وصايا الرسول لزوج البتول ::: 211 ـ 225
(211)
فلمّا أراد رسولُ اللّه الكلامَ غلَبتُه عبرتُه ، فلم يقدر على الكلام فبكَت فاطمةُ بكاءً شديداً وعليٌ والحسنُ والحسينُ ( عليهم السلام ) لبكاءِ رسولِ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فقالت فاطمةُ ، يا رسولَ اللّه قد قَطَّعْتَ قلبي ، وأحرقْتَ كبدي لبكائِك يا سيّدَ النبيّينَ من الأوّلينَ والآخرين ، ويا أمينَ ربِّه ورسولَه ، ويا حبيبَه ونبيَّه ، مَن لولدي بعدَك ، ولذُلّ ينزلُ بي بعدَك (67) ؟ مَن لعليّ أخيك وناصرِ الدين ؟ مَن لوحيِ اللّهِ وأمرِه ؟ ثمّ بكت وأكبَّت على وجهِه فقبّلتْهُ ، وأكبَّ عليه عليٌ والحسنُ والحسينُ صلواتُ اللّه عليهم ، فرفع رأسه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليهم ويدُها في يده فوضعها في يدِ علي وقال له :
    يا أبا الحسن هذه وديعةُ اللّه ، ووديعةُ رسولِه محمّد عندَك ، فاحفَظ اللَّهَ واحفظني فيها ، وإنّك لفاعلُه (68).
    يا علي ، هذه واللّهِ سيّدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ من الأوّلينَ والآخرين ، هذه واللّهِ مريمُ الكُبرى (69) ، أما واللّهِ ما بَلَغَتْ نفسي هذا الموضع حتّى سألتُ اللّهَ لها ولكم فأعطاني ما سألتُه.
    يا علي ، أَنْفِذْ لما أَمرَتْك به فاطمةُ ، فقد أمرتُها بأشياء أَمَرَ بها جبرئيلُ ( عليه السلام ).
    واعلم يا علي ، إنّي راض عمّن رَضِيَتْ عنه ابنتي فاطمة ،

    (67) في المصدر ، ولذلّ أهل بيتك.
    (68) في المصدر ، وإنّك لفاعل هذا.
    (69) فانّ مريم سيّدة نساء عالمها فقط وفاطمة سيّدة نساء العالمين جميعاً.



(212)
وكذلك ربّي وملائكتُه (70).
    يا علي ، ويلٌ لمَن ظلَمَها ، وويلٌ لمن ابتزَّها (71) حقَّها ، وويلٌ لمن هَتَكَ حُرمتَها ، وويلٌ لمن أحرقَ بابَها ، وويلٌ لمن آذى خليلَها (72) ، وويلٌ لمن شاقَّها (73) وبارَزَها ، اللّهمّ إنّي منهم بريء ، وهم منّي بُراء ثمّ سمّاهم رسولُ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وضَمَّ فاطمةَ إليه وعليّاً والحسنَ والحسينَ ( عليهم السلام ) وقال ، اللّهمّ إنّي لهم ولمن شايعهُم سِلْم ، وزعيمٌ (74) بأنَّهم يدخلون الجنَّة ، وعدوٌ وحربٌ لمن عاداهُم وظَلَمهم وتقدَّمهم أو تأخَّر عنهم وعن شيعتِهم ، زعيمٌ بأنّهم يُدخلون النار ثمّ واللّهِ يافاطمة لا أرضى حتّى تَرْضَي ، ثمّ لا واللّهِ لا أرضى حتّى ترضَى ، ثمّ واللّهِ لا أرضى حتّى ترضَى (75).
    م ) ... أما واللّهِ لينتقمَنّ اللّهُ ربّي وليغضبَنَّ لغضبِكِ ، فالويلُ ثمّ الويلُ ثمّ الويلُ للظالمين ، ثمّ بكى رسولُ اللّهِ ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

    (70) أي إنّ ربّي جلّ جلاله وملائكته راضون عمّن رضيت عنه فاطمة سلام الله عليها.
    (71) أي سلب حقّها بجفاء وقهر.
    (72) في المصدر ، حليلها. وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
    (73) أي خالفها وعاداها.
    (74) الزعيم ، الضمين والكفيل ، ومنه قوله ( عليه السلام ) ، أنا بنجاتكم زعيم أي ضامن بنجاتكم كما في المجمع ، ص 519.
    (75) الطرف ، ص 29 ، وعنه البحار ، ج 22 ، ص 484 ، ب 1 ، ح 31.



(213)
    قال عليٌ ( عليه السلام ) ، فواللّهِ لقد حَسِبتُ (76) بضعةٌ منّي قد ذَهَبت لبكائِه حتّى هَمَلت عيناه مثلَ المطر ، حتّى بَلَّتْ دموعُه لحيتَه ومُلاءةً (77) كانت عليه وهو يلتزم فاطمةَ لا يفارقُها ورأسُه على صدري وأنا مُسندُه ، والحسنُ والحسينُ يقبّلان قدميه ويبكيان بأعلا أصواتِهما (78).
    ن ) وفي الحديث التاسع عشر من الباب المتقدّم من البحار في وصيّته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرب وفاته :
    ... فدعى أميرَ المؤمنين ( عليه السلام ) فلمّا دَنا منه أومأ إليه ، فأكبَّ عليه فناجاهُ رسولُ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طويلا ... فقالَ له الناس ، ما الّذي أوعَزَ إليكَ يا أبا الحسن ؟ فقال ، عَلَّمَني ألفَ باب من العِلم ، فَتَحَ لي كلُّ باب ألفَ باب ، وأوصاني بما أنا قائمٌ به ان شاءَ اللّه تعالى.
    ثمّ ثَقُلَ وحضَرُه الموتُ ، وأميرُ المؤمنين ( عليه السلام ) حاضرٌ عندَه ، فلمّا قَرُبَ خروجُ نفسِهِ قال له ، ضَعْ يا علي رأسي في حِجْرِك ، فقد جاء أمرُ اللّهِ تعالى ، فاذا فاضَت نَفْسي فتناوَلْها بيدِك ، وامسحْ بها وجَهك ، ثمّ وجِّهني إلى القبلةِ ، وَتَولّ أمري ، وصَلِّ عليَّ أوَّلَ الناس ، ولا تفارقْني حتّى تواريني في رَمْسي ، واستعِنْ باللّهِ تعالى ، فأخَذَ عليٌ ( عليه السلام ) رأسَهُ فَوضَعَه في حِجْرهِ ، فاُغمى عليه ، فأكبَّتْ فاطمةُ ( عليها السلام ) تنظُرُ في وجِهِه وتندبُهُ وتبكي ...

    (76) في المصدر ، لقد حسست.
    (77) الملاءة هو الثوب اللين الرقيق.
    (78) كما في الطرف ، ص 381 ، وعنه البحار ، ج 22 ، ص 491 ، ب 1 ، ح 36.



(214)
ثمّ قُبِضَ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويدُ أميرِ المؤمنين اليمنى تحتَ حَنَكِهِ ففاضَتْ نفسُه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيها ، فَرَفعها إلى وجِهِه فمَسَحهُ بها ...
    هذا مختار من الحديث وهو ذو شجون وحزن مكنون فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.


(215)
    وممّا أوصى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حينما حضرته الشهادة أنّه أوصى له بجميع مختصّاته ، وأوصاه بلبس خاتمه ، وقبض مختصّاته ، حتّى لا ينازعه فيها أحد من بعده.
    ففي علل الشرائع قال ، حدّثنا محمّد بن علي ماجيلويه ( رضي الله عنه ) قال ، حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار ، قال ، حدّثنا سهل بن زياد الآدمي ، قال ، حدّثنا محمّد بن الوليد الصيرفي ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، عن أبيه ، عن جدّه ( عليهم السلام ) قال ، لمّا حضَرَت رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الوفاةُ دعا العبّاسَ بن عبدِالمطّلب وأميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقال للعبّاسِ ، يا عمَّ محمَّد ، تأخذُ تُراثَ محمّد وتقضي دينَه وتُنجزُ عداتِه (1) ؟
    فردَّ عليه وقال ، يا رسولَ اللّهِ أنا شيخٌ كبير كثيرُ العيال ، قليلُ المال ، من يطيقُك وأنت تباري الريح (2).

    (1) في هامش الكافي عن الفيض الكاشاني أنّه قال ، لعلّ إلقاء هذا القول على عمّه أوّلا ثمّ تكريره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك إنّما هو لإتمام الحجّة عليه ، وليظهر للناس أنّه ليس أحد مثل ابن عمّه في أهليّة الوصيّة.
    (2) المباراة هي المسابقة ، وتباري الريح بمعنى تسابق الريح. كناية عن علوّ الهمّة والسخاء ، يقال ، فلان يباري الريح سماحةً أي يسابقه فيها ، والريح مشهورة



(216)
    قال ، فأطرق (3) ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هنيئةً (4) قال (5) ، يا عبّاس أتأخذُ تراثَ رسولِ اللّهِ وتنجزُ عداتِه (6) وتؤدّي دينَه ؟ فقال ، بأبي أنت واُمّي أنا شيخٌ كبير كثيرُ العيال ، قليلُ المال ، من يطيقُك وأنت تباري الريح. فقال رسولُ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أما إنّي سأُعطيها من يأخذُ بحقِّها (7) ، ثمّ قال :
    يا علي ، يا أخا محمّد ، أَتُنْجِز عداةَ محمّد ، وتقضي دينَه ، وتأخذُ تراثَه (8) ؟
    قال ، نعم بأبي أنتَ واُمّي.
    قال ، فنظرتُ إليه حتّى نَزَع خاتَمه من إصبعِه فقال ، تختَّمْ بهذا في حياتي.

بالسخاء.
    (3) يقال ، أطرق الرجل ، إذا سكت ولم يتكلّم ، وأطرق رأسه ، أي أَمالَهُ وأسكَنه ، وأَطرق الرجل ، أي أرخى عينيه ينظر إلى الأرض (1).
    ولعلّ الأنسب هنا هو المعنى الأوّل.
    (4) هنيئة أي وقتاً.
    (5) في الكافي ، « ثمّ قال ».
    (6) التراث هو الميراث ، والعدات جمع عدة هي الوعد في الخير.
    (7) في الكافي ، « مَنْ يأخذها بحقّها » أي مَنْ يأخذ هذه المواريث بالإستحقاق ويقوم بلوازمها.
    (8) في التعبير بأخ محمّد ، ثمّ تقديم إنجاز العداة وقضاء الدين ، دون أخذ التراث ، لطف لا يخفى.

1 ـ مجمع البحرين ، ص 439.

(217)
    قال ، فنظرتُ إلى الخاتَم حينَ وَضعَهُ عليٌ ( عليه السلام ) في إصبعِه اليُمنى (9).
    فصاح رسولُ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يا بلال ، عَلَيَّ بالمغفِر (10) ، والدّرعِ (11) ، والرايةِ (12) ، وسيفي ذي الفقار (13) ، وعمامتي السَّحاب (14) ،

    (9) في الكافي ، « فتمنّيتُ من جميع ما ترك الخاتم » وهذا كلام العبّاس وتمنّيه.
    (10) المِغفر ـ بكسر الميم ـ ، زردٌ ينسج من الدروع على قدر الرأس يُلبس تحت القلنسوة.
    (11) الدِرع ـ بكسر الدال ـ ، وجمعه دروع وأدرع ودراع ، قميص من زرد الحديد يُلبس وقاية من سلاح العدو.
    (12) الراية هو العَلَم الكبير يتولاّها صاحب الحرب ، ويقاتل عليها ، وإليها تميل المقاتلة.
    (13) وهو سيف رسول الله الذي نزل به جبرئيل من السماء ، وأعطاه رسول الله علياً سلام الله عليهما وآلهما الكرام يوم اُحد فما زال يقاتل به حتّى سُمع دويّ من السماء ، لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي (1) وفي حديث أحمد بن عبدالله قال ، سألت الرضا ( عليه السلام ) عن ذي الفقار سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أين هو ؟ فقال ، هبط به جبرئيل ( عليه السلام ) من السماء ، وكان حليته من فضّة ، وهو عندي (2).
    (14) كان اسم عمامة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) السحاب ، وكان لأغلب مختصّاته أسماء لشرافتها.
    ورد أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألبس علياً في غزوة الخندق درعه ذات الفضول ، وأعطاه

1 ـ بحار الأنوار ، ج 20 ، ص 71 ، ب 11 ، ح 7.
2 ـ بحار الأنوار ، ج 42 ، ص 65 ، ب 118 ، ح 8.


(218)
والبُرد (15) ، والأبرقَة (16) ، والقضيب (17) ( يقالُ له ، الممشُوق ) فواللّهِ ما رأيتُها قبلَ ساعتي تَيك ـ يعني الأبرقة ـ (18) ، كادَتْ تخطَفُ الأبصار ، فإذا هي من أبرُقِ الجنَّة.
    فقال ، يا علي ، إنّ جبرئيل أتاني بها فقالَ ، يا محمَّد ! إجعلْها في حلقةِ الدِّرع واستوفِر بها (19) مكانَ المنِطَقة.
    ثمّ دعا بزَوجَي نعال عربيَّيْن أحدُهما ، مخصوفة والاُخرى غيرُ مخصوفة (20) ، والقميصَ الذي اُسرِىَ به فيه ،

    سيفه ذا الفقار ، وعمّمه عمامة السحاب على رأسه تسعة أكوار ـ أي أدوار ـ ثمّ قال له ، تقدّم ، فقال لما ذهب ، « اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه » كما يستفاد من حديث البحار (1).
    (15) البُرد ـ بضمّ الباء وسكون الراء ـ ، نوع من الثياب والأكسية المعروفة.
    (16) الأبرقة ، شُقةٌ يشدّ بها الوسط مكان المنطقة ، سمّيت بها لبريقها ، أو لكونها ذات لونين ، لأنّه يطلق على كلّ ما فيه سواد وبياض أبرق.
    (17) القضيب هو الغصن المقطوع من الشجر مأخوذ من القضب بمعنى القطع ، والقضيب يراد به العصا.
    (18) في الكافي قبل قوله كادت ، « فجيء بشقّة ».
    (19) في الكافي ، « واستذفر بها » من الإستذفار بمعنى شدّ الوسط.
    (20) في الكافي ، « والآخر غير مخصوف » والمخصوف هو المرقوع وخصف النعل ترقيعه.

1 ـ بحار الأنوار ، ج 20 ، ص 203.

(219)
والقميصَ الذي خَرَج فيه يومَ أُحُد ، والقلانِسَ الثلاث ، قلنسوةَ السَّفَر ، وقلنسوةَ العيدَين ، وقلنسوةً كان يلبسُها ويقعدُ مع أصحابه.
    ثمّ قال رسولُ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يا بلال ، عَليَّ بالبغلتَين ، الشّهباء والدُلدُل (21) :
    والناقتَين ، العضباء والصهباء (22) ، والفرسَين ، الجَناح (23) ، الذي كان يُوقفُ ببابِ مسجدِ رسولِ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لحوائجِ الناس (24) ،

    (21) يقال ، دَلْدَلَ في الأرض أي ذهب ومرّ ، ويسمّى به البغل لهذه المناسبة.
    (22) في الكافي ، « والقصوى ».
    (23) ويُسمّى ذو الجناح أيضاً وكان من جياد خيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانتقل إلى سيّد الشهداء الحسين ( عليه السلام ) وكان معه في يوم عاشوراء.
    ولمّا صُرِعَ الإمام الحسين ( عليه السلام ) جعل الفرس يحامي عنه ويَثِبُ على الفارس من العدوّ فيخبطه عن سرجه ويدوسه ، حتّى قتل الفرس أربعين رجلا ولم يقدروا عليه ، فصاح ابن سعد عليه اللعنة ، ويلكم تباعدوا عنه ودعوه لننظر ما يصنع ، فتباعدوا عنه ، فلمّا أمن الطلب جعل يتخطّى القتلى ويطلب الحسين ( عليه السلام ) ، حتّى إذا وصل إليه جعل يشمّ رائحته ، ويقبّله بفمّه ، ويمرغ ناصيته عليه ، وهو مع ذلك يصهل ويبكي بكاء الثكلى حتّى أعجب كلّ من حضر ، ثمّ انفتل يطلب خيمة النساء إلى آخر قضيّته التي تراها منقولة عن أمالي الصدوق ، والمناقب لابن شهر آشوب ، ومدينة المعاجز للسيّد البحراني ، والمنتخب للطريحي في المعالي (1).
    (24) في الكافي ، « لحوائج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ».

1 ـ معالي السبطين ، ج 2 ، ص 19.

(220)
يَبعثُ رسولُ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الرجلَ في حاجتِه فيركبُه ، وحيزُوم وهو الذي يقولُ أَقْدِمْ حيزُوم (25) ، والحمار اليَعفور.
    ثمّ قال ، يا علي ، اقبِضْها في حياتي لا ينازُعك فيها أحدٌ بَعدي.
    ثمّ قال أبو عبدِاللّه (26) ( عليه السلام ) ، إنّ أوّلَ شيء مات من الدواب حمارَه اليعفُور ، تُوفّي ساعةَ قُبِض رسولُ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قَطَع خِطامَه (27) ، ثمّ مرَّ يركض حتّى وافى بئرَ بني حطَمة (28) بُقبا (29) ، فرمى بنفسِه فيها فكانَت قبرَه.
    ثمّ قال أبو عبدِاللّه ( عليه السلام ) ، إنّ يَعفُور كَلَّمَ رسولُ اللّه (30) ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال ، بأبي أنتَ وأُمّي إنَّ أبي حدّثَني عن أبيه عن جدِّهِ ، ...

    (25) أي يقول له حينما يريده ، أَقْدِمْ حيزوم فيجيب ويقبل.
    (26) في الكافي ، « فذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » إنّ أوّل شيء مات الخ.
    (27) الخِطام ـ بكسر الخاء ـ ، هو الزمام أو ما يقاد به الدابّة.
    (28) في الكافي ، بني خطمة ، وخطمة ـ بفتح الخاء وسكون الطاء ـ ، حيٌ من الأنصار.
    (29) قُبا ـ بضمّ القاف والقصر ـ ، إسم قرية في جنوب غربي المدينة المنورة ، تبعد عنها أربع كيلومترات ، وبها مسجد التقوى المعروف بمسجد قُبا ، وهو المسجد الذي أُسّس على التقوى من أوّل يوم.
    (30) لا عجب في تكلّم الحيوان أو معرفته نسبه بإقدار الله تعالى وقدرته ، خصوصاً مع سيّد الرسل وأفضل الأنبياء صلوات الله عليه وآله.
    كما يقرّب هذا الأمر نظيره القرآني وهو تكلّم الهدهد والنملة لسليمان النبي ( عليه السلام ) بكلام الحكمة ومنطق العبرة.



(221)
أنّه كانَ مع نوح في السفينةِ ، فنظَر إليه يَوماً نوحٌ ( عليه السلام ) ومسَحَ يدَه على وجهِه ، ثمّ قال ، يُخرجُ من صِلب هذا الحمار حمارٌ يركبه سيّدُ النبيّين وخاتُمهم.
    والحمدُ للّهِ الذي جَعَلني (31) ذلكَ الحمار (32).

    (31) هذا الكلام ليعفور رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    (32) علل الشرائع ، ص 166 ، ب 131 ، ح 1 ، وجاء في اُصول الكافي ، ج 1 ، ص 236 ، ح 9 ، مع إختلاف يسير ، وبحار الأنوار ، ج 22 ، ص 456 ، ب 1 ، ح 3 ، والمستدرك ، ج 8 ، ص 269 ، ب 13 ، ح 4 ، المسلسل 9418.



(222)
    التُحَف ، روى الشيخ المحدّث الفقيه أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني الحلبي (1) في تحف العقول (2) عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وصيّته لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) (3) :

    (1) وهو من أعاظم علماء الشيعة ومن معاصري الشيخ الصدوق ، ومن رواة الثقة الجليل محمّد بن همام الكاتب البغدادي ، كما تلاحظ جلالة قدره في الروضات (1).
    (2) وهو كتاب شريف قلّما سمح الدهر بمثله ، حتّى أنّ شيخنا المفيد ينقل عن هذا الكتاب (2).
    (3) سيأتي ذكر المصادر في آخرها ، واعلم انّ هذه الوصيّة وان جاءت مرسلة في التحف ، لكن نقلت مسندة عن الإمام أبي عبدالله الصادق ( عليه السلام ) فيما جاء منها في المحاسن.
    فقد رواها أحمد بن أبي عبدالله البرقي ، عن حمّاد بن عمرو النصيبي ، عن السري ابن خالد ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، عن آبائه ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) بل أفاد المحقّق

1 ـ روضات الجنّات ، ج 2 ، ص 289 ، ط اسماعيليان قم.
2 ـ الكنى والألقاب ، ج 1 ، ص 318 ، والذريعة ، ج 3 ، ص 400.
3 ـ المحاسن ، ص 13 ، باب 10 ، ح 47.


(223)
    يا علي ، إنَّ من اليقينِ (4) أن لا تُرضي أحداً بسَخَطِ اللّه ،

الغفاري في الهامش ، أنّ جميع ما روى عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا الكتاب كانت موجودة في كتب الفريقين ، رووها بأسانيدهم المعنعنة عن مشيخة العلم والحديث ، ولذلك لم نتعرّض لتخريجها من كتب الأصحاب.
    هذا مع ما أفاده شيخ الإسلام المجلسي في مقدّمة البحار من أنّ أكثر هذا الكتاب في المواعظ والاُصول المعلومة التي لا نحتاج فيها إلى سند (1).
    (4) اليقين في اللغة هو العلم وزوال الشكّ (2).
    وفي بيان العلماء كالمحقّق الطوسي في أوصاف الأشراف ، اليقين هو الإعتقاد الجازم المطابق الثابت الذي لا يمكن زواله.
    وله مراتب ثلاثة ، علم اليقين ، وعين اليقين ، وحقّ اليقين.
    والفرق بينها ينكشف بمثال اليقين بالنار.
    فانّ علم اليقين بالنار هو مشاهدة نورها أو دخانها ، وعين اليقين بها هو مشاهدة جرمها ، وحقّ اليقين بها هو الإحتراق فيها (3).
    وقد جاء في الأحاديث الشريفة بيان فضله وحدّه وعلامته ، وأنّ حدّ اليقين هو أن لا يخاف مع الله أحداً ، بل يعرف أنّ الله هو مدبّر أمره وأنّه هو الضارّ النافع كما تلاحظ ذلك في بابه (4).
    وفي الحديث الثاني من هذا الباب ورد مضمون هذه الوصيّة الشريفة.

1 ـ بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 29.
2 ـ مجمع البحرين ، ص 574.
3 ـ بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 142 ـ 143.
4 ـ اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 57.


(224)
ولا تَحمِد أحداً بما آتاكَ اللّه ، ولا تَذُمَّ أحداً على ما لم يُؤتِكَ اللّه (5) ، فإنّ الرزقَ لا يجرُّه حِرصُ حريص ولا تصرفُه كراهةُ كارِه (6) ، انّ اللّهَ بحكُمه وَفضله جعل الرَّوْحَ (7) والفَرَحَ في اليقينِ والرضا (8) ، وجعلَ الهَمَّ والحُزنَ في الشكِّ والسَخَط (9).

    (5) فعلامة وجود اليقين بالله هو العلم بأنّ الله تعالى مالك ضرّه ونفعه ، ومقسّم رزقه على طبق مصلحته ، وأنّه يوصله إليه ويرزقه كيف يشاء.
    ولازم هذا الإعتقاد أن لا يُرضي الناس بسخط الله ولا يوافقهم في معصية الله طلباً للرزق ، ولا يحمدهم تزلّفاً لرزق ساقه الله إليه ، ولا يذُمَّهم على ترك صلتهم ما دام كون الرزق من الله تعالى.
    (6) أي الرزق المقدّر المقسوم فإنّه لا يحتاج في وصوله للإنسان إلى حرص ، كما لا يمنع عن وصوله كراهة كاره أو حاسد.
    فانّ العبد لو كان في جُحر مخبّأ لأتاه رزقه ، ولم تخطئه قسمته.
    نعم لله تعالى الفضل والجود والكرم ، فيسأل الله تعالى الزيادة من فضله والمزيد من رزقه.
    (7) الرَّوح ـ بفتح الراء ـ ، هي الراحة والإستراحة والرحمة ، وسكون القلب.
    (8) فإذا حصل في قلبه اليقين كانت ثمرته الرضا والراحة.
    (9) فإذا لم يُحرز اليقين بل كان في شكّ وعدم إطمئنان النفس ، وفي سخط وعدم رضا القلب كانت ثمرتهما الهمّ والإهتمام وإضطراب النفس في تحصيل الرزق ، والحزن والجزع عند فواته.
    وفي الحديث العلوي الشريف ، « لا يجد أحد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما



(225)
    يا علي ، إنّه لا فَقر أشدُّ من الجَهل (10) ، ولا مالَ أعودُ من العَقل ، ولا وحدةَ أوحشُ من العُجب (11) ، ولا مُظاهرةَ أحسنُ من المُشاوَرة (12) ، ولا عقلَ كالتدبير ، ولا حَسَب كحُسنِ الخُلُق (13) ، ولا عبادةَ كالتفكّر (14).

أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه » (1).
    (10) وردت هذه الفقرة في وصيّة الفقيه المتقدّمة الكبيرة فلاحظها مع بيانها.
    (11) أي إعجاب المرء بنفسه ، فانّه يدعو إلى أن يرى الإنسان نفسه فوق الآخرين ومتفرّداً عن الباقين ، فيحسّ بالوحدة والوحشة.
    قال المحدّث القمّي ، ( العُجب إستعظام العمل الصالح وإستكثاره والإبتهاج له والإدلال به ، وأن يرى الإنسان نفسه خارجاً عن حدّ التقصير. وامّا السرور به مع التواضع له تعالى والشكر له على التوفيق لذلك فهو حسن ممدوح ) (2).
    (12) في المحاسن ، « ولا مظاهرة أوثق من المشاورة ».
    (13) في المحاسن جاء قبله ، « ولا ورع كالكفّ ».
    (14) أي التفكّر في آيات الله ونعمه وآلاءه ، وقد جعل الله تعالى التفكّر من أوصاف اُولي الألباب من قوله عزّ اسمه ، ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا ما خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا ) (3) وقد جاء مدحه في أحاديثنا الكريمة التي عقد لها باب مستقل.
    منها حديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ( التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به ).

1 ـ اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 57 ، ح 4.
2 ـ سفينة البحار ، ج 6 ، ص 152.
3 ـ سورة آل عمران ، الآية 191.
وصايا الرسول لزوج البتول ::: فهرس