|
|||
(151)
( بيان )
أخذ سبحانه في معاتبة اليهود وذلك في طي نيف ومائة آية يذكر فيها نعمه التي
أفاضها عليهم ، وكراماته التي حباهم بها ، وما قابلوها من الكفر والعصيان ونقض
الميثاق والتمرد والجحود ، يذكرهم بالاشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم ، كنجاتهم من
آل فرعون بفرق البحر ، وغرق فرعون وجنوده ، ومواعدة الطور ، واتخاذهم العجل من بعده
وأمر موسى إياهم بقتل أنفسهم واقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة
ثم بعثهم الله تعالى ، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم التي كلها مشحونة بألطاف إلهية
وعنايات ربانية ، ويذكرهم أيضا المواثيق التي أخذ منهم ثم نقضوها ونبذوها وراء
ظهورهم ، ويذكرهم أيضا معاصي ارتكبوها وجرائم اكتسبوها وآثاما كسبتها قلوبهم على نهي
من كتابهم ، وردع صريح من عقولهم ، لقساوة قلوبهم ، وشقاوة نفوسهم ، وضلال سعيهم.
قوله تعالى : وأوفوا بعهدي ، أصل العهد الحفاظ ، ومنه اشتقت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق واليمين والوصية واللقاء والمنزل ونحو ذلك. قوله تعالى : فارهبوني ، الرهبة الخوف ، وتقابل الرغبة. قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به ، أي من بين أهل الكتاب ، أو من بين قومكم ممن مضى وسيأتي فإن كفار مكة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به. واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ـ 45. الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ـ 46. (152)
( بيان )
قوله تعالى :
واستعينوا بالصبر والصلوة ، الاستعانة وهي طلب العون إنما يتم
فيما لا يقوى الانسان عليه وحده من المهمات والنوازل ، وإذ لا معين في الحقيقة إلا
الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الانسان لها بالثبات والاستقامة والاتصال به
تعالى بالانصراف إليه ، والاقبال عليه بنفسه ، وهذا هو الصبر والصلوة ، وهما أحسن سبب
على ذلك ، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة ، وبالاقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ
روح الايمان ، وتتنبه :
ان الانسان متك على ركن لا ينهدم ، وسبب لا ينفصم.
قوله تعالي : وانها لكبيرة إلا على الخاشعين ، الضمير راجع إلى الصلوة ، وأما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله : استعينوا ذلك فينافيه ظاهرا قوله : إلا على الخاشعين ، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة ، والفرق بين الخشوع والخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل والانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح والخشوع بالقلب. قوله تعالي : الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم. هذا المورد ، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض ، قال تعالى : « وبالآخرة هم يوقنون » البقرة ـ 4 ، ويمكن أن يكون الوجه فيه الاخذ بتحقق الخشوع فان العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الادراك الجازم وهو العلم ، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الادراك العلمي وتمامه ، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الانسان لا يتوقف على زيادة مؤنة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن ان يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر : فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج.سراتهم في الفارسي المرد (153)
وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك ولكنه أمرهم بالظن لان الظن يكفيهم في الانقلاع
عن المخالفة ، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم
من غير اعتناء منه بشأنهم ، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى :
« فمن كان
يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا » الكهف ـ 110 ، وهذا كله لو كان المراد باللقاء في
قوله تعالى :
ملاقوا ربهم ، يوم البعث ولو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة
الاعراف إنشاء الله فلا محذور فيه أصلا.
( بحث روائي )
في الكافي عن الصادق ( عليه السلام )
قال :
كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلوة ثم تلا هذه الآية :
« واستعينوا بالصبر
والصلوة ».
وفي الكافي أيضا : عنه ( عليه السلام ) في الآية ، قال : الصبر الصيام ، وقال : إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم. إن الله عزوجل يقول : واستعينوا بالصبر يعنى الصيام. اقول : وروى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره. وتفسير الصبر بالصيام من باب المصداق والجري. وفي تفسير العياشي : عن أبي الحسن ( عليه السلام ) : في الآية قال : الصبر الصوم ، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم ، إن الله يقول : واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. والخاشع الذليل في صلوته المقبل عليها ، يعني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) اقول : قد استفاد ( عليه السلام ) إستحباب الصوم والصلوة عند نزول الملمات والشدائد ، وكذا التوسل بالنبي والولي عندها ، وهو تأويل الصوم والصلوة برسول الله وأمير المؤمنين. وفي تفسير العياشي أيضا : عن علي ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : « الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم » الآية يقول : يوقنون أنهم مبعوثون ، والظن منهم يقين. (154)
اقول :
ورواه الصدوق أيضا.
وروى ابن شهر آشوب عن الباقر ( عليه السلام ) : أن الآية نازلة في علي وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأصحاب لهم. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ـ 47. واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم ينصرون ـ 48. ( بيان )
قوله تعالى :
واتقوا يوما لا تجزى.
الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه ، وقواه المقننة الحاكمة
والمجرية مبتنية على حوائج الحيوة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل
الزمانية والمكانية ، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير
ميزان كلي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم والجنايت عندهم
يستتبع العقاب ، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلح المحكوم الذي
يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف
الحق ، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا
وبدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذالك
المجرم ، أو يستنصر فومه فينصروه فيتخلص بذالك عن تبعة العقاب ونحو ذلك.
تلك
سنة جارية وعادة حيوة دنيوية يطرد فيها قانون الاسباب ويحكم فيها ناموس التأثير
والتأثر المادي
(155)
الطبيعي ، فيقدمون إلى آلهتم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد
في حوائجهم ، أو يستشفعون بها ، أو يفدون بشيئ عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى
أنهم كانوا يدفنون مع الاموات أنواع الزخرف والزينة ، ليكون معهم ما يتمتعون به في
آخرتهم ، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم ، وربما ألحدوا معه من الجواري من
يستأنس بها ، ومن الابطال من يستنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين آثار
الارضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، ويوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين
الملل الاسلامية على اختلاف السنتهم والوانهم ، بقيت بينهم بالتوارث ، ربما تلونت
لونا بعد لون ، جيلا بعد جيل ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية ، والاقاويل
الكاذبة ، فقد قال عز من قائل :
« والامر يومئذ لله ، الانفطار ـ 19 ، وقال :
« ورأوا
العذاب وتقطعت بهم الاسباب » البقرة ـ 166 ، وقال :
« ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم
أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم
شركاء ، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون » الانعام ـ 94 ، وقال :
« هنالك تبلوا
كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون » يونس ـ 30 ،
إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها :
أن الموطن خال عن الاسباب الدنيوية ، وبمعزل
عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا اصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الاقاويل
والاوهام على طريق الاجمال ، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال :
« واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا
هم ينصرون » البقرة ـ 48 ، وقال :
« يوم لا بيع فيه ، ولا خلة ، ولا شفاعة »البقرة ـ 254 ،
وقال :
« يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا » الدخان ـ 41 ، وقال « يوم تولون مدبرين ما لكم
من الله من عاصم » المؤمن ـ 33 ، وقال :
« ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون »
الصافات ـ 26 ، وقال :
« ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء
شفعائنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض سبحانه
وتعالى عما يشركون » يونس ـ 18 ، وقال :
« ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع » المؤمن ـ 18 ، وقال :
« فما لنا من شافعين ولا صديق حميم » الشعراء
ـ 101 ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط
(156)
والاسباب يوم القيامة هذا.
ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها ، بل يثبتها بعض الاثبات. قال تعالى : « الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون » السجدة ـ 3 ، وقال تعالى : « ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع » الانعام ـ 51 ، وقال تعالى : « قل لله الشفاعة جميعا » الزمر ـ 44 ، وقال تعالى : « له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » البقرة ـ 255 ، وقال تعالى : « إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم إستوى على العرش يدبر الام ر ما من شفيع الا من بعد اذنه » يونس ـ 3 ، وقال تعالى : « وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن إرتضى وهم من خشيته مشفقون » الانبياء ـ 28 ، وقال : « ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون » الزخرف ـ 86 ، وقال : « ولا يملكون الشفاعة الا من إتخذ عند الرحمن عهدا » مريم ـ 87 ، وقال تعالى : « يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ، يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما » طه ـ 110 ، وقال تعالى : « ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له » السبأ ـ 23 ، وقال تعالى : « وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى » النجم ـ 26 ، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الاولى وبين ما يعممها لغيره تعالى باذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب ، غير ان بعضها تثبتها بنحو الاصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره باذنه وارتضائه ، وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره ، واثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه ، قال تعالى : « قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب » النحل ـ 65 ، وقال تعالى : « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » الانعام ـ 59 وقال تعالى : « عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من إرتضى من رسول » الجن ـ 27 ، وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فانها (157)
شائعة في اسلوب القرآن ، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى ، ثم يثبته لنفسه ، ثم يثبته
لغيره باذنه ومشيته ، فتفيد ان الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه
الكمالات بنفسها وإستقلالها ، وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها ، حتى أن القرآن
تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء حتم ، كقوله تعالى :
« فأما الذين
شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء
ربك ، إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات
والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ » هود ـ 108 ، فقد علق الخلود بالمشية وخاصة في
خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ ، اشعارا بأن قضائه تعالى بالخلود لا يخرج
الامر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله :
« إن ربك فعال لما
يريد » هود ـ 107 ، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الامر من يده ويوجب له الفقر ، ولا
منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى.
من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة ، إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك ، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الاصالة ، ولغيره تعالى باذنه وتمليكه ، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى باذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلقها ؟ وفيمن تجري ؟ وممن تصح ؟ ومتى تتحقق ؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى ؟ ونحو ذلك في أمور. الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون و ( هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده ، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها ) من الامور التي نستعلمها لانجاح المقاصد ، ونستعين بها على حوائج الحيوة ، وجل الموارد التي نستعملها فيها اما مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير ، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرة والشر ، لكن لا كل نفع وضرر ، (158)
فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الاسباب الطبيعية والحوادث الكونية من الخير والشر
والنفع والضر ، كالجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد ، والصحة ، والمرض ، بل نتسبب فيها
بالاسباب الطبيعية ، ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالاكل ، والشرب ، واللبس
والاكتنان والمداواة ، وانما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضار التى
تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين الاحكام التي وضعتها واعتبرتها وقررتها
واجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم ، ففي دائرة المولوية والعبودية وعند
كل حاكم ومحكوم ، وأحكام من الامر والنهي إذا عمل بها وإمتثلها المكلف بها استتبع
ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع ، من جاه أو مال ، وإذا خالفها وتمرد منها استتبع ذلك
تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي ، أو معنوي ، فإذا أمر المولى أو نهي عبده ، أو كل من
هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهى مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم ، وإن خالف
كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار ، وضع الحكم ووضع تبعة الحكم ،
يتعين به تبعة الموافقة والمخالفة.
وعلى هذا الاصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل والخاصة بين كل إنسان ومن دونه. فإذا أراد الانسان أن ينال كمالا وخيرا ماديا أو معنويا وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع ، ويعرف به لياقتة ، أو اراد ان يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه ، أعني الامتثال والخروج عن عهدة التكليف ، وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه ، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجة إليه فذلك مورد الشفاعة ، وعنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة الي التلبس بكمال ، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا ، كالعامي الامي الذي يريد تقلد مقام علمي ، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة ، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير. ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم ، ويوجب نيل الثواب ، (159)
أو
التخلص من العقاب ، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه وعبودية
عبده فلا يعاقبه ، ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول ، أو ينسخه
عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه ، ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما
أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا ، أو في خصوص الواقعة ، فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في
مولوية وعبودية ، ولا في حكم ولا في جزاء حكم ، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات
الثلاث المذكورة إنما يتمسك :
إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسؤدده ،
وكرمه ، وسخائه ، وشرافة محتده ، وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير
عوامل المغفرة كمذلته ومسكنته وحقارته وسوء حاله ، وإما بصفات في نفسه أعني نفس
الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده فيقول :
ما أسألك إبطال مولويتك
وعبوديته ، ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء ، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا
ورأفة وكرما لا تنتفع بعقابه ولا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا
يعتني مثلك بشأنه ولا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف
حاجتي في تخليصه والعفو عنه.
ومن هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ، ونعني بالحكومة ان يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر ، فلا يشمله الحكم الاول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الاسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير ، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة. ومن هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الاول البعيد ومسببه ، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا. ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين : (160)
إحداهما :
أنه يبتدي منه التأثير ، وينتهي إليه السببية ، فهو المالك للخلق والايجاد
على الاطلاق ، وجميع العلل والاسباب امور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته
التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.
والثانيه : أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاما من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته. أما من الجهة الاولى : وهي النظر إليه من جهة التكوين فإنطباق معنى الشفاعة لى شأن الاسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى ، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والاحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، وكلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك ، كقوله تعالى : « له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » البقرة ـ 255 ، وقوله « إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم إستوى على العرش يدبر الامر ما شفيع إلا من بعد إذنه » يونس ـ 3 ، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والا سباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية. وأما من الجهة الثانية وهى النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال : أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى : « يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا » طه ـ 109 ، وقوله : « لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له » السبأ ـ 23 ، وقوله « لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى » النجم ـ 26 ، وقوله : « ولا يشفعون إلا لمن إرتضى » الانبياء ـ 28 ، وقوله : « ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون » الزخرف ـ 86 ، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاذن والارتضاء ، فهو تمليك ولله الملك وله الامر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه (161)
ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية ، وشملته بلية العقوبة ، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل ، والجرم الع امل على ما
عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد وهو القائل عز من قائل :
« أؤلئك يبدل
الله سيئاتهم حسنات » الفرقان ـ 70 ، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن
يجعل الموجود من العمل معدوما ، قال تعالى :
« وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه
هباء منثورا » الفرقان ـ 23 ، وقال تعالى :
« فأحبط أعمالهم » محمد ـ 10 ، وقال تعالى :
« إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم » النساء ـ 31 ، وقال تعالى :
« إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » النساء ـ 48 ، والآية في غير
مورد الايمان والتوبة قطعا فإن الايمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب
وله تكثير القليل من العمل ، قال تعالى :
« أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين » القصص ـ 65 ،
وقال :
« من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » الانعام ـ 160 ، وله سبحانه أن يجعل المعدوم
من العمل موجودا ، قال تعالى :
« والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم
ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل أمرء بما كسب رهين » الطور ـ 21 ، وهذا هو
اللحوق والالحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية ، وعلة متوسطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم. ومن هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية ، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الاطلاق. قال تعالى : « قل لله الشفاعة جميعا » الزمر ـ 44 ، وقال تعالى : « ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع » السجدة ـ 4 ، وقال تعالى : « ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع » الانعام ـ 51. وغيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه وتمليكه. فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى. (162)
قد عرفت :
أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة ، وستعرف أن الكتاب
وكذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك ، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك ، فإن
الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية والتأثير ، ولا معنى للاطلاق
في السببية والتأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط ولا مسبب واحد يكون
مسببا لكل سبب على الاطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببيه وهو باطل بالضرورة.
ومن
هنا اشتبه الامر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها
بامور وبنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى
وهاك شطرا منها :
الاشكال الاول : أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما. فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى وتقدس ، وإن كان ظلما كان شفاعة الانبياء مثلا سؤالا للظلم منه وهو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم. والجواب عنه أولا : بالنقض فإنه منقوض بالاوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا وإثباته أولا كلاهما من العدل : والحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل ، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين ، ثم يوضع الاحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم ، وأما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم ويبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم ولو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كإحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة ، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أولا عدلا ورفع عقابه ثانيا عدلا. وثانيا : بالحل ، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الاول فيما ذكر من العدل والظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الاول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة وقد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا (163)
بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة
من صفات اخرى له تعالى من رحمة وعفو ومغفرة ، ومنها إفضاله للشافع بالاكرام
والاعظام.
الاشكال الثاني : أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف والاختلاف ، فما قضى وحكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء ، وعلى هذا جرت سنة الاسباب ، قال تعالى : « هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من إتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين » الحجر ـ 43 ، وقال تعالى : « وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم » الانعام ـ 153 ، وقال تعالى : « فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا » الفاطر ـ 42 ، وتحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فان رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال ، ولعب ينافي الحكمة قطعا ، ورفعة عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم وذنوبهم إختلاف في فعله تعالى وتغير وتبدل في سنته الجارية وطريقته الدائمة ، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم ولا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب وخروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح والاغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال ، وإنما تجري الشفاعة وما يشبهها في سنة هذه الحيوة من إبتناء الاعمال والافعال على الاهواء والاوهام التي ربما تقضي في الحق والباطل على السواء ، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة على نسق واحد. والجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم وسنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع والحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده ولا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوطة علت صفاته. توضيح ذلك : أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حيوة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك. وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ولا لرابطة واحدة كيف كانت ، فإن فيه بطلان الارتباط والسببية ، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب ومصلحة مقتضية ولا يشفيه لانه الله المميت (164)
المنتقم شديد البطش بل لانه الله الرؤوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا ولا
يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب ، لانه رؤوف رحيم به ، بل لانه الله المنتقم الشديد
البطش القهار مثلا وهكذا.
والقرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من
جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلائم والايتلاف الواقع بينها
والاقتضاء المستنتج من ذلك ، وإن شئت قلت :
كل أمر من الامور يرتبط به تعالى من جهة
ما يتضمنه من المصالح والخيرات.
إذا
عرفت هذا علمت :
أن استقامة صراطه وعدم تبدل سنته وعدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة
إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضي صفة قاصره وإن شئت قلت :
بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الحكم
والمصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة.
فلو
كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير ولم يختلف في بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا
كافر.
لكن
الاسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.
فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب ـ وذلك أثر عدة من الاسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء ـ لا يوجب اختلافا في السنة الجارية وضلالا في الصراط المستقيم. الاشكال الثالث : أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك إلارادة ونسخها لاجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشئ وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة إرتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة ، وكل من النوعين محال على الله تعالى لان إرادته على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير. والجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الارادة والعلم في شئ وانما التغير في المراد والمعلوم ، فهو سبحانه يعلم أن الانسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون (165)
في
حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصة فيريد فيه بإرادة ، ثم يكون في حين
آخر على حال آخر جديد يخالف الاول لاقتران أسباب وشرائط اخر فيريد فيه بارادة اخرى
وكل يوم هو في شأن ، وقد قال تعالى :
« يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب »
الرعد ـ 39 ، وقال « بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » المائدة ـ 67 ، مثال ذلك :
أنا
نعلم أن الهواء ستغشاة الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة
بانارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضائة بالسراج وعند إنقضائه
باطفائه والعلم والارادة غير متغيرتين وإنما تغير المعلوم والمراد ، فخرجا عن كونهما
منطبقا عليه للعلم والارادة ، وليس كل علم ينطبق على كل معلوم ، ولا كل إرادة تتعلق
بكل مراد ، نعم تغير العلم والارادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان إنطباق العلم على
المعلوم والارادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ ،
مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين انه فرس فيتبدل العلم ، أو تريد أمرا
لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك ، وهذان غير جائزين في
مورده تعالى ، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.
الاشكال الرابع : أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الانبياء ( عليهم السلام ) مستلزم لتجري الناس على المعصية واغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية والطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الاصل البديهي. والجواب عنه ، اولا : بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى : « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » النساء ـ 51 ، والآية ـ كما مر ـ في غير مورد التوبة بدليل إستثنائه الشرك المغفور بالتوبة. وثانيا : بالحل : فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية وإغرائهم على التمرد والمخالفة بشرطين : احدهما : تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الانجاز من غير تعليق بشرط جائز. |
|||
|