زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: 271 ـ 285
(271)
    ومن الثابت أن العقلاء لا يقبلون أي عذر من ذلك الفرد أو الشعب الذي مر بتلك الحالة الشاذة ، لأن العقل والدين يفرضان على الإنسان أن يوفر في نفسه وقلبه وذهنه خلفية علمية ومناعة دينية وإيمانية تبعده عن هذا النوع من الحالات الشاذة ، وتحفظه من السقوط في هكذا منعطفات مصيرية محتملة.
    وذلك يحصل بتقوية الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة .. في قلب الإنسان ، ثم الإستمرار في شحن النفس بالطاقة الإيمانية التي تقوم بدور مهم في إبعاد الإنسان عن مراكز وصالات وأجواء الإنحراف العقائدي والسلوكي ، وتحميه من السقوط في مهاوي جهنم.
    أجل ..
    لقد كانت مدينة الكوفة ـ قبل عشرين سنة من تاريخ فاجعة كربلاء ـ : عاصمةً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ومركزاً لحكومته ، ومقراً لقيادته.
    وكانت السيدة زينب ـ حينذاك ـ في أوج العظمة والجلالة ، وكانت سيدات الكوفة يتمنين الحضور عندها ، وإذا كانت السيدة زينب تنظر إلى إحداهن نظرة ، أو تتكلم معها كلمة ، لكان قلبها يمتلئ فرحاً وسروراً ، وتشعر بالشرف والفخر ، لأن إبنة أمير المؤمنين نظرت إليها أو تكلمت معها !!


(272)
    ولكن اليوم .. وبعد حوالي عشرين سنة ، تغيرت الأوضاع عما كانت عليه قبل ذلك !! وأخذت الكوفة طابعاً شاذاً يختلف عما مضى ، فقد إنقلبت إلى جو من الإرهاب والإرعاب ، وانتشر الآلاف من الشرطة والجواسيس ، وهم في حالة التأهب والإستعداد ، خوفاً من هياج الناس ، وخنقاً لكل صوت يرتفع ذد السلطة.
    هذا .. ويضاف إلى ذلك : أن المئات ـ أو الآلاف ـ من الموالين للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان الطاغية ابن زياد قد سجنهم كي لا يلتحقوا بأصحاب الإمام الحسين في كربلاء.
    وهناك من أخفى نفسه في البيوت كي لا يتعرض للقتل من قبل السلطة حيث لم يستطع الإلتحاق بالإمام بسبب الأعداد الهائلة من الشرطة التي كانت السلطة قد نشرتهم في جميع نواحي وبوابات مدينة الكوفة.
    وعدا من التحق بالإمام الحسين في كربلاء ـ من أهل الكوفة ـ ونصروه ، وقتلوا في سبيل الدفاع عنه ، ويبلغ عددهم أكثر من عشرين رجل ، مذكورة أسماؤهم في الكتب المفصلة التي تتحدث عن فاجعة كربلاء الدامية.


(273)
    وذكر الطريحي في كتاب ( المنتخب ) عن مسلم الجصاص قال :
    دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة ، فبينما أنا أجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة (1) ، فأقبلت على خادم كان يعمل معنا ، فقلت : ما لي أرى الكوفة تضج ؟
    قال : الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد بن معاوية.
    فقلت : من هذا الخارجي ؟
    قال : الحسين بن علي !
    فتركت الخادم حتى خرج ، ولطمت على وجهي ، حتى
1 ـ الزعقات ـ جمع زعقة ـ : الصيحة. الزعق : الصباح ، كما في كتاب « لسان العرب » لابن منظور ، و « الصحاح » للجوهري.

(274)
خشيت على عيني أن تذهبا ، وغسلت يدي من الجص ، وخرجت من ظهر القصر ، وأتيت إلى الكناس (1) فبينا أنا واقف ، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبلت نحو أربعين شقة ، تحمل على أربعين جملاً (2) ، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة.
    وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير وطاء (3) ، وأوداجه تشخب دماً ، وهو مع ذلك يبكي ويقول :
يا أمة السوء لا سقياً لربعكم يـا أمة لـم تراع جدنـا فينا
    إلى آخر الأبيات.
    وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز ، فصاحت بهم أم كلثوم :
    يا أهل الكوفة ! إن الصدقة علينا حرام !
    وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم ، وترمي به إلى الأرض.
1 ـ الكناس والكناسة : محلة بالكوفة. كما في « معجم البلدان » للحموي.
2 ـ شقة : المحمل والهودج.
3 ـ وطاء : القماش وشبهه الذي يوضع على ظهر الجمل ، لراحة الراكب.


(275)
    كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم !!
    ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت :
    « صه يا أهل الكوفة ! تقتلنا رجالكم ، وتبكينا نساؤكم ؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله ، يوم فصل القضاء ».
    فبينما هي تخاطبهن ، وإذا بضجة قد ارتفعت ، وإذا هم قد أتوا بالرؤوس ، يقدمهم رأس الحسين ( عليه السلام ) وهو رأس زهري ، قمري (1) ، أشبه الخلق برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولحيته كسواد السبج (2) ـ قد انتصل منها الخضاب (3) ، ووجهه دارة قمر طالع (4) ـ والريح تلعب بها
1 ـ زهري : أي مشرق اللون .. رغم إنفصاله عن الجسد. وزهري : تشبيه بنجم « الزهرة » المشهورة بالإشراقة والإضاءة المميزة في نورها. والتي هي عبارة عن اللون الأبيض المشرق المزيج مع لون الورد المحمدي ، أي : اللون الأحمر الفاتح. قمري : أي : أن وجهه مستدير الشكل .. وليس مستطيلاً.      المحقق
2 ـ السبج : معرب شبه ـ : وهو حجر أسود ، يضرب به المثل في شدة السواد.
3 ـ إنتصل منها الخضاب : أي بدأ اللون الأسود يذهب من أصول الشعر.
4 ـ دارة قمر طالع : أي مستدير وجميل ، كالقمر ليلة البدر ، حيث يكون متكامل القرص وشديد الإنارة.      المحقق


(276)
يميناً وشمالاً ، فالتفتت زينب ، فرأت رأس أخيها ، فنطحت جبينها بمقدم المحمل ، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها ، وأومأت إليه بخرقة ، وجعلت تقول :
يـا هـلالاً لمـا استتـم كمالاً ما توهمت يـا شقيق فـؤادي يا أخي ! فاطم الصغيرة كلمها غالـه خسفه فأبـدى غروبا كـان هذا مقـدراً مكتوبـاً فقـد كـاد قلبهـا أن يذوبا
    إلى آخر الأبيات (1).
    وجاء في التاريخ : أن قافلة آل الرسول لما اقتربت من الكوفة ، إجتمع أهلها للنظر إليهن ، فأشرفت إمرأة من الكوفيات ـ من سطح دارها ـ وقالت : من أي الأسارى أنتن ؟
    قلن : نحن أسارى آل محمد !
    فنزلت من سطحها وجمعت ملاءاً وأزراً ومقانع ، فاعطتهن فتغطين. (2)
1 ـ كتاب « المنتخب » للطريحي ، ج 2 ، ص 464 ، المجلس العاشر. وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 45 ، ص 114 ـ 115.
2 ـ كتاب ( بحار الأنوار ) ج 45 ، ص 108 ، نقلاً عن السيد ابن طاووس.


(277)
    خطبة السيدة زينب في الكوفة
    نص خطبة السيدة زينب في الكوفة
    شرح خطبة السيدة زينب في الكوفة
    كيف ولماذا قطعوا على السيدة زينب خطابها
    نص خطبة السيدة زينب برواية أخرى



(278)

(279)
    تعتبر خطبة السيدة زينب ـ في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام ـ في ذروة الفصاحة ، وقمة البلاغة ، وآيةً في قوة البيان ، ومعجزة في قوة القلب والأعصاب ، وعدم الوهن والانكسار أمام طاغية بني أمية ومن كان يحيط به من الحرس المسلحين ، والجلاوزة والجلادين الذين كانوا على أهبة الإستعداد ينتظرون الأوامر كي ينفذوها بأسرع ما يمكن من الوقت.
    وهنا سؤال قد يتبادر إلى الذهن وهو :
    إن السيدة زينب كانت سيدة المحجبات المخدرات ، ولم يسبق لها أن خطبت في مجلس رجال أو معجم عام ، وليس من السهل عليها أن ترفع صوتها وتخطب في تلك الأجتماعات ، فلماذا قامت السيدة بإلقاء الخطب على مسامع الجماهير مع تواجد الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ؟


(280)
    ومع العلم أن الإمام زين العابدين كان أقوى وأقدر منها على فنون الخطابة ، وأولى من التحدث في جموع الرجال ؟
    لعل الجواب هو : أن الضرورة أو الحكمة إقتضت أن يسكت الإمام زين العابدين طيلة هذه المسيرة كي لا يجلب إنتباه الناس إلى قدرته على الكلام ، وحتى يستطيع أن يصب جام غضبه كله على يزيد ، في الجامع الأموي ، بمرأى ومسمع من آلاف المصلين الذين حضروا يومذاك لأداء صلاة الجمعة خلف يزيد.
    فلو كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يخطب في أثناء هذه الرحلة .. في الكوفة وغيرها ، فلعله لم وين يكن يسمح له بالخطابة في أي مكان آخر ، فكانت تفوته الفرصة الثمينة القيمة ، وهي فرصة التحدث في تلك الجماهير المتجمهرة في الجامع الأموي ، علماً بأنه لم يبق من آل الرسول في تلك العائلة رجل سوى الإمام زين العابدين.
    ولهذا السبب كانت السيدة زينب تتولى الخطابة في المواطن والأماكن التي تراها مناسبة.
    وليس معنى ذلك أنها فتحت الطريق أمام النساء ليخطبن في جموع الرجال ، أو المجتمعات العامة كالأسواق والساحات وغيرها ، بل إن الضروري القصوى كانت وراء خطبتها عليها السلام.
    هذا أولاً.
    ثانياً : لقد كانت حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مهددة بالخطر طوال هذه الرحلة ـ وخاصة في الكوفة ـ فكم من مرة


(281)
حكموا على الإمام بالقتل والإعدام ، لولا أن دفع الله تعالى عنه شرهم ؟!
    فما ظنك لو كان الإمام ( عليه السلام ) يخطب في شارع الكوفة أو في مجلس الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد ، والحال هذه ؟!
    هل كان يسلم من القتل ؟
    طبعاً : لا.
    إنهم أرادوا أن يقتلوه وهو ـ بعد ـ لم يخطب شيئاً ، فكيف لو كان يخطب في الناس ويكشف لهم عن مساوئ بني أمية ومخازيهم ، ويبين لهم أبعاد ومضاعفات جريمة مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه وأهل بيته ؟؟!


(282)

(283)
    والآن .. نذكر نص الخطبة ، ثم نشرح بعض كلماتها :
    قال بشير بن خزيم الأسدي (1) :
    ونظرت إلى زينب بنت علي ( عليه السلام ) يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها (2) ، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (3) ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا.
1 ـ المصادر التي تذكر خطبة السيدة زينب في الكوفة كثيرة ، ونحن اعتمدنا على كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ( رضوان الله عليه ).
2 ـ خفرةً : المرأة الشديدة الحياء.
3 ـ تفرغ : تصب ، الإفراغ « الصب ، قال تعالى : « أفرغ علينا صبراً ».


(284)
    فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثم قالت :
    « الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار.
    أما بعد :
    يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر !!
    أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة.
    إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.
    ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف ؟ والصدر الشنف ؟ وملق الإماء ؟ وغمز الأعداء ؟
    أو كمرعى على دمنة ؟ أو كفضة على ملحودة ؟
    ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
    أتبكون ؟ وتنتحبون ؟
    إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً.
    فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً.
    وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ؟ ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهلا الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ،


(285)

ومنار حجتكم ، ومدرة سنتكم ؟؟
    ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.
    وَيلكم يا أهل الكوفة !
    أتدرون أيّ كبدٍ لرسولا لله فَرَيتُم ؟!
    وأيّ كريمةٍ له أبرزتم ؟!
    وأي دم له سفكتم ؟!
    وأيّ حرمةٍ له هتكتم ؟!
    لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء.
    أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون.
    فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد ». (1)
    قال الراوي : « فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حَيارى
1 ـ كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، المتوفّى سنة 664 هـ ، ص 192 ـ 193.
زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: فهرس