستعمال باب التفعيل من « فات» غير فصيح، ولعل الاصل (فرط) فلاحظ.
(44 )

معرضها:
والعلمي دائم، كمعرفة الله ـ تعالى ـ ومعرفة رسوله، والأئمة، ومعرفة الشرائع؛ فثوابه دائم.
والعملي منقطع، كالصلاة والصدقة، فعوضه منقطع.
والمعصية ـ أيضاً ضربان: اعتقادي، وعملي:
فالاعتقادي عقابه دائم، كالشرك بالله، وتكذيب حجج الله من الأنبياء والأئمة.
والعملي عقابه منقطع، كلطمة اليتيم، وترك الصلاة، والزنا، والرياء، وتفاصيل ذلك مما أورده الشرع.

[المعاد وشؤونه ]

ولما كان لا بد من إيصال الثواب والعقاب إلى مستحقهما، ولا يصح ذلك إلا بالحشر والنشر؛ وجب الحشر للعباد.
ولما كان عدله يقتضي أن لا يؤاخذ أحداً على غفلةً؛ فلا بد من حساب يعلمهم الله أن ذلك جزاء أعمالهم.
ولما كانت الأعمال تتفاضل، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بتعديلٍ وتسويةٍ؛ فلا بد من الميزان.
ولابد من أن تكون مثبتة في كتابٍ لتقرأ كل نفسٍ كتابها، كما قال: (... كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً...) [الآية (14) من سورة الإسراء (17) ] فالكتاب حق.
(45 )
وإذا ثبت بالسمع أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران؛ فلا بد من أن يشعر ذلك حتى لا يكون عبثاً.
وإذا كان النبي صادقاً مصدقاً، وأخبر بشفاعته للأمة؛ وجب تصديقه؛ لأنا صدقناه على الجملة ، فمتى لم نصدقه في هذه القضية بطل ما أثبتناه ـ أولاً ـ من تصديقه عليه وآله الصلاة والسلام.
ولما كان الناس فريقين: فريقٍ في الجنة، وفريق في السعير؛ فلا بد من طريقٍ لكل فريقٍ، وذلك هو الصراط، الذي وصف بأنه أدق من الشعر.
[و] في هذه الدار له نظير ، وهو الطريقة الوسطى التي هي واسطة بين الإفراط والتفريط.
فمتى عبر السالك هذا الصراط ـ الذي هو بين التفريط والإفراط ـ عبر ذلك الصراط، كالبرق الخاطف.
ومتى كان هيهنا في الطريق عاثرا(1) يكون هناك كذلك(2).
كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه.
ثبتنا الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأقامنا على الصراط المستقيم، إنه رؤوف رحيم.
_________
(1) كان في النسخة: عابَرَا.
(2) كان في النسخة: كذا.