نسبة الخبر إليه

إنّ أوّل ما يطالعنا حول وضوء هذا الصحابي ، هو وجود نقلين لوضوئه ، ( مسحي ثنائي ) و ( غسلي ثلاثي ) ، وقد تبين خلال البحث الأنف أنّ الوضوء المسحي هو الراجح صدوره عنه.
والذي يؤيّد هذه النتيجه المتوصل إليها ، وجود أكثر من شاهد ومؤشّر يجعلنا نطمئن بوضوئه المسحي ، وأن نشك فيما روي عنه من الوضوء الغسلي.
فهذا الصحابي هو من خزرج الأنصار ، الذين عُرفوا بمواقفهم المشرفة تجاه النبي في حياته وتجاه أهل بيته في حياته وبعد وفاته صلى الله عليه وآله.
فقد قدّم الخزرج من الأنصار ثمانية شهداء من مجموع أربعة عشر شهيداً في بدر (1) ، وقدّموا في معركة أحد سبعين شهيداً وأربَعين جريحاً في حين استشهد اربعة من المهاجرين فقط (2) ، وكان في غزوة بني المصطلق ثلاثون فارساً من المسلمين عشرون منهم من الأنصار (3) ، وحين انهزم المسلمون في بداية وقعه حنين كان النداء موجّهاً إلى الأنصار ، ثمّ على بني الحارث بن الخررج الذين كانوا صُبراً عند اللقاء (4) ،
وقد كانت الأنصار في كل ذلك إلى جانب الرسول صلى الله عليه وآله ضد قريش وعتاتها ، وقد تجلى ذلك واضحاً في وقعة الخندق (الأحزاب) حيث دافعوا عن مدينتهم بحفر الخندق ، وأكبروا موقف علي في قتله عمرو بن ودّ ومن عبر معه الخندق ، كما تجلّى الصراع وبغض قريش للأنصار في فتح مكة ، حيث اعتبرت قريش أنّ أطول الباع في هزيمتها أمام النبي إنما كان للأنصار.
وهذا هو الذي يفسر لنا سر تسليط النبي صلى الله عليه وآله الضوء على الأنصار ، والأمر
____________
(1) الأنصار والرسول ، لابراهيم بيضون : 26 عن خليفه بن خياط 1 : 20
(2) الأنصار والرسول ، لابراهيم بيضون : 32 عن المغازي : 30 ، ابن سعد ، عزوات : 43
(3) الأنصار والرسول ، لابراهيم بيضون : 34
(4) المغازي النبوية : 92 ، ومغازي الواقدي 3 : 899.

(412)

بمحبتهم والاهتمام بأمرهم. فجاء عن النبي ـ على ما رواه البراء عنه ـ في الأنصار قوله : « لا يحبهم إلاّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ منافق ، من احبهم فقد احب الله ، ومن ابغضهم فقد ابغضه الله (1) ».
وعن ابي سعيد الخدري قوله : إنا كنا لنعرف المنافقين نحن معاشر الأنصار ببغضهم علي بن ابي طالب (2) ؛ إذ ان علي بن أبي طالب كان محكاً للأنصار لكون الحق يعرف به وببغضه يتشخص أهل الباطل ، وبواسطته يتميز الايمان عن النفاق ، وذلك لدليل على أن أرضية الفكر الايماني للأنصار ومنحى الاعتقاد عندهم قد وقف على معرفة علي بن أبي طالب. فهم قد آووا ونصروا النبيّ وقاتلوا معه ، ثمّ مع أهل البيت ، فقد يكون الرسول صلى الله عليه وآله قد عني بدعائه ـ الآتي ـ هذه الأدوار : « اللهمّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار (3) »
وأنت تعلم بأنّ الحكم في (الأنصار) قد ترتب على الصفة المشتقّة منه وهي النصرة ، ومعناه : أنّه دعى لهم لنصرتهم له وأن الذي يبغصهم لهذه الصفه فهو كافر ، أمّا هذا فلا يجري في علي بن أبي طالب : لأنّه صلى الله عليه وآله جعل الحكم على ذات علي وباسمه دون أي قيد ، وهذا يوضح الفارق بينهما وإن كانا قد اجتمعا على ارضيه واحدة وهي أن حبّهم إيمان وبغضهم نفاق.
فجاء عن انس قوله صلى الله عليه وآله : « حب الأنصار آية الإيمان وبغضهم آية النفاق (4) ».
وعن ابي هريرة : « لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الاخر (5) ».
وعن النووي في شرح مسلم : إنّ من عرف مرتبة الأنصار ، وما كان منهم في نصرة دين الاسلام ، والسعي في اظهاره وايواء المسلمين ، وقيامهم في مهمات دين الاسلام حق القيام ، وحبهم النبي وحبه إياهم ، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس ايثار للاسلام ، وعرف من علي بن ابي طالب قربه من
____________
(1) صحيح مسلم 1 : 85 ح 129 كتاب الأيمان
(2) الترمذي 5 : 635 ورواه الخطيب عن ابي ذر بلفظ آخر (كنز العمال 13 : 106
(3) صحيح مسلم 4 : 1948 ح 2505 باب فضائل الأنصار.
(4) مسلم 1 : 85 كتاب الأيمان.
(5) مسلم1 : 86 ح 13 كتاب الأيمان

(413)

رسول الله وحب النبي له ، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه فيه ، ثمّ أحب الأنصار وعلياً لهذا. كان ذلك من دلائل صحة إيمانه ، وصدقه في إسلامه ؛ لسروره بظهور إلاسلام ، والقيام بما يرضى الله سبحانه وتعالى ورسوله ، ومن ابغضهم كان بضد ذلك ، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته والله اعلم (1)
وقد اشترك الأنصار مع آل البيت في كونهم من المنبوذين عند قريش ؛ لما قتلوا من صناديدهم ورؤسائهم ، فاشتركوا هم وعلي في كفة مقابلة لكفة القرشيين المغلوبين؛ ولذلك سعى القرشيون لاعادة مجدهم بعد فتح مكة ، وحاولوا الوقوف أمام المدّ الأنصاري المعاضد لعلي في مواقفه وما أن توفى النبي صلى الله عليه وآله حتى بدت تلك النبرة عالية في أنّ قريشاً هي الأحق بالخلافة من الأنصار ، بعد أن أبعدوا علياً عن الخلافة بمختلف الوجوه والمعاذير.
فقد صرح عمربن الخطاب قائلاً : إنّ علياً والزبير ومن معهما تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة ، وتخلّفت عنا الأنصار بأسرها (2)
واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر (3) ، ونادت الأنصار في ذلك اليوم : لا نبايع إلاّ علياً (4).
وإنّ سعداً بن عبادة ما طالب بالخلافة الاّ بعد أن راهم قد صرفوها عن علي (5) ، وحين وقف علي إلى جانب الأنصار قالوا : لا نبالي بمن عادانا ما دام علي معنا.
هذا وحسبك أنّ سعداً لم يبايع قط وصار إلى الشام وقتل هناك (6).
ولما تسلّم أبو بكر الخلافة ، لم يفِ للأنصار بمقولته : (نحن الاُمراء وأنتم
____________
(1) شرح مسلم ، للنووي 1ـ2 : 423ـ424.
(2) صحيح البخاري 4 : 111 ، الطبري 2 : 446 ، مسند احمد 1 : 55
(3) الكامل في التاريخ 4 : 327 واُنظراسماء كبار الأنصار المتخلفين في الاحتجاج للطبرسى 1 : 75.
(4) الكامل في التاريخ 2 : 325 والغدير 7 : 78.
(5) كشف المحجة : 173ـ 189ط النجف
(6) مروج الذهب 2 : 301

(414)

الوزراء) (1) فابعدهم عن الولايات حتى صرح شاعر الأنصار قائلا :

يا للرجال لرائـع الاخبــار * ولما أراد القوم بالأنصــارِ
لم يدخلوا منّا زعيماً واحـداً * يا صاح في نقضِ ولا إمرارِ

وقطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية ، فعقد أحد عشر لواءً لخالد بن الوليد ، وعكرمة بن ابي جهل ، والمهاجر بن أبي اُمية ، وخالد بن سعيد ـ وعزله قبل أن يسير (2) ـ وعمرو بن العاص ، وحذيفة بن محصن الغلفاني أو الغفاري ، وعرفجة بن هرثمة ، وشَرحبيل بن حسنه ، ومعن بن حاجز ، وسويد بن مقرّن ، والعلا بن الحضرمي (3).
وجعل يزيد بن أبي سفيان أميراً على الشام (4) ، وأمّر الوليد بن عقبه (5) ولمّا ولّي أبو بكر قال له أبو عبيدة : أنا أكفيك المال. وقال عمر : أنا أكفيك القضاء ، وكان عامله على مكة عتّاب بن اسيد ، وعلى الطائف : عثمان بن أبي العاص ، وعلى صنعاء : المهاجر بن أبي أمية ، وعلى حضرموت : زياد بن لبيد الأنصاري ، وعلى خولان : يعلي بن مُنية ، وعلى زبيد ورِمَع : أبو موس الاشعري ، وعلى الجند : معاذ بن جبل ، وعلي البحرين : العلاء بن الحضرمي ، وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران ، وعبد الله بن ثور إلى جُرَش ، وعياض بن غَنْم إلى دومة الجندل ، وكان بالشام ابو عبيدة وشرحبيل ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، وكل منهم على جُند ، وعليهم خالد بن الوليد (6).
وهذه التركيبة الإداريّة والسياسيّه والعسكريّه لِخلافة أبي بكر ليس فيها أثر واضح للأنصار ، بل أغلبيتهم الساحقة من قريش ومن القبائل الأخرى ، بل الكثير منهم من أعداء الإمام علي والأنصار ، أو قُل من أصحاب الرأي والإجتهاد ، المنافرين
____________
(1) انساب الاشراف 1 : 584.
(2) انظرابن الأثير 2 : 402 وذلك بعد اخباره عمر بتخلف خالد عن بيعته وتأييده لعلي يوم السقيفة.
(3) الكامل في التاريخ 2 : 346
(4) الكامل في التاريخ 2 : 420 وفيه 2 : 404 « وجعل لعمرو بن العاص عملاً وليزيد بن أبي سفيان عملاً ».
(5) الكامل 2 : 357.
(6) مروج الذهب 2 : 302

(415)

لأصحاب التعبد المحض ، حتى أنّ الأنصار تخلّفت عن خالد في مسيره لقتال مالك بن نويرة (1) ، ثم لحقوا به مخافة الفُرقة.
واعترض أبو قتادة على خالد في قتله مالكاً ـ وشهد فيمن شهد أنّ مالكا ، وأصحابه قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا (2) ـ واقسم أن لا يغزو مع خالد غزوة قط.
ولما آلت الخلافة إلى عمر بن الخطّاب فكان غالب ولاته شخصيّات قرشيّة اجتهاديّة منافرة لعلي والأنصار ، حتى أنّ عمر أراد أن يستعمل عبد الله بن عباس ـ بعد هلاك عامل حمص ـ لكنّه صرّح لابن عباس بخوفه من اجتماع الناس إليهم ، فلم يولّه عمل حمص ، مضافاً إلى رفض ابن عباس ذلك العمل المقرون بهذا الهاجس وتلك الريبة من التعبديين واصحاب علي (3).
والذي نريد أن نعرضه هنا هو أنّ الذين اعتمدهم عمر طيلَة فترة خِلافته هم شريحة معارضة للأنصار ولعلي ، فقهاً وسياسةً ، فقد كانوا يتراوحون بين هذه الاسماء ، وهم : أبو عبيده بن الجراح. سعد بن أبي وقاص ، عتبة بن غزوان ، النعمان بن مقرن المثنّى بن حارثة الشيباني ، المغيرة بن شعبة ، أبو موس الأشعري ، عتاب بن أسيد ، يعلى بن منية ، عثمان بن أبي العاص ، العلاء بن الحضرمي ، حذيفة بن محصن ، عياض بن غنم ، ربعي بن الأفكل ، عرفجة بن هرثمة ، عتبة بن فرقد ، أبو مريم الحنفي ، شريح بن الحارث الكندي ، كعب بن سور الأزدي ، عمرو بن العاص ، معاوية بن أبي سفيان (4) ،
وولّى عمارا سنه 21 هـ على الكوفة ثم عزله بوشاية جرير بن عبد الله البجلي وولى جبير بن مطعم ثم عزله وولّى المغيرة بن شعبه بدله (5) ، وكان من جملة عمّاله
____________
(1) الكامل في التاريخ 2 : 403.
(2) الكامل 2 : 358.
(3) انظر مروج الذهب 2 : 321 ـ 322.
(4) اُنظرالكامل في التاريخ 2 : 427 و451 و488 و489 و526 و554 و555 ـ 70 ، 3 : 20 و21 و38. حوادث سني 13 ـ 23.
(5) الكامل في التاريخ 3 : 20 ـ 21.

(416)

على المدائن سلمان الفارسي (1) ، واستعمل النعمان بن مقرن لقبال أصفهان وبعث معه الزبير بن العوام وعمرو بن معد يكرب وحذيفة وعبد الله بن عمرو.
ولمّا قتل عمر في سنه 23 هـ ، كان عمّاله كالأتي : نافع بن عبد الحرث الخزاعي على مكة ، سفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف ، يعلى بن مُنية على صنعاء ، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة ، المغيرة بن شعبة على الكوفة ، أبو موسى الأشعري على البصرة ، عمرو بن العاص على مصر ، عمير بن سعد على حمص ، معاوية بن أبي سفيان على دمشق ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي على البحرين وماوالاها (2) .
وحين فشل جيش المسلمين في معركة الجسر بسبب سوء التدبير الحربي وهلك من المسلمين أربعة الأف شخص غرقاً وقتلا ، سمع عمر بذلك فحث الناس على الجهاد ، واستعمل على مقدمته طلحة بن عبيد الله. وعلى ميمنته الزبير بن العوام ، وعلى مسيرته عبد الرحمن بن عوف. وأشار عبد الرحمن على عمر أن يولي سعد بن أبي وقاص وأشار عثمان بعلي ، فطلبوا ذلك من علي فكرهه ، ثم أمرّ عمر عليهم سعد بن أبي وقاص (3).
وقد كان المسلمون إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف (4).
وهذه التركيبة في خلافة عمر بن الخطّاب تكاد تخلو من الأنصار ومن بني هاشم ومن عيون اصحاب نهج التعبد والأنصار ، وبعكسه يحتل فيها القرشيون والمجتهدون المقام الأوّل ويختصّون بحصّة الأسد منه.
وأما عثمان بن عفان ، فإنّه لم يقتصر على إبعاد الأنصار عن واجهة الأحداث فقط ، بل راح يقّرب أقرباءه ويوليهم المناصب ويغدق على من تابعه الأموال : فمن الذين حباهم عثمان وقربهم هم :
____________
(1) مروج الذهب 2 : 305
(2) الكامل 3 : 77.
(3) انظرمروج الذهب 2 : 307
(4) الكامل في التاريخ 2 : 450.

(417)

الحكم بن أبي العاص ، مروان بن الحكم ، الحارث بن الحكم بن أبي العاص (أخو مروان وصهر الخليفة من ابنته عائشه) ، سعيد بن العاص بن أميه ، الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة (أخا عثمان من أُمه) ، عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ، أبو سفيان ، عبد الله بن سعد ابن أبي سرح (أخو عثمان من الرضاعة) ، الزبير بن العوام ، طلحة بن عبيد الله التيمي ، عبد الرحمن بن عوف الزهري ، سعد بن أبي وقاص ، يعلي بن أمية بن خلف (1).
ولم نجد من المنخرطين في سلك عثمان من الأنصار الاّ أقل من القليل كزيد بن ثابت وحسان بن ثابت.
وكان ولاته وعماله من أمثال : المغيرة بن شعبة ، وسعد بن أبي وقاص ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وأبي موسى الاشعريِ ، وعبد الله بن عامر بن كريز (ابن خال عثمان) ، وسعيد بن العاص (2) ، وغيرهم من الأمويين القرشيين أتباع الإجتهاد والرأي.
ولذلك انتفض عليه أهل المدينة وأهل مصر وأهل الكوفة ، وفيهم عيون الأنصار وقادتهم ، حتى قتلوه في عقر داره.
وأمّا الإمام علي بن أبي طالب ، فإنّه في خلافته أعاد للأنصار ولأنصار التعبد المحض دورهم الأصيل الذي يمثل سنة النبي صلى الله عليه وآله بدون دوافع ولا نوازع ، فقد كان معه من أعلام الأنصار أبو أيّوب الأنصاري ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبو قتاده الأنصاري وغيرهم (3) ، وتخلف عنه جماعه قليلون من الأنصار ، قال ابن الأثير : ثم جاءوا إلى علي وبايعوا (4) ، ولم يتخلّف عنه إلاّ نُفير يسير ممن لهم مطامع معلومة ومآرب دينوية.
وكان ولاة علي بن أبي طالب في فترة خلافته القليلة هم : عثمان بن حنيف الأنصاري ، وعمارة بن شهاب الثوري ـ وكانت له هجرة ـ ، وعبيد الله بن عباس ،
____________
(1) انظرالغدير 8 : 286
(2) انظرتاريخ الطبري أحداث سنة 24 ـ 36.
(3) الكامل في التاريخ 3 : 221.
(4) الكامل في التاريخ 2 : 354

(418)

وقيس بن سعد الأنصاري ، وسهل بن حنيف الأنصاري ، وقرظة بن كعب الأنصاري ـ الذي أمره عمر بالاقلال من الحديث ـ ، وقثم بن العباس ، وعبد الله بن العباس ، ومحمد بن أبي بكر ، وخليد بن قرة اليربوعي ، ومالك الأشتر ، وأبو أيوب الأنصاري (1) ، ولما سار علي إلى صفين استخلف على الكوفة ابا مسعود الأنصاري (2).
وبعد استشهاد الإمام علي ظل الأنصار أوفياء للإمام الحسن ، وعلى رأسهم زعيمهم وصاحب رايتهم على عهد رسول الله ، قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري ، وبقي معه رهطه من الأنصار ، إلى أن صالح الإمام الحسن معاوية ، فكان قيس والأنصار آخر من أغمد السيف عن معاوية.
وبقي الصراع والعداء بين معاوية والأنصار قائماً مستمرّاً ، وذلك بسبب مواقف الأنصار المناهضة للحزب القرشي ، قال الدكتور ابراهيم بيضون :
... وهكذا كانت العلاقه بين معاوية والأنصار متأثرة بذلك التراكم الذي شابَها ، ابتداءً من الهجرة ووقعة بدر ، ومروراً بيوم الدار (مقتل عثمان) وأيام صفين ، حتى سقوط الدولة الراشديه التي كان آخر المقاتليين عنها قيس بن سعد (3).
ويبدو عداء الأمويين للأنصار من خلال ارسال معاوية لبسر بن أرطأة القرشي لاخضاع الحجاز لسيطرته ، قائلاً له : « سر حتى تمرّ بالمدينة ، فاطرد أهلها ، وأخِف من مررتَ به ، وانهب مال كل مَن أصبتَ له مالاً » (4) ، ويقول له في شأن القرشين « وسِر إلى مكة فلا تعرض فيها لأحد » (5).
وبلغ العداء ذروته بين الأنصار والقرشيين والأمويين في وقعة الحرّة ، التي أبيُحت فيها المدينة ثلاثة أيام ، تلك المعركة التي كان عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري زعيمها البارز ، والذي قُتل معه عبد الله بن زيد بن عاصم ـ صاحب حديث الوضوء ـ ضدّ الحكم الأموي ، والتلاعب بالدين ، فقد قتل عبد الله بالحرّة في
____________
(1) انظر الكامل في التاريخ 3 : 201 و261 و350 و374 و398.
(2) الكامل 3 : 35.
(3) الأنصار والرسول : 60
(4) أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي : 453 ـ 454.
(5) الطبري 6 : 80

(419)

سنة 63 هـ وهو ابن سبعين سنه (1) ، وقُتِل معه ابناه خلاّدٌ وعليّ.
فقد كان عبد الله بن زيد بن عاصم إذن من المخالفين للدولة الأموية والمقتولين بسيفهم ، وقد جاد بنفسه محاولاً رفع الابداع والظلم الذي حاق بالدين ، بالمسلمين ، وهذا ما يجعله ـ بالطبع ـ هدفاً لسهام الأمويين لتشويهاتهم له فقها وسياسة وموقفاً ، كما سترى ، وهو ما يجعلنا نتوقف في شأن كل ما ينسب إليه من آراء تؤيّد الموقف والرأي الفقهي والسياسي الأموي.
جئنا بهذه التقدمة التاريخيه للاشارة إلى أنّ التخالف السياسي قد يؤدي إلى التخالف الفقهي ، بمعنى : إنّ الإتجاه الحاكم ـ نظراً لموقعيته وظروفه ـ قد يصّر على تطبق مفردة خاصة لما يرى فيه من مصلحة. وهذا ليس بدعاً في التاريخ ـ لما قدمناه لك من شواهد في هذه الدراسة ـ وقد كان في نسبة الخبر إلى ابن عباس تفسير لظاهره اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ، وفي نسبة الخبر إلى علي بن أبي طالب قد وضحنا دور القرشيين في الشريعة واخذهم بالرأي والاجتهاد قبال النص ومخالفته نهج التعبد المحض معهم ، والآن مع بيان تخالف الأنصار مع المهاجرين فقهاً وسياسةً.
وبكلامنا هذا لا نعني أنّ الأنصار كانوا جميعاً من نهج التبعد المحض أو أنّهم لم يخالفوا علياً أو سنّة رسول الله قط.
وكذا لانعني أنّ فقه القرشين يخالف النصوص في جميع الأحيان ، بل الذي نريد قوله أنّ أمر الاجتهاد والذهاب إلى أحكام أخرى مصلحةً هي أقرب إلى الفهم القرشي من الأنصاري. لكون الأوّل هو الحاكم فلابدّ من تطبيق رأيه ، أما الأنصاري فليست له مَصلحة أو هدف في هذا التغيير ، وإن كان من بينهم من يذهب إلى آراء مخالفة للنصوص اجتهاداً من عند نفسه.
وقد نقلنا سابقاً نصوصاً دالة في تبني الاتجاه الحاكم لمذهب الشيخين وغيرهم من الخلفاء فلا يستبعد بعد هذا أن يُرجح الرأي الفقهي المنتزع من الاجتهاد على الرأي الفقهي المأخوذ من النص. وخصوصاً حينما عرفنا دور الأمويين في تحريف الأحكام وتأكيدهم على فقه عثمان.
____________
(1) تهذيب الكمال 14 : 540 ، تهذيب التهذيب 5 : 223 ، شذرات الذهب 1 : 71

(420)

كانت هذه إلمامة بالزاوية السياسية والتركيبة الاجتماعية ، والتي يُقابلها تقاطُعٌ آخر بين الأنصَار والقرشيين من الناحية الفقهية ، وذلك ما أفرزته حالة تمسّك المدّ الأنصاري بمسلك التعبّد المحض ، وانجراف التيار القرشي وراء مسلك الاجتهاد والرأي على أنّ وجود متعبّدين ماحضين من القرشيين ، ووجود مجتهدين مرتئين من الأنصار لا يخرم الإطار العام للمسير الفقهي لكلا الاتجاهين ، وإذا توخّينا الدقة أكثر سمّينا الاتجاه الأوّل « الأنصار والمتعبدون » والثاني « قريش والمجتهدون » ، فمن شذّ من الأنصار دخل في حيّز « المجتهدين » ومَن شَذّ من القرشيين دُرج في المتعبّدين.
وبمعنى آخر : نحن لا نريد بقولنا هذا تصحيح فعل الأنصاري والقول بأنّ جميع أقواله وأفعاله مستوحاة من النص ، أو أنّهم جميعاً يتّفقون مع علي بن أبي طالب؛ لاجتماعهم معه على أرضية واحدة ، وكذا لا نريد القول بعكسه في القرشي ، بل الذي نريد قوله : أنّ المسلك العام للأنصار هو الأخذ بما عرفوه وعملوا به من سنة ونص وعدم ايمانهم بضرورة الاجتهاد في المفردات التي نزل بها الوحي ، بخلاف القرشي الذي يسعى لتحكيم رأى القريشيين واعطاءه الشرعية. وإن كان هناك من شذّ من الطرفين عن مسيرهم العام ، إذ تلحط الشذوذ في سيرة الواحد منهم ، فيأخذ الأنصاري مثلاً بالنص في مفردة ويجتهد في أخرى ، وكذا القرشي فقد يجتهد في مفرده ويدافع عن النص في مفردة أخرى ، لكن الصبغة العامة والسيرة الغالبة عند الأنصاري هي اتباع ما عرفوه وجرت سيرتهم عليه وعدم تأثرهم بالجديد المستحدث ، بل وقوفهم أمامه في بعض الأحيان ، بخلاف القرشي الذي تأخذه العصبية لتحكيم رأي قرينه لأنّه يمس بكيانهم القبلي. وإليك مثالاً على ذلك.
نحن نعلم أنّ عثمان بن عفان قد أتم الصلاة بمنى خلافاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرة الشيخين وجاء عن معاوية أنّه لمّا قدم مكة حاجّاً قصر بمنى في الظهر فنهض مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، فقالا : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عتبه به.
فقال لهما : وما ذاك ؟
قالا : ألم تعلم أنّه (أي عثمان) أتم الصلاة بمكة ؟
قال لهما : ويحكما ! وهل كان غير ما صنعت ؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر وعمر.


(421)

قالا : فإنّ ابن عمك أتمّها وأنّ خلافك إياه عيب.
قال الراوي : فخرج معاوية إلى العصر فصلاها أربعاً (1) ومن هذا القبيل نرى اعتلاء صرخة الرفض الفقهي من أبي قتادة الأنصاري ، حيث واجه خالدَ بن الوليد في تعريسه بأم تميم زوج مالك بن نويرة ، قائلاً له مستنكراً : هذا عملك ؟! فزبره خالد ، فغضب أبو قتادة ومضى ، وكان أبو قتادة قد شهد لمالك بالإسلام ، ومن بعد تلك الفاجعة عاهدَ اللهَ أن لا يشهد مع خالد حرباً أبداً (2) .
وغضب أبو قتادة ومضى حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر حتى كلّمه عمر (3) .
وكذلك نرى في حكم الجدّة اسم محمّد بن مسلمة الأنصاري (4) أو عبد الرحمن بن سهل الأنصاري (5) يعترض على أبي بكر في فقهه في الجدّة ويصحّح له خطأه فيه.
ولمّا تسلم عمر أزمّة الأمور ، وراح يمدّ خطاه الاجتهاديه ما امتدت ، تبلور واتّضح الخلاف الفقهي بين « الأنصار والمتعبّدين » وبين عمر زعيم « قريش والمجتهدين » ، فزاد عدد الأرقام زيادة ملحوظة في معارضة فقه الخليفة الثاني من الأنصار على وجه الخُصُوص.
فقد أراد عمر أبن الخطّاب أن يقيد الذمّي من المسلم ، فنهاه معاذ بن جبل الأنصاري (6) ، فاستجاب لقوله ثم قال : « لولا معاذ لهلك عمر » (7).
وكان عمر يجنح لإقادة النبطي من المسلم ويصر على ذلك فنهاه
____________
(1) مسند أحمد 4 : 94 ، فتح الباري 2 : 457 ، نيل الاوطار 3 : 240 ـ 241.
(2) تاريخ الطبري 3 : 243.
(3) تاريخ الطبري 3 : 242 ، شرح النهج 4 : 187 ط قديم
(4) الموطأ 1 : 335 ، مسند أحمد 4 : 224
(5) الموطأ 1 : 335 ، الاستيعاب 2 : 7400 الاصابة 2 : 402.
(6) جمع الجوامع للسيوطي 7 : 304.
(7) السنن الكبرى 7 : 443 ، التمهيد : 199 ، كنز العمال 7 : 82 ، فتح الباري 12 : 120 ، الأصابة 3 : 427.

(422)

زيد بن ثابت الأنصاري (1).
وقد خطّأَ زيدٌ عمرَ في مسألة ارث الجدّ وشرح له الحكم عن طريق تقريب مراتب الورثة من خلال التشبيه بالشجرة (2) ، بعد أن طلب منه عمر موافقته على رأيه فأبى زيد.
وحين استأذن رجل من الأنصار على عمر ، وكان عمر يجهل حكم الاستئذان بعث الأنصار أصغرهم سنًّا ـ وهو أبو سعيد الخدري ـ ليشهد عند عمر أنّ ذلك سنة رسول الله (3) ، وتنفّر أبيّ بن كعب من حالة عمر هذه فقال له : يا بن الخطّاب لاتكونن عذابًا على أصحاب رسول الله (4).
وقدّم شاب من الأنصار لعمر ماء مع عسل فأبى عمر ، محتجاً بقوله : (اذهبتم طيباتكم...) فاحتجّ عليه الشاب الأنصاري بأنّها نزلت في الكفار لا في أهل القبلة (5).
ونهى عمر بن الخطّاب صلاة ركعتين بعد العصر ، الاّ أنّ أنس بن مالك الأنصاري وأبا سعيد الخدري الأنصَاري وابا أيّوب الأنصاري ظلّوا يصلونهما مخالفة لفقه عمر ، والتزاماً بفقه الرسول صلى الله عليه وآله ، وكذلك روى اباحة ـ إن لمنقل استحباب ـ هاتين الركعتين أبو أيّوب الأنصاري والنعمان بن بشير الأنصاري ، والأسود بن زيد الأنصاري ، وأبو الدرداء الأنصاري (6) ، وإن رواية هؤلاء جواز الصلاه لايعنى أنّهم وفي جميع المفردات كانوا من نهج التعبد المحض ، فقد تخلف بعض هؤلاء عن الاصول في مفردات اخرى.
وعارض عُمر بن الخطّاب في تحريمه للمتعة جمهوراً من الصحابة منهم جابر بن عبد الله الأنصاري الذي قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيامَ
____________
(1) كنز العمال 7 : 303 ، السنن الكبرى 8 : 32.
(2) السنن الكبرى 6 : 247
(3) صحيح مسلم 3 : 1694 ، صحيح البخاري 3 : 837 ، مسند أحمد 3 : 19.
(4) صحيح مسلم 3 : 1696.
(5) شرح النهج 1 : 61
(6) طرح التثريب في شرح التقريب 2 : 186

(423)

على عهد رسول الله وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (1) ؛ كما عارضه أبو سعيد الخدري (2) ، واُبي بن كعب في قراءته (فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل (3) ) ، وكان عمر قبل ذلك أراد أن ينهي عن متعة الحج فحاججه اُبيّ فأضْرَبَ عمر عن ذلك (4).
ويبدو أنّ عمر التفت إلى أنّه يحكم في المدينة ـ التي هي معقل الأنصار ـ وأنّ المعارضين لفقهه يزدادون يوماً بعد آخر ، فلذلك وَجَد المخرج من هذا الصراع الفقهي المتفاقم. بأنْ صرّح في خطبته في الجابية قائلاً ، من أراد أن يسأل عن القرآن فلياتِ اُبي بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليات معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأتِ زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتِني فإنّي له خازن (5). فامتصّ عمر ردة الفعل الفقهي الأنصاري بجعله هذه المحاور الثلاثة لمن أراده من الأنصار حلاًّ لأزمته تلك.
وهكذا برزت أسماء لامعة من الأنصار تناهض فقه الخليفة عمر بن الخطّاب فإذا أضيف إليها المتعبدين من غير الأنصار ، كعلي وابن عباس وابن مسعود وعمار بن ياسر ، تشكّلت جبهة فقهيه عريضة من « الأنصار والمتعَبدين » تضادّ « القرشيين والمجتهدين ».
ولعل خير شاهد في هذا المجال ، هو أن نرى عمراً يشيّع الوفد الأنصاري إلى أطراف المدينة من أجل أن يأمرهم بإقلال الحديث ، الحديث الّذي لا يتوائم مع سير الفقه القرشي الاجتهادي.
ومثل ذلك ما نرى من أسماء المحبوسين بالمدينة. الممنوعين من التحديث ففيهم من الأنصار : أبو مسعود وأبو الدرداء وحذيفة بن اليمان (6) ، ومن المتعبدين ابو ذر
____________
(1) صحيح مسلم 1 : 395 ، فتح الباري 9 : 141.
(2) عمدة القاري 8 : 31.
(3) تفسير الطبري 5 : 9.
(4) مسند احمد 5 : 143 ، والدر المنثور 1 : 216.
(5) الاموال : 223 ، مستدرك الحاكم 3 : 271.
(6) حذيفة عبسي ، وانما سمّي حذيفة بن اليمان للجوئه إلى الأنصار وانضمامه إلى قبائل اليمن ، فهو بهذا الاعتبار معدود في عداد الأنصار.

(424)

الغفاري وعبد الله بن مسعود الهذلي وعقبة بن عامر الجهني.
وأمّا المعارضون لفقه عثمان فكُثُرٌ لكن الحق أنّ معارضته الفقهيه لم تقتصر على الأنصَار ، بل كانت المعارضة من كليهما ، كما كان ذلك في معارضته السياسية والماليه والادارية ، لأنّ عثمان ـ وهو المعني بالوضوء هناـ أراد صياغة مشروع أمويّ سياسي فقهي ، فنجح في بعض وأخفق في بعض.
لقد كان أوّل تحرّك قرشي اجتهادي صدر في بداية خلافة عثمان ، هو رأي عمروبن العاص بدرء الحدّ عن عبيد الله بن عمر رغم إجماع المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله ، إلاّ أنّ المعارضة سرعان ما انخفض صوتها ، ولم يبق إلاّ صوت علي ثابتاً ـ حتّى فرّ منه ابن عمر أيّام خلافته ـ ، وصوت محمود بن لبيد الأوسي الأنصاري ، وزياد بن لبيد البياضي الأنصاري ، الذي بقي يعرّض بعبيد الله بالشعر ، فنهاه عثمان ، فقال في ذلك :

ابــا عمروٍ عبيدالله رهنٌ * فلا تشكُك بقتـل الهرمـزانِ
فإنك إن غفرت الجرم عنه * وأسباب الخطا فرسا رهـانِ
أتعفو إذ عفوتَ بغير حـقٍّ * فمالك بالذي تحكي يدانِ (1)

وقدم عثمان الخطبة على صلاة العيدين ، خلافاً لسنة رسول الله الثابتة في الصلاة ثمّ الخطبة ، وكان أبو سعيد الخدري ، وجابر الأنصاري ، والبراء بن عازب ، وأنس بن مالك ، كلّهم ممّن رَوَوا خلافَ ما فَعل عثمان ، واستمرّ مروان بن الحكم الأموي القرشي على نهج عثمان ، فراح ليصعد على المنبر قبل الصلاة فجذبه ابو سعيد الخدري ، فجذبه مروان وارتفع فخطب ، فقال أبو سعيد : غيّرتم والله (2).
وعلَّم أُبيّ بن كعب الخليفة عثمان حكْمَ رجلٍ طلّق امرأته ثمّ راجعها حيَن دخلت في الحيضة الثالثة (3).
وأمّا فقه الإمام علي فإننا بدراسة مفصلة لفقه الصحابه حصلنا على نتيجة مفادها التقارُب الشديد في المسائل المختلف فيها بين فقه علي والأنصار ، والتنافر بين
____________
(1) انظرتاريخ الطبري 5 : 41 ، الغدير 8 : 134.
(2) صحيح البخاري 2 : 111 ، صحيح مسلم 1 : 242 ، مسند احمد 3 : 10 ، 20 ، 52 ، 54 ، 92.
(3) السنن الكبرى 7 : 417.

(425)

هذا الفقه والفقه القرشي ، اتباع الاجتهاد ، مَنَعَة التدوين والتحديث ، حتى أنّه ليكاد يقف الفقهان على طرفي نقيض في المسائل المختلَف فيها ، وهذا ما يؤكّد أنّ الحالة الفقهيّه الأنصاريّة العامّة تنتظم وتتفق في كثير من الأحيان مع السلك العلوي التعبد ي ، وتتنافر مع الفقه القرشي الاجتهادي ، ولذلك قل ما نجد نزاعاً فقهيٍّا بين أنصاريّ وبين الإمام علي طيلة عمر الإمام علي ، بخلاف الحزب القرشي الاجتهادي ، فقد وقع الخلاف الفقهي بين علي وبينهم حتّى طفح الكيل. فصرّح علي بذلك في كثير من كلماته وخطبه مع المفردات الفقهيّة المسجّلة في المصادر الناصّة على قيام الاختلاف على اشدّه بين الفقه العلوي التعبّدي ، وبين الفقه الاجتهادي القرشي.
واتّسع الخرق حين انتزى معاوية على الأمّة ، فراح يؤسِّس ما شاء من فقه عثماني أموي كما وضحناه وسنشير إليه بعد قليل ، غَير أنّ اللاّفت للنظر هو أنّ معاوية كانت تخالفه الأنصار منذ كان واليا على الشام لعمر وعثمان ، وحتّى استلامه الملك ،
وقد كان الصحابيُّ النقيبُ الجليل عبادة بن الصامت الأنصاري رأس حربة الأنصار في مخالفة نهج معاوية الفقهي ففي حين كان معاوية يتعاطى الربا ولا يرى به بأساً ، أصرّ عبادة بن الصامت على معارضته ذلك الفقه المنحرف ، قائلاً : اشهد أنّي سمعت رسول الله يقول ذلك ، وقال : إنّي والله ما أبالي أن لا أكون بأرض يكون بها معاويه(1). وحاول معاوية إقناعه بالإنصراف عن رأيه الفقهي التعبدي بحرمة الربى ، قائلاً له : اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره ، فقال عبادة : بلى وإن رغم أنف معاوية (2) ،
وذهب عبادة إلى المدينة منصرفا عن الشام ، واخبر بذلك عمر فأمره بالرجوع إلى الشام وقال له : لا إمرة عليك (3). دون أن يردع معاوية عن رأيه الفقهي بالقوة المعهودة عن عمر.
واعترض على معاوية في معاملاته الربوية أبو الدرداء ـ وهو من الأنصار ـ أيضا ، قائلاً : سمعت رسول الله عن مثل هذا فقال : إلاّ مِثلاً بمثل ، فقال معاويه : ما أرى
____________
(1) انظرسنن النسائي 7 : 277 ، سنن البيهقي 5 : 278.
(2) تاريخ دمشق 7 : 212
(3) تاريخ دمشق 7 : 212

(426)

بهذا بأساً ، فقال له أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية ؟ أنا أخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها (1).
وغزا عبد الرحمن بن سهل الأنصاري في زمن عثمانـ ومعاوية أمير على الشام ـ فمرّت به روايا خمر لمعاويه ، فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها ، فناوشه الغلمان ، حتى بلغ شأنه معاوية ، فقال : دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله ، فقال عبد الرحمن : كلا والله ما ذهب عقلي ولكن رسول الله نهانا أن ندخل بطوننا واسقيتنا خمراً (2).
ومزّق عبادة بن الصامت الأنصاري مرّة اخرى روايا تحمل الخمر وهي في طريقها إلى الشام ، فأرسلوا إلى أبي هريرة في أن يكلم عبادة ، فإنه لا يتركهم ولايترك عيبهم ، فكلمه أبو هريرة ، فأجابه عبادة بما كانوا بايعوا عليه رسول الله في بيعة العقبة من أن لا يكتموا حقّا (3).
ولشدّة معارضات عبادة الفقهية أرحله معاوية بأمر عثمان من الشام إلى المدينة ، وابدى عثمان ـ الاجتهاديَ ـ تذمّره منه قائلاً : مالنا ولك يا عبادة ؟! فقام عبادة وخطب بين الناس قائلاً : إنّي سمعت رسول الله أبا القاسم يقول : إنّه سيلي اُموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى ، فلا تضلوا بربكم ، فوالذي نفس عبادة بيده إنّ فلانّا ـ يعني معاوية ـ لمن اولئك (4).
واستمرّت المعارضه الفقهيه حتّى ملك معاويه ، فخطب فادّعى الأفضليه لابي بكر وعمر وعثمان ، ثم فضل نفسه على من بعده ، فكذبه عبادة بن الصامت وقرعه بالحجة الواضحه ، فأمر معاوية به فضرب (5).
وأجاز اجتهادُ معاوية ـ القرشيّ ـ الجمعَ بين الاختين بملك اليمين !! فاعترض
____________
(1) الموطأ : 59 ، سنن النسائي 7 : 279 ، سنن البيهقي 5 : 280.
(2) الاصابة 2 : 401 ، الاستيعاب 2 : 5401 اسد الغابه 3 : 299.
(3) تاريخ دمشق 7 : 211.
(4) مسند احمد 5 : 325 ، تاريخ دمشق 7 : 212.
(5) تاريخ دمشق 7 : 213.

(427)

عليه النعمان بن بشير الأنصاري (1) ، ولا ننس أنّ مثل هذا الرأي كان قد صدر عن عثمان قبله.
ولما وصلت النوبة إلى يزيد بن معاوية ، تبدّل الخلاف الفقهي والعقائدي والسياسي من مجّرد معارضته فقهية إلى مواجهة مسلحة صارخة بين الأنصار والمتعبدين من جهة ، وبين الأمويين القرشيين والمجتهدين من جهة اُخرى.
وتوحدت جبهة الهاشميين والأنصار المتعبدين ضدّ مشروع معاوية القاضي باستخلاف يزيد فلمّا كتب معاوية إلى سعيد بن العاص واليه على المدينة يأمره بأخذ البيعة ، قال الراوي : فابطأ الناس (الأنصار وهم عُظم سكان المدينة) عنها... لاسيما بني هاشم... وكتب سعيد بن العاص إلى معاويه :... وإنّي أخبرك أنّ النّاس عن ذلك بِطاءٌ ، لاسيما أهل البيت من بني هاشم ، فإنّه لم يجبني منهم أحد (2).
وكان محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري من وفد أهل المدينة ، قال لمعاوية حين استشهارهم في بيعة يزيد : إنّ كل راع مسؤول عن رعيته ، فانظر مَن تولّي أمر أمة محمد ؟! فاخذ معاوية بهرٌ (3).
واضطر معاوية لاقناع أهل المدينة والأنصار أو اخضاعهم لبيعة يزيد أن يرحل رحلتين من الشام إلى المدينة ، الأولى في سنة 50 هـ ، استعمل فيها اسلوب اللين والمخادعة والترغيب ، والثانيه في سنة 51 هـ ، استخدم فيها اسلوب العنف والاجبار والترهيب ، وكان معه الف فارس ، وهدّد معاوية وقال : لأقتلنّهم إن لم يبايعوا. هذا ، وكان أهل المدينة يكرهون يزيد (4).
فنتيجة لكل هذا وصلت الأمور إلى ذروتها في زمن حكم يزيد ، فحدثت وقعة الحرّة ، حيث لم تخضع المدينة المنوّرة بزعاماتها الأنصاريه للمسار الأموي ، حتّى أنّ زعيمهم عبد الله بن حنظلة الغسيل قال : والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء ، إنّه رجل ينكح الامهات والبنات والاخوات ، ويشرب
____________
(1) الدر المنثور 2 : 137
(2) الإمامه والسياسة 1 : 144 ـ 146.
(3) الكامل 3 : 21 ـ 216. العقد الفريد 2 : 302 ـ 304.
(4) تاريخ دمشق 6 : 155.

(428)

الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا (1). وصرّح بمثل هذا جماعة من قيادات الأنصار صحابة وتابعين.
وفي هذا الانشقاق بين الأنصار والمتعبدين من جهة ، وبين قريش والمجتهدين من جهة اخرى ، يقف عبد الله بن زيد بن عاصم في خضم الأحداث في صفوف المتعبدين ، غير شاذّ عن جماعة الأنصار في خطوطها العريضة.
شهد هو وأمّه أمّ عمارة ـ نسيبة بنت كعب ـ أُحداً (2) ، وروي أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال في موقفها يوم أحد : لمقام نسيبة اليوم خيرٌ من مقام فلان وفلان (3) ، وإنّ النبي قال في ذلك اليوم في حقّهم : « رحمة الله عليكم أهل البيت (4) فيظهر أنّهم من المتعبدين الملتزمين بالدفاع عن الدين.
وقد قتل مسيلمة الكذاب أخاه حبيب بن زيد وقطّعه (5) ، وقَتَل عبد الله مسيلمة الكذاب ، أو شارك وحشيًّا في قتله (6) ، غير أنّ معاوية ادعى زوراً وكذباً أنّهُ هو الذي قتلَ مسيلمةَ ، ليسلب عبد الله بن زيد هذه الفضيلة في قتل المدّعي للنبوّة ، وذلك القتل من معاوية لم ينقل عن غير معاوية ، فلا يكاد يخفى القصد من وراء ادعائه هذا ، الذي حاول المزّي أن يبرّره بانه يحتمل ان يكون معاوية شارك في قتل مسيلمه (7).
وقد كان من الصحابة الذين استشهدوا ضد الأمويين في واقعة الحرّة ، فقد ذُكر في قيادات الحرة الذين استشهدوا فيها ، هو ومعقل بن سنان الاشجعي ، وعبد الله بن حنظله الغسيل الأنصاري (8).
____________
(1) تاريخ دمشق 7 : 372
(2) تهذيب الكمال 14 : 539
(3) مغازي الواقدي
(4) تهذيب الكمال 14 : 539
(5) تهذيب الكمال 14 : 539.
(6) تهذيب التهذيب 5 : 223.
(7) انظرتهذيب الكمال 14 : 539
(8) شذرات الذهب 1 : 71.

(429)

ولم يقتصر على التضحية بنفسه ، بل قتل معه ابناه خلاّد وعلي (1) في تلك الوقعة المريرة.
وتكاد المصادر تتفق على أنّه قتل في وقعة الحرة التي كانت آخر ذي الحجة سنة 63 ، وهو ابن سبعين سنة (2).

عبد الله بن زيد والوضوء

بعد هذه المقدمة التي عرفنا على ضوئها اموراً كثيرة في تاريخ التشريع الاسلامي ، وتعرفنا كذلك على تخالف الأنصار مع المهاجرين فقهاً وسياسياً ، لابد من الأشارة إلى أهداف القرشين في الوضوء بالخصوص ، فإنّهم من جهه كانوا يريدون مشاركة الأنصار في شرعية هذا الوضوء الجديد ؛ لكونهم شريحة مهمة في الاسلام ، ومن جهة اخرى كان لا يمكنهم نسبة ذلك الوضوء إلى أعيان الأنصار كأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وغيرهما ببساطة ؛ لأنّ النّاس كانوا قد وقفوا على وضوء هؤلاء ، وإن نقل شيء يخالف وضوئهم سَيُخَطَّا من قبل الآخرين فرأوا من الأنسب أن ينسب الوضوء الثلاثي الغسلي إلى صحابي أنصاري مغمور كعبه الله بن زيد ، لا يكون محوراً للتساؤل ولا محطاً لأن تتوجه انظار المسلمين إليه ، فمع امكان نسبة الوضوء وامثاله لامثال عبد الله بن زيد من صغار الصحابة المغمورين ومع تحقق الفرض بهِ لاداعي لأن ينسب ذلك إلى كبار الصحابة.
ونحن لو وقفنا على موقف أنس بن مالك الأنصاري مع الحجاج بن يوسف الثقفي لعرفنا تخالف موقف هذا الأنصاري مع ما ينقل عن عبد الله بن زيد الأنصاري في الوضوء.
ومثله الحال بالنسبه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري الذي جاء عنه أنه كان يمسح على قدميه (3).
____________
(1) تهذيب التهذيب 5 : 223 عن ابن سعد.
(2) تهذيب الكمال 14 : 540 ، تهذيب التهذيب 5 : 223
(3) عمدة القاري 2 : 240.

(430)

وانت ترى أنّ مواقف هؤلاء الأعاظم من الأنصار كان المسح لا الغسل ، وهو يوضح لنا سر انتساب الغسل إلى عبد الله بن زيد بن عاصم المغمور دون غيره.
والعجب أنّهم يعدّونه صاحب حديث الوضوء مع أنّه كان له من العمر. حين وفاة النبي صلى الله عليه وآله 17 عاماً فقط ، ولم يعطو هذا اللقب لغيره من كبار الصحابة وقديمي الصحبة واقرباء النبي وخاصته.
في حين نعلم أنّ الصلاة افترضت قبل الاسراء (1) ، وقد افترضت الصلاة على النبي بعد نزول الوحي ، وحين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وآله أتاه جبرئيل وهو باعلى مكه ، فهمز بعقبة في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين ، فتوضأ جبرئيل ورسول الله ينظر إليه ، ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبرئيل توضأ (2)
وفي هذا الصدد قال محقق سيرة ابن هشام : فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض مدني بالتلاوة ، لأنّ آية الوضوء مدنية (3) فلو صح هذا فلماذا يختص عبد الله بن زيد بهذا اللقب دون غيره من الصحابه ؟ وما يعنى هذا ؟ نعم نحن لو تابعنا السير التاريخي للوضوء لعرفنا بصمات الفقه القرشي عليه.
إن التثليث في غسل الأعضاء وغسل الأرجل كان المدار الأوّل للاختلاف بين المسلمين في عهد عثمان بن عفان ، ثم تطوّر حتى رأينا ابن عمر يغسل رجليه سبع مرات وكان يعتبر الوضوء هو الانقاء ، وأنّ أبا هريرة كان يطيل غرته بغسل ساقيه ، حتى وصل الأمر بمعاوية أن يتوضأ للناس ، فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر ، ثم مسح من مقدمه إلى موخره ومن موخره إلى مقدمه (4).
والباحث لو تأمّل في الوضوءات البيانيّه عن رسول الله لم يشاهد زيادة (مسح الرأس مقبلاً ومدبراً) عن أحد من الصحابة الاّ عن عبد الله بن زيد بن عاصم والربيع
____________
(1) انظرهامش سيرة ابن هشام 1 : 260 عن السهيلي.
(2) سيرة ابن هشام 1 : 260.
(3) انظرهامش سيرة ابن هشام 1 : 260.
(4) سنن ابي داود 1 : 124|31.

(431)

بنت معوذ ، وحيث أنّ هذا الحكم كان يتوافق مع ما ذهب إليه معاويه بن أبي سفيان ولم يأتِ في الوضوءات البيانيّه الأخرى عن الصحابة فهذا مما يجعلنا نشككك فيه وخصوصاً بعد أن عرفنا أنّ موقف الربيع بنت المعوذ كان موقفاً أموياً ، وأن ابن عباس كان لا يرتضي حكايتها عن رسول الله.
ومثله الحال وجود نقلين عن عبد الله بن زيد بن عاصم ليس في أحدهما : غسل الرجلين ومسح الرأس مقبلاً ومدبراً و غسل الأعضاء ثلاثاً وهذا ما يرجح أن يكون الوضوء الثنائي المسحي عنه هو الأرجح.
إنّ موضوع مسح الرأس قد تغير من أيام معاويه وأخذ يفقد حكمه حتى ترى فقهاء المذاهب الأربعه يجوزون غسل الرأس بدلا من مسحه ، وان كان من بينهم من يذهب إلى كراهتها (1).
وبما أنّ مستند هذا الحكم انحصر بعبد الله بن زيد بن عاصم والربيع ولم ينقل هذا القيد عن غيرهما عن رسول الله ، وحيث عرفنا أنّ معاويه كان وراء هذا الرأى ، فلايستبعد بعد هذا أن تكون الربيع قد حكت ما يعجب معاويه وأنصاره ، أو أن ينسبوا إلى عبد الله بن زيد بن عاصم مثلَه.
وبعد هذا يحق للمطالع أن يتساءل أو يشكّك في نسبة هذا الوضوء الثلاثي الغسلي لهذا الصحابي الشاب دون غيره من أعيان الصحابة ، وخصوصاً بعد ان وقفنا على وجود وضوء ثنائي مسحي منقول ومروي عنه بلا اضطراب ولا خلل لا في المتن ولا في السند.
وبهذا فقد علمنا كلّ العلم كيف كان الأمويون ـ ومن بعدهم العباسيون ـ ينسبون كل ما يرتؤونه إلى خصومهم الفقهيين والفكريين تدعيماً لمزاعمهم.
والذي يؤكّد هذه الناحية هو إننا رأينا أن كل منقولات عبد الله بن زيد ابن عاصم عن النبي لا تتجاوز العشرين في المجاميع الحديثية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة ، ونحن وإن كنا لا ننكر صعوبة الإلمام بفقهه من خلالها فقط ، إلاّ إننا بضميمة ما قدمنا يمكننا استلال الكثير من خلالها ، والتأكّد من أنّ الوضوء الثنائي المسحي
____________
(1) انظرالفقه على المذاهب الاربعه ، للجزيري 1 : 57.

(432)

أصحّ نسبة إليه وأقرب إلى نَفَسِه ومساره الفقهي ، وإلى فقه الأنصار.
فقد روي عبد الله بن زيد أنّه رأى النبي في المسجد واضعا احدى رجليه على الاُخرى ، وروى استقاء النبي صلى الله عليه وآله وتحول ردائه ، وروى قوله صلى الله عليه وآله : « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » ، وروى قوله صلى الله عليه وآله : « لا وضوء الاّ فيما وجدت الريح أو سمعت الصوت » ، وروى قوله صلى الله عليه وآله : « إنّ ابراهيم حرّم مكة ودعا لها حرّمت المدينة كما حرّم ابراهيم مكة ودعوت لهم في مدّها وصاعها مثل ما دعا به ابراهيم لمكة » ، وروى قضية توزيعه صلى الله عليه وآله الغنائم يوم حنين على المؤلّفة قلوبهم دون الأنصار وترضّي النبي لهم ، وروى قول النبي صلى الله عليه وآله في حقّه وحقّ أهله : « رحمة الله عليكم اهل البيت » ، وروى أنّ النبي توضّأ مرّتين مرّتين ، وروى أنّه صلى الله عليه وآله تمضمض واستنشق من كف واحد ، ورُوي عنه كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وآله.
وها نحن نرى أنّ جميع منقولاته هذه توافق نهج التعبد المحض ، وما رواه كبار الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وليس فيها ما يخالفهم إلاّ في هذا الموضع المتنازع فيه وهو الوضوء ، فما هو سرّ ذلك ؟!
ولماذا التأكيد على الوضوء الغسلي الماسح للرأس مقبلاً ومدبراً بماء جديد دون سائر المفردات الفقهية الأخرى ؟!
وهل عجز الصحابة الكبار وقدماء الصحبة عن أن يبيّنوا حكم الوضوء الذي عرفت كيفيته منذ بدء نزول الوحي ، حتّى يُفرَد هذا الصحابي الشاب المعارض للاجتهاد والقرشين والأمويين فقهاً وسياسةً ببيان الوضوء العثماني الأموي الاجتهادي ؟!
وبهذا قد تكون عرفت سبب تعريفه غالباً « بصاحب حديث الوضوء » ؟! وأنّه يدل على مزعمةٍ كالتي زُعمت في عبد الله بن زيد الذي أُري الأذان ؟! على أنّ رواية عبد الله بن زيد للوضوء مرّتين مرّتين ، فيه تعضيد للوضوء المسحي الذي لا يجيز التثليث ، كما أنّ روايته : « ان النبي توضّأ فجعل يدلك ذراعيه » تؤيد الوضوء الثنائي المسحي لأنّ المصرّح به ـ أي الدلك ـ يتوافق مع الوضوء بماء قليل ، لابماء كثير وتثليث للغسلات وغسل للمسوحات ، لأنّ المدّ لا يكفي لذلك كما اكدنا ذلك مراراً.
وعليه : فالوضوء إمّا بمدّ أو ثلثي مدّ ـ كما في رواية ابن حبان عن عبد الله ـ وأنّ


(433)

النقلين ـ الوضوء مرتين ، والدلك ـ لا يتطابق مع ما حكاه عبد الله بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله في روايات أخرى من غسله لرجليه ثلاثاً ومسحه للرأس مقبلاً ومدبراً ، لأنّ المدّ يتفق مع غسل الأعضاء مرّة ومرّتين ثم مسح الرأس والرجلين ، لعدم بقاء ماءٍ لغسل الرجلين إما افتراض وقوع ذلك مع تثليث غسل الأعضاء وخصوصاً الرجل منه فبعيد جداً.
فنحن لو قلنا بصحة روايات عبد الله بن زيد بن عاصم الغسليّة فستخالف ماجاء عنه : (أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله توضأ المرة والمرتين) أو (أنّ النبي صلى الله عليه وآله أتى بثلثي مد ماء فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه) ، وحيث لا يمكن القول بصحة النقلين معاً ، لزم الترجيح بينهما.
إنّ تخصيص الوضوء الثلاثي الغسلي بهذا الصحابي الأنصاري المعارض ليجعلنا في شك منه ، ويرجّح عندنا الوضوء الثنائي المسحي المنقول عنه عن النبي بدون كل هذه الملابسات ، بل بمعضدات من فقه الأنصار ومواقفهم السياسية بل من فقهه ومواقفه السياسيه هو بالذات.
يبدو أن الأمويين استغلوا انزواءَهُ وصغر سنّه حين وفاة النبي ، وعدم وجود الأدوار البارزة له والأضواء المسلطه عليه ، فاتخذوه وسيلة لكسب الأنصار والمتعبدين إلى جانب وضوئهم ـ العثماني الاجتهادي ـ ، وما ذلك من فعلات الأمويين ببعيد.
أضف إلى ذلك ، ما قدمناه من اضطراب روايات الغسل اضطرابا شديدا في السند ، وربما في المتن ، وخلوّ روايات المسح عن ذلك خلوّاً تامّاً ، مضيفين إليه وجود نقلين آخرين في الوضوء الثنائي المسحي عن عباد :
أحدهما عن ابيه تميم بن زيد المازني ، وقد جاءت في اغلب المصادر.
الثاني : عن عمه عبد الله بن زيد بن عاصم وهو ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
وهذين النقلين يدعمان النقل المسحي عن عبد الله بن زيد ويوضحان تقاربه لفقه الأنصار ؛ لان النقل الثاني عن عباد والذي أخرجه الطحاوي يؤيد ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه عن عبد الله أنّ النبي توضأ


(434)

مرتين ومسح برأسه ورجليه ، وهذا يتفق مع ما روى عنه من (أنّ رسول الله توضأ المرة والمرتين) و(أنّ النبي توضأ بثلثي المد ـ أو المد ـ فجعل يدلك ذراعيه).
وفي المقابل ترى الوضوء بالمد أو ثلثي المد لا يتفق غسل الأرجل والأعضاء ثلاثاً !!
وبهذا فقد عرفنا ـ على ضوء هذا النص ـ ان الأنصار كانوا يذهبون إلى المسح للامور التالية.
1 ـ لحكاية عباد المسح عن عمه عبد الله بن زيد وأبيه تميم.
2 ـ لرواية تميم ـ أخ عبد الله ـ المسح عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما في أغلب المصادر.
3 ـ لما جاء عن عبد الله بن زيد في المسح وضعف ما نسب إليه في الغسل.
ونحن لو جمعنا وضوء هؤلاء الثلاثة مع ما جاء عن أنس بن مالك الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري لعرفنا أنّ المسح كان أقرب إلى فقه الأنصار من الغسل.
وعليه فالوضوء الغسلي لا يتفق مع العقل والنقل لعدم امكان تطابقه مع المدّ أو ثلثيه ، ولمعارضته لاخبار مسحيه اخرى عنه وعن ابن أخيه عباد وبطرق متكثرة دون أي اضطراب في ذلك ، وهذا ما يؤكد ما قلناه من فقه الأنصار ، وفقه عبد الله بن زيد الأنصاري وفقه تميم بن زيد الأنصاري وفقه أنس بن مالك الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري وفقه علي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس وفقه الطالبيين. وهذا كله يقوي نسبة الوضوء الثنائي المسحي إلى عبد الله بن زيد وضعف ما يقابله من وضوء ثلاثي غسلي منسوب إليه.
ولا نغالي إذا قلنا أن القدماء ألمحوا إلى بعض هذا الأمر الذي قلناه ، وتنبهوا إلى الاختلاف المنقول عن عبد الله بن زيد. وأنّ نقطة التوقف في الاختلاف تكون عند عمرو بن يحيى. وحسبنا للتدليل على ذلك هذا النصّ عن مسند أحمد :
حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو بن يحيى ابن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زيد : أنّ النبي توضّأ.
قال سفيان : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن يحيى ـ منذ أربع وسبعين سنه ، وسألته بعد ذلك بقليل وكان يحى أكبر منه ـ قال سفيان : « سمعت منه ثلاثة


(435)

أحاديث : فغسل يديه مرتين ، ووجهه ثلاثا ، ومسح برأسه مرتين ».
قال أبي : سمعته من سفيان ثلاث مرّات يقول : « غسل رجليه مرتين » وقال مرة : « مسح برأسه مرة » ، وقال مرتين : « مسح برأسه مرّتين » (1).
فالثابت عند سفيان هو صدور حكاية الوضوء النبوي عن عبد الله بن زيد ، وهذا ما لا كلام فيه ، لكنّ النص أعلاه ينبئُنا عن حصول الارتباك وعدم الوحدة في النقل عند عمرو بن يحيى : فتارة يذكر غسل وجهه ثلاثا ، وتارة لا يذكره ، وتارة ينقل غسل يديه مرتين ، وأخرى لا ينقله ، وينقل المسح بالرأس مرّتين تارة ، وينقل المسح مرتين تارتين أخريين ، ومرّة أخرى المسح بالرأس مرّة ، ويخلو السمع الأوّل عن غسل الرجلين في حين ينقل السماع الثاني غسلهما مرتين.
وهكذا يقع الاختلاف والنقص والتفاوت الفاحش بين النقلين ، ولا مجال لافتراض هذا الاختلاف عن سفيان ، ولا يحيى بن سعيد ؛ فينحصر القاء العهدة على عمرو بن يحيى ، وذلك ما اثبتناه ، وقد قلنا بأنّ جرح ابن معين له وطعن ابن المديني فيه وتضعيف الدارقطني له كان مفسرا وانه بسبب قلة ضبطه ، وهذا الذي ذكرناه ـ فيما تقدم من الاضطراب السندي والمتني ـ جار في روايات الغسل حسبُ ، فإذا أضفت إلى ذلك معارضتها بروايات المسح ، الخالية عن كلّ هذا ، تبين بوضوح أرجحيّة الوضوء الثنائي المسحي عن عبد الله بن زيد بن عاصم ، واتضح مرجوحية ما نُسب إليه من الوضوء الثلاثي الغسلي.
____________
(1) الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد 2 : 36.