مناقشة مرويات
الربيع بنت المعوذ بن عفراء
سنداً ودلالةً ونسبةً



  • المناقشة السندية لخبرها
  • البحث الدلالي
  • نسبة الخبر إليها



  • ( 508 )


    ( 509 )

    أخرج اصحاب السنن والمسانيد أحاديث للربيع بنت المُعوذ بن عفراء الأنصارية رواها ، عنها عبد الله بن محمد بن عقيل ، والطرق إلى عبد الله كثيرة ، أهمها ما رواه سفيان بن عيينه ومعمر بن راشد ، وروح بن القاسم عنه.

    الأسانيد
    فامّا ما رواه سفيان :
    فقد أخرجه الحميدي في مسنده ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني عليّ بن الحسين إلى (الربيع بنت) المعوذ بن عفراء أسألها عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يتوضأ عندها ، فأتيتها فأخرجت إليّ إناءً يكون مداً أو مدّاً وربع بمدّ بني هاشم ، فقالت : بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى الله عليه وآله الوضوء فيبدأ فيغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما الإناء ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثاً ثلاثاً ، ويغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يغسل يديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ يمسح رأسه مقبلاً ومدبراً ، ويغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ، قالت : و قد جاءني ابن عمتك (وفي نسخة : ابن عم لك) ، فسألني عنه فاخبرته ، فقال : ما علمنا في كتاب الله إلاّ غسلتين و مسحتين ـ يعنى ابن عباس (1) ـ.
    وفي مسند أحمد : قال عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ ابن عفراء ، فسألتها عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأخرجت له ـ يعني إناءً يكون مدّاً أو نحو مدّ وربع ـ قال سفيان : كأنه يذهب إلى الهاشمي ـ قالت : كنت أخرج له الماء في هذا فيصب على يديه ثلاثاً ، وقال مرة يغسل يديه قبل أن يدخلهما ، ويغسل وجهه
    ____________
    (1) مسند الحميدي 1 : 164.

    ( 510 )

    ثلاثاً ، ويمضمض ثلاثاً و يستنشق ثلاثاً ويغسل يده اليمنى ثلاثاً واليسرى ثلاثاً ويمسح برأسه ، وقال : مرّة أو مرتين مقبلاً ومدبراً ، ثمّ يغسل رجليه ثلاثاً ، وقد جاءني ابن عم لك فسألنى ـ وهو ابن عباس ـ فأخبرته ، فقال لي : ما أجد في كتاب الله إلاّ مسحتين و غسلتين (1).

    وامّا ما رواه معمر
    فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الربيع ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله غسل قدميه ثلاثاً ثمّ قالت لنا : إنّ ابن عباس قد دخل عليّ فسألني عن هذا (الحديث) فأخبرته ، فقال : يأبى الناس إلاّ الغسل ، ونجد في كتاب الله المسح ـ يعني القدمين ـ (2).

    وامّا ما رواه روح بن القاسم
    فقد أخرج ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، عن عبد الله ابن محمد بن عقيل ، عن الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، قالت : أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذكرت أنها رأت النبي توضأ ، وأنّه غسل رجليه ـ قالت : فقال ابن عباس : أبى الناس إلاّ الغسل ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح (3)

    المناقشة
    رواة الطرق السابقة كلهم ثقات ، إلاّ عبد الله بن محمد بن عقيل ، فقد لينه بعض أهل العلم (4) ، إلا أنّهم لم يمسوه في أصل عدالته أو صدقه ، لأنّ تليينهم جاء لسوء
    ____________
    (1) مسند أحمد 6 : 358 واُنظرالسنن الكبرى للبيهقي كذلك 1 : 72.
    (2) المصنف لعبد الرزاق بن همام 1 : 22 ح 65 و عنه في كنز العمال.
    (3) المصنف لابن أبي شيبة 1 : 37 ح 99 و عنه في كنز العمال.
    (4) و لنا في نسبة الخبر إلى الربيع بعض الكلام عن أمثال هذه التلينات ومدى حجيتها ، واسبابها.

    ( 511 )

    حفظه وقلّة ضبطه وإليك أهم اقوالهم فيه :
    قال يعقوب : وابن عقيل صدوق ، وفي حديثه ضعف شديد جداً (1).
    وقال ابو معمر القطيعي : كان ابن عيينة لا يحمد حفظه (2).
    وقال الحميدي عن سفيان : كان ابن عقيل في حفظه شيء فكرهت أن ألقه (3).
    وقال ابو بكر بن خزيمة : لا احتج به لسوء حفظه (4).
    وقال الترمذي : صدوق ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد بن حنبل واسحاق بن ابراهيم والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل ، قال محمد بن إسماعيل : وهو مقارب الحديث (5).
    وقال أحمد بن عبد الله العجليّ : مدني تابعي جائز الحديث (6).
    وقال ابن حجر : حديثه ليّن ، ويقال : تغيّر بأخرة (7).
    وقال الحاكم : عمّر فساء حفظه ، فحدّث على التخمين ، وقال في موضع آخر :
    مستقيم الحديث (8).
    وقال ابو أحمد ابن عدىي روى عنه جماعة من المعروفين الثقات ، وهو خير من ابن سمعان ، ويكتب حديثه (9).
    وقال عمرو بن علي : سمعت يحيى وعبد الرحمن جميعاً يحدّثان عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، والناس يختلفون فيه (10).
    وقال الفسوي : صدوق ، في حديثه ضعف (11).
    ____________
    (1) تهذيب الكمال 16 : 81.
    (2 ـ 4) الجرح والتعديل 5 : الترجمة 706 ، تهذيب الكمال 16 : 81.
    (5) الجرح والتعديل 5 : الترجمة 706 ، تهذيب الكمال 16 : 81.
    (6) تهذيب الكمال 16 : 83 عن الثقات للعجلي الورقة 31.
    (7) تقريب التهذيب 1 : 447.
    (8) تقريب التهذيب 6 : 15.
    (9) الكامل في الضعفاء 4 : 129.
    (10) تهذيب الكمال 16 : 81.
    (11) سير أعلام النبلاء 6 : 205.

    ( 512 )

    هذه هي أهمّ الأقوال الواردة فيه ، وقد رأيت أنّ علّة التليين لا تتعدّى سوء حفظه و إلاّ فهو في نفسه ثقة صدوق ، وقد احتجّ به بعض أساطين العلم كأحمد بن حنبل والحميدى وإسحاق بن إبراهيم.
    وعليه فقد اتضح من مجموع كلمات العلماء أنّ عبد الله بن محمد بن عقيل ممّن يتابع عليه ؛ و ذلك لأنّه لم يجرح بما يمّس بوثاقته وصدقه ، بل تليينه جاء لسوء حفظه ، وهذا الضعف قد يُتدارك ـ بواسطة القرائن وغيرها ـ فترتقي مرويّاته من درجة الضعف إلى درجة الحَسن ، وقد مرّ عليك (في مرويات عبد الله بن عباس المسحية) إسناد ابن ماجة عن الربيّع الّذي حُكم عليه بأنّه طريق حسن (1) ، وهذا يقتضي أنّ ما أسنده عبد الرزاق عن الربيّع ـ وكذا البيهقي عنها هنا ـ حسنٌ أيضاً لاتّحاد العلّة في الجميع ، إذ أنّ جميع رواة هذه الأسانيد ـ سوى عبد الله ـ ثقات حفّاظ ، بل إنّ بعضهم أئمّة !
    و إليك القرائن الّتي يمكن بمجموعها أن ترقى هذه الأسانيد إلى درجة الحسن.
    1 ـ روى هذا الحديث عن عبد الله بن محمد بن عقيل ثلاثة من أثبات أهل العلم.
    فالأول : سفيان بن عيينة على ما في إسناد الحميدي والبيهقي و...
    والثاني : معمر بن راشد الأزدي ، على ما في إسناد عبد الرزاق.
    والثالث : روح بن القاسم ، على ما في إسناد ابن ماجة وأبي بكر بن أبي شيبة ، والذي قال عنه الذهبي : قد وثقه الناس ،
    فرواية ثلاثة أعلام كهؤلاء عنه بمتون متّفقة بلا زيادة فيها ولا نقيصة ، لَقرينةٌ قويّة على صدور قول ابن عباس المتقدّم للربيع.
    2 ـ ظاهر كلام الترمذي هو الاحتجاج بما يرويه عبد الله بن محمد بن عقيل ، لو اتفقت مروياته مع مرويات الثقات لأنّه كان قد صدّر باب (ما جاء في مسح الرأس مرّة) بما رواه محمد بن عجلان ـ الضعيف ـ عن عبد الله ابن عقيل عن الربيع ، وقال بعد ذلك : « والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم » ، ومعنى كلامه هو احتجاجه بمرويّات
    ____________
    (1) اُنظر ص : من هذا المجلد.

    ( 513 )

    الضعفاء لو وافقت ما رواه الثقات ، أي أنّ هذه الروايات تكون حسنة بغيرها. فلو كانت رواية ابن عجلان عن عبد الله بن عقيل معتبرة ـ بنص الترمذي ـ مع أنّ فيها ابن عجلان الضعيف ، فهذه الرواية أولى بالعمل لكون الجرح هنا في عبد الله وحده.
    3 ـ إنّ الّذى رواه عبد الله بن محمد بن عقيل في هذه الإسانيد عن ابن عباس هو الأقرب للواقع ؛ لموافقته للروايات الصحيحة المسحية عن ابن عباس ولأقوال العلماء الجازمة بأنّ مذهب ابن عباس هو المسح على القدمين لا غير والّذى مرّ عليك في مرويات عبد الله بن عباس المسحيّة.
    نعم ، إنّهم يطلقون على روايات ابن عقيل وجابر الجعفي وامثالهم أنّها منكرة ، لكي لايأخذ الناس بها ، و سسيتضح لك من بحوثناإنّ النكارة عند القوم غير النكارة الحقيقية ، فالنكارة عندهم هي رواية شىء لا يرتضونه ، و ليس معناه عدم صحة تلك الروايات ، إذ إنّك ستلاحظ وجود متابعات وشواهد كثيره تدل على صحة تلك الاخبار المدعاة فيها النكارة ، و في نسبة الخبر إلى الربيّع إشارة اجمالية إلى جذور هذه المساله ودواعي هكذانسب.

    البحث الدلالي

    إنّ قول ابن عباس للربيع بنت المعوذ (أبى الناس إلاّ الغسل و لا أجد في كتاب الله إلا المسح) يوقفنا على أمور :
    الاولى : وقوع هذا القول منه لها ما بين سنة 40 إلى 60 للهجرة ، لأنّ قوله « أبي الناس » لا يحصل إلاّ بعد شيوع هذا الوضوء بينهم ، و هذا لم يحصل إلاّ في الزمن المتأخر ، لأنّا قد وضحنا سابقاً ـ في مدخل الدراسة ـ عدم اختلاف الأمة في الوضوء على عهد الرسول والشيخين ، و أنّ الخلاف قد ظهر في عهد عثمان بن عفان بالخصوص ، و رجّحنا فيه كون عثمان من الماسحين ـ في الست الاوائل من عهده ـ وأنّ قوله(إنّ ناساً) المطروح في صدر الدراسة كان المنعطف في هذا الامر ، لأنّ الأمة كانت لا ترضى به و لا بوضوئه ، بل أدى اختلافهم معه إلى إباحة دمه و قتله ، فلايصح أن يكون ـ إباء الناس إلا الغسل ! ـ في تلك الفترة من تاريخ الاسلام ، بل إنّ هذا التضاد بين الخليفة عثمان و الأمة هو الذي دعاه أن يشهد بعض الصحابة على


    ( 514 )

    وضوئه ويحمد الله على موافقتهم له.
    إذاً يكون اللقاء الأوّل بينها وبين الطالبيين ، هو ما دار بين ابن عباس والربيع في سنة 40 إلى 60 ، وقد حددناالخبر بهذه الفتره لوجود حالة الانفتاح واللين بين الصحابة ـ في عهد معاوية ـ ولاضطهاد ابن عباس في الزمن المتأخر ـ وبعد مقتل الحسين بالذات ـ وتخليه عن الافتاء.
    أمّا اللقاء الثاني فكان بين الربيع وعبد الله بن محمد بن عقيل ـ بعد مقتل الإمام الحسين ـ لأنّ إرسال علي بن الحسين ابن عمه عبد الله بن محمدبن عقيل لا يمكن تطبيقه إلاّ في هذه الفترة ، لأنّ عبد الله بن محمد بن عقيل كان قد توفى سنة 145 وهو من الطبقة الرابعة من التابعين ، وعلى بن الحسين توفى سنة 92 وهو من الطبقة الثانية ، فلا يتصور ولادة عبد الله إلاّ في العهد الأموي ، كان هذا بعض الشيء عن تاريخ النص والاسرار الكامنة فيه.
    الثانية : إنّ ما نقلته الربيع عن ابن عباس و قوله (أبى الناس إلاالغسل) يفهمنا بأنّه كان يريد من كلامه الاستدلال بثلاثة أشياء على شرعية المسح :
    الأول : استدلاله بالقرآن وأنّه لم يجد فيه غير المسح.
    الثاني : استدلاله بالسنة النبوية ، وينتزع ذلك من رفضه لنقل الربيع واعتراضه عليها ، وهذا يفهم بأنّه كان لا يقبل نقلها ، حيث لم يرى النبي صلّى الله عليه وآله قد فعل ذلك ، وهو الذي بات عنده وصلى معه ورأى وضوءه وشمله دعائه.
    الثالث : استدلاله بالرأي الزاماً منه لهم فقوله : « ألاترى سقوط التيمم في الرأس والرجلين » يفهم بأنّه كان يريد أن يلزمهم بما الزموا به انفسهم !
    الثالثة : إنّ النص السابق ـ وغيره ـ يرشدنا إلى تخالف الطالبيين مع الربيع والنهج الحاكم في الوضوء ، لأنّ إرسال علي بن الحسين عبد الله بن محمد بن عقيل ، إلى الربيع ، و مجيء عبد الله بن عباس وعبد الله بن محمد بن عقيل إليها ، لا يعنى أنّهم جاءوا ليأخذوا الوضوء عنها ، بل يرشدنا إلى أنّ موقفهم كان اعتراضي ، ومعناه أنهم لم يأتوها مستفهمين بل مستنكرين ؟! إذ لا يعقل أنّ لا يعرف ابن عباس حكم الوضوء وهو الذي بات عنده و صلى معه.
    أو أن لا يعرف علي بن الحسين وضوئه حتى يرسل ابن عمه ليسئل الربيع عنه


    ( 515 )

    ـ وهو بذاك العمر وهو من ائمة المسلمين وفقهاء أهل البيت ـ.
    وكذا الحال بالنسبة إلى عبد الله فلا يعقل أن لا يعرف الوضوء وهو من أهل بيت الرسول وهو ابن زينب الصغرى وخاله محمدبن الحنفية وابن عمه السجاد.
    الرابعة : إنّ نص الربيع وما نقلته عن رسول الله صلى الله عليه وآله في مسح الرأس مقبلاً ومدبراً لم يرد إلاّ في رواية عبد الله بن زيد بن عاصم ومعاوية ، ونحن قد تكلمنا عن ملابسات هذا الخبر وكيفية نسبته إلى عبد الله حين مناقشتنا لمروياته واحتملنا أن يكون الغسل منسوب إليه ؛ لكونه من مغموري الصحابة وأنّ الخلفاء كانوا يحتاجون إلى أنصاري يروى لهم الوضوءفوقع اختيارهم عليه ، وهذا الاحتمال لايستبعد طرحه هنا كذلك ، لأنّ الربيع لم تكن بتلك المرأة المعروفة في تاريخ الإسلام وهي أنصارية فلايستبعد أن يكونوا قد ـ نسبوا لها هذا ، أو أنّهم ـ اقنعوها بأنّ الغسل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله فنقلت الخبر اجتهاداً من عند نفسها لكن بصورة الحس والمشاهدة ، أو أنّها اجتهدت فيما رأته عن الرسول وتصورت أنّ ما فعله كان على نحو السنة ، لأنّ ماحكته ينقض بعضه بعضا ، وإنا سنوضح سقم رأيهابعد قليل في نسبة الخبر إليها.
    الخامسة : إنّ نصوص الربيع في الوضوء عن رسول الله تخالف ما اشتهر عنه فيه ، فإنها قد روت عنه صلى الله عليه وآله أنّه مسح رأسه ما اقبل منه وما ادبر وصدغيه وإذنيه مرة واحدة ، وجاء عن بقية الصحابة أنّه صلى الله عليه وآله مسح رأسه ثلاثاً ، وجاء عنها ـ في سنن ابنماجة ـ قولها : توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله فمسح رأسه مرتين (1) ، وهذا يخالف ما جاء عن عثمان وعلي وسلمة بن الأكوع بأنّه صلى الله عليه وآله مسح رأسه مرة (2).
    وقد جاء في الجامع للترمذي عنها أنّ رسول الله بدأ بمؤخر رأسه ثمّ بمقدمه ، كلتيهما ظهورهما وبطونهما.
    وهذا يخالف ما جاء عن عبد الله بن زيد بن عاصم حيث قال : بدأ صلّى الله عليه وآله بمقدم رأسه ثمّ ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدء منه.
    وفي سنن الدار قطني : قال العباس : هذه المرأة (ويعنى بها الربيع) حدثت عن
    ____________
    (1) سنن ابن ماجة 1 : 150 ح 438.
    (2) سنن ابن ماجة 1 : 150 ح 435 ، 436 ، 437.

    ( 516 )

    النبي أنّه بدأ بالوجه قبل المضمضة والاستنشاق ، وقد حدّث أهل بدر منهم عثمان وعلي رضي الله عنهما أنّه بدأ بالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه والناس عليه (1). وهناك مقاطع أخرى في خبرها تخالف به نقولات الصحابة.
    فبأي النقولات نأخذ وما هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ نترك ذلك للقاري كي يحكم فيه ؟.
    ____________
    (1) الدار قطني 1 : 96 ح 5.

    ( 517 )

    نسبة الخبر إليها

    نحن كنا قد آلينا على انفسنا ـ من أوّل الدراسة إلى هنا ـ الإشارة إلى بعض بحوثنا التأسيسية على سبيل الأجمال حين تفتقر الحاجة إليها ، وذلك لاعتقادنا بافتقار هكذا دراسات لمثلها ، لأنّ في دراسة ملابسات التشريع والمؤثرات التي أدّت إلى اختلاف المسلمين العطاء الفكري الكثير ، لكونه يوقفنا على العلل والاسباب ويفهمنا بواقع الاختلاف وجذوره و ظروفه الحقيقية والموضوعية.
    فنحن قد بيّنا أولاً في نسبة الخبر إلى ابن عباس ظاهرة اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ، ثمّ اعقبناه ببيان معالم الرأي والاجتهاد في الأحكام الشرعية ودور القرشيين في هذا التحريف ـ في نسبة الخبر إلى علي بن أبي طالب ـ ثمّ أشرنا في نسبة الخبر إلى عبد الله بن زيد بن عاصم إلى تخالف الانصار مع القرشيين في الفقه والخلافة ، والآن مع بيان ظاهرة اُخرى في هذا المضمار ، هي فاشية عند أئمة الجرح ، فإنّهم بعد أنّ عدّوا التشيع والنصب من الجروح ، نراهم يعدلون عن هذا في أغلب الأحيان ، فيأخذون جانباً ويذرون الآخر منه ، فمثلاً نراهم يعدّلون قتلة علي وعمار و... في حين يجرحون من روى في مثالب معاوية و... !
    وهكذا الحال بالنسبة لرواة الفضائل ، فهم يجرحون رواة فضائل علي (1) ، ويعتبرون محبة غيره تعديلاً (2).
    وهذا إن دلّ على شيء فهو ادل على إمتداد الاتجاهين في علم الرجال كذلك.
    وإنّك لو راجعت البخاري مثلاً لرأيته قد تجنب الأخذ عن جعفر الصادق ،
    ____________
    (1) كما مرّ عليك في ترجمة عبد الرزاق بن همّام وغيره ، اُنظرالأبواب الثلاث الأُول من كتاب « العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل » لمحمد بن عقيل ، ففيه أسماء من جرحوهم من أهل البيت وبعض محبيهم وشيعتهم.
    (2) كما سيأتي عليك فيما قالوه عن بعض محبي معاوية ، وللمزيد اُنظرالابواب الثلاث الاخيره من كتاب « العتب الجميل » ففيه تعديلهم لأعداء أهل البيت والفساق !

    ( 518 )

    ومثله الحال بالنسبة إلى الإمام مالك ، فإنّه كان لا يروي عن الصادق حتى يضمه إلى آخر (1) ، وقال ابن سعد : كان كثير الحديث ، ولا يحتج به ويستضعف (2).
    في حين نراهما ينقلان عن بعض النواصب و مخالفي الإمام علي بالخصوص ! ، وقد عاتب العلامة ابو بكر بن شهاب ، البخاري لعدم روايته عن الصادق بقوله :

    قضيةُ أشبـهُ بـالمـرزِئـــَة * هذا البخاري إمامُ الـفـئـة
    بالصادقِ الصديق ما احتَج فـي * صحيحة واحتج بالمرجـئـة
    ومـثـل عمرانَ بـن حِطانَ أو * مـروانَ وابنِ المرأةِ المخطئة
    مشـكـلـةُ ذات عــوارٍ إلى * حيرةِ اربابِ النُّـهـى مُلجئَة
    وحـقِّ بـيـت يَـمَّمَتْهُ الورى * مُغِذَّةً في السير أو مُـبـطئة
    إنّ الإمام الصادق الـمـجـتبى * بفضله الأي أتت مـنـبـئة
    أجَلُّ مَنْ في عـصـره رتـبةً * لم يقترِف في عُمرِهِ سـيـئة
    قُلامةُ من ظـفــر إبـهـامه * تعدلُ مِنْ مثل البخاري مـئة

    وقال الذهبي عنه : برُّ صادق ، كبيرُ الشان ، لم يحتج به البخاري (3).
    قال علي بن المديني : سئل يحيى بن سعيد القطان عن الصادق فقال : في نفسي منه شيء ومجالد أحب اليّ منه (4).
    فلا عجب بعد هذا أن يقدّم القطان مجالداً على الصادق ، ومجالد هو الذي قال عنه النسائي في الضعفاء والمتروكين : ضعيف (5) ، وابن معين : لا يحتج به (6) ، وأحمد
    ____________
    (1) هذا ما نقله مصعب عنه ، اُنظرتهذيب الكمال 5 : 76 تهذيب التهذيب 2 : 156.
    (2) حكاه إبن حجر عنه في تهذيب التهذيب 2 : 104.
    (3) ميزان الاعتدال 1 : 414 ترجمة 1519 ، تذكرة الحفاظ 1 : 166 ، سير أعلام النبلاء 6 : 255.
    (4) تهذيب التهذيب 2 : 104.
    (5) الضعفاء والمتروكين : 213 الترجمة 552.
    (6) ميزان الاعتدال 1 : 414 ، تاريخ الإسلام لعام 141 ـ 161 ص 288. تهذيب التهذيب 2 : 156 ، تهذيب الكمال 27 : 219.

    ( 519 )

    ابن حنبل : ليس بشيء ، يرفع كثيراً مما لا يرفعه الناس (1).
    وقال البخاري : كان يحيى بن سعيد يضعفه وكان ابن مهدي لا يروى عنه وكان ابن حنبل لا يراه شيئاً ، يقول ليس بشيء (2).
    وقال عمرو بن علي : سمعت يحيى بن سعيد يقول :... ولو شئت أن يحملها لي مجالد كلها عن الشعبي عن سروق عن عبد الله فعل (3).
    وقد عاتب العلامة صارم الدين الوزير ـ من الزيدية ـ يحيى بن سعيد القطان بقوله :

    رام يحيى بن سعـيد * لك يا جعفــر وصماً
    واتى فيك يـقــول * ترك الاسماع صُمَّاً (4)

    فلا عجب بعد هذا أن يفعلوا هكذا مع أهل بيت النبوة إذ أنهاكانت نتيجة طبيعته لسلسلة الاحداث التي مر بها تاريخ الاسلام ، ابتداءً من سن لعن علي بن أبي طالب على المنابر ، ومروراً بسم الحسن وقتل الحسين ، حتى وصل الأمر إلى ترك الأخذ عن الصادق بحجة أنّه يروي مرسلاً !
    وللشيخ محمد ابو زهرة كلام جميل في الإمام الصادق قال فيه : ومن الغريب أننا نجد بجوار هؤلاء من محدثي القرن الثالث من يشكك في رواية الإمام الصادق ـ عترة النبي ـ ويتكلم في الثقة في حديثه ( كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذباً ) و لكن التعصب المذهبي يعمي ويصم وليس في قول المغالين ولا في قول المشككين ما ينقص من مقام الإمام الصادق الجليل ، فلم ينقص من مقام جده علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كذب الكذابين عليه ، كما لم يضر عيسى بن مريم عليه السلام افتراء المفترين عليه ، ما بين منكر لرسالته ومدع لألوهيته) (5).
    نعم إنهم قالوا في النسائي : أنّه آذى نفسه بكلامه في أحمد بن صالح المصري (6)
    ____________
    (1 ـ 3) تهذيب الكمال 27 : 222.
    (4) اُنظرالفلك الدوار : 42 وعنه في الرواة والشهود للدكتور المحطوري : 214.
    (5) الإمام الصادق ، لابي زهرة : 39.
    (6) ميزان الاعتدال 1 : 103 الترجمة 406.

    ( 520 )

    ولم يقولوا في يحيى بن سعيد القطان أنّه اذى نفسه بكلامه في الإمام الصادق !
    ولم نرى يحيى بن معين ـ وهو إمام الجرح والتعديل ـ يقول في حريز بن عثمان والجوزجاني ـ وهم من النواصب ـ ما قاله في جارح أحمد بن حنبل : « ما احوجه إلى أن يضرب ، و شتمه (1) ! بل نراه يلين الشافعى لامور واهية (2) ، بل أنه لين بعضاً لعدم روايته في فضائل معاوية وجرح آخر لروايته في فضائل علي ؟ ! وغيرها من النصوص الدالة على تخالف النهجين في الرجال كذلك !
    فقد نقل عن ابن معين أنّه سمع الإمام أبي الأزهر ـ الذي قال فيه الذهبي ـ : ثقة بلا تردد ، يحدث عن عبد الرزاق الصنعاني حديثاً في علي.
    قال : من هذا الكذاب النيسابوري الذي حدّث بهذا عن عبد الرزاق ؟ فقام ابو الازهر ، فقال : هو ذا أنا ، فتبسم يحيى بن معين وقال : امّا أنك لست بكذاب ، وتعجب من سلامته ، وقال : الذنب لغيرك فيه (3)
    يا ترى لماذا صنع يحيى بن معين هكذا ؟
    نعم ، أنهم تكلموا في أحمد بن الازهر النيسابوري لروايته عن عبد الرزاق عن معمر حديثاً في فضائل علي ـ وحسب إدعاء بعضهم ـ يشهد القلب بانه باطل ،
    والحديث ـ المعهود هو ـ عن معمر عن الزهري عن عبد الله بن عباس قال : نظر النبي إلى علي ، فقال : أنت سيد في الدنيا ، سيد في الآخرة ، حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي ، و عدوي عدو الله ، فالويل لمن ابغضك (4)
    فقد تكلموا في عبد الرزاق لروايته هذا الحديث الذي له شواهد ومتابعات كثيرة عليه.
    فبما يمكننا أن نفسر هذه الظاهرة عند الرجاليين لو لم يصح ما قلناه.
    ____________
    (1) سير أعلام النبلاء 12 : 79 ـ 82 ، وكذا في ميزان الاعتدال.
    (2) اُنظرهامش تهذيب الكمال 24 : 380.
    (3) سير أعلام النبلاء 12 : 366 ، تهذيب الكمال 1 : 260.
    (4) المستدرك للحاكم 3 : 128 ، مجمع الزوائد 9 : 133 ، تهذيب التهذيب 1 : 11 ـ 13 ، تاريخ بغداد 4 : 41.

    ( 521 )

    بلى أنهاكانت حلقات متواصلة لنهج واحد ، فقد اتهموا الحاكم النيسابوري بالتشيع لروايته حديث الطائر المشوي و حديث من كنت مولاه فعلي مولاه في كتابه (1).
    واُتّهم خيثمة بن سليمان العابد بالتشيع لتأليفه في فضائل الصحابة ومنها فضائل علي. قال غيث بن علي : سألت عنه الخطيب فقال : ثقة ثقة ، فقلت يقال : أنّه متشيع ، قال : ما ادري إلاّ أنّه صنف في فضائل الصحابة ولم يخص احداً (2) وقد مر عليك أنّهم نقموا على عبد الرزاق بن همام لروايته الفضائل ، قال الذهبي : وما كان يغلوا فيه بل كان يحب علياً ويبغض من قاتله (3).

    لقد رابني من عامر أن عامراً * بعين الرضا يرنوا إلى من جفانيا

    و قال الآخر :

    وعيرها الواشون أنّي احبها * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (4)

    نعم أنّهم وثقوا الخارجي البغيص عمران بن حطان ـ الراثى عبد الرحمن ابن ملجم (5) ـ وقاتل الحسين عمر بن سعد (6) ، ومروان بن الحكم ـ لاعن
    ____________
    (1) اُنظرتاريخ بغداد 5 : 474.
    (2) لسان الميزان 2 : 411.
    (3) تذكرة الحفاظ 1 : 364.
    (4) خزانة الادب 9 : 505.
    (5) بقوله :

    يا ضـربة من تقي مـا أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
    إنــي لاذكـره يـوماً فأحسبه * أو في البرية عند الله مــيزاناً
    اكرم بقوم بطون الارض أقبرهُمُ * لم يخلطوا دينهم بغياً و عـدواناً
    لله دَرُّ الـمـرادي الـذي سفكت * كفاه مهجة شر الخلق انـسـاناً
    أمــس عـشية عشاه بضربته* ممـا جناه من الآثام عريــاناً

    (6) سير أعلام النبلاء 4 : 349 الميزان 2 : 258 تهذيب التهذيب 7 : 450 ، و قد سئل

    =


    ( 522 )

    علي بن أبي طالب ـ والقائل للحسين : أنتم اهل بيت ملعونون (1) خلافاً لصريح القرآن الكريم الذي يقول عنهم أنّهم أهل بيت مطهرون.
    ومثله توثيقهم لعنبسة بن خالد الأموي الذي كان يعلق النساء بالثدى والجوزجاني وحريز الناصبين.
    وفي المقابل نراهم يجرحون محبي علي ورواة فضائله و فضائل اهل بيته الذين مر عليك اسماء بعضهم.
    و قال الشاعر :

    إنّ بنيَّ ضرجــوني بالدم * وخضبوا وجهي بلون العندمِ
    من يلق أساد الرجال يُكْلم * شنشنةُ أعرِفُها مــن أخْزَم

    كان هذا بعض الشيء فيمن روى فضائل علي بن أبي طالب وما جرى على أهل بيته من مآسي ومصائب ، والان مع حكم مَن يذكر مثالب معاوية وغيره.
    فجاء في ترجمة ابراهيم بن الحكم بن ظهر الكوفي قول أبي حاتم فيه : كذاب روى في مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه (2).
    وقد جُرح عبد الرزاق بن همام لقوله ـ لمن ذكر معاوية في مجلسه ـ لا تقذر مجلسنا بذكر ولد أبي سفيان (3).
    ____________

    =

    ابن معين عن هذا القاتل أهو ثقة ؟ فقال : كيف يكون قاتل الحسين ثقة ؟ وقد حدّث يحيى بن سعيد عنه ، فقال له رجل : أما تخاف الله ؟ تروى عن عمرو بن سعد ؟ فبكى ، و قال : لا أعود يا ابا سعيد ، هذا قاتل الحسين ، أعن قاتل الحسين تحدثنا ؟ اُنظرتهذيب الكمال 21 : 257 و تقريب التهذيب 2 : 56.
    (1) سير أعلام النبلاء 3 : 478 ، مختصر ابن عساكر 24 : 181 واُنظرلعن النبي له في المستدرك للحاكم 4 : 479.
    (2) ميزان الاعتدال 1 : 27 الترجمة 73.
    (3) ميزان الاعتدال 2 : 610 الترجمة 5044.

    ( 523 )

    وقد نقل الذهبي عن الحاكم النيسابوري : أنّه تكلم في معاوية فأوذي (1).
    وقد ضُرب النسائي حتى اصابه الفتق ، لعدم روايته في فضائل معاوية ، بل تجريحه له ، وهلموا جرا فعلل و تفعلل ؟ !
    نعم أنّهم نسبوا لإبراهيم بن الحكم الكوفي ، الكذب لروايته حديثاً في معاوية لايقبلونه ، وهذا النهج كان سارياً عندهم وقد وضحنا بعضه سابقاً (2) ، وقد اشرنا إلى دور الأمويين في تحريف الاحاديث لفظاً ومعنىً ، فإنهم كانوا يُقدمون على التحريف المعنوي حينما يرون شيوع النص اللفظى بين الناس بحيث لا يمكنهم تصحيفه وتحريفه ، وقد كان عملهم هذايعمل بشكلين ، فتارة كانوا يضعون حديثاً آخر في تحريفه ، واُخرى يأتون بتأويل و تفسيرله بصورة ترضيهم بحيث يشكّك الآخرين في دلالته.
    ومثال الاول : ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة وأبي هريرة : اللهم إنما أنا بشر فايما رجل من المسلمين سببته أو جلدته أولعنته فاجعلها له زكاة ورحمه (3).
    ومثال الثاني : ما قاله بعض محبي معاوية في تأويل قوله(ص) (لا أشبع الله بطنك) ، بانها مكرمة له حتى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة لأنه صلى الله عليه وآله كان قد قال في حديث آخر (اطول الناس شبعاً في الدنيا اطولهم جوعاً يوم القيامة) (4) ، وبذلك يكون هذا النص هو دعاء له لا عليه.
    في حين إنا لو عرفنا وقت صدور النص وملابسات لاتضح لنا بأنه كان دعاً عليه
    ____________
    (1) و هو ما حكاه العماد الحنبلي عنه ، اُنظرشذرات الذهب 3 : 177.
    (2) في مدخل الدراسة راجع (الوضوء في العهدين الأموي و العباسي) منه ، ونسب الخبر في هذه الدراسه.
    (3) صحيح مسلم 4 : 2007|88 ، مسند احمد 3 : 400.
    (4) الترمذي 4 : 560 رقم 2478 وابن ماجة 2 : 1111 رقم 3350 ، سير أعلام النبلاء 3 : 123.

    ( 524 )

    وعقاباً له ، لكونه قد عصى رسول الله صلى الله عليه وآله حين ناداه ثلاث مرات ؛ لبقائه لاهياً يأكل غير مستجيباً لطلبه صلى الله عليه وآله.
    بلى إنّ معاوية كان أوّل من سنّ هذا التحريف المعنوي للاخبار وذلك عند اشتهارها عندهم وعند افتقاره لتاويلها ، فقد جاء عنه قوله يوم صفين ـ لما تناقل الناس في معسكره قول رسول الله صلى الله عليه وآله في عمار « تقتلك الفئة الباغية » : بأن علياً هو الذي قتله لأنّه الذي جاء به (1) ، ولما بلغ علياً ذاك قال : ونحن قتلنا حمزة لأنّا اخرجناه (2) !
    اُنظركيف انقلبت الموازين واختلط الصحيح بالسقيم والحق بالباطل ، وكيف صار الجرح مدحاً ، والذم فضيلة ، واللعنة رحمة ؟ ! وكيف خضعت الاُمور لسلطان القوة والقدرة ، وصارت الاُمور تخضع لهوى الناس وحب الدنيا.
    فقد نقل الذهبي عن أبي وفرة ـ يزيد بن محمدالرهاوي ـ سمعت أبي يقول ، قلت لعيسى بن يونس : أيهما أفضل : الأوزاعي أو سفيان ؟
    فقال : واين أنت من سفيان ؟
    قلت لعيسى بن يونس : أيهما افضل : الأوزاعي ، فقهه ، وفضله ، وعلمه ، فغضب و قال : أتراني أؤثر على الحق شيئاً ، سمعت الأوزاعي يقول : ما أخذنا العطاء حتى شهدنا على علي بالنفاق ، وتبرأنا منه ، وأخذ علينا بذلك الطلاق ، والعتاق ، وايمان البيعة ، قال : فما عقلت أمري ، سألت مكحولاً و يحيى بن أبي كثير ، وعطاء بن أبي رباح ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، فقال : ليس عليك شيء إنما أنت مكره فلم تقر عيني حتى فارقت نسائي ، و أعتقت عبيدي ، و خرجت من مالي ، وكفرت ايماني فاخبرني : سفيان كان يفعل ذلك (3).
    و لم تختص هذه الحالة بالتابعين وتابعي التابعين بل ، أنهاسبقتهم إلى الصحابة
    ____________
    (1) الكامل في التاريخ 3 : 311.
    (2) العقد الفريد 4 : 319.
    (3) سير أعلام النبلاء 7 : 130 ـ 131.

    ( 525 )

    قبل ذلك ، فكانوا يخالفون علياً ، إما خوفاً أو طمعاً.
    فقد أخرج الدارقطني في علله بسنده عن ابن المالكي ، حدثنا بندار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن ابيه ، عن علي بن الحسين ، عن عبد الله بن عباس : أن علياً أرسل إلى طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام فقال : قل لهما إنّ اخاكما علياً يقرؤكما السلام ويقول : ما نقمتما عليّ ؟ استأثرت بمال أو جُرتُ في حكمٍ ؟
    فقالا : و لا واحدة من ثنتين ، ولكنه الخوف والطمع (1) جئنا بما تقدم كي يتعرف القاري على نفسية بعض ائمة الجرح والتعديل وأنّ تعديلهم وجرحهم لم يخضع للمعايير العلمية فقط ، بل تأثر بالمؤثرات الخارجية كذلك.
    وكذا الحال بالنسبة إلى المنقول عن الصحابي أو التابعي ، فلا يمكن الأخذ عن اولئك باعتبار أنه صحابي أو تابعي فقط ، بل يلزم عرض المنقول عنهم على سيرته العامة وأقواله الاخرى ثمّ تصحيح هذه النسبة أو تلك وعدمها إليه ، وهذا ما قلناه كراراً ودعونا إليه في بحوثنا.
    وقد ساعدتنا النصوص السابقة للتعرف على مدى اعتبار ـ مانحن فيه و ـ قولهم في عبد الله بن محمدبن عقيل ، وهل حقاً أنه لين ، أم أنه ثقة و قد لين لامور ارتضوها ؟! ومَن هي الربيع بنت المعوذ ، وهل تأثرت بالامويين أم أنّ حكايتها للخبر جائت دون أي تأثير وتأثر باولئك ؟ !
    بل لِمَ لا يروى البخاري خبر ابن عباس (أبى الناس إلاّ الغسل ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح) في صحيحه رغم كونه على شرطه ؟! و غيرها من التساؤلات.
    نترك القاري الكريم مع حوارية عبد الله بن محمد بن عقيل مع الربيع ، جاعلين نصها دليلاً لمعرفة موقفها و بعض الملابسات ، ولا نرى ضرورة للتعليق على ماروته
    ____________
    (1) العلل للدارقطني 3 :

    ( 526 )

    عن رسول الله صلى الله عليه وآله في جواز التغني (1) أو اسباب دخولها إلى واسط (2) ـ البلدة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي لعسكره ـ لاعتقادنا بان النص السابق وحده ، وما مر في البحث الدلالي عنها كافٍ لتجسيم امتداد الاتجاهين في عهدها.
    فابن عقيل أراد بكلامه السابق أن يوقفها على خطأها في الفهم والاجتهاد لقوله لها : فبايّ شيء كان الإناء ؟
    فاجابت : قدر مد أو مدّ وربع
    فجملة (فبايّ شيء كان الإناء) يفهمنا بأن ابن عقيل أراد بكلامه بيان أمرين :
    أولهما : ارشادها إلى سقم رؤيتها لأنّه صلى الله عليه وآله لو كان يمسح رأسه مقبلاً ومدبراً لاحتاج إلى أكثر من مدّ ، لعدم استيعاب المدّ لغسل تمام أعضاء الوضوء ، و هذا التشكيك من ابن عقيل هو الذي حدى بالربيع أن تزيد في قدر المدّ ! فقالت : قدر مد بالهاشمي أو مدّ وربع.
    أي أنها انتهت إلى عدم كفاف وايفاء هذا القدر من الماء (أي المدّ) لمسح الرأس كله مقبلاً ومدبراً مع غسل الرجلين و بقية الاعضاء ثلاثاً ، فإنها أتت بتلك الزيادة ، كي تعذر نفسها.
    وثانيهما : أنّ ابن عقيل أراد أن يرى الإناء الذي كانت تصب فيه الماء لرسول الله صلى الله عليه وآله ، كي يوضح على ضوئه أن ما تقوله لا يلائم ما تفرضه من حجم الماء الذي فيه ؛ لان الماء الموجود في هذا الظرف الصغير لا يمكن معه غسل الرجلين ثلاثاً ! أي إنّ ابن عقيل اراد أنّ يوضح لها كذب كلامها وعدم تطابقه مع الواقع على وجه الدقة و التحقيق لا الحدس و التخمين ، أي أنه استفاد من النقد الداخلي للخبر للدلالة على سقم رأيها.
    هذا بعض الشيء عن استدلال ابن عقيل على الربيع ، وأنت قد عرفت سابقاً
    ____________
    (1) مسند احمد 6 : 359.
    (2) تاريخ واسط ، لاسلم بن سهل المعروف ببحشل : 74.

    ( 527 )

    وفق هذه الدراسة أن دعاة المسح كانوا غالباً يستدلون على ما يذهبون اليه بالقرآن والسنة و الرأي ، و لم يكتفوا بطرحه على نحو الإدعاء ـ كما كان يفعله الاتجاه المقابل ـ.
    وقد مرت عليك نصوص الإمام علي وكيفية تحكيمه للرأي في الزام الاخرين بضرورة مسح القدمين.
    وهكذا الحال بالنسبة إلى ابن عباس كيف استدل بالقرآن والسنة والرأي الزاماً على ما يذهب إليه.
    و مثله كان موقف انس بن مالك من الحجاج بن يوسف الثقفي.
    والان تأمل في كلام جابر بن عبد الله الأنصاري ـ الذي ختم الحجاج بن يوسف في يده كي لا يحدث ـ و مدى تطابقه مع ما حكاه عبد الله بن محمدبن عقيل عن أبيه عن جده في الوضوء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله يجزي من الوضوء مد ، ومن الغسل صاع ، فقال رجل : لا يجزينا ، فقال : وقد كان يجزي من هو خير منك وأكثر شعراً(يعني النبي) (1).
    فقد جاء في صحيح ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله مثل ما سبق عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، إذ قال له رجل : لا يكفينا يا جابر ؟
    قال : قد كفى من هو خير منك وأكثر شعراً (2).
    وقد جاء نحو هذا عن ابن عباس (3).
    وقد جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ برواية ابن عقيل ـ قوله : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا توضأ ادار الماء على مرفقيه (4) ، وهذا يتفق مع القائلين بلزوم غسل المرفقين من الاعلى إلى الاسفل !
    كانت هذه صورة اُخرى لتخالف النهجين ، اردنا عرضه بشكل آخر كي يتضح
    ____________
    (1) سنن ابن ماجة 1 : 99.
    (2) صحيح ابن خزيمة 1 : 62.
    (3) اُنظر نسبة الخبر إلى ابن عباس.
    (4) سنن الدارقطني 1 : 83 ، السنن الكبرى للبيهقي 1 : 56 باب ادخال المرفقين في الوضوء.

    ( 528 )

    معالم النهجين ، والوقوف على ما ادعيناه من كون المدونين هم الدعاة للمسح والاقرب إلى نهج التعبد المحض ، لاخذهم بالقرآن والسنة واستدلالهم بهما.
    وفي المقابل قد رأيت كيف يحكّم (اهل الاجتهاد والرأي) ما يذهبون إليه ، ولوتأملت في موقف الحجاج بن يوسف الثقفي ـ الداعي لغسل الارجل ، بحجة أنهااقرب إلى الخبث ـ مع المحدثين والمدونين ، وسبب ختمه في عنق وايدي بعض الصحابة امثال سعد الساعدي وجابر بن عبد الله الأنصاري ، لعرفت عمق المشكلة ، وأنّ اصحاب الرأي و الاجتهاد كانوا يرون المحدثين حجر عثرة أمام اجتهاداتهم ، وقد مر عليك كلام عثمان سابقاً وأنّ المخالفين له كانوا ممن يتحدثون عن رسول لقوله (إنّ ناساً يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله...).
    فبعد هذا لا يستبعد أن يكون عدم ارتضاء عبد الله بن عباس ، وابن عقيل ، وجابر بن عبد الله الأنصاري الاكثار من الماء وقولهم للرجل : (قد كفى من هو خير منك وأكثر شعراً) ، جاء للتأكيد على لزوم التعبد بقول و فعل الرسول ، وعدم السماح بالرأي والإجتهاد في مثل هكذا اُمور ، وخصوصاًبعد وقوفنا على اهتمام النهج الحاكم للمخالفة مع نهج علي وابن عباس وترجيحهم لفقه الرأي والإجتهاد على فقه النصوص ، وحيث أنّ وضوء الربيع كان يصب فيما يريداه ، وهو مما كان يدعم رأي الحجاج الثقفي وغيره ، فلا يستبعد ـ بعد هذا ـ أن يكون هذا الوضوء قد تأثر بمؤثرات ذلك العهد ، وعليه فأقل ما يمكن أن يقال في خبر الربيع أنه كان يفيد الحجاج وغيره ، ويتخالف مع وضوء علي بن ابي طالب وابن عباس المضطهدين في ذلك العصر !