سلسة المعارف الإسلامية
38





الزيارة والتوسل


صائب عبدالحميد

تحظى إصدارات المركز
بالمتابعة والتقويم والإشراف العلمي


مركز الرسالة


( 5 )

مقدِّمة المركز

الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين..
وبعد.. إنّ زيارة قبر النبيِّ الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام والأولياء والصالحين من هذه الاَُمَّة، وشدَّ الرحال إليها، والتوسُّل والاستشفاع بهم، تُعدُّ من ربات التي ندب الشرع إليها، وقرَّرتها السيرة العملية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأكدت النصوص الإسلامية عند سائر فرق الاَُمَّة على شرعيَّتها وثبوتها، ومارسها المسلمون منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الاَوَّلين فالتابعين لهم بإحسان ثُمَّ في أدوارهم المتتابعة إلى يومنا هذا.
وليست الزيارة حالة من حالات التعامل الجامد مع أكوام الحجارة والتراب، كما يصفها البعض، وإنَّما هي صيغة واعية تمارسها الاَُمَّة لتعبِّر عن عمق ارتباطها بخط الأولياء، وتنطوي على تأصيل حالة الولاء والحبِّ لرموز مسيرتها، وتستبطن مزيداً من العطاءات العقائدية والتاريخية والتربوية التي تشدُّ الاَُمَّة إلى عقيدتها وتاريخها وقادتها الرساليين.
فمن معطياتها العقائدية أنَّها تمثل حالة من حالات الانشداد إلى الله سبحانه، ذلك لاَنَّ الزائر إنَّما ينوي في زيارته التقرُّب إلى الله تعالى، ويشتغل ضمن الآداب المسنونة في الزيارة بالصلاة والدعاء والتضرُّع والتوسُّل وقراءة القرآن وغيرها من الاَوراد والآداب التي تعكس حالات الاِذعان إلى الاِرادة الاِلهية القاهرة، وإخلاص العبودية للواحد الحقِّ،


( 6 )

فضلاً عن أنَّ نصوص الزيارات والاَدعية الخاصَّة بالزيارة، تمثِّل مدرسة تلقِّن المسلمين أصول العقيدة الاِسلامية والانفتاح على جميع مفرداتها ومضامينها. ثُمَّ إنَّ من القبور ما يمثل معلماً من معالم الرسالة وشاهداً من شواهد التاريخ، فزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعمق علاقة الزائر الروحية بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعزز فهمه لاَبعاد شخصيَّته ومكارم أخلاقه وإخلاصه لله، ودوره في تبليغ الرسالة وتجسيد معانيها، وتفتح ذاكرته على تاريخ الرسالة بكلِّ ما يزخر به من أحداث تعود بوعيه إلى الاَصالة التاريخية في مسيرة الاَُمَّة وما فيها من دروس وعبر.
ومن معطياتها التربوية أنَّها تبعث في نفس الزائر حالة التذكير باليوم الآخر حيث يستحضر في وعيه حتمية الموت والموقف بين يدي الله تعالى، فيمتلىَ وجدانه ومشاعره بفيضٍ من قيم الخير والفضيلة والصلاح، ويندفع باتجاه تنمية نزعات نفسه الخيِّرة وردعها عن سبيل الغي وترويضها على طلب الخير.
ومن معطياتها الجهادية والسياسية استلهام مواقف الجهاد الفاعلة في تاريخ الإسلام، والتعاطي مع قيم الشجاعة والبطولة، والاِدانة للسياسات الظالمة في تاريخ الأمَّة، والحفاظ على ديمومة العطاء الثوري لدماء الشهداء.
من هنا فقد أقدم مركزنا على نشر هذه الدراسة المستوفية والموجزة لتُسهم في تعزيز أدلَّة الزيارة والتوسُّل في ضمير الاَُمَّة، والتحقُّق من كونها سُنَّة ثابتة على طول المسيرة التاريخية، مع ما توفَّرت عليه من مناقشة علمية جادَّة لما أُثير حولها من شبهات لتكون دافعاً يشدُّ الاَُمَّة بقدوتها ويربطها بتاريخها المشرق ورسالتها الخالدة.
والله سبحانه من وراء القصد وهو المسدِّد للصواب..
مركز الرسالة


( 7 )

المقدِّمة

في مرافئ الحياة، كل مرافئها، أقامت الشريعة السمحة مآذن تحثُّ على خير العمل، ومنابر للدرس والاِرشاد، ومشاعل تنير الجوانب والمداخل وبين النواحي والاَطراف..
ذلك هو شأن الشريعة، وسبيلها إلى مقاصدها في إحياء الاَنفس، ولمِّ شتات المجتمعات، وإعمار الاَرض، وتسوية الطريق إلى أحسن العواقب بعد الموت، وبعد فناء الدنيا..
وليست تعرف الشريعة فيصلاً بين عبادة المرء ربّه، وبين ممارساته شؤونَه الخاصة والعامة، فرداً له كيانه الخاص، وعضواً في أُسرة وفي مجتمع.
فليس في الشريعة شيء من العبادات أو القربات من شأنه أن ينعزل بالمرء عن تلك المقاصد والسبل.. ليس فيها خرافة يهوّم بها الاِنسان بعيداً عن واقعه كعضو في مجتمع، وكفردٍ سائر إلى غاية هي مصيره الاَبدي..
ليس فيها ما يحنِّط مشاعره، ويجمِّد أحاسيسه، ويميت خُلُقَه.. وكل ما انتهى بالمرء إلى نتائج خطيرة كهذه فهو ليس من الشريعة في شيء، وإن اتخذ له من بعض أحكامها عنواناً..
وزيارة القبور لا تشذُّ عن هذه القواعد العامَّة ولا يخرج عن إطارها، ومثلها


( 8 )

التوسُّل بالاَنبياء والصالحين، فإذا كانت الشريعة قد أباحت ذلك، أو حثَّت عليه، كما ستثبت مباحث هذا الكتاب، فإنّه داخل في إطارها، جارٍ على مسارها، باتجاه أغراضها ومقاصدها.
ولمّا كان للشريعة مسارها، فهي كلّما شرَّعت فعلا، أو أقرَّته، رسمت له حدوداً، ووضعت له آداباً، بها فقط ينضبط هذا الفعل في مسارها، وسيخرج عن هذا المسار بقدر خروجه عن تلك الحدود والآداب.. كما ستُنتزع من الفعل شرعيَّته إذ ما استبطن غاياتٍ أُخرى خارجةً عن أهداف الشريعة ومقاصدها.
وقليل من الناس هم الذين يستحضرون غايات العبادات وأهدافها الكبرى التي تتجاوز حدود الطاعة المتمثِّلة بالاَداء الصحيح لها الملتزم بأحكامها وآدابها، فكم من بين مئات الاَلوف من الحجيج الذين يؤدُّون كلَّ عامٍ فريضة الحجِّ، يستحضر وهو يؤدِّي مناسكه ما في كل واحدةٍ من هذه المناسك من دروسٍ تربويةٍ وأهدافٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ كبيرة؟
بل كم من هؤلاء من ينظر إلى الوراء، إذا غاب عنه النظر إلى أمام، ليستحضر المواقف التاريخية الكبيرة التي امتزجت بهذه المناسك منذ تشريعها؟
والظاهرة ذاتها قريبة جدّاً في شأن زيارة القبور، قبور الاَنبياء والاَئمة الاَطهار وكبار الصالحين كانت، أم عموم المقابر، فالزيارة وإنْ كانت بذاتها ذات أثر شرعي، وأنَّ قصدها لوحدها لا يحبط العمل، بل لا يحرم صاحبه الاَجر والثواب، فإنّ الصحيح أنّ الشريعة لم تشرِّع الزيارة لذاتها، بل لعوائد كثيرة تعود على الميِّت، كما تعود على الحي، وأنّ من يفقه هذا لهو أفضل بكثير من الطراز الاَول، مع فرض تساويهما في صدق النيّة وحسن الالتزام بأحكام الشريعة وآدابها.


( 9 )

فكم هو شاسع الفرق بين أن يقف المرء عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسكونٍ وهيبةٍ وخشوع، يصلِّي ويسلِّم عليه وعلى آله بأكمل الصلوات والتحيّات، ويرتِّل المشروع من الدعاء، عارفاً بمقام النبي الكريم، مستحضراً عظمته وعظمة ما أدّاه من أثر في إحياء بني الاِنسان، مجدّداً معه عهد الاقتداء بسلوكه العظيم.. وبين أن تغيب عنه كل هذه المعاني الجليلة.
فلابدّ إذن من فقه بالعبادات، فقه بأحكام الشريعة كلّها، الفقه الكافي في المحافظة على صورتها، كأقرب ما تكون إلى الكمال.. ولابدّ إلى جانب هذا الفقه من وعي بأبعاد هذه الاَحكام وأهدافها ومقاصدها العامة التي لاَجلها بالدرجة الاَولى شرّعت، أو التي ستنعكس عنها.
ومن بين هذه الاَهداف المقصودة من وراء الزيارة تركيز ضرورة الاقتداء بهؤلاء العظماء، وتجديد العهد معهم، وتعضيد المعرفة بحقوقهم، ولا شك في أنّ هذا الهدف مقصود لوحده في الشريعة، وقد أمرت به وحثَّت عليه، وجعلت له أبواباً ومداخل كثيرة، وهذه واحدة من تلك الاَبواب والمداخل، بل لعلَّها من أهمِّها، لما تزرعه في الزائر من شعور بالقرب الاَكيد من النبي أو الاِمام المَزور.
والاَُمّة إنّما تحيا بأسباب، ومن أهم أسباب حياتها هو تمجيدها عظمائها، وإحيائها ذكرهم، الاَمر الذي سيجعلهم أحياء فيها على الدوام، وإن بعُدت بهم القرون.
وبهذا الفقه والوعي يندفع الضجيج الذي يثيره البعض حول مشروعية الزيارة، بحجّة ما يصدر من كثير من الزائرين من أخطاء تمتزج بأعمالهم في الزيارة، فإذا كانت هذه الاَخطاء يجب تجنُّبها، وهو كذلك، فإنّها أيضاً لا تكون


( 10 )

بحالٍ من الاَحوال ذريعةً إلى تحريم عمل مشروع، كلَّلته الشريعة بأغراض سامية، ووعدت أصحابه بجزيل الثواب إذا ما حفظوا حدوده وآدابه..وما يقال في الزيارة يقال في التوسُّل والاستشفاع.
ومن هنا تأتي أهمية الكتابة في موضوع كهذا..
فهو موضوع تتعدَّد فيه أطراف الحوار والجدل، بين الفعل ومشروعيته، وبين فضائله وأهدافه وعوائده، وبين حدود وآداب عرَّفتها الشريعة ينبغي تجديد الاِرشاد إليها والتذكير بها، وبين شبهات علقت بأذهان البعض، لسبب أو لآخر، فحاولوا قطع السبيل إلى عمل مشروع، وتشويه صورته، عن خطأ في الفهم أحياناً وعن تقليد وإصرار واتّباع للهوى أحياناً أخرى..
وقد نهض هذا الكتاب بذلك كلِّه في أوجز عبارةٍ وأركزها..
وقد جاء في قسمين:
تناول الاَول منهما مباحث الزيارة في أربعة فصول.
وتناول الثاني مباحث التوسُّل في مدخل وفصلين.
آملين أن يحقِّق أغراضه التي من أجلها كُتب.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.


( 11 )

القسم الاَول

الزيارة وأدلَّتها



( 13 )

الفصل الاَول

الزيارة ـ مشروعيتها ـ أهدافها ـ فضيلتها

الزيارة لغةً واصطلاحاً:
الزيارة، من الزَّور، والزَّورُ: أعلى الصدر.
وزرت فلاناً: تلقيته بِزَوري، أي بصدري.. أو قصدتُ زَوره، أي صدره.
وزاره يزوره زوراً، وزيارةً، وزوارةً: عادَه.. وزار فلانٌ فلاناً: مال إليه.
والزورة: المرة الواحدة.
ورجل زائر، وامرأة زائرة، من قومٍ زُوَّر، وزوّار، وزَوْر. والاَخيرة اسم للجمع.
والزَور: الذي يزورك، يقال: رجل زَور، وقومٌ زَور، وامرأة زَور، ونساءٌ زَور، يكون للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد لاَنه مصدر.. وفي الحديث: «إنّ لِزَورِك عليك حقّاً».
وقد تزاوروا: زار بعضهم بعضهم.
والتزوير: كرامة الزائر، وإكرام المزور للزائر.. يقال: زوِّروا فلاناً: أي


( 14 )

أكرموه.. وقد زوَّر القوم صاحبهم تزويراً، إذا أحسنوا إليه.
وأزاره: حمله على الزيارة.
واستزاره: سأله أن يزوره(1).
وتطلق الزيارة ويُراد بها، عندما يبحث عن حكمها، زيارة القبور غالباً.

الزيارة في التشريع:
أولاً: في القرآن الكريم:
إذا لم يرد في القرآن الكريم التصريح نصاً بالزيارة، فقد وردت في مضامين أكثر من واحدة من آياته، منها:
1 ـ في قوله تعالى في شأن أصحاب الكهف ونزاع القوم فيهم بعد أن أماتهم الله: ( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِداً )(2).
قال المفسرون: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وهذا يدلّ على أنّه لمّا ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور.
وهذا هو الراجح عند أهل التفسير على قول بعضهم أن الذي غلب هم أصحاب الملك، فهم الذين يغلبون على أمر من عداهم. قالوا: الاَول أولى(3). بل قال بعضهم
____________
(1) مفردات القرآن|الراغب (زور)، لسان العرب|ابن منظور (زور).
(2) سورة الكهف: 18|21.
(3) انظر: مجمع البيان| الطبرسي 5 : 710، التفسير الكبير| الرازي 11 : 106، فتح القدير| الشوكاني 3 : 277، الميزان| الطباطبائي 13 : 267.

( 15 )

إنّ الملك الذي عثر عليهم كان مؤمناً(1).
وأيّاً كان القائل فالمسجد إنّما يُتّخذ ليؤتى على الدوام، ينتابه الناس، سواء المعاصرون منهم لقصّته أو الاَجيال اللاحقة.. وبهذا أصبحت مراقد أصحاب الكهف مزاراً يقصده الناس للزيارة، بل أقاموا عليه مسجداً يذكرون اسم الله فيه.
ولعل مراقد هؤلاء الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، هي المثال الاَسبق تاريخاً في ما ذكره القرآن الكريم لاحترام مراقد الاَولياء وتعاهدها بالزيارة، بل إقامة المسجد عندها كما هو صريح القرآن الكريم.
2 ـ قوله تعالى في النهي عن القيام عند قبور المنافقين ( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَتَقُمْ عَلَى قَبْرِه )(2).
لا خلاف في أنّ المراد بالصلاة هنا هو خصوص الصلاة على الميت، يدل عليه السياق وسبب النزول، أمّا موضع الاستدلال لدينا على المطلوب فهو قوله تعالى: ( وَلاَتَقُمْ عَلَى قَبْرِه ) فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن، إلى عموم الاَوقات.
قال البيضاوي، والآلوسي، والبروسوي: المراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة(3).
فإذا كان هذا النهي قد ورد في شأن من مات على الكفر، كما هو في ذيل الآية
____________
(1) الدر المنثور، وعنه الميزان 13 : 286 في رواية قال عنها: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول.
(2) سورة التوبة: 9|84.
(3) أنوار التنزيل| البيضاوي 1 : 416، وروح المعاني| الآلوسي 10 : 155، روح البيان| البروسوي 3 : 378.

( 16 )

نفسها ( إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون ) ففيه دلالة واضحة على أن ذلك جائز، بل ومعهود، في شأن من مات على الاسلام.
إذن ففي هذه الآية أيضاً دلالة على مشروعية زيارة قبر المسلم، بقصد الزيارة والدعاء للميت، فهذا هو المعهود في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر الميت بعد دفنه.
3 ـ قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً )(1).
جاء في أسباب النزول أنّ الآية في صدر الحديث عن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآيات السابقة والذين ارتضوا التحاكم إلى الطاغوت فراراً من التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو أنّهم جاءوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا الندم على ما فعلوه، وتابوا عنه واستغفروا منه، واستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتاب الله عليهم.
وقيل: إنّها نزلت في قوم من المنافقين، قال الحسن: اثني عشر رجلاً اجتمعوا على أمر مكيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمَّ دخلوا عليه لذلك الغرض، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ قوماً دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه، فليقوموا وليستغرفوا الله حتى استغفر لهم» فلم يقوموا، فقال: «ألا تقومون»؟ فلم يفعلوا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «قم يا فلان، قم يا فلان»، حتى عدّ اثني عشر رجلاً، فقاموا وقالوا: كنّا عزمنا على ما قلت، ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا، فاستغفر لنا. فقال: «الآن أخرجوا عنّي، أنا كنت في أول أمركم أطيب نفساً بالشفاعة، وكان الله أسرع إلى الاِجابة»(2).
____________
(1) سورة النساء: 4|64.
(2) مجمع البيان 3 : 105، تفسير الرازي 5 : 167 ـ 168.

( 17 )

فهذا ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يأتيه المذنب، فيستغفر، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له، ولما ورد فيها من تكريم خاص وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وجد المسلمون استحباب العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، فيأتي قبره الشريف، ويستغفر عنده ويسأل صاحبه الشفاعة، ذلك لاَنّ إجلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته، والعمل بهذه الآية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالعمل بالآية القائلة: ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل )(1)حيث مضت سيرة المسلمين على وجوب العمل بها عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والاَثر في ذلك كثير، بحيث كتبت هذه الآية على الجدار المقابل لقبر الرسول اليوم.
ومثل ذلك ورد في الاَثر الكثير في العمل بالآية موضع الاستدلال عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، في عهد الصحابة وبعده، سنورد أمثلةً منها في المباحث اللاحقة، ونكتفي هنا بذكر استدلال مالك بن أنس بالآية في ردِّه على أبي جعفر المنصور، وهما عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد سأله أبو جعفر المنصور: أستقبل القبلة وأدعوا، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقال مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً )(2). وفي مقدمة كلام مالك وأبي جعفر كان مالك قد
____________
(1) سورة الحجرات: 49|2.
(2) شفاء السقام| السبكي: 69 ـ 70.

( 18 )

استنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) ومدح قوماً فقال: ( إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله ) الآية... وذمّ قوماً فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَات ) الآية... وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً.
وعلى هذا قال السبكي: دلّت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيماً له.
قال: والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعمّ بعموم العلّة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبّوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالى.
وحكاية العتبي ـ وهو من مشايخ الشافعي ـ مشهورة، وقد شهد أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتلى هذه الآية واستغفر وانصرف.. وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرخون، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله(1).

ثانياً: في السنّة النبوية:
في هذا المبحث فقرتان:
الاَولى: في اثبات مشروعية الزيارة في السنّة النبوية.
____________
(1) شفاء السقام: 81 ـ 82.
( 19 )

والثانية: ممارسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وأحاديثه الواردة فيها. باستثناء ما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره الشريف خاصة، فقد تكفل بها الفصل الثاني من هذا الكتاب.
يلاحظ أنّ زيارة القبور بشكل عام مرّت في عهد الرسالة بثلاث مراحل(1): مرحلة الاِباحة استمراراً لما كان عليه أهل الشرائع السابقة، كما أشارت إليه آية سورة الكهف، وكما يثبته الحديث النبوي الآتي الذي يضع نهايةً لهذه المرحلة، وتبتدئ المرحلة الثانية، وهي مرحلة المنع من الزيارة، وكان هذا المنع معلّلاً كما سيأتي في الحديث النبوي، وأخيراً مرحلة الاِباحة وتجديد العمل بها وفق الآداب التي أقرّها الاِسلام.
هذا التقسيم الثلاثي يستفاد بشكل مباشر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم :
«كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها». أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم والبغوي، وغيرهم(2).
وهو واضح في أنّ المسلمين كانوا يزورون القبور، ثمَّ نهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارتها، ثمَّ أذن لهم بعد ذلك بالزيارة.
وفي رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يتضمن علّة النهي أو بعضها، ففيها أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً»(3).
____________
(1) على أساس ما ورد في كتب الجمهور.
(2) صحيح مسلم ـ كتاب الجنائز ـ 2 : 366|107، سنن الترمذي 3 : 370|1504، السنن الكبرى للنسائي 1 : 653|2159، المستدرك 1 : 530|1385، مصابيح السنّة 1 : 568|1239.
(3) المعجم الكبير| الطبراني 11 : 202|11653، والمعجم الاَوسط 3 : 343|2730، مجمع الزوائد| الهيثمي 3 : 58.

( 20 )

والهُجْر ـ بضم الهاء ـ الكلام القبيح الذي ينبغي هَجْره لقبحه.
قال الراغب الاَصفهاني: الهُجر، الكلام القبيح المهجور لقبحه، وفي الحديث: «ولا تقولوا هُجْراً».. وأهْجَر فلان، إذا أتى بهُجْرٍ من الكلام عن قصد.. وهَجَر المريض، إذا أتى ذلك من غير قصد(1).
وفي لسان العرب: الهُجْر، القبيح من الكلام، والهذيان.. والهُجر الاسم من الاِهجار، وهو الاِفحاش، وكذلك إذا أكثر الكلام في ما لا ينبغي.. وفي التنزيل العزيز: ( مستكبرين به سامراً تَهجُرون ) أي تقولون القبيح. وقرئ (تُهجِرون) أي تهذون.
ثمَّ قال: وأمّا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً» فإنّ أبا عبيد ذكر عن الكسائي والاَصمعي أنّهما قالا: الهُجْر الاِفحاش في المنطق، والخنا.. ومعنى الحديث: لا تقولوا فُحشاً(2).
وفيه دلالة على أن الناس كانوا عند زيارة القبور يقولون ما لا ينبغي من الكلام، فأباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيارة، وحرّم الهُجر من الكلام. يؤيده ويزيده وضوحاً وتحديداً قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا ما يسخط الرب»(3).
فهي رواية تفسّر «الهجر» بـ«ما يسخط الرب». وقد تكون رواية بالمعنى للحديث الاَول نفسه. وحديث آخر في هذا السياق جاء فيه: «من أراد أن يزور قبراً
____________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن (هجر).
(2) لسان العرب (هجر).
(3) مجمع الزوائد 3 : 58، رجاله رجال الصحيح.

( 21 )

فليزره، ولا يقول إلاّ خيراً، فإنّ الميت يتأذى مما يتأذى منه الحيّ»(1).
ومن حديث بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية»(2).
وهكذا يؤسس الاِسلام لأدب الزيارة، لاغياً ما كان متعارفاً في عادات الجاهلية.
وبعد ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزور القبور بنفسه، ويعلم المسلمين ماذا يقولون عند زيارتها، فاصلاً بين ما ينبغي وبين ما لا ينبغي من القول.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزور القبور:
1 ـ أخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، والحاكم، والبغوي حديث بريدة الاَسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذِن لمحمّدٍ في زيارة قبر أُمّه، فزوروها، فإنّها تذكّر الآخرة»(3).
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد، وابن مسعود، وأنس، وأبي هريرة،
____________
(1) الروض الفائق في المواعظ والرقائق :22، وعنه: الغدير 5 : 245.
(2) سنن ابن ماجة 1 : 485|1547.
(3) صحيح مسلم 2 : 366|107 ـ كتاب الجنائز ـ ، سنن الترمذي 3 : 370|1054، السنن الكبرى| النسائي 1 : 653|2159، المستدرك على الصحيحين 1 : 530|1385، مصابيح السنّة| البغوي 1 : 568|1239. ولا يخفى أنَّ الغرض من ذكر مثل هذا الحديث هو الاستدلال على مشروعية زيارة القبور بفعل النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وقوله، وقد ذهب أصحابنا وجمع من علماء الجمهور إلى أنَّ والديه صلى الله عليه وآله وسلم كانا مؤمنين وهما من أهل الجنَّة.

( 22 )

وأم سلمة. وحديث بريدة حديث حسن صحيح(1). ولكلام الترمذي تتمة تأتي في محلّها.
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «أُذِن لمحمّدٍ في زيارة قبر أمّه» ثمَّ حثه على زيارة القبور، دليل صريح على جواز قصد قبر معين بالزيارة.
2 ـ أخرج الحاكم عن بريدة، قال: زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمّه في ألف مقنّع، فلم يُرَ باكياً أكثر من يومئذ(2).
قال الذهبي: صحيح على شرطهما ـ أي البخاري ومسلم ـ .
ومثله عن أبي هريرة: زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمّه فبكى وأبكى من حوله(3).
3 ـ من حديث طلحة بن عبيدالله، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرّة واقم، فلمّا تدلينا منها وإذا قبور ممحية، قلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: «قبور أصحابنا» فلما جئنا قبور الشهداء، قال: «هذه قبور إخواننا».
الحديث رواه أبو داود في (السنن)(4)وفيه دلالة صريحة على الخروج بقصد زيارة قبور بعينها، لمنزلة اختصت بها، وليس لاَجل التذكير بالآخرة فقط، وإلاّ لكانت الزيارة لاَقرب المقابر في المدينة وافية بالغرض، أو لوقف صلى الله عليه وآله وسلم عند القبور الاَولى التي قال فيها «قبور أصحابنا»، والحديث كله صريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قاصداً زيارة قبور الشهداء، وراء حرّة واقم، وهي في طرف
____________
(1) سنن الترمذي 3 : 370|1054.
(2) المستدرك 1 : 531|1389.
(3) المستدرك 1 : 531|1390.
(4) سنن أبي داود 2 : 218|357 ـ كتاب المناسك ـ باب زيارة القبور.

( 23 )

المدينة الشرقي.
وحرّة واقم هذه هي التي حصلت فيها وقعة الحرّة سنة 62هـ، بين أهل المدينة المنورة وكلهم من الصحابة وأبنائهم، وبين جيش الحاكم الفاجر يزيد بن معاوية.
4 ـ ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يخرج مراراً إلى البقيع لزيارة قبور المؤمنين المدفونين هناك، أخرج مسلم من حديث عائشة، أنّها قالت: كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين..» الحديث(1).
5 ـ أخرج ابن أبي شيبة: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي قبور الشهداء بأُحد على رأس كل حول، فيقول: «السلام عليكم بما صبرتم، فَنِعْمَ عقبى الدار»(2).
6 ـ وفاطمة في حياة أبيها: ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء البتول عليها السلام انّها كانت في حياة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج في كل جمعة لزيارة قبر عمها حمزة بن عبد المطلب، فتصلّي وتبكي عنده.
أخرجه البيهقي، والحاكم(3)، وقال الحاكم معقباً على الحديث: هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات، وقد استقصيت في الحث على زيارة القبور تحرياً للمشاركة في الترغيب، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنّة مسنونة، وصلى الله على محمد وآله أجمعين(4).
____________
(1) صحيح مسلم 2 : 363|102 ـ كتاب الجنائز ـ ، وسنن ابن ماجة 1 : 485|1546.
(2) أخرجه الاَميني في الغدير 5 : 258 عن ابن عابدين في ردّ المختار على الدر المختار 1 : 604 ـ 605.
(3) السنن الكبرى للبيهقي 4 : 78، المستدرك على الصحيحين 1 : 533|1396.
(4) المستدرك على الصحيحين 1 : 533|1396.

( 24 )

أهداف الزيارة:
ماذا يجد الزائر في سريرته وهو يزور القبور، أو يتوجه لزيارتها؟! ما هي الدوافع التي تحركه صوب هذا الفعل؟ وعلى نحوٍ أكثر تحديداً، هل عرّف التشريع شيئاً من الاَهداف التي يرجى تحققها من خلال زيارة القبور، أو زيارة قبر بعينه؟
هذا بدوره إن وجد سيكشف عن فضائل الزيارة وما يرتجى منها من ثمرات في دنيا المرء وأُخراه.
إنّ كل الاَهداف المتعلقة بالزيارة هي مستفادة بشكل مباشر من السنّة النبوية المطهرة، ومن ذلك يمكن أن نجمل هذه الاهداف بما يلي:
1 ـ الخشوع وتذكّر الموت والآخرة، وهذه أهداف لا غنى لمؤمن عنها، ومهما كان عليه أن يستحضرها في كثير من أوقاته، غير أنّ أشياء بعينها ذات أثر مباشر في استحضار هذه المعاني، ستكون لها أهميتها الكبيرة بحسب مقدار ما تحققه من ذلك.. ولا شك في أن الوقوف بين القبور بتأمّل، أو عند قبر خاص، له أكبر الاَثر في إحياء تلك المعاني في القلوب، وعلى نحو ربّما لا يضاهيه فيه فعل آخر، إلاّ تشييع جنازة ميت والوقوف عنده ساعة دفنه.
وفي تحقق هذه المعاني من وراء الزيارة جاء حديث نبوي كثير، منه: ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّي نهيتكم عن زيارة القبور، فمن شاء أن يزور قبراً فليزره، فإنّه يُرقُّ القلب، ويُدمع العين، ويذكّر الآخرة.. ولا تقولوا هُجراً».
أخرجه أحمد والبيهقي، وصححه الحاكم والذهبي(1).
____________
(1) مسند أحمد 4 : 119|13075، 140|13203، السنن الكبرى 4 : 77، المستدرك1 : 532|1393.
( 25 )

ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «فزوروا القبور فإنّها تذكّر ـ أو تذكركم ـ الموت».
أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وأبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم(1).
ـ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «زُر القبور تذكر بها الآخرة».
صححه الحاكم في المستدرك(2).
ـ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّي نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإن فيها عبرة».
أخرجه أحمد والبيهقي، وصحَّحه الحاكم والذهبي(3).
ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّها تزهّد في الدنيا، وتذكّر الآخرة».
أخرجه ابن ماجة(4).
2 ـ الدعاء للميت: هذا السلوك الاَخلاقي الرفيع، الذي يحفظ كرامة المسلم في مجتمعه حتى بعد موته، ويربّي في المسلمين روح الاخاء والحب والمودة وأداء حقوق الآخرين التي لا تنقطع برحيلهم من الدنيا، لهو واحد من الجوانب التربوية والاجتماعية الراقية التي تميز بها نظام الاَخلاق في الاِسلام.
ويشغل الدعاء للموتى عند زيارتهم المساحة الاَكبر في أدب الزيارة،
____________
(1) صحيح مسلم 2 : 365|106 ـ كتاب الجنائز ـ ، مسند أحمد 3 : 186|9395، سنن ابن ماجة 1 : 501|1572، سنن أبي داود 3 : 218|3234، سنن النسائي 1 : 654|2161، المستدرك 1 : 531|1388.
(2) المستدرك 1 : 533|1395.
(3) مسند أحمد 3 : 427|10936، السنن الكبرى 4 : 77، المستدرك 1 : 530|1368.
(4) سنن ابن ماجة 1 : 492|1571.

( 26 )

كما هو ملاحظ في النصوص المأثورة في زيارة القبور.
ـ فكثيراً ما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقف عند قبور المسلمين فيقول: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» ويأمر أصحابه بذلك متى مرّوا بالقبور أو قصدوها بالزيارة(1).
ـ وقال صلى الله عليه وآله وسلم مؤكداً هذا المعنى: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، واجعلوا زيارتكم لها صلاةً عليهم واستغفاراً لهم»(2).
ـ وكثيراً ما جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين الهدفين: السلام على الميت، والعبرة، ومنه قوله المشهور والوجيز المذكور أولاً في هذه الفقرة: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون».
ـ ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «ألا فزوروا إخوانكم، وسلّموا عليهم، فإنّ فيها عبرة»(3).
ـ وفي المأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام الجمع بين الغرضين، فقد كان عليه السلام إذا دخل المقبرة قال: «السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات.. اللّهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنّا وعنهم.. الحمد لله الذي جعل لنا الاَرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، والحمد لله الذي منها خلقنا.. وإليها معادنا، وعليها يحشرنا.. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل
____________
(1) انظر: صحيح مسلم |102 و103 ـ كتاب الجنائز ـ ، مسند أحمد |8661، سنن الترمذي 3 : 370|1053، سنن البيهقي 4:79.
(2) المعجم الكبير| الطبراني 2 : 94|1419، مجمع الزوائد 3 : 58.
(3) مجمع الزوائد 3 : 58.

( 27 )

الحسنات، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله عزّوجلّ»(1).
3 ـ أداء حقوق الموتى: وهذا ما نلحظه بوضوح في فحوى الخطاب في الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر: «ألا فزوروا إخوانكم، وسلّموا عليهم» ففيه إشارة في غاية الوضوح إلى أن لاخواننا الموتى حقوقاً علينا، ينبغي علينا أداؤها بزيارتهم والتسليم عليهم، ولمزيد من الترغيب في ذلك يذكّرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ذلك سيعود علينا أيضاً بالنفع الكبير: «فإنّ فيها عبرة».
ولا شك في أنّ لبعض الموتى حقوقاً خاصةً على البعض، تتأكد معها الزيارة، وكلّما تعاظمت الحقوق أصبح لهذه الزيارة شأن أكبر ومرتبة أرفع.. ولا شك في أنّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبناء أمّته أثبت الحقوق وأعظمها، الاَمر الذي يجعل قصد أحدهم زيارته صلى الله عليه وآله وسلم من القربات المهمّة في حياته.
وهذا ما أكّده حديث أهل البيت عليهم السلام في هذا الشأن:
فعن الاِمام الرضا عليه السلام : «إنّ لكلِّ إمام عهداً في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الاَداء، زيارة قبورهم..» الحديث(2).
4 ـ قصد القربى والثواب: القربى والثواب، المترتبان قطعاً، مع خلوص النية وصحة الفعل، على الزيارة التي يؤدّيها المسلم تحت أي واحد من العناوين المتقدمة، قد يكون هو الآخر بنفسه غرضاً للزيارة وعنواناً لها، فيقصد المسلم التقرب إلى الله تعالى ونيل الثواب بزيارة قبور المؤمنين، أو قبر واحد بعينه. وذلك لما انطوت عليه الزيارة من فضائل ومستحبات لا تنفصل عنها.
____________
(1) العقد الفريد 3 : 11، الغدير 5 : 249.
(2) تهذيب الاَحكام 6 : 78 ـ 79|3.

( 28 )

فالزيارة وإن كانت بقصد القربى فإنّ مقاصدها الرئيسية الثلاثة متحققة فيها على أي حال؛ من العبرة، والدعاء للميت، وأداء حقّه.
أمّا زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاَنبياء والمرسلين والاَئمة الطاهرين فهي من القربات الاَكيدة، كما ستأتي في ذلك الاَحاديث الشريفة وكلمات الاَعلام من علماء المسلمين.
وفي (شفاء السقام) جعل الزيارة من حيث مقاصد الزائرين أربعة أقسام، فذكر الثلاثة الاَولى التي استفدناها نحن من الحديث الشريف مباشرةً، ثمَّ جعل الرابع: التبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح والخير.. وقال: مقصودنا أنّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الاَنبياء والمرسلين للتبرك بهم مشروعة، وقد صرّح به(1).

فضل الزيارة وعوائدها على الزائر والمَزور:
هكذا تعود الزيارة بفضائل جمّة على الفرد الزائر، وعلى المجتمع الذي تسود فيه هذه القربة، من خلال تحقيق فرصة لا غنى عنها في احياء القلوب بذكر الله تعالى، وبذكر الموت والآخرة، وعلى مستوى قد لا يحققه شيء آخر إلاّ نادراً.. وفي هذا المعنى جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ما رأيت منظراً إلاّ والقبر أفظع منه»(2).
وتحقق، من ناحية أخرى، روح احترام حقوق المؤمنين، بعضهم لبعض،
____________
(1) شفاء السقام 86 ـ 87.
(2) المستدرك على الصحيحين 1: 526|1373.

( 29 )

أحياءً وأمواتاً، وأدائها. ولهذا ما لا يخفى من الآثار الايجابية على الفرد والمجتمع.
ومن ناحية ثالثة فإنّ زيارة الاَنبياء والاَئمة والصالحين تزيد وتعمّق أواصر الارتباط بهم، وتجدد في النفوس روح الاقتداء بهم، وإحياء آثارهم الجليلة على الانسانية، وأعمالهم الصالحة، ومكارم أخلاقهم.. وقد لا ينهض أي عمل آخر بما تنهض به الزيارة من تقوية شعور الزائر بقربه من المزور، وما يوفره ذلك من مقدمات الاقتداء التام، وإحياء الذكر على الدوام .
ومن ناحية رابعة فإنّ تعهد أضرحة الانبياء والصالحين بالزيارة سيضمن الاعتناء بهذه الاَضرحة وعمارتها، وبالاِضافة إلى ما يحققه ذلك من ذكرى في القلوب، فإنّه يعد علامة واضحة على حياة الاَمّة وعمق اتصالها بقادتها الذين بذلوا حياتهم في صناعة مجدها وماضيها، وهذه من المعالم الحضارية المهمة التي تعنى بها سائر الاَمم.
هذا غير الثواب الجزيل الذي يعود على الزائر من زيارته التي يرعى فيها السنن والآداب التي وضعها الاِسلام لهذه القربة:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «مَنْ مرَّ على المقابر فقرأ قل هو الله أحد إحدى عشر مرّة، ثمَّ وهب أجرها للاَموات، أُعطي من الاَجر بعدد الاَموات»(1).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : «مَنْ زار قبر أبويه أو أحدهما كلَّ جمعةٍ غُفِر له»(2).
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن البصري أنّه قال: من دخل المقابر، فقال: «اللهم ربّ هذه الاَجساد البالية، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك
____________
(1) كنز العمال |42596 رواه الدارقطني، إتحاف السادة المتقين 10 : 371.
(2) مجمع الزوائد 3 : 59، كنز العمال |45486، 45487.

( 30 )

مؤمنة، أدخل بها رَوحاً من عندك وسلاماً منّي» استغفر له كل مؤمن مات منذ خلق الله آدم.
وعن ابن أبي الدنيا أنّه من قال ذلك كُتب له بعدد من مات من ولد آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات(1).
هذه بإيجاز صورة عن فضائل الزيارة وعوائدها على الزائر، وسيأتي لاحقاً حديث كثير في فضل زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمة الاَطهار، والتي من أبرزها نيل شفاعتهم يوم القيامة.. وأكبِر بها من عائدة.
أمّا عوائد الزيارة على الاَموات فهي من أهم ما أوصت به الشريعة أداءً لحقّهم، لما ينالهم منها من فضل وبركات. وقد تقدم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يأمر أصحابه بزيارة قبور إخوانهم وأن يجعلوا زيارتهم دعاءً للاَموات واستغفاراً لهم، وقد كان هو صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك.
وفي حديث أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفّف الله عنهم يومئذٍ العذاب، ورفعه».
وعن أنس أيضاً أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنّا نتصدّق عن موتانا، ونحجّ عنهم، وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ فقال: «نعم، لَيَصِل ذلك إليهم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه»(2).
ومن حديث عثمان بن عفان: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة عند قبر وصاحبه يدفن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «استغفروا لاَخيكم وسلوا الله له التثبيت، فإنّه الآن يُسأل»
____________
(1) الغدير 5 : 257.
(2) أخرجها الاَميني في الغدير 5 : 257 عن مراقي الفلاح :121.

( 31 )

صحّحه الحاكم والذهبي(1).
والحديث في هذا الشأن كثير وكثير، وهو يعطف بنا على موضوع مهم، موضوع ليس فيه خلاف بين أهل الاَديان قاطبة، ألا وهو موضوع الحياة بعد الموت، وما اصطلح عليه بالبرزخ.
والذي عليه اتفاق كلمة المسلمين أنّ الروح في البرزخ تعيش نصيبها من الآخرة، إمّا في نعيم، وإمّا في شقاء، وذلك منذ المساءلة بعد الموت، وحتى يوم البعث والنشور.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن حقيقة حياة الشهداء بعد موتهم، فقال: ( ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون )(2).
وقال تعالى: ( ولا تقولوا لمَنْ يُقتَل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون )(3).
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ما من أحد منكم يُسلّم عليَّ إلاّ ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام»(4).
وليس الاَمر خاصّاً بالاَنبياء والشهداء، فالاَرواح من حيث هي أرواح سواء في ما تتعرض له من أسباب البقاء، والاَخبار متواترة في تعرضها للنعيم أو الشقاء
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 1 : 526|1372.
(2) سورة آل عمران: 3|169 ـ 170.
(3) سورة البقرة: 2|154.
(4) مسند أحمد 2 : 527، السنن الكبرى للبيهقي 5 : 245.

( 32 )

بعد الموت، تأنس إذا ذكرت بخير، ويعود عليها ما يهدى إليها من الاَعمال الصالحة بالنفع والبركة ـ والحديث في هذا كثير وكثير ـ نذكر غير ما تقدّم:
ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «ما مِنْ رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به»(1).
ـ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «ما مِنْ أحد يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليها إلاّ عرفه وردّ عليه السلام»(2).
ـ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءه رجل فسأله: إنّ أبي مات وعليه حجة الاِسلام، أفأحجُّ عنه؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم : «أرأيت لو أنّ أباك ترك دَيناً عليه، أقضيته عنه؟» قال: نعم. قال: «فاحجج عن أبيك»(3).
هكذا ينتفع موتانا بدعائنا واستغفارنا لهم، وما نهديه إليهم من ثواب الاَعمال الصالحة، ويستأنسون بالتسليم عليهم، وبقراءة القرآن عندهم، فما أحرى أن نذكرهم بذلك كله، ونحن المحتاجون إلى مثله في غد، ولا ندري لعله منّا قريب، ومهما بعُد عنّا فإنّنا سائرون إليه وإنّه لبالغنا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
____________
(1) إتحاف السادة المتقين 10 : 365، كنز العمال |42601.
(2) إتحاف السادة المتقين 10 : 365، الحاوي للفتاوي| السيوطي 2 : 302.
(3) سنن الدارقطني 2 : 260، السنن الكبرى| البيهقي 4 : 256.