التشريع وملابسات الأحكام
    عند المسلمين
    (2)
    القسم الاول






وضوء النبي

البحث الروائي
الوضوء والسنة النبوية

تأليف
علي الشهرستاني



بسم الله الرحمن الرحيم


( 5 )

منهجنا في هذه الدراسة

(وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم) مفردة هامة ضمن المنهج الذي يجب دراسته من خلال التشريع وملابسات الأحكام عند المسلمين ، وقد تناولنا بحثه من جوانب أربعة ، لكثرة المفارقات فيه ، ولكونه النموذج التطبيقي الأول من أطروحتنا ، ومن أوائل أبواب الفقه الإسلامي :
1ـ الجانب التأريخي : فقد درسنا فيه تأريخ الوضوء من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى آخر العهد العباسي الأول ، محددين زمن الأختلاف ، مشيرين إلى خلفيات المسألة وما رافقه من مستجدات من قبل الخلفاء.
فكان هذا بمثابة المدخل للدراسة ، وقد طبع عدة مرات ـ كاملاً ومختصراً ـ بعنوان ( وضوء النبي صلى الله عليه وآله|المدخل ، تأريخ اختلاف المسلمين في الوضوء)
2 ـ الجانب الروائي : وقد تناولنا فيه ما اختلف فيه من نقولات بعض الصحابة من جهة وأهل البيت وبعض آخر من الصحابة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وآله من جهة أخرى ، وفق المعايير الرجالية والدرائية عند الطرفين ، مشيرين إلى بعض أصول الاختلاف والاسباب التي اتبعت في تصحيح هذا الاُثر أو ذاك ، غير مذعنين للمنقول عن الصحابي وأهل البيت إلا إذا وافق سيرته العامة ومبانية الفقهية وأقواله الأخرى ، وهذا هو الماثل بين يديك واسمه (وضوء النبي (ص)|الوضوء والسنة النبوية).
3 ـ الجانب القرآني واللغوي : وسنبحث فيه الملابسات التي احيطت بالوضوء ، مع الإشارة إلى سبب جمع الخليفة عثمان بن عفان الناس على قراءة مصحفة ، مع وجود تأكيد من رسول الله صلى الله عليه وآله في الأخذ بقراءة ابن أم عبد أو غيره ، ووجود مصاحف لأبي بكر وعمر وعلي ، فإن حرق عثمان للمصاحف ، وإبعاده لابن أم عبد ، لابد من تناوله بالبحث والدراسة ، وإنا في هذا الجانب سنشير كذلك إلى الأدلة التعضيدية التي


( 6 )

استفيد منها لاحقاً لترسيخ وضوء الخليفة عثمان بن عفان ؛ كقوله صلى الله عليه وآله (ويل للاعقاب من النار) أو (للعراقيب) أو قوله صلى الله عليه وآله (أسبغوا الوضوء) أو (اتموا الوضوء) وغيرها من البحوث المرتبطة بالقرآن ولغة العرب ، وسيطبع هذا باسم (وضوء النبي (ص)|الوضوء في الكتاب واللغة) إن شاء الله تعالى.
4 ـ الجانب التأسيسي ـ الفقيهي والأصولي : وهو دراسة أمهات مسائل الوضوء من وجهة نظر فقهاء المذاهب الإسلامية ومناهجهم الأصولية ، متخذين جانب الحياد حين نقل الأقوال ، داعمين ما نختاره بالأدلة والشواهد.
وفي ختام الكتاب سنقدم خلاصة ما طرحناه في الوضوء من جوانبه الأربعة مع التأكيد على أصول الاتجاهين الفكرية ، ومدى حجية الأدلة المختلف فيها ، كفعل الصحابي وسنة أهل البيت ، وبيان الاصول المسببة لاختلاف فقهاء الإسلام ، وسيطبع هذا بإذن الله تعالى باسم (وضوء النبي (ص)|الوضوء في الميزان).
والآن وبعد الفراغ من تدوين ونشر الجانب التأريخي (وضوء النبي (ص)|تاريخ الختلاف المسلمين في الوضوء) نلتقي مع القراء من خلال بيان الجانب الروائي في الوضوء وهو (وضوء النبي (ص)|الوضوء والسنة النبوية) وهو يقع في مقدمة وثلاثة أقسام. أما المقدمة :

.........................................................................................................
البريد الأكتروني للمؤلف : E-mail : Alish @ Rafed.net



( 7 )

المقدمة


( 8 )


( 9 )

قبل الخوض في دراسة الجانب الروائي لمسألة الوضوء ، ومناقشة الروايات الحاكية لصفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله عند المسلمين ، لابدّ لنا من إعطاء صورة عن المجتمع الإسلامي أبّان ظهوره ، والخلفيات التي هيّأت الظروف للاختلاف في الأحكام الشرعية ، ومنها الوضوء النبوي ، فنقول :
نحن قد وضحنا سابقاً (1) بعض العلل والأسباب والملابسات التي أدت إلى انقسام المسلمين إلى نهجين فكريين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، لكلّ منهما نهجه ومبناه.
فالبعض من الصحابة كان يدعو إلى لزوم استقاء الأحكام من القرآن والسنة المطهرة ولا يرتضي الرأي والاجتهاد قباله ، والبعض الآخر كان يذهب إلى شرعية قول الرجال ، وصحة الاجتهاد قبال النص ، لأنّهم قد عرفوا ملاكات الأحكام وروح التشريع !.
وقد انتهجت الطائفة الأولى منهاج الطاعة والامتثال لمطلق الأحكام الصادرة عن الله ورسوله ، وهؤلاء كانوا لا يسمحون لأنفسهم ـ ولا لغيرهم ـ العمل في الأحكام الشرعية بآراء شخصية واجتهادات غير مأخوذة من النص.
أما الطائفة الثانية ـ فهي طائفة المجتهدين ـ الذين كانوا يفتون بالرأي في محضره صلى الله عليه وآله ، ويبتغون المصلحة مع وجود النص ، وهؤلاء وإن كانوا معتقدين برسالة الرسول لكنهم لم يعطوه تلك القدسية والمكانة التي منحها الله إياه ، فكانوا ـ في كثير من الأحيان ـ يتعاملون معه كأنه بشر غير كامل يخطىء ويصيب ، ويسبّ ويلعن ثم يطلب المغفرة للملعونين (2).
____________
(1) في كتابنا (منع تدوين الحديث ، أسبابه ونتائجه)
(2) صحيح مسلم 4 : 2008|90 ، مسند أحمد 2 : 316 ـ 317 ، 449 ، 3 : 400.

( 10 )

وهذا الانقسام الفكري بين الصحابة كان من جملة الأسباب التي أدت لاختلاف المسلمين في الاحكام الشرعية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد كان هذا الانقسام منطوياً على علل أخرى سنتعرض لها في مطاوي البحث إن شاء الله تعالى.
بلى ، إنّ دعاة الاجتهاد استدلوا على شرعية هذا الاختلاف بقوله صلى الله عليه وآله : (اختلاف أمتي رحمة) ، لكن أحقاً أن (اختلاف أمتي رحمة) بالمعنى الذي أريد أن يفسَّر به ؟ أم أنّ له معنى آخر ؟ ولو صح ذلك فكيف نفسر قوله صلى الله عليه وآله : (لا تختلفوا فتهلكوا) ، وقوله : (ستفترق أمتي إلى نيف وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقي في النار) ؟
ولماذا يكون الاختلاف بين المسلمين إلى هذا الحد ، وكتابهم واحد ، ونبيّهم واحد ؟
فترى هذا يسدل يديه في الصلاة والآخر يقبضهما ، والثاني يُفرّج بين رجليه في الصلاة والآخر يجمع بينهما ، وثالث يغسل رجليه في الوضوء والآخر يمسحهما ، ورابع يجهر بالبسملة والآخر لاينطق بها مجهورة ، وهذا يقول بالتأمين وذلك لا يقول به ، والعجيب أنّهم جميعاً ينسبون أقوالهم وأفعالهم ـ على ما فيها من تضارب ظاهر ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله !
أفيكون رسول الله صلى الله عليه وآله قد قالها جميعاً ، وفعلها جميعاً ، و صحّ عنه النقلان ـ أوالنقول كلّها ـ كما يقولون ؟! أم أنّ فعله كان واحداً في كلّ هذه الحالات ؟!
وإذا كان ذلك كذلك ، فمن أين جاء الاختلاف الذي يعسر دفعه وإنكاره ؟! أترانا مكلّفين في شريعة الله أن نقف على الرأي الواحد ، أم أنّا قد أُمرنا بالاختلاف ؟ بل بمَ يمكن تفسير ظاهرة اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ؟!
ولِمَ ظهرت رؤيتان في الشريعة ، إحداهما تدعو إلى التعددية ، والأُخرى تنادي بالوحدوية ؟!
فلو كانت التعدديّة هي مطلوب الشارع ، فلِمَ حصر النبي صلى الله عليه وآله الفرقة الناجية من أُمته بواحدة من الثلاث والسبعين وقال في الباقي أنّها في النار ؟!!
ألم يلزمه صلى الله عليه وآله على التفسير السابق القول : الجميع ناجية وواحدة في النار ؟!! ـ


( 11 )

بل لا يبقى مجال لافتراض حتى فرقة واحدة في النار ـ !!!
وإذا كانت الوحدوية هي مطلوب الشارع ، فلِمَ تصحَّح التعددية وتلتزم ؟! وهل يصح ما قيل في اختلاف الأمة باعتباره رحمة ؟ وما معنى تأكيده سبحانه على وحدة الكلمة إِذَن ؟
ولو كانت الفُرقة هي مطلوب الشارع ، فماذا يعني قوله تعالى : (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (1) ، وكذا قوله : (إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) (2).
إن القول بالتعددية أو الإيمان بالوحدوية يرجع ـ في نظرنا ـ إلى ما عزوناه من أسباب في انقسام المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأهمها انقسامهم إلى نهجين رئيسيَّين :
1ـ نهج التعبّد المحض = الوحدويّة.
2ـ نهج الاجتهاد والرأي = التعدّديّة.
وقد فصّلنا الحديث عن هذين النهجين في دراستنا لأسباب منع تدوين الحديث ، موضحين فيه جذور الرأي والاجتهاد عند العرب قبل الإسلام ، وتصوّراتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وكيفية تعاملهم معه كأنّه شخص عادي يخطىءُ ويصيب ، ويقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا ، بل وحسب فهم بعضهم ، ما هو إلاّ سلطانٌ جاهد فانتصر ، وإنّ تعاليمه ما هى إلاّ مقرّرات أصدرها من عند نفسه ولم ينزل الله سبحانه فيها شيئاً.
والإسلام ـ ولكي يوحّد الأُمة ـ جاء بشهادة (أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله) إذ أنّ الشهادة الاولى كانت تعني جمع العرب ـ ومن ثم العالم ـ على اعتقاد واحد ، بوحدانية المعبود وترك الآلهة والأصنام الموجودة عندهم ،
____________
(1) النساء : 82.
(2) الأنعام : 153.

( 12 )

والشهادة الثانية تعني إنهاء حالة التعددية القيادية والمناحرات القبلية ، والاجتماع على قائد واحد ، وهو رسول الإنسانية ، أي إنّ الإسلام أراد توحيدهم بالله سبحانه وتعالى اعتقادياً ، وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله ، قائداً روحياً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، لأنّ وحدة الفكر والقيادة من الأمور التي تقوّي الأمة وترفع شأنها ، بخلاف التعددية المؤدّية إلى الفرقة والاختلاف.
وإليك الآن بعض الشيء عن التعبّد والمتعبّدين والاجتهاد والمجتهدين ، ودور كل واحد منهما في الوضوء النبوي على سبيل الإجمال.

التعبد والمتعبدون
قلنا لك بأنّ القرآن المجيد والسنة النبوية لم يعتقدا بالتعددية بل جاءا ليحطّما الاعتقاد الجاهلي ـ المبتني على حبّ الذات والطمع في الرئاسة ـ إذ أكّد سبحانه في القرآن المجيد مراراً وبشتى الألفاظ على وجوب اتّباع النبي صلى الله عليه وآله الأمّي ؛ بمثل قوله : (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (1) ، وقوله : ( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله وَيَتَّقهِ فأولئك هم الفائزون) (2) ، وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم...) (3) ، وقوله : (إنما كان قول المؤمنين إذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) (4) ، وقوله : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) (5)... إلى غيرها من الآيات الكريمة الآمرة باتباع النبي صلى الله عليه وآله وطاعته ، مقرونة
____________
(1) النساء : 80.
(2) النور : 52.
(3) محمّد : 33.
(4) النور : 51.
(5) الاحزاب : 36.

( 13 )

في أكثرها بطاعة الله سبحانه وتعالى ، ممّا يعني أنّ أمر النبي صلى الله عليه وآله هو أمر الله سبحانه وتعالى.
ناهيك عن الآيات المصرِّحة بعظمة النبي صلى الله عليه وآله وأنّه لا يتكلّم إلاّ عن الله ، كقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى * إِن هو إلاّ وحي يوحى) (1) ، والآيات الكثيرة المادحة للمتعبّدين بما يقول الرسول تعبّداً محضاً ، كقوله تعالى : (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه ، إنّ الذين يسأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله) (2).
وجاءت السنة النبوية الكريمة بالأوامر المتكررة ، بوجوب اتّباع أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وآله على وجه التعبّد والالتزام المطلق أيضاً ، ففي حديث الأريكة قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحدَّثُ بحديث من حديثي فيقول : « بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه » ، ألا وإنّ ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وآله مثل ما حرّم الله (3) ، إلى غير ذلك.
هذا ، مضافاً إلى الأحاديث النبوية الشريفة المادحة للمتعبدين بأقوال وأفعال وتقارير الرسول صلى الله عليه وآله ، كقوله صلى الله عليه وآله : يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلبه للإيمان ، قالوا : من هو يا رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
وقال ابو بكر : من هو يا رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
وقال عمر : من هو يا رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
قال صلى الله عليه وآله : هو خاصف النعل ، وكان قد أعطى عليّاً نعله يخصفها (4).
____________
(1) النجم 3و4.
(2) النور : 62.
(3) مسند أحمد 4 : 132 : سنن ابن ماجة 1 : 6|12 : سنن أبي داود 4 : 200|2604 ، السنن الكبرى للبيهقي 331 : 9 ، الاحكام لابن حزم 2 : 161 ، الكفاية للخطيب : 9 ؛ المستدرك 1 : 108 ، الفقيه و المتفقه 1 : 88.
(4) كنز العمال 13 : 173 و 107 و 115.

( 14 )

وكقوله صلى الله عليه وآله في عمار بن ياسر : إنّ عماراً مُلىء إيماناً إلى مشاشه ، وقوله فيه أيضاً ، من عادى عمّاراً عاداه الله ومن أبغض عمّاراً أبغضه الله (1) ، وقوله في حنظلة حين خرج في أحد ملـبّياً نداء رسول الله صلى الله عليه وآله للحرب ، وكان قد أعرس بزوجته ، فخرج جُنُباً واستشهد في أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : إنّ صاحبكم تغسله الملائكة ، فاسألوا صاحبته ، فقالت : خرج وهو جُنب لمّا سمع الهيعة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : لذلك تغسّله الملائكة (2).

الاجتهاد والمجتهدون
كان مسار التعبّد هو المسار الصحيح الذي أراده الله لعباده المؤمنين ، أن يؤمنوا بالله ورسوله ، ويتّبعوا خطوات الرسول وأوامره ، وينتهوا عن زواجره ونواهيه ، وأن ينقادوا له انقياد طاعة وامتثال دون إعمال للآراء الشخصية أو تأثّر بالآراء الموروثة ، لكنّ الواقع المحسوس آنذاك ظلّ ينبىء عن وجود صحابة كانوا يسمحون لأنفسهم بتخطئة الرسول والوقوف أمام أقواله وأفعاله ، ولم يكن ذلك بدعاً في الديانات ، لأنّ القرآن الكريم والسنة المباركة أخبرانا أنّ ذلك سنة التاريخ في الديانات السالفة ، فقد آمن الناس بأنبيائهم ، وكان منهم الخصيصون والمقربون والحواريون ، كما كان هناك المكذّبون بهم ، وكانت هناك طائفة أخرى من الّذين آمنوا بالأنبياء لكنّهم اختلفوا ولم يفهموا ما يأتيهم به أنبياؤهم على وجهه الصحيح أو فهموه لكن...
وكيفما كان ، فإنّ القرآن المجيد كشف لنا بلا ريب عن وجود صحابة أسلموا وآمنوا بالله والرسول ، لكنّهم ظلّوا على قسطٍ وافر من عدم التعبّد ، وعدم إدراكهم لقداسة الرسول صلى الله عليه وآله ومدى دائرة وجوب إطاعته ، إذ كانوا يعاملونه في بعض الأحيان كأدون الناس شأناً ، وكانوا يعارضونه ويعترضون عليه ، ويرفَعون أصواتهم فوق
____________
(1) الاصابة 2 : 512.
(2) الاصابة 1 : 361.

( 15 )

صوته ، ووو...
وقد وضّح القرآن وعالج الكثير من تلك الحالات غير المسؤولة ، فقال سبحانه : (ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (1) ، وفي هذه الآية تصريح بأنّ المخاطبين مؤمنون ينطقون الشهادتين ، وأنهم لم يأتوا بالزنا أو القتل أو غيرهما ، بل رفعوا أصواتهم على صوت النبي صلى الله عليه وآله وكانوا ينادونه بما يكشف عن أنهم كانوا لا يلتزمون بما يقتضيه شأن النبوّة ، ولا يعتبرون النبي صلى الله عليه وآله إلاّ شخصاً عادّياً مثلهم ، فلا حاجة إذن ولا ضرورة للتعبد بما يقوله النبي صلى الله عليه وآله كنبي ، وهذا هو الذي أوجب التهديد لهم بالإحباط لأعمالهم.
ومثل ذلك قوله سبحانه وتعالى : (يا أيّها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الارض) (2) وقوله : (إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله) (3) ، وقوله : ( ألَم تر إلى الّذين نُهُوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نهوا عنه ، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول) (4).
بل نقل الطبرسي في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ) أنّ ابن جنّي صرّح بأنّ معناه ؛ لا تفعلوا ما تؤثرونه وتتركوا ما أمركم الله ورسوله به ، وهذا معنى القراءة المشهورة ، أي لا تقدِّموا أمراً على ما أمركم الله به (5).
هذا ، إلى غيرها من الآيات الكريمة التي لوّحت أو صرحت بما لا يقبل الشك بوجود هذه الفئة في المجتمع الإسلامي في صدر الرسالة الإسلامية ، وإذا لوحظت تلك الآيات وأسباب النزول عُلم أنّ تلك الفئة غير قليلة وذلك الاتجاه كان كبيراً كماً
____________
(1) الحجرات : 2.
(2) التوبة : 38.
(3) الاحزاب : 57.
(4) المجادلة : 8.
(5) مجمع البيان 5 : 129.

( 16 )

وكيفاً ، بحيث شغل حيزاً كبيراً من تفكير المسلمين.
ولم تقتصر الدلالات على القرآن الكريم فقط ، بل صرحت السنة النبوية المباركة قولاً وعملاً بوجود هذا الاتجاه وانتقدته وفندّته ـ أيّما انتقاد وتفنيد ـ لأنّ تلك الفئة لم تحدّد عملها واجتهادها في كلام النبي وإنّما راحت تتعداه إلى القرآن الكريم.
فلذلك قال النبي صلى الله عليه وآله لبعض أصحابه ، ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟! بهذا هلك من كان قبلكم (1). وفي نص آخر أنه صلى الله عليه وآله قال : أيتلعّب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (2) ?! وفي نص ثالث قوله صلى الله عليه وآله : أبهذا أمرتم أو لهذا خلقتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضاً ببعض ، انظروا ما أمرتم به فاتبعوه ، وما نُهيتم عنه فانتهوا (3).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد حذّر أصحابه من هذا التهافت المقيت في تعاملهم مع النصوص القرآنية والنبوية ؛ إذ الإيمان بالله ورسوله يقتضي التسليم والانقياد لما يقوله الله ويأمر به الرسول صلى الله عليه وآله ، فعدم التسليم بقدسية النبي صلى الله عليه وآله وأقواله وأفعاله يتقاطع مع الإيمان المطلق بالله والرسول.
لقد حذّر الله من عواقب هذا النوع من التفكير ، وأنبأَ أنّه سينجّر إلى (الفتنة) ، فعن الزبير بن العوام ـ في تفسير قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول... ـ إلى قوله ـ واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة) (4) ـ قال : لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيّون بها (5).
وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل (6).
وبما أنّ ولادة مثل هذا الفكر في مجتمع حديث عهد بالإسلام أمرٌ يوافق سيرة
____________
(1) كنز العمال 1 : 193.
(2) صحيح مسلم|كتاب الايمان.
(3) كنز العمال 1 : 383 ، 1661 ، و سنن ابن ماجة.
(4) الانفال : 24 ـ 25.
(5) تفسير ابن كثير 2 : 488 ـ 489.
(6) تفسير ابن كثير 2 : 488 ـ 489.

( 17 )

التاريخ وإخبارات القرآن عن سنن الأمم الماضية ، راح الشارع المقدس يوازن بين الفئتين ، ويبيّن الفرقة الحقّة ، والمسار الصحيح ، وأنّ التعبّد المحض هو سبيل النجاة ، وهو مراد الله سبحانه وتعالى لا الاجتهاد وتفسير الأمور وفق الأذواق والعقائد الموروثة ، فقال تعالى : ( إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه إنّ الذين يَستَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يؤمنون بالله) (1) ، فقد قرّر القرآن في هذه الآية الكريمة أنّ استئذان النبي صلى الله عليه وآله يساوق الإيمان بالله ، وذلك لِما لهؤلاء المستأذنين من عقيدة راسخة وفهم صحيح لوجوب إطاعة النبي صلى الله عليه وآله والالتزام بما يقوله ويفعله ، بخلاف الآخرين الذين لا يرون هذه الرؤية ويذهبون إلى خلافها ، أو أنّهم يفسّرونها طبق آرائهم واجتهاداتهم.
ومثل ذلك قوله تعالى : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) (2) ، وغيرها من الآيات المباركة التي تتحدث بهذا الصدد.

المجتهدون في زمان النبي صلى الله عليه وآله
وقد كان للمجتهدين في زمن النبي صلى الله عليه وآله أثر كبير ، بحيث سوّغوا لأنفسهم العمل بأعمال نهى عنها النبي صلى الله عليه وآله أو لم يأمر بها ، وتعدّوا حدودهم فراحوا يعترضون على النبي صلى الله عليه وآله اعتراض ندٍّ قرين ، ويجتهدون أمام النص الصريح.
فمن ذلك ما فعله خالد بن الوليد من الوقيعة ببني جذيمة في السنة الثامنة للهجرة ، حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله داعياً للإسلام ولم يبعثه مقاتلاً ، فأمر خالد بني جذيمة بوضع السلاح ، فلمّا وضعوه غدر بهم وعرضهم على السيف لثأر كان بينه وبينهم في الجاهلية ، فلمّا انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وآله رفع يديه إلى السماء ثمّ قال : اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد ، ثمّ أرسل علياً ومعه مال فودى لهم الدماء
____________
(1) النور : 62.
(2) الاحزاب : 36.

( 18 )

والأموال (1)...
ومن ذلك قتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك ـ مع بداهة حرمة دم المسلم ـ بعد أن كـبّر ونطق بالشهادتين ، فقتله أسامة وساق غنمه بدعوى أنه أسلم خوفاً من السيف ، فلمّا علم رسول الله صلى الله عليه وآله بفعله قال : قتلتموه إرادةَ ما معه ؟! ثمّ قرأ قوله تعالى : (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً ، تبتغون عرض الحياة الدنيا) (2).
ومن ذلك قول رجل من الأنصار في قسمة كان قسمها النبي صلى الله عليه وآله ، والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله... فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وتغيّر وجهه وغضب... ثمّ قال : قد أُوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر (3).
ومن العجيب أنّ هذا الاتجاه كان يمارس فكرته المغلوطة حتّى فيما رخّص به رسول الله صلى الله عليه وآله ، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فغضب ، ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إني لأعلمهم وأشدهم خشية (4).
والأنكى من ذلك أنّ بعض روّاد هذا الاتجاه راحوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله في عرضه وأزواجه ، حتّى قال طلحة وعثمان : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات ؟! لو مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام ، وكان طلحة يريد عائشة ، وعثمان يريد أم سلمة ، فأنزل سبحانه قوله : ( ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً) (5).
____________
(1) الكامل في التاريخ المجلّد : 255 ـ 256 ، سيرة ابن هشام 4 : 70 ـ 78.
(2) اُنظر تفسير الفخر الرازي 11 : 3 ، والكشاف 1 : 552 ، و تفسير ابن كثير 1 : 851 ـ 852. والآية : 94 من سورة النساء.
(3) صحيح البخاري|كتاب الاداب ـ باب الصبر على الاذى 8 : 31.
(4) صحيح البخاري|كتاب الاداب ـ باب من لم يواجه الناس بالعتاب 8 : 31.
(5) الاحزاب : 53 ، عن السدي في تفسير الاية الدر المنثور 5 : 214 ، الطرائف 2 : 493.

( 19 )

واللافت للنظر أن الخليفتين ابا بكر وعمر لم يكونا بمنأىً عن هذه الظاهرة ، بل نرى لهما نصيباً من الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وآله وعدم امتثال أوامره صلى الله عليه وآله (1) ، وخصوصاً الخليفة عمر بن الخطّاب الذي خالفه في مفردات كثيرة.
كإنكاره أخذ الفداء من أسارى بدر (2) ، واعتراضه على النبي صلى الله عليه وآله في صلاته على المنافق (3) ، واستيائه من قسمة قسمها النبي صلى الله عليه وآله (4) ، ومواجهته للنبي بلسان حادٍّ في صلح الحديبية (5) ، ومطالبته النبي صلى الله عليه وآله أن يستفيد من مكتوبات اليهود في الشريعة (6) وقوله في أخريات ساعات حياة النبي صلى الله عليه وآله ، إنّه ليهجر (7) أو غلبه الوجع ، وهكذا وهلمّ جرّاً في الاجتهادات التي خولف بها رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته ، غير ناسين أنّ المسلمين انقسموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله حين دعا بالقلم والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ، فمن قائل : أنفذوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقائل : القول ما قال عمر ، وهذا إن كشف عن شيءٍ فإنما يكشف النقاب عن وجود الاتجاهين حتّى آخر لحظة من حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، وأنّ اتجاه الاجتهاد بالرأي كان قويّاً ومؤثراً في مسير تاريخ المسلمين وفقههم وحياتهم ، وذلك هو الذي شرّع التعدديّة وحجيّة الرأي بعد رسول الله.
ولا يخفى عليك أنّ ما يهمّنا بحثه هنا هو معرفة (وضوء النبي صلى الله عليه وآله ) من خلال بيان ملابسات التشريع الإسلامي على وجه العموم ، وما يتعلق بوضوء رسولالله صلى الله عليه وآله بوجه خاص.
____________
(1) الاصابة 1 : 484 ، حلية الأولياء 3 : 227 ، البداية والنهاية 7 : 298 ، مسند أحمد 3 : 15.
(2) الفصول المهمة : 113 عن مصادر متعددة.
(3) اجتهاد الرسول : 209 ـ 211.
(4) مسند أحمد 1 : 20 عن الاعمش عن شقيق عن سلمان بن ربيعة ، ومسلم في الزكاة.
(5) تاريخ عمر لابن الجوزي : 58.
(6) المصنف لعبد الرزاق 10 : 313 ، مجمع الزوائد 1 : 174.
(7) صحيح البخاري 1 : 39 كتاب العلم ، وكتاب المرضى 4 ، صحيح مسلم 3 : 1257 ، 1259.

( 20 )

المجتهدون بعد النبي صلى الله عليه وآله
لقد علمنا بوجود تيارين في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله ، متعبّد ومجتهد ، وبقاءهما إلى آخر لحظة من حياة النبي صلى الله عليه وآله ، ولظروف شتّى صار زمام الخلافة بيد رؤساء الاجتهاد والرأي بعد النبي صلى الله عليه وآله ، فكان من جملة ما اتخذوه من قرارات هو معارضتهم للتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله لأمور رأوها.
فجاء في تذكرة الحفاظ : أنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال : إنكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلاتحدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (1).
وعن عروة بن الزبير : إنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً ، وقد عزم الله له فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكـبّوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى ، وإني والله لاألبس كتاب الله بشيءٍ أبداً (2).
وروي عن يحيى بن جعدة : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه (3).
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيّها الناس ! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي.
____________
(1) تذكرة الحفاظ 1 : 2 ـ 3 ، حجية السنة : 394.
(2) تقييد العلم : 49 ، حجية السنة : 395 عن البيهقي في المدخل ، وابن عبد البر.
(3) تقييد العلم : 53 ، حجية السنة : 395.

( 21 )

قال : فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب (1).
وفي الطبقات الكبرى ومسند أحمد ، قال محمود بن لبيد : سمعت عثمان على المنبر يقول : لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (2).
وعن معاوية أنّه قال : أيها الناس ! أقلّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن كنتم تحدّثون ، فحدّثوا بما كان يتحدّث به في عهد عمر (3).
وهذه النصوص توضّح لنا انقسام المسلمين إلى اتجاهين.
1ـ اتّجاه الشيخين ومن تبعهما من الخلفاء ، فإنّهم كانوا يكرهون التدوين ويحضرون على الصحابة التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
2ـ اتّجاه جمعٍ آخر من الصحابة قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً حتّى على عهد عمر بن الخطاب ، منهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأنس بن مالك وابو سعيد الخدري وابو ذر وغيرهم.
فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم ، لقول الراوي : أتيت ابا ذر ـ وهو جالس عند الجمرة الوسطى ـ وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثمّ قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟
فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليَّ ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي اُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها ؟! (4) وترى الخلفاء وأتباعهم يمنعون التحديث والتدوين ويضربون ويهددون
____________
(1) حجية السنة : 395 ، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد140 : 1« مثناة كمثناة أهل الكتاب ».
(2) الطبقات الكبرى 2 : 336 وعنه في السنة قبل التدوين : 97.
(3) كنز العمال 1 : 291.
(4) البخاري 1 : 27 وفتح الباري 18 : 170 ، سنن الدارمي 1 : 112.

( 22 )

المحدثين.
ومن هنا حدث التخالف في الموقف بين النهجين ، هذا يحدّث ويدوّن ، وذاك يقول بالإقلال ومنع التحديث والتدوين ، وهذا يقول بلزوم عرض المنقول عن رسول الله على القرآن فإن وافقه يؤخذ به وإن خالفه يطرح عرض الجدار ، والآخر يقول بعدم ضرورة ذلك ، وبذلك ارتسمت تدريجيّاً أصول الطرفين الفكرية.
هذا ، وإنا كنّا قد وعدنا القراء في (المدخل) بتقديم بحث هنا لأسباب منع التدوين وكيفية حدوث اتجاهين في الشريعة ، ولكنّا لمّا رأينا سعة البحث وفينا بما اشترطنا على أنفسنا في كتابنا (منع تدوين الحديث ، أسبابه ونتائجه) ومن أراد المزيد فليراجعه.

عثمان والاجتهاد
وفي خضم هذه الأحداث وإمساك نهج الاجتهاد والرأي بزمام الأمور تسنّى لهم أن يجعلوا سيرة الشيخين قسيما ثالثا لكتاب الله وسنّة النبي صلى الله عليه وآله ، فاشترطوا على من يلي الخلافة بعد عمر أن يذعن لهذه القاعدة النابعة من الاجتهاد ، فقبل عثمان بن عفّان ذلك ، وأبى عليٌّ أشدّ الإباء ، لأنّ قبول ذلك الشرط يعني التخلي عن مدرسة التعبد المحض ، والانخراط في سلك الاجتهاد بالرأي ، وذلك ما لا يقرّه عليّ بن أبي طالب ـ تبعاً لرسول الله والقرآن المجيد كما بيّنّا ذلك ـ لأنّه يضفي الشرعية على تلك الفكرة المستحدثة.
ولا يخفى أنّ عبد الرحمن بن عوف كان يبغي من هذا الشرط إلزام عثمان بن عفّان بالعمل طبق اجتهادات الشيخين ، وحصر دائرة الشرعيّة بهما دون سواهما ، إلاّ أنّ الواقع الذي حصل من بَعْدُ كانَ خلاف ما أراد الشيخان وابن عوف ، لأنّ فكرة الاجتهاد بنفسها تأبى هذا التأطير الذي لا يمتلك القوة الإقناعية لهذا الحصر المراد.
فإنّ تشريع سنّة الشيخين ـ طبق الاجتهاد ـ والارتقاء بها إلى صف السنة النبوية ، جاء لتطبيق ما سُنّ على عهدهما من آراء ، والذهاب إلى شرعيتها ، وعدم السماح


( 23 )

للآخرين بمخالفتها ، وعثمان كان يعتقد بأنّه لايقلّ عن الشيخين بشيء ، فما هو المبرر لتمسّكه بسيرتهما دون أن يجعل لنفسه سيرة واجتهادات خاصة ؟!
لقد سار عثمان على سيرة الشيخين مدّة من الزمن ، حتّى إذا أراد الاستقلال بالرؤية وجعل نفسه ثالثَة الأثافي في أعلام مدرسة الاجتهاد ، انتقضت عليه الأطراف وتعالت صرخات الاحتجاج ، لأنّ اجتهاداته وسّعت الدائرة الأولى فأخرجت عثمان عن العهد الذي التزم به وقطعه على نفسه ، كما أخرجت الاجتهاد عمّا أريد له من تأطير وحصر ، وبذلك اكتملت حلقات الاجتهاد والرأي عند الشيخين حتّى بلغت أوجها عند عثمان مما حدا بالصحابة أن يتهموه بتحريف الدين وتقويضه ، ثمّ تشبيههم إيّاه بنعثل اليهودي ، ووو...
ولذلك وجدنا كثرة الناقضين على عثمان آراءه ، ومعارضتهم لفقهه الجديد الذي أراد تطبيقه في كثير من المفردات الفقهية ، ومنها الوضوء كما رأيت وسترى.

عثمان والوضوء
لقد اتضحت عواقب الاجتهاد بجلاء في زمن عثمان ، حتّى أصبح المسلمون لايطيقون تحمّلها ، فثارت ثائرتهم عليه ، وكان هذا التحوّل في مسار المشرَّعات وحياة المسلمين هو الذي حدا بابن عباس أن يُوقِفَ الخليفةَ الثاني عمر بن الخطاب عليه ، حيث خلا عمر ذات يوم فجعل يحدّثُ نفسه ، فأرسل إلى ابن عباس فقال : كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟
قال ابن عباس : يا أميرالمؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما نزل ، وإنه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن لا يعرفون فيمَ نزل ، فيكون لكل قوم رأي ، فإذا كان لكلّ قوم رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، فزبره عمر وانتهره ، وانصرف ابن عباس ، ثمّ دعاه بعد ، فعرف الذي قال ، ثم قال : إيهاً أَعِد (1).
وهكذا حدث بالفعل ، فقد اختلف الصحابة فيما يعرفون وفيما لم يعرفوا ،
____________
(1) كنز العمال 2 : 333|الحديث 4167.

( 24 )

وصارت الأغلبية الساحقة ضدّ عثمان ، والنزر القليل معه ، وبقي الاجتهاد والرأي هو الحاكم لذهنية عثمان حتّى مقتله ، ذلك الاجتهاد الذي أثّر على جُلّ ـ إن لم نقل كل ـ الفروع الفقهية ، حتّى انعكس على أمّهات المسائل وواضحاتها ، بل على أوضحها ، ألا وهو الوضوء.
وقَد أخذنا في المجلد الأول (1) مفردة « وضوء النبي صلى الله عليه وآله » لنرى البعد الاجتهادي ومدى تأثيره على هذا الفرع الذي لا تُقبل الصلاة إلاّ به ، إذ كيف اختلف المسلمون فيه مع أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يؤدّيه بمرأىً ومسمع منهم على مدى ثلاث وعشرين سنة ؟ ومتى وقع الاختلاف فيه ؟ ومن أوقعه ؟ وما هي دواعي الاختلاف فيه ؟
فممّا لا شك فيه أنّ المسلمين في العهد النبوي كانوا تبعاً للنبي في كيفية الوضوء ، وهو وضوء واحدٌ لا غير ؛ فكيف صار المسلمون بين ماسح مُثنٍّ وبين غاسل مثلّثٍ ؟! ـ إذ لايخرق إجماعهم المركّب قول قائل بالجمع احتياطاً ، أو بالتخيير لتكافؤ الأدلة عنده لأنّها أقوال شاذة ـ وكلٌّ منهم يدّعي أنّ ذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وأنّه الصواب وغيره الخطأ.
وعلى كلّ حال ، فإنَّ الوضوء في زمان النبي صلى الله عليه وآله ممّا لم يكن ولم يصلنا فيه خلاف ، إذ النبي صلى الله عليه وآله الأكرم ما زال بين أظهرهم.
وأمّا في زمن أبي بكر ـ على قصره ـ فلم نعهد فيه خلافاً وضوئياً ، ولو كان لبان ، وذلك يدل على استقرار أمر الوضوء بين المسلمين في عهده ، وأنهم لم يزالوا متعبدين بوضوء النبي صلى الله عليه وآله ، خصوصاً وأنّ نصّاً في الوضوء البياني لم يصلنا عن أبي بكر ، وهذا ممّا يؤكد عدم وجود خلاف فيه آنذاك.
وكذلك لم نعهد خلافاً مطروحاً في زمن خلافة عمر بن الخطّاب إلاّ في مسألة يسيرة ، هي مسألة جواز المسح على الخفّين وعدمه ، إذ تخالف عليٌّ وعمر فيها (2) ،
____________
(1) والذي اعتبرناه مدخلاً للدراسة و سميناه بـ (تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء أسبابه و دواعيه).
(2) اُنظر تفسير العياشي 1 : 297.

( 25 )

وحدث بين سعد وعبد الله بن عمر أيضاً خلاف فيها بمحضر من عمر (1) ، ولم نجد أكثر من ذلك ، وهذا لا يشكّل خلافاً في أصل الوضوء وماهيّته كما لا يخفى.
ثمّ إنّ عدم وجود وضوء بياني عن الخليفة الثاني ، يكشف عن عدم وجود اختلاف ظاهر في الوضوء في عهده ، خصوصاً إذا علمنا أنّ الفتوح توسّعت آنذاك وكان الداخلون الجدد في الإسلام بحاجة إلى تعلّم الوضوء.
فالحالة الطبيعية كانت تقتضي صدور نصوص عن عمر ـ أو في زمانه ـ لو كان ثمة اختلاف ، في ماهية الوضوء وحيث لم نجد أي شيء من ذلك ، عرفنا استقرار أمر الوضوء وعدم الخلاف فيه ، بل الذي وجدنا فيه هو نسبة المسح على القدمين إلى الخليفة عمربن الخطّاب (2).
نعم ، إنّ الخلاف في الوضوء قد ظهر في زمن عثمان بن عفّان ، وذلك طبق الأدلة والمؤشرات التاريخية.
فقد روى المتقي الهندي ، عن أبي مالك الدمشقي ، قوله : حدّثت أنّ عثمان بن عفّان اختُلف في خلافته في الوضوء (3) .
وأخرج مسلم في صحيحه ، عن قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن عبدة الضبي ، قالا : حدثنا عبد العزيز ـ وهو الدراوردي ـ عن زيد بن أسلم ، عن حمران مولى عثمان ، قال : أتيت عثمان بن عفّان بوضوء ، فتوضّأ ثمّ قال : إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله بأحاديث لا أدري ما هي ، إلاّ أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله توضّأ مثل وضوئي هذا ، ثمّ قال : « من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه » (4) .
وهذان النصّان يقرّران حدوث اختلاف في الوضوء بين عثمان ، وبين ناس متحدثين عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا يؤكد تواصل النهجين في هذا العهد ، نهج
____________
(1) اُنظر الدر المنثور 2 : 263.
(2) اُنظر عمدة القاري 2 : 240 وفيه : أخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ.
(3) كنز العمال 9 : 443|الحديث 26890.
(4) صحيح مسلم 1 : 207|الحديث 8 ، وعنه في كنز العمال 9 : 423 الحديث 26797.

( 26 )

الاجتهاد والرأي والذي يتزعمه الخليفة ، ونهج التعبد المحض والذي يتزعمه ناس متحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبمعنى آخر إنّ هناك وضوءين :
1ـ وضوء الخليفة عثمان بن عفّان.
2ـ وضوء ناس متحدثين عن النبي صلى الله عليه وآله.
هذا ، وإن الخليفة حاول تجاهلهم بقوله « بأحاديث لا أدري ما هي » ؟ مع اعترافه بأنّهم يتحدّثون عن النبي صلى الله عليه وآله دون اجتراءٍ منه على تكذيبهم أو اتّهامهم بالوضع.
وإذا أضفنا الملاحظات التالية إلى هذين النصين تبيّن لنا أنّ الخلاف وقع في زمان عثمان لا محالة ، وهي :
أ ـ عدم وجود وضوء بياني للشيخين كما قدمنا ، بل وجود نص عن الخليفة الثاني يدل على كونه من الماسحين على القدمين ، إذ أتى العيني باسمه في عمدة القاري ضمن الماسحين (1).
وهكذا جاء عن ابنه عبد الله خبر المسح ؛ لِما أخرجه الطحاوي بسنده عن نافع عن ابن عمر أنّه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ويقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله يصنع هكذا (2).
وقد جاء عن عائشة أنّها خالفت أخاها عبد الرحمن في وضوئه وقالت له : ياعبد الرحمن أسبغ الوضوء ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ويل للأعقاب من النار (3) .
فإنها أرادت الاستفادة من كلمة (الإسباغ) (وويل للأعقاب) للتدليل على لزوم غسل القدمين ، وأنت تعلم بأنْ لا دلالة لهاتين الكلمتين على مطلوبها ، بل ترى في
____________
(1) عمدة القاري للعيني 240 : 2 وكذا الطبري في تفسيره.
(2) شرح معاني الآثار 1 : 35|160.
(3) صحيح مسلم 1 : 213|25 ، سنن ابن ماجة 1 : 154|452 ، المصنف لعبد الرزاق 1 : 23|69 ، الموطأ 1 : 19|5 ، مسند أحمد 6 : 112 ، شرح معاني الآثار 1 : 38|188.

( 27 )

كلامها إشارة إلى ثبوت المسح عندها عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، لكنها في الوقت نفسه اعتقدت بشمول ودلالة جملة (ويل للأعقاب) للغسل اجتهاداً من عندها !!
فلو كانت حقاً قد رأت رسول الله صلى الله عليه وآله يغسل رجليه للزمها القول : يا عبد الرحمن اغسل رجليك فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يغسل رجليه ، لا أن تستدلّ بقوله (ويل للاعقاب من النار) ، وحيث إنّها لم تر رسول الله صلى الله عليه وآله يغسل رجليه فقد استدلت على وجوب الغسل ـ حسب اعتقادها ـ بقوله صلى الله عليه وآله لا بفعله ، على أنّه ـ وعلى حدّ الاحتمال ـ قد يكون هذا الخبر وأمثاله هو ممّا نسبه الأمويون إليها.
وبهذا فقد عرفت أنّ سيرة المسلمين كانت المسح ـ ومنذ عهد النبي صلى الله عليه وآله ، إلى آخر عهد الشيخين ـ لعدم مجيء وضوء بياني عنهما ، ولعدم وجود الخلاف في عهدهما ، ولما رأيته من فعل أبنائهما (1) في الوضوء.
ب ـ عدم صدور الوضوءات البيانية عن الصحابة المكثرين ـ كأبي هريرة وعائشة وابن عمر ـ ولا عن عيونهم وكبارهم ـ كابن مسعود وعمار وأبي ذر وسلمان ـ ولا عن زوجات النبي صلى الله عليه وآله ، ولا عن مواليه ـ سوى أنس ، صاحب الوضوء المسحي المخالف لوضوء الحجاج بن يوسف الثقفي !!ـ مع أنّ الحالة الطبيعية كانت تقتضي أن تصدر النصوص عنهم ؟!
جـ ـ إنّ عدد المرويات الوضوئية لعثمان هائل بالنسبة لباقي أحاديثه ؛ إذ أنها تقارب عشرين حديثاً أو أكثر ، من مجموع مائة واثنين وأربعين رواية عنه في شتّى الأبواب.
د ـ وجود ظواهر ومشتركات غريبة في روايات عثمان الوضوئية تفرد بها عن روايات الآخرين ، وفيها إشارة إلى كونه في موقف المتّهم ، وإلى وقوع الخلاف معه في الوضوء.
هـ ـ وضع بعض الأحاديث أريد من خلالها تحشيد رؤوس من المعارضين
____________
(1) كـ (عبد الله بن عمر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي بكر ، وحتى عائشه بنت أبي بكر قبل وفاة سعد بن أبي وقاص).

( 28 )

لعثمان فقهاً وسياسة ، وعدّهم في صفّ مؤيّديه في وضوئه (1).

المخالفون لعثمان
بعد أن اهتدينا إلى معرفة تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء ، كان لابدّ لنا من الوقوف على « الناس المتحدثين عن رسول الله صلى الله عليه وآله » لعدم تصريح عثمان بأسمائهم.
وكان السبيل للاقتراب من ذلك هو معرفة المخالفين المطّردين أو شبه المطردين لعثمان بن عفان في إحداثاته الأخرى ، كإتمام الصلاة بمنى ، وعفوه عن عبيد الله بن عمر ، وتعطيله للحدود ورده للشهود ـ كما في قضية شرب الوليد بن عقبة الخمر ـ وتقديمه الخطبة على الصلاة في العيدين ، وغيرها.
وحيث وقفنا في مدخل الدراسة على أسماء أولئك ، سعينا لانتقاء جملة من المخالفين المطردين أو شبه المطردين لعثمان في تلك الإحداثات ، فكانوا كالتالي :
1 ـ عليّ بن أبي طالب
2 ـ عبد الله بن عباس
3 ـ طلحة بن عبيدالله
4 ـ الزبير بن العوام
5 ـ سعد بن أبي الوقاص
6 ـ عبد الله بن عمر
7 ـ عائشة بنت أبي بكر
8 ـ أنس بن مالك
وإذا عرفنا أنّ عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ، وأنس بن مالك ، من
____________
(1) اُنظر كنز العمال 9 : 447|الحديث 26907 ، و 9 : 439|الحديث 26876 ففيهما ادّعاء شهادة طلحة والزبير وعلي وسعد لعثمان على صحة وضوئه الغسلي. مع أنهم من معارضيه فقهاً وفكراً وتطبيقاً.

( 29 )

أصحاب الوضوء المسحي قطعاً وكونهم من المكثرين في الحديث ، تجلّى لنا أمر الناس المعنيين في كلام عثمان ، وتبيّن لنا أنّهم من علّيّة الصحابة وعيونهم ، لا كما أراد عثمان أن يصوّرهم من خلال تجاهله لهم.
أضف إلى ذلك أسماء الصحابة الذاهبين إلى المسح أو المنسوب إليهم ذلك مثل :
1 ـ عباد بن تميم بن عاصم المازني
2 ـ أوس بن أبي أوس الثقفي
3 ـ رفاعة بن رافع
4 ـ أبي مالك الأشعري
5 ـ عبد الله بن مسعود (1)
6 ـ جابر بن عبد الله الانصاري (2)
7 ـ عمر بن الخطّاب (3) وغيرهم
وهنا نستطيع معرفة من كان يعنيهم عثمان من معارضيه الوضوئيين ، ونعلم زيف الرواية التي تدّعي موافقة طلحة والزبير وعلي وسعد لعثمان في وضوئه ، إذ علمت أنهم من مخالفيه ، وأنّ طلحة والزبير كانا من أشدّ الناس تأليباً عليه ومن أوائل الداعين لقتله.
فمن مخالفة بعض الصحابة لعثمان في أغلب اجتهاداته ، وورود أسمائهم في قائمة الوضوء الثنائي المسحي ، وعدم ورودهم في قائمة الوضوء الغسلي ، اهتدينا إلى الناس المقصودين في عبارة عثمان ، والعبائرِ الأخرى الواردة في مثل هذا المقام المراد منها أمثال أولئك الرجال.
____________
(1) وذلك من خلال ادعائهم الرجوع إلى الغسل ، وهذا مما يعني أنه كان ذاهباً إلى المسح.
(2) عده العيني ضمن الماسحين ، اُنظر عمدة القاري 240 : 2.
(3) المصدر السابق.