زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: 211 ـ 225
(211)
    الإمام الحسين يودع ولده المريض
    الإمام الحسين يودع السيدة زينب
    الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
    عودة فرس الإمام إلى المخيم
    ذهاب السيدة زينب إلى المعركة



(212)

(213)
    كانت ساعات يوم عاشوراء تقترب نحو العصر ، دقيقة بعد دقيقة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) يعلم باقتراب تلك اللحظة التي يفارق فيها الحياة بأفجع صورة وأفظع كيفية.
    وها هو ينتهز تلك اللحظات ليقوم بما يلزم ، فقد جاء ليودع ولده البار المريض : الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام.
    وكانت السيدة زينب عليها السلام ـ والتي تفايضت صحيفة أعمالها بالحسنات ـ قد أضافت إلى حسناتها حسنةً أخرى ، وهي تمريض الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وتكفل شؤونه.
    ودخل الإمام الحسين على ولده في خيمته ، وهو طريح على


(214)
نطع الأديم (1) ، فلا سرير ولا فراش وثير ، قد امتص المرض طاقات بدنه ، لا طاقات روحه المرتبطة بالعالم الأعلى.
    فدخل عليه ، وعنده السيدة زينب تمرضه ، فلما نظر علي بن الحسين إلى أبيه أراد أن ينهض فلم يتمكن من شدة المرض ، فقال لعمته :
    « سنديني إلى صدرك ، فهذا ابن رسول الله قد أقبل ».
    فجلست السيدة زينب خلفه ، وسندته إلى صدرها.
    فجعل الإمام الحسين ( عليه السلام ) يسأل ولده عن مرضه ، وهو يحمد الله تعالى ، ثم قال : يا أبت ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين ؟
    فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « يا ولدي إستحوذ عليهم الشيطان ، فأنساهم ذكر الله ، وقد شب القتال بيننا وبينهم ، حتى فاضت الأرض بالدم منا ومنهم ».
    فقال : يا أبتاه أين عمي العباس ؟
    فلما سأل عن عمه إختنقت السيدة زينب بعبرتها ، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه ؟ لأنه لم يخبره ـ قبل ذلك ـ بمقتل العباس خوفاً من أن يشتد مرضه.
1 ـ النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان. الأديم : الجلد المدبوع.

(215)
    فقال : « يا بني إن عمك قد قتل ، وقطعوا يديه على شاطئ الفرات ».
    فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً حتى غشى عليه ، فلما افاق من غشيته جعل يسأل أباه عن كل واحد من عمومته ، والحسين ( عليه السلام ) يقول له : قتل.
    فقال : وأين أخي علي ، وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين ؟
    فقال له : يا بني ! إعلم أنه ليس في الخيام رجل إلا أنا وأنت ، وأما هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلهم صرعى على وجه الثرى.
    فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً ، ثم قال ـ لعمته زينب ـ : يا عمتاه علي بالسيف والعصا.
    فقال له أبوه : وما تصنع بهما ؟
    قال : أما العصا فاتوكأ عليها ، وأما السيف فأذب به بين يدي أبن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنه لا خير في الحياة بعده.
    فمنعه الحسين ( عليه السلام ) عن ذلك وضمه إلى صدره ، وقال له : يا ولدي ! أنت أطيب ذريتي ، وأفضل عترتي ، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال والأطفال ، فإنهم غرباء ،


(216)
مخذولون ، قد شملتهم الذلة (1) ، واليتم ، وشماتة الأعداء ، ونوائب الزمان. (2)
    سكتهم إذا صرخوا ، وآنسهم إذا استوحشوا ، وسل خواطرهم بلين الكلام ، فإنه ما بقي من رجالهم من يستأنسون به غيرك ، ولا أحد عندهم يشتكون إليه حزنهم سواك.
    دعهم يشموك وتشمهم ، ويبكوا عليك وتبكي عليهم ».
    ثم لزمه بيده وصاح بأعلى صوته : « يا زينب ! ويا أم كلثوم ، ويا رقية ! ويا فاطمة !
    إسمعن كلامي ، وأعلمن أن إبني هذا خليفتي عليكم وهو إمام
1 ـ الذلة على قسمين : ظاهرية وواقعية ، ولا شك أن المراد من الذلة ـ هنا ـ : الذلة الظاهرية .. وليست الوكاقعية ، وعلى هذا المعنى يحمل قول الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « إن يوم الحسين ... أذل عزيزنا ».
ولعل المقصود من الذلة : هو وقوع حفيدات النبوة وبنات الإمامة في أسر الأعداء ، ومعاناتهن من التعامل القاسي من أولئك.      المحقق
2 ـ النوائب ـ جمع نائبة ـ : المصائب والمتاعب التي يراها الإنسان طوال حياته. سميت بـ « النوائب » لأن الإنسان كلما تخلص من مصيبة ظهرت في حياته مصيبة أخرى ومن نوع آخر ، فكأن المصيبة اللاحقة نابت عن المصيبة السابقة ، وحلت مكانها ، فسميت بـ « النائبة ».      المحقق


(217)
مفترض الطاعة ».
    ثم قال له : « يا ولدي بلغ شيعتي عني السلام ، وقل لهم : إن أبي مات غريباً فاندبوه ، ومضى شهيداً فابكوه ». (1)

1 ـ كتاب ( الدمعة الساكبة ) للبهبهاني ، طبع لبنان ، عام 1409 هـ ، ج 4 ، ص 351 ـ 352.      المحقق

(218)

(219)
    يعتبر التوديع نوععاً من التزود من الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية من سيفارقهم وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف ألم البعد والفراق ، لأن النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على المفارقة ومضاعفاتها.
    ولهذا جاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ليودع عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة ، وودائع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة مصيبة الفراق.
    قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا يمكن تصورها.
    إنني أعتقد أن تلك الدقائق واللحظات ـ من ساعات


(220)
التوديع ـ كانت تجاوزت حدود الوصف والبيان.
    فالأحزان قد بلغت منتهاها ، والقلق والاضطراب قد بلغ أشده ، والعواطف قد هاجت هيجان البحار المتلاطمة ، والدموع متواصلة تتهاطل كالمطر ، وأصوات البكاء لا تنقطع ، والقلوب ملتهبة ، بل مشتعلة ، والهموم والغموم متراكمة مثل تراكم الغيوم.
    فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ، عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى المخيم للوداع ، ونادى : « يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع !
    فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع .. الوداع ، الفراق .. الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت للموت ؟ فإلى من أتكل ؟
    فقال لها : « يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية.
    قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله ؟


(221)
    فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك القطا لغفا ونام.
    فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى صدره ، ومسح الدموع عن عينيها.
    ثم إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : « إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم ».
    ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : « كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب !!
    فلما سمعت السيدة زينب ذلك بكت ونادت : واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها !
    فقال لها الإمام الحسين : « مهلاً يا بنة المرتضى ، إن البكاء طويل » !!
    ثم أراد الإمام أن يخرج من الخيمة فتعلقت به السيدة زينب وقالت : « مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن


(222)
نظري إليك ، وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده » ؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه.
    فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد الله للصابرين.
    فقالت : يا بن أمي طب نفساً وقر عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى.
    فقال لها الإمام الحسين : « أخيه إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول مسلوب ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء.
    ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي ؟
    فسمعت السيدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟! (1)
    وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) أوصى أخته السيدة زينب قائلاً : « يا أختاه ! لا تنسيني في نافلة الليل ». (2)
1 ـ كتاب « معالي السبطين » ج 2 ص 13 ـ 14 ، المجلس السادس.
2 ـ كتاب « زينب الكبرى » للشيخ جعفر النقدي ، ص 58.


(223)
    كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب.
    وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب عليها السلام ؟
    لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل.
    ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة : القتل والشهادة !!
    لقد ترك الإمام الحسين ( عليه السلام ) أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام.


(224)
    تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة. أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في العالم.
    والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من كل جانب.
    فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من حياة الإمام الحسين ( عليه السلام ).
    ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة.
    ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات .. كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف والوحشة.
    والآن .. نقرأ ما جاء في كتب التاريخ حول ذهاب الإمام الحسين إلى ساحة المعركة :
    ولما قتل جميع أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) ورجال أهل بيته ، ولم يبق منهم أحد ، عزم الإمام على لقاء القوم بنفسه ، فدعى ببردة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالتحف بها ، وأفرغ عليها درعه الشريف ، وتقلد


(225)
سيفه ، واستوى على متن جواده ، ثم توجه نحو ميدان الحرب والقتال ، فوقف أمام القوم وجعل يخاطب أهل الكوفة بقوله :
    « ويلكم على م تقاتلونني ؟!
    على حق تركته ؟!
    أم على شريعة بدلتها ؟!
    أم على سنة غيرتها » ؟!
    فقالوا : بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك ، وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين. (1)
    وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقف أمام القوم وسيفه مصلت في يده ، آيساً من الحياة ، عازماً على الموت ، وهو يقول :
أنـا ابن علي الطهر من آل هاشم وجـدي رسول الله أكرم من مشى كفانـي بهذا مفخـراً حين أفخر ونحن سراج الله في الخلق نزهر

1 ـ معالي السبطين ، ج 2 ص 5 ، الفصل العاشر ، المجلس الثاني.
زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: فهرس