زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: 331 ـ 345
(331)
فعدم تعجيل العقوبة لا يعني أن الأمور منفلتة من يد الله الغالب القاهر العلي القيدر ، فهو المهمين على العالم كله. لكنه قد يؤخر الجزاء لأسرار وحكم يعلمها سبحانه ، فهو لا يعجل العذاب للعاصين ـ أحياناً أو غالباً ـ ولكنه بالمرصاد ، فكما أن الجندي الذي يجلس وراء المتراس يراقب ساحة الحرب ، وينتظر الوقت المناسب للهجوم أو لإطلاق القذيفة ، كذلك العذاب الإلهي ينزل في التوقيت المناسب .. مع ملاحظة سائر أسرار الكون. ولا مناقشة في الأمثال.
    قال تعالى : « ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ». (1)
    وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) أنه قال : « ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشاجا من مساغ ريقه ». (2)
1 ـ سورة إبراهيم ، الآية 42 و 43.
2 ـ نهج البلاغة ، طبع لبنان ، المطبوع مع تعليقات صبحي الصالح ، ص 141 ، خطبة 97.


(332)
    « فإنه لا يحفزه البدار »
    « يحفزه » يقال : تحفز في مشيه : أي جد وأسرع (1) فهو محتفز : أي : مستعجل (2) والحفز : الإعدال في الأمر للبطش وغيره.
    « البدار » يقال : بدر إلى الشيء مبادرةً وبداراً : أسرع (3) وبدر فلاناً بالشيء : عاجله به. (4)
    تقول السيدة زينب ( عليها السلام ) : إعلموا ـ يا أهل الكوفة ـ : أن عدم نزول العذاب الإلهي عليكم .. ليس سببه الإهمال ، فإن الله تعالى لا تدفعه العجلة إلى إنزال العذاب ، لأن الحكمة الإلهية تجعل إطاراً للمقدرات الكونية ، ومنها : إختيار التوقيت المناسب لنزول العذاب ، وإختيار نوعيته.
    هذا أولاً ..
    وثانياً .. لقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سأل ربه أن لا يعاجل أمته
1 ـ المعجم الوسيط.
2 ـ مجمع البحرين للطريحي.
3 ـ نفس المصدر.
4 ـ المعجم الوسيط.


(333)
بالعذاب في الدنيا ، واستجاب الله تعالى لرسوله ذلك ، فجعل من القوانين الكونية عدم نزول العذاب الغيبي على الأمة الإسلامية ـ في الدنيا ـ كرامةً واحتراماً لرسول الله ، وهذه الكرامة لم تكن لغير نبي الإسلام ، من الأمم السالفة ، والأنبياء السابقين في الزمن.
    فمعنى قول السيدة زينب ( عليها السلام ) : « فإنه لا يحفزه البدار » أي : لا يحث الله ـ سبحانه ـ شيء على تعجيل العقوبة والإنتقام ، لوجود أسباب وأسرار كونية ، ولعدم خوف إنفلات المجرم من قبضة العدالة الإلهية. ونقرأ في الدعاء : « ولا يمكن الفرار من حكومتك ».
    « ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربك لبالمرصاد »
    فسوف يأتي الإمام المهدي المنتظر ( عجل الله ظهوروه ) وينتقم من قتلة الإمام الحسين .. في الدنيا ، أما في الآخرة .. فستكون أول دفعة ـ من البشر ـ يؤمر بهم إلى نار جهنم : هم قتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ).
    المرصاد : المكمن ، وهو المكان الذي يختفى فيه عن أعين الأعداء ، بانتظار التوقيت المناسب للهجوم أو الدفاع


(334)
    قال الراوي :
    « فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم (1). ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمي !! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ».
    إلى هنا إنتهى ما هو مذكور في الكتب حول نص الخطبة ، وللقارئ الكريم أن يتساءل : ماذا حدث بعد ذلك ؟
    الجواب : هذا ما ستقرؤه في الصفحات القادمة إن شاء الله.
1 ـ لعل وضع أيديهم في أفواههم كان من أجل حبس أصوات بكائهم كي لا تغطي على صوت السيدة زينب ( عليها السلام ) وبذلك يستمروا في الإستماع إلى خطبتها ، أو كان ذلك لعض أصابعهم بسبب شدة الندم والتأثر للجريمة التي ارتكبوها ، أو المصيبة الكبرى التي نزلت بالإسلام والمسلمين.      المحقق

(335)
    كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) الشجاعة المفجوعة تتكلم بصوت شجي ، وكل كلمة منها تلهب احاسيس الحزن والأسى والندم في الناس ، حتى ضج الناس بالبكاء والعويل ، وارتبكت قوات الأمن والشرطة ، وصار كل إحتمال للتمرد والإنتفاضة وارداً ، فكيف يتصرفون ؟!
    وماذا يصنعون حتى يقطعوا على السيدة زينب خطابها ، ويصرفوا أذهان الناس إلى شيء آخر ؟!
    هناك من يقول : أمروا بحركة القافلة ، وجاؤا بالرمح الذي عليه رأس الإمام الحسين ( عليه السالم ) وقربوه من محمل السيدة زينب ، وتعالت صرخات الناس : هذا رأس الحسين .. هذا رأس الحسين !!
    وكانت عينا الإمام مفتوحتين ، وهو ينظر نظرةً فريدة ، وصفها المؤرخون بقولهم : « شاخص ببصره


(336)
نحو الأفق » !
    وهنا لم تستطع السيدة زينب أن تستمر في الخطبة رغم شجاعتها وانطلاقها بالكلام ، فهاج بها الحزن من ذلك المنظر الذي وتر أعصابها ، وأوشك أن يقضي عليها .. بسبب الألم الذي بدأ يعصر قلبها العطوف عصرةً يعلم الله درجتها.
    فكان رد الفعل منها أنها نطحت جبينها بمقدم المحمل .. وبكل قوة ، حتى سال الدم من رأسها وجبهتها ، وأومأت ( أي : أشارت ) إليه بخرقة ـ حسب العادة ، العشائرية المتبعة يومذاك ، عند رؤية جنازة الفقيد الغالي ـ ، وشاهدت أن الناس يشيرون بأصابع أيديهم إلى رأس الإمام الحسين ، كما يشيرون إلى مكان وجود الهلال في أول ليلة من الشهر !
    فنادت السيدة زينب ( عليها السلام ) :
يـا هلالاً لمـا استتم كمالا ما توهمت يا شقيق فؤادي غالـه خسفه فأبدى غروبا كـان هذا مقـداراً مكتوبا
    ويتصور أحد الشعراء ـ وهو الحاج هاشم الكعبي ـ ذلك


(337)
الموقف الحزين ويقول : كانت مع السيدة زينب ( عليها السلام ) في محملها بنت صغيرة للإمام الحسين ( عليه السلام ) فحينما رأت رأس أبيها بدأت تناديه : يا أبه .. يا أبه .. كلمني أين كنت ! ولما لم تسمع جواباً إنفجرت بالبكاء الشديد ، فنادت السيدة زينب مخاطبةً رأس أخيها العزيز :
أخي : فاطم الصغيرة كلمها فقـد كاد قلبهـا أن يذوبـا
    الإحتمال الثاني : أن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) تقدم إلى عمته ـ ولعل ذلك كان بأمر من الشرطة ـ وقال : يا عمة ! اسكتي ، ففي الباقي من الماضي إعتبار ، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر ، فسكتت. (1)
1 ـ الإحتجاج للشيخ الطبرسي ، طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 2 ص 305.

(338)

(339)
    وروى الشيخ الطبرسي في كتاب « الإحتجاج » نص الخطبة مع وجود بعض الفروق بين النسختين ، ونحن نذكر ذلك ، تتميماً للفائدة :
    قال حذيم الأسدي : لم أر ـ والله ـ خفرةً قط انطق منها ، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي ( عليه السلام ) وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا ، فارتدت ، الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت ـ بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله ـ : « أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر والخذل. (1)
1 ـ الخذل : ترك النصرة والإعانة. مجمع البحرين للطريحي.

(340)
    ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة.
    إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، هل فيكم إلا الصلف والعجب ، والشنف ، والكذب ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
    أتبكون أخي ؟!
    أجل ـ والله ـ فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فقد أبليتم بعارها ، ومنيتم بشنارها ، ولن ترحضوها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي كلمكم ، ومفزع نازلتكم ، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ، ومدرة حججكم ، ومنار محجتكم.
    ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ، وساء ما تزرون ليوم بعثكم ، فتعساً تعساً !! ونكساً نكساً !! لقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ..
    أتدرون ـ ويلكم ـ أي كبد لمحمد ( صلى الله عليه وآله


(341)
وسلم ) فرثتم ؟!
    وأي عهد نكثتم ؟!
    وأي كريمة له أبرزتم ؟!
    وأي حرمة له هتكتم ؟!
    وأي دم له سفكتم ؟!
    لقد جئتم شيئاّ إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هداً ؟!
    لقد جئتم بها شوهاء ، صلعاء ، عنقاء ، سوداء ، فقماء ، خرقاء ، كطلاع الأرض ، أو ملء السماء.
    أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وهم لا ينصرون.
    فلا يستخفنكم المهل ، فإنه ( عز وجل ) لا يحفزه البدار ، ولا يخشى عليه فوت الثار ، كلا إن ربك لنا ، ولهم لبالمرصاد ، ثم أنشأت تقول ( عليها السلام ) :
مـاذا تقـول إذ قـال النبي لكم بأهـل بيتـي وأولادي وتكرمتي مـاذا صنعتـم وأنتم آخر الأمم منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم


(342)
ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم إنـي لأخشى عليكم أن يحـل بكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي مثـل العذاب الذي أودى على إرم
    ثم ولت عنهم ... » إلى آخر الرواية. (1)
1 ـ كتاب « الإحتجاج » للشيخ الطبرسي ج 2 ص 304 ـ 305 ، طبع ايران ، عام 1404 هـ ، وذكرت هذه الخطبة في الكتب التالية :
1 ـ مجالس الشيخ المفيد.
2 ـ أمالي الشيخ الطوسي.
3 ـ بلاغات النساء ، لابن طيفور.
4 ـ مقتل الإمام الحسين ، للخوارزمي.
5 ـ البيان والتبيين ، للجاحظ.
6 ـ روضة الواعظين ، للفتال.
7 ـ مطالب السؤول ، لمحمد بن طلحة الشافعي.
8 ـ مناقب آل أبي طالب ، لإبن شهر آشوب.


(343)
    دار الإمارة
    السيدة زينب في مجلس ابن زياد
    ماذا جرى بعد ذلك ؟



(344)

(345)
    كانت دار الإمارة في الكوفة ـ قبل حوالي عشرين سنة من فاجعة كربلاء ـ مقراً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وكانت السيدة زينب تعيش في ذلك المكان في ظل والدها أمير المؤمنين ، وهي في أوج العزة والعظمة ، وفي جو مملوء بالعواطف والإحترام ، فيما بين إخوتها وذويها.
    والآن ! وبعد عشرين سنة أصبحت دار الإمارة مسكناً للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد ، وتبدلت معنويات دار الإمارة مائة بالمائة ، فبعد أن كانت مسكن أولياء الله ، صارت مسكن الد أعداء الله ، وألأم خلق الله.
    واليوم دخلت السيدة زينب إلى دار الإمارة ، وهي في حالة تختلف عما مضى قبل ذلك.
    ذكر الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد ) ما يلي :
    ثم إن ابن زياد جلس في قصر الإمارة ، وأذن للناس إذناً عاماً ، وأمر بإحضار رأس الإمام الحسين ( عليه السلام ) فأحضر
زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: فهرس