|
|||
(136)
(137)
قبل بلوغ الإنسان مرحلة الكمال والاعتماد على النفس والاستقلال عن الآخرين والتي تسمى بسن الرشد أي رشده وفقهه للحياة ، وكونه قادراً على مواجهة الحياة بما اكتسب من خبرة منها ـ نجده قد مر بمراحل حتى وصل إلى هذه المرحلة ( الرشد ). وعند النظر في هذه المرحلة نلاحظ لها خصوصيات ، ومقومات تقوم كل مرحلة على حدة ، بحيث إن كل فترة من الفترات لها آثار تختلف كلياً عما قبلها.
فمثلاً نرى أن الحديث مع طفل لم يتجاوز الرابعة والخامسة من عمره يختلف عن الحديث مع من تجاوز ثلاث عشرة سنة وهكذا مع الشاب أو الرجل الكبير. منشأ هذه الاختلافات وجود الفوارق في المستويات والقابليات التي يحملها كل فرد من هذه الأنواع بحيث تؤثر على تصرفاته الخارجية. فنلاحظ مثلاً أن الطفل الصغير يروق له أن يستمع إلى القصص الخيالية ، والطفل الذي يتجاوز اثنتي عشرة سنة يرغب في قصص المغامرات ، والبالغ تشده القصص الغرامية ، والرجل الكبير يركن إلى التاريخية والواقعية. ووجود هذه التفاوتات راجع إلى التفاوت لكل فرد كل حسب مستوى عمره. ولكي يكتب للتربية النجاح لابد أن نراعي هذه الاختلافات ، والتفاوت حتى نستطيع أن نتعامل مع كل مرحلة بما يوافقها من الاستعدادات ، وعند التأمل نجد الإنسان قد مر بثلاث مراحل حتى وصل إلى النضج والرشد ، وهذه المراحل هي : (138)
1 ـ مرحلة الطفولة الساذجة.
2 ـ مرحلة الطفولة المميزة. 3 ـ مرحلة النضج الفكري. وهذا الذي أشارت إليه الروايات حيث قسمت التربية ثلاثة أقسام ، لكل قسم طريقة خاصة يجب أن نسلكها ، تخالف التي غيرها وتكون مقدمة لما بعدها. قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « الولد سيد سبع سنين ، وعبد سبع سنين ، ووزير سبع سنين ، فإن رضيت خلائقه لإحدى وعشرين ، وإلا فاضرب على جنبه فقد أعذرت إلى الله ». وفي رواية أخرى عن الصادق عليه السلام قال : « دع ابنك يلعب سبع سنين ، ويؤدب سبعاً ، والزمه نفسك سبع سنين ، فإن أفلح وإلا فإنه من لا خير فيه ». فالسبع الأولى من حياة الإنسان والتي تعد الطفولة الساذجة ، والسبع الثانية والتي تعد مرحلة التميز في حياة الطفل لها أحكام خاصة يلزم فيها الطفل ، والمرحلة الثالثة هي بلوغه النضج والإدراك ودخول حيز التكليف والخطاب الإلهي من إقامة الصلوات والصيام وكل الواجبات الشرعية تلزمه كما تلزم الرجل البالغ من العمر تسعين سنة ، لا فرق بينها إلا بالتجارب والخبرة وإلا من حيث القابليات فواحدة. ونحن سنحاول تناول هذه المراحل الثلاث ، وما يجب فيها حتى يكون الولد رجلاً كاملاً والبنت امرأة كاملة ناضجة. (139)
(140)
(141)
عندما يخرج الطفل إلى الحياة الدنيا ويقبل على عالم مغاير لعالمه الذي كان فيه قبل مجيئه ، جاء إلى هذا العالم وهو لا يحمل من الإدراك ، أو الوعي شيئاً. يخرج وهو جاهل بأبسط الأشياء غير أن غريزة الجوع تحثه على طلب الغذاء من ثدي أمه فقط وهذه غريزة لا معرفة ؛ فالله سبحانه وتعالى يقول : « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً » (1).
يأتي السؤال هل توجد طريقة مثلى لكي يتعلم الطفل المعارف والعلوم في مثل هذه السن ؟ للجواب عن هذا السؤال نقول : هناك طرق ، من ابرزها طريقان : الطريق الأول : التقليد : والتقليد حقيقة في محاكاة فعل الغير وتصرفاته سواء كان عن وعي لهذا التقليد أو لا ، صادر عن تعظيم المقلد وإجلاله أو غير ذلك. وفي هذه المرحلة والتي يكون الطفل فيها في مرحلة السذاجة يقوم بتقليد والديه بشكل خاص ، والمحيطين به بصورة عامة في تصرفاتهم التي يراها منهم ؛ بحيث يصب الطفل في هذه الفترة جل اهتمامه على مراقبة حركات وسلوك المحيطين به بشكل دقيق. اختلف العلماء في تحديد مقدار بداية تقليد الطفل لوالديه ؛ فمنهم من يقول : بعد ثلاثة أشهر من الولادة ؛ ومنهم من يقول : بعد أشهر أو سنة. 1 ـ النحل : 16. (142)
ولكن هناك نظرية تقول : إن الطفل يبدأ تقليده بعد ستة وثلاثين ساعة بعد الولادة. حيث قام الأطباء بجامعة ميامي الأمريكية بإجراء تجربة على مجموعة كبيرة من الأطفال حديثي الولادة أثبتت أن الطفل لديه قدرة كلية على التحكم في عضلات وجهه ، والتقليد في سن مبكرة تبدأ بعد ست وثلاثين ساعة من ولادته. كما أن ضحك الطفل ليس لأنه يشعر بالسعادة ، وإنما يقلد التعبيرات المرسومة على وجه أمه. والدليل على ذلك أنه يرسم التكشيرة على وجهه لو كان التعبير على وجه الأم غير سعيد.
وقد قام الأطباء بمواجهة مجموة من الأطفال بممثلات قمن بعمل تعبيرات مختلفة بعضلات الوجه قلدها الأطفال ، وانتقلوا من تعبير السعادة للحزن والاندهاش بسرعة ، وأكد الأطباء أن هذه التعبيرات يتعلمها الطفل في سن مبكرة ، وتكون بدون معنى على أنها تأخذ المعنى فيما بعد (1). وكيفما كان سواء بدأ التقليد عند ست وثلاثين ساعة ، أو بعد ولادته أو بعد أشهر قلائل ، فإن أثر هذه الأفعال الخارجية تنطبع في ذهن الطفل ، وفي مركز اللاوعي. وحتى إذا بدأ يشعر ويفهم معاني الأمور تظهر عليه ثقافته وتأثره بالأمور بلا شعور. ومن الطريف الذي نقله الشيخ مظاهري في أحد كتبه هذه القصة يقول : « في حكاية جرت إبان الحرب العالمية الثانية في أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا ، إن امرأة احتاجت إلى جراحة في رأسها ، وفي أثناء العملية الجراحية أصاب مبضع الجراح شرياناً في دماغها ، وإذا سيطر عليها المخدر أخذت تقرأ النشيد الألماني. فلما أصاب المبضع ذلك الشريان من دماغها سكتت عن قراءة النشيد. 1 ـ اطفالنا ومشاكلهم الصحية : ص 221. (143)
وللمرة الثانية ضرب الجراح هذا الشريان بمبضعة فعادت لقراءة النشيد الألماني ، فتحير الأطباء من هذا الأمر. وبعد ذهاب تأثير المخدر منها ازداد تعجب الأطباء من عدم معرفتها باللغة الألمانية ، وعدم قدرتها على ذلك أبداً.
وللتحقق من هذه الظاهرة ودوافعها اجتمع عدد من الأطباء ، وعلماء النفس للتحقيق في هذا الأمر ، وبعد المطالعات الكثيرة ، والمضنية توصلوا إلى أن هذه المرأة وعندما كانت طفلة وحين هجوم الجيش الألماني على المنزل الذي كانت تعيش فيه كان الجنود اثناء الهجوم يرددون النشيد الألماني فأثر على دماغها ، وترك أثره على شريان الذهن ليبقى ذكرى خالدة ». ومما يعضد ذلك ويقويه ( أن الطفل يتأثر بما يراه ويشاهده ويبقى ذلك إلى فترة طويلة من عمره ) ما روي عن علي عليه السلام قال : « نهى الرسول من أن يجامع الرجل امراته والصبي في المهد ينظر إليهما ». وفي رواية قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « والذي نفسي بيده لو أن رجلاً غشى أمراته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما أو نفسيهما ما أفلح أبداً إن كان غلاما كان زانياً أو جارية كانت زانية ». إلى غير تلك من الروايات التي تشير إلى أن الطفل سواء كان في المهد ، أو تعدى عن طوره ، فإن الأحداث تؤثر على الطفل وتبقى تشكل أثراً في مسيرة حياته. لذا يستطيع أن يستفيد المربون ، أو الوالدان من هذه الصفة في الوليد بأن يعلموه ما يريدون أن يعرفه من خلال تصرفاتهما أمامه ، فهو يحاكي تصرفاتهم ويقلدهم ؛ فأنت إذا أردت أن يتعلم ولدك القراءة ويحبها مثلاً يجب عليك أن تمسك أمامه كتاباً وتقرأ ، وهو سيحاول أن يقلدك ويأخذ كتاباً يعبث به لأنه يريد أن يستكشف الشيء الذي جذب اهتمامك وتفكيرك ، وأنت بهذه (144)
الطريق لا تحتاج أن تلقي عليه محاضرات في أهمية القراءة والكتاب ، وهكذا كل فكرة تحب أن تغرسها في ذهن أطفالك ؛ فما عليك إلا أن تظهرها لهم بشكل تجذبهم إلى أن يقلدوك ويتعلقوا بهذا الشيء الذي تعلقت أنت به.
ومن الطريف أن والد السيد محمد حسين الطباطبائي علم الهدى لاحظ أن ولده يردد الآيات التي كانت أمه تقرأها يومياً ، وعندها سعى والده أن ينمي في ولده هذه الصفة ( حفظ القرآن ) حتى بلغ ست سنوات وهو يحفظ كل القرآن. فإن الطريقة التي اتبعها السيد في تعليم ولده على صغره ليس الجبر ، بل إشباع رغبته وفضوله في التعلم ، وترديد ما تقوله الأم من كلمات. توجد مقالة تقول ( أولاد العلماء نصف علماء ) وذلك لأنهم يقلدون آباءهم في تصرفاتهم ، والجو العلمي مهيأ أمامهم ، بخلاف الكثيرين الذين يريدون من أبنائهم أن يتعلموا أشياء ، أو يبدعوا في أشياء وهم فاقدون هذه الصفة ، أو الصفات ، فبيت يخلو من الكتاب كيف يتعلق أبناؤه بالكتاب ؟ لذا أول طريق تعليم الطفل هو إظهارك الأمور التي يجب أن يعملها أو يتعلمها الطفل أمامه وبشكل مستمر حتى ترسخ هذه الأمور في ذهنه. ومن أروع الصور التي يحفظها التاريخ هي تلك الحادثة التي كانت فيها بنت الإمام الحسين عليه السلام بطلة القضية حينما حان وقت الصلاة أخذت سجادة الصلاة ، وفرشتها أمام القبلة وجلست تنتظر أباها الحسين عليه السلام لكي يصلي ولما تأخر الحسين عن المجيء إلى مصلاه ، تساءلت بنت الحسين عن سر تأخر أبيها عن الصلاة ، فليست هذه عادته فإن الحسين عودها أن يصلي أول الوقت ، وأن تهيئ له سجادة وهذه المرة خلاف المعتاد. نعم ، كانت هذه الحادثة في خربة الشام بعد مقتل الحسين على يد عدو الله يزيد بن معاوية عليه لعنة الله ورسوله وملائكته والناس أجمعين إلى قيام يوم الدين. وعلماء (145)
النفس يقولون : إن تقليد الطفل يشتد عند بلوغه الثالثة حتى السابعة من عمره ثم يقل تقليده شيئاً فشيئاً.
ولهذا يجب أن يبعد الطفل عن كل مظهر سيء أو كل الأفراد السيئين حتى لا يتأثر ولتراع وهذه المسألة بما تستحق من الأهمية. الطريق الثاني : الاستكشاف للعالم الخارجي : أ ـ ما يكون الاستكشاف لكل الأطفال على حد سواء. إن مصادر الثقافة عند البشر تعتمد على أساسيات الحواس الخمس ؛ فهي المحرك الأول للثقافة عنده ؛ فالعلم بالمبصرات ومعرفة حقيقة الألوان تتوقف على النظر إليها ومشاهدتها وهكذا باقي المعارف ، لذلك قيل : « من فقد حساً فقد علماً ». والطفل الحديث الولادة يتعامل مع الأمور الخارجية من خلال تفاعله مع هذه الحواس ، وما يؤثر فيها سلباً أو إيجاباً. في بداية تعرفه على العالم يبدأ الطفل من خلال حاستين السمع والبصر ؛ فهو يحتاج إلى تقوية هاتين الحاستين من خلال عدة أمور ، وقد ذكرنا منها الموسيقى على رأي ابن سينا ، وكل صوت ناعم يشكل أراجيز وأشعاراً مصغرة بشكل جميل تطرق مسامع الطفل فترهف نفسه ، وتحسن روحه لهذه النغمات الهادئة ، وكذلك حاسة الإبصار حيث ينظر إلى الوجود ، وإلى الصور وإلى الأشياء المختلفة ؛ فيحاول التعرف عليها لذلك يبتسم لها ويفرح لفرحها ويحزن لحزنها سواء كان تقليداً لما يراه كما قلنا ، أو تقمصه حقيقة ما يقلد وهذا في حد ذاته قدرة على التعامل مع الظواهر الخارجية له. وهكذا يبقى حاله حتى ثلاثة أشهر حيث يكتشف عضواً آخر من جسده ، وهي يده فيقوم بمصها كأسلوب لمعرفتها جيداً. (146)
ويحدق فيها في الفترة التي يكون فيها في حالة اليقظة ، ويلاحظ حركتها ويلفت انتباه هذا الحدث عنده ، ومن خلال يده يحاول التوصل إلى الأشياء القريبة منه ، وهذه الخطوة تعد أول خطوات نمو القدرة والذكاء حيث تنمي عنده حاسة البصر ، وقوة التركيز على الأمور القريبة منها ، فهو ينظر لها بشيء من الإرادة.
ويمكننا القول إنه يتعرف على كل الأمور بالشكل المتاح له ، والذي يستطيع أن يفعله. وهذه الملاحظة تعد المحور الأساسي في عملية متابعة حركة النمو عند الطفل ؛ فبلحاظ كل فترة زمنية له خصوصية تؤثر فيها بعض الأمور. وتقيم على حسب حاله ، تختلف عنها في الفترة الأخرى ؛ فقد يكون في المرحلة المتقدمة يعد متطوراً ولكن بلحاظ المرحلة الثانية يعد متخلفاً ؛ فمثلاً عندما يعزم طفل بلغ من العمر ست شهور على أخذ شيء ملقى على وجه الأرض هذا الفعل بالنسبة للإنسان الذي يفوق هذا العمر يجد هذا الفعل لا يدل على شيء من الذكاء أو المقدرة ؛ فهذا أمر عادي جداً ، ولكن بالنسبة لهذا الطفل يعد شيئاً رائعاً ويدل على ذكاء وقدرة عالية عند الطفل ؛ لأنه يظهر قدراً كافياً من التنسيق في سلوكه فعليه عدة أمور حتى يحصل على الشيء الذي يريده وهي : أولاً : عليه أن يحدد مكان الشيء من خلال عملية الإبصار قبل أن يصل إليه ويتناوله. ثانياً : يقوم بمد يده بسرعة وبدقة إلى مكان تواجد هذا الشيء. ثالثاً : ويقوم بطريق تدل على قدرة من النضج ، وقبل أن يصل إلى ذلك الشيء يقوم إما بفتح يد أصابعه وإما يطبقها للمسك بهذا الشيء. رابعاً : وعندما يمسك ذلك الشيء يقوم بأكثر من عمل ، كأن يحدق فيه ويقوم بتحريكه إلى الأمام ، أو إلى الخلف ويقلبه لكي يحصل على أكبر من لقطة له ، وليتعرف عليه من خلال زوايا متعددة. (147)
إلى غير ذلك من الأدلة التي أثبتتها تجارب العالم السويسري ( جين بياجه ). وهكذا يستمر نمو الطفل حتى يصل إلى مرحلة من خلالها يتفاعل ببعض الأمور المحاط بها.
وهذه المعارف تحصل لكل الأطفال بشكل قهري ما لم يكن هناك عيب خلقي كالتشوه ، أو تخلف لا سمح الله. والأطفال في ذلك كلهم متساوون في هذه المعارف والعلوم. بـ ـ ما يكون الاستكشاف فيه متفاوتاً ( اللعب ) : ما يقال عنه لعباً في هذه الفترة هو في الحقيقة ليس باللعب. بل هو ضرب من ضروب التعرف ونوع من أنواع الاكتشافات التي تعد اللبنة الأولى لكل إنسان في فترة طفولته ، وتتفاوت المقدرة والذكاء من شخص إلى آخر بلحاظ هذه الفترة ومقدار الاستفادة التي استفاد منها في طفولته. فبعد أن يعي الطفل ويؤتى من القدرة ما يجعله يتعامل مع الواقع الخارجي ينبثق بروح عالية ، ونفس متطلعة نحو كشف المجهول الذي يراه أمامه ؛ فيقدم عليه بكل ثقة واطمئنان لكي يلمس هذا ، أو يتذوق ذاك يحدق في هذه ، أو يرفع تلك ، جاهلاً بالأخطار التي تجلبها هذه الأمور. فهو في حركة للمعرفة والتي تتشكل بأشكال مختلفة سماها الآخرون لعباً ، أو تخريباً أو مشغبة ونحوه. ونحن سنحاول التعرض إلى هذه المسائل بعدة نقاط : النقطة الأولى : اللعب حاجة روحية للطفل : إن اللعب يشكل جزءاً كبيراً من حياة الطفل إذا لم نقل إنه يشكلها كلها ؛ فباللعب يعقل شخصيته ويبلورها ، فلا تتحقق الطفولة إلا به كما لا يتحقق العرس إلا بالفرح. ولو فرضنا أن عرساً أقيم من غير فرح فإنه عرس ناقص ، وكذلك (148)
الطفولة إذا لم يكن فيها لعب ومرح فهي
طفولة ناقصة محكوم عليها بالبتر والتشوه. لذلك نجد الإسلام يركز على هذا الجانب ، ويأمر الوالدين أن يدعا أبناءهما في اللعب لمدة سبع سنوات أو ست سنوات كما جاءت به بعض الروايات.
وكثيراً ما يخطئ بعض المربين والآباء في تقليل مدة اللعب ( سبع سنوات ) وملئها بالحياة الجدية ، والسعي لأن يكون الطفل في حالة التقدم العلمي والرقي ؛ فينقص التكامل الروحي للطفل على حساب التفوق العلمي. يقول بيرتون وايت : « وما نريد أن نوضحه هو تحذير المربين من التركيز على النبوغ دون الاهتمام بالنمو الجيد لأننا غالباً ما نحصل على التفوق العقلي على حساب كثير من المظاهر التي تساوي النبوغ في الأهمية » (1). وهذا الذي تؤكده التجارب حيث أقيم على بعض الأطفال المتفوقين في الجوانب المعلوماتية أنهم غير سعداء وغير راضين عن أنفسهم وعن تعامل الآخرين معهم ؛ فهم كالشخص الذي يعاني من شدة الجوع ويكابده وأنت تريد أن تلقي عليه محاضرة ما ، أو عن التضحية فمثل هذا الشخص لن يعي منك كلمة واحدة لأن ما هو فيه ، وما حرم منه يجعله لا يفكر إلا في الشيء الذي حرم منه ، وهذا حال الطفل الذي منع عن اللعب ؛ فيبقى هذا الحرمان حسرة في قلبه مما يؤدي ذلك إلى توقف عقله عن التفكير المطلوب. لذلك دع ابنك يلعب سبعاً ، أو خل عنه سبعاً حتى يشبع من اللعب ويعود إليك يكتسب المعارف بطريقة أخرى. النقطة الثانية : اللعب ميدان الاستكشاف : عندما نضع طفلاً في مكان فماذا يا ترى سيفعل ؟ 1 ـ الطفل من ثلاث سنوات : ص 201. (149)
إن الطفل الذي قد يشكل لك إحراجاً عندما تكون مدعوا في منزل صديق لك ، أو في مكتب أو أي مكان فهو في حقيقة تصرفه لا يعمل إلا ما هو مطلوب منه ؛ وذلك لأن من خلال حركته نحو التليفون ، أو التفاز ، أو الطاولة ، أو نحو الباب أو غير ذلك فهو يتجه نحو اكتشاف هذه الأشياء الجديدة في عالمه. وقد ذكرنا سابقاً كيف يكون مقدار الذكاء عند وصل الطفل إلى الشيء الذي يقع تحت نظره من تركيز وإرادة للحصول عليه ، وأما الطفل في هذه الفترة فإنه في عملية الاستكشاف قد يقف شيء حاجزاً له عن الوصول إلى فضوله. فهو عند ذلك يتحرك لتخلص من هذا العائق بطريقته التفكير في عدة بدائل واختيار أحسن الطرق توصله إلى الشيء الذي يريده ؛ فهو الذي اطلق عليه بياجه الذكاء ( الحس الحركي ).
فهو في هذه المرحلة أصبح مفكراً ؛ لأنه تحول من حل المشكلات من خلال العمل أي المحاولات المتكررة إلى محاولة حلها من خلال التفكير. وهو بهذا ساعد على تطور ذكائه ومقدرته الفكرية. فهو في حركته الطويلة لانتقاله من هذا المكان إلى ذلك المكان يشبع رغبته وفضوله نحو الاستكشاف ؛ فيقوم برفع الأشياء ووضعها ويغلق الأبواب وفتحها فيسمع الأصوات التي تصدر منها ويلتذ بمشاهدة هذه الأشياء الغريبة عنه. فهو عندما يطلق له العنان أو يراقب عن كثب يتولد لديه من هذا العمل الذي يزاوله تعميق دافع حب الاستطلاع ، وتنمية ذكائه بشكل كبير مما يساعد في صقل شخصيته ، وتزويدها بالخبرات اللازمة له عن المحيط الذي يعيشه ويتعامل معه ؛ فالطفل الذي تلسعه المدفئة بحرارتها فإنه يتعلم من هذه اللسعة أن هذا الجهاز مؤذي بالنسبة له ، وهذه أفضل طريقة لتعلميه. وإنك لو ألقيت عليه آلاف المحاضرات عن ضرر الاقتراب من المدفئة ، فإنه (150)
لا يفهم ذلك ولسعة واحدة تكفيه. فهو عندما يتقدم بالقرب منها تجده ينظر إليك ويقول : آح ! مثلاً :
لذلك ينصح علماء التربية بعدم وضع الأطفال في الحابسة التي يوضع فيها مع بعض الألعاب ؛ فإن ذلك يوثر سلباً على نفسيته وعلى حب الاستطلاع ، ومما يؤدي إلى إعاقة الأسلوب التربوي له في هذه الفترة وهي الاكتشاف للبيئة والمحيط الخارجي. النقطة الثالثة : القدرة على التحليل والتوقع : الطفل الذي يجعل البيت والبيئة ساحة لعب له ، ويقوم بالاستكشاف يتطور ذكاؤه ؛ وذلك عبر حركته الدؤوبة في فتح الأشياء وغلقها ورميها وإحداثها للأصوات إلى غير ذلك من الآثار. يقوم الطفل في أثناء لعبه بملاحظة تلك أي الآثار التي تنشأ من لعبه فيقوم بالربط بينها ؛ فهو عندما يلعب بمفتاح النور ؛ ( المصباح الكهربائي ) فعندما يرفعه تضاء الغرفة وعندما ينزل الزر يطفأ النور. فيقوم ويكرر العملية مرات بحيث يرسخ في ذهنه أن سبب الإضاءة هو رفع مفتاح النور ، وسبب الظلام هو إنزال مفتاح النور. فهو من خلال لعبه يتعرف على نتائج فعله ويسعد بهذا الإنجاز والاكتشاف. لذا نجده يكرر الأفعال كثيراً حتى تستقر نفسه إلى التعليل الذي توصل إليه ، بل يرقى إلى مدارك أن يتوقع ماذا سيحدث لو فعل شيئاً معيناً. وذلك بعد قدرته على التعليل ؛ فإننا نلاحظ أن الطفل عندما يتصرف بتصرف معين كالبكاء للحصول على شيء معين من قبل والديه ، ويجد أن والديه قد استجابا لهذا الفعل بهذه الطريق ، فإنه يتوقع حدوث الشيء الذي يريده بالبكاء ؛ لأنه جربه أكثر من مرة فنفع عنده. لذلك لا يبكي عندما لا يجد استجابة من والديه بل يفكر في طريقة أخرى لجلب انتباههما. |
|||
|