|
|||
(211)
الحيوي بأفعاله الارادية المتوقفة على الفكر والارادة منه مستحيلة التحقق إلا عن
فكر ، فالفكر هو الاساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري فلا بد
للانسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطا بلا واسطة أو
بواسطة ، وهي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفرديه أو الاجتماعية أو نحضرها في
أذهاننا ، ثم نحصلها في الخارج بأفعالنا هذا.
ثم إن في غريزة الانسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث ، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات ، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علته الموجبة ، ولا يقبل تصديقا نظريا إلا إذا اتكئ على التصديق بعلته بنحو ، وهذا شأن الانسان لا يتخطاه البته ، ولو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل والامعان تنحل الشبهة ، ويظهر البحث عن العلة ، والركون والطمأنينة إليها فطري ، والفطرة لا تختلف ولا يتخلف فعلها ، وهذا يؤدي الانسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري والفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي ، بحيث لا يقدر الانسان الواحد إلى رفعه معتمدا على نفسه ومتكئا إلى قوة طبيعتة الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع وهو المدينة والحضارة ووزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع ، ووكل بكل باب من أبوابها طائفة كاعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها وعائدتها في نفسه ، ولا تزال الحوائج الانسانية تزداد كمية واتساعا وتنشعب الفنون والصناعات والعلوم ، ويتربى عند ذلك الاخصائيون من العلماء والصناع ، فكثير من العلوم والصناعات كانت علما أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس ، واليوم نرى كل باب من أبوابه علما أو علوما أو صنعة أو صنائع ، كالطب المعدود قديما فنا واحدا من فروع الطبيعيات وهو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الاخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها. وهذا يدعو الانسان بالالهام الفطري ، أن يستقل بما يخصه من الشغل الانساني في البحث عن علته ويتبع في غيره من يعتمد على خبرته ومهارته. فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة وحقيقة هذا الاتباع ، والتقليد المصطلح والركون إلى الدليل الاجمالي فيما ليس في وسع الانسان (212)
أن
ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعة
أن ينال تفصيل علته و دليله ، وملاك الامر كله أن الانسان لا يركن إلى غير العلم ،
فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد ، وهو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك
والتقليد وهو الاتباع ورجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك ، ولما استحال إن
يوجد فرد من هذا النوع الانساني مستقلا بنفسه قائما بجميع شؤون الاصل الذي يتكي
عليه الحياة أستحال أن يوجد فرد من الانسان من غير اتباع وتقليد ، ومن ادعى خلاف ذلك
أو ظن من نفسه انه غير مقلد في حيوته فقد سفه نفسه.
نعم : التقليد فيما للانسان أن ينال علته وسببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه والنيل منه ، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع ، ومفنيات المدنية الفاضلة ولا يجوز الاتباع المحض إلا في الله سبحانه لانه السبب الذي إليه تنتهي الاسباب أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ـ 75. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ـ 76 ،أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ـ 77. ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ـ 78. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ـ 79. وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما (213)
معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا
تعلمون ـ 80.
بلى
من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون ـ 81.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات أؤلئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ـ 82.
( بيان )
السياق وخاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار ، وخاصة كفار
المدينة :
لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيرا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
وعندهم علم الدين والكتاب ، ولذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم ، وكان
المتوقع أن يؤمنوا به أفواجا فيتأيد بذلك ويظهر نوره ، وينتشر دعوته ، ولما هاجر
النبي إلي المدينة وكان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطا ، والطمع يأسا ، ولذلك
يقول سبحانه :
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم الخ ، يعني أن كتمان الحقائق وتحريف الكلام من
شيمهم ، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عما قالوا ونقضهم ما أبرموا.
قوله تعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، فيه التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب النبي والذين آمنوا ووضعهم موضع الغيبة وكان الوجه فيه أنه لما قص قصة البقرة وعدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التورية كما مر ، اريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالاشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة. قوله تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا الخ ، لا تقابل بين الشرطين وهما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى : « وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن » البقرة ـ 14 ، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم وجهالتهم. (214)
احدهما :
أنهم ينافقون فيتظاهرون بالايمان صونا لانفسم من الايذاء والطعن والقتل.
وثانيهما : أنهم يريدون تعمية الامر وإبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم وذلك أن العامة منهم ، وهم أولوا بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين ، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة ، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللا بأن ذلك مما فتح الله لهم ، فلا ينبغي أن يفشى للمؤمنين ، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك ولازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الامر ، دون سره وباطنه وهذا من الجهل بمكان ، فرد الله سبحانه عليهم بقوله : « أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون » الآية فإن هذا النوع من العلم ـ وهو ما يتعلق بظاهر الامر دون باطنه ـ إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان والمكان مولود لعلل اخرى مادية وما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم. وهذا أيضا من شواهد ما قدمناه آنفا أن بني إسرائيل لاذعانهم باصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الاحكام ، فكانوا يظنونه موجودا فعالا في المادة مستعليا قاهرا عليه ، ولكن بعين ما تفعل علة مادية وتستعلي وتقهر على معلول مادي ، وهذا أمر لا يختص به اليهود ، بل هو شأن كل من يذعن باصالة المادة من المليين وغيرهم ، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلا بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحيوة والعلم والقدرة والاختيار والارادة والقضاء والحكم وتدبير الامر وإبرام القضاء إلى غير ذلك ، وهذا داء لا ينجع معه دواء ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون ، حتى آل الامر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق ولا قدم له في معارفهم الحقة ، قائلا أن المسلمين يروون عن نبيهم ان الله خلق آدم على صورته وهم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم ، فهؤلاء يدور امرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع احكام المادة ، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم وإن لم يعرف بالتشبيه ، أو لا يفهموا شيئا من أوصاف جماله ، فينفوا الجميع بارجاعها إلى السلوب قائلا أن ما يبين أوصافه تعالى من الالفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي (215)
فلقولنا :
انه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها ولا نعقلها ، فاللازم إرجاع
معانيها إلى النفي ، فالمعنى مثلا أنه ليس بمعدوم ، ولا زائل ، ولا جاهل ، ولا عاجز ولا
ميت فاعتبروا يا أولي الابصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بانهم يؤمنون بما لا يدرون ،
ويعبدون ما لا يفهمون ، ويدعون إلى ما لا يعقلون ، ولا يعقله أحد من الناس ، وقد كفتهم
الدعوة الدينية مؤنة هذه الاباطيل بالحق فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول ولب
الحقيقة بين التشبيه والتنزيه فيقولوا :
ان الله سبحانه شئ لا كالاشياء وأن له علما
لا كعلومنا ، وقدرة لا كقدرتنا وحيوة لا كحيوتنا ، مريد لا بهمامة ، متكلم لا بشق فم ،
وعلى الخاصة أن يتدبروا في آياته ويتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه :
« هل يستوى
الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب » الزمر ـ 9 ، والخاصة كما
لا يساوون العامة في درجات المعرفة ، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم ،
فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به.
قوله تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني ، الامي من لا يقرأ ولا يكتب منسوب إلى الام لان عطوفة الام وشفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم وتسلمه إلى تربيتة ، فكان يكتفي بتربية الام ، والاماني جمع امنية ، وهي الاكاذيب ، فمحصل المعنى انهم بين من يقرأ الكتاب ويكتبه فيحرفه وبين من لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من الكتاب الا اكاذيب المحرفين. قوله تعالى : فويل للذين يكتبون ، الويل هو الهلكة والعذاب الشديد والحزن والخزى والهوان وكل ما يحذره الانسان اشد الحذر والاشتراء هو الابتياع. قوله تعالى : فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم الخ ، الضمائر إما راجعة إلى بني اسرائيل أو لخصوص المحرفين منهم ولكل وجه وعلى الاول يثبت الويل للاميين منهم أيضا. قوله تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته الخ ، الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيئة ، ولذلك أتي باحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب (216)
السيئة وإحاطة الخطيئة توجب ان يكون الانسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كان
الهداية لاحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلا فهو من أصحاب النار مخلدا فيها ولو
كان في قلبه شئ من الايمان بالفعل ، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحق من الاخلاق
والملكات ، كالانصاف والخضوع للحق ، أو ما يشابههما لكانت الهداية والسعادة ممكنتي
النفوذ إليه ، فإحاطة الخطيئة لا تتحقق الا بالشرك الذي قال تعالى فيه :
« إن الله لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » النساء ـ 48 ، ومن جهة اخرى إلا بالكفر
وتكذيب الآيات كما قال سبحانه :
« والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم
فيها خالدون » البقرة ـ 39 ، فكسب السيئة وإحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب
الخلود في النار.
واعلم أن هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى : « إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين الخ » البقرة ـ 62 ، وانما الفرق أن الآيتين أعني قوله : بلى من كسب سيئة ، في مقام بيان ان الملاك في السعادة انما هو حقيقة الايمان والعمل الصالح دون الدعاوي والآيتان المتقدمتان أعني قوله : ( إن الذين آمنوا الخ ، في مقام بيان أن الملاك فيها هو حقيقة الايمان والعمل الصالح دون التسمي بالاسماء. ( بحث روائي )
في المجمع :
في قوله وإذا لقوا الذين الآية ، عن الباقر ( عليه السلام )
قال :
كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم
بما في التوراة من صفة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )
فنهى كبراءهم عن ذلك وقالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )
فيحاجوهم به عند ربهم فنزلت هذه الآية.
وفي الكافي عن أحدهما ( عليهما السلام ) في قوله تعالى : بلى من كسب سيئة ، قال : إذا جحدوا ولآية أمير المؤمنين فاؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون. اقول : وروي قريبا من هذا المعنى الشيخ في اماليه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والروايتان من الجرى والتطبيق على المصداق ، وقد عد سبحانه الولاية حسنة في (217)
قوله :
« قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نجد له فيها
حسنا » الشوري ـ 23 ، ويمكن أن يكون من التفسير لما سيجئ في سورة المائدة أنها العمل
بما يقتضيه التوحيد وانما نسب إلى علي ( عليه السلام )
لانه أول فاتح من هذه الامة لهذا الباب فانتظر.
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ، وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وإنتم معرضون ـ 83. وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ـ 84. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من دياركم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا يوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ـ 85. أولئك الذين أشتروا الحيوة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ـ 86.ولقد آتينا موسى وقفينا من بعده بالرسل (218)
وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى
أنفسكم استكبر تم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ـ 87.
وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ـ 88.
( بيان )
قوله تعالى :
« وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل » ، الآية في بديع نظمها تبتدئ أولا
بالغيبة وتنتهي إلى الخطاب حيث تقول :
ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ، ثم
إنها تذكر أولا الميثاق وهو أخذ للعهد ، ولا يكون إلا بالقول ، ثم تحكي ما أخذ عليه
الميثاق فتبتدئ فيه بالخبر ، حيث تقول :
لا تعبدون إلا الله ، وتختتم بالانشاء حيث
تقول وقولوا للناس حسنا إلخ.
ولعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان
إشتمالها على التقريع والتوبيخ وجرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب ثم لما تبدل
الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه الآية ،
فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول وبنى على حكايته حكي بالخطاب فقيل :
لا تعبدون إلا الله إلخ ، وهو نهى في صورة الخبر.
وإنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به ، كأن الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى
عنه في الخارج ، ولا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه ،
فلا يوقع الفعل قطعا وكذا قوله :
وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين ،
كل ذلك أمر في صورة الخبر.
ثم إن الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام ، وهو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله : وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة ثم توليتم الخ وانتظم بذلك السياق. (219)
قوله تعالى :
وبالوالدين إحسانا ، امر أو خبر بمعنى الامر والتقدير واحسنوا بالوالدين
إحسانا ، وذي القربى واليتامى والمساكين ، أو التقدير :
وتحسنون بالوالدين إحسانا الخ ،
وقد رتب موارد إلاحسان أخذا من الاهم والاقرب إلى المهم والابعد فقرابة الانسان
أقرب إليه من غيرهم ، والوالدان وهما الاصل الذي تتكي عليه وتقوم به شجرة وجوده أقرب
من غيرهما من الارحام وفي غير القرابة أيضا اليتامى احق بالاحسان لصغرهم وفقدهم من
يقوم بأمرهم من المساكين.
هذا
وقوله :
واليتامى ، اليتيم من مات أبوه ولا يقال لمن ماتت أمه يتيم.
وقيل اليتيم في الانسان إنما تكون من جهة الاب وفي غير الانسان من سائر الحيوان من
جهة الام وقوله تعالى :
والمساكين ، جمع مسكين وهو الفقير العادم الذليل ، وقوله
تعالى :
حسنا مصدر بمعنى الصفة جئ به للمبالغة.
وفي
بعض القرائات حسنا ، بفتح الحاء والسين صفة مشبهة.
والمعنى قولوا للناس قولا حسنا ، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس ، كافرهم ،
ومؤمنهم ولا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لان مورد القتال غير
مورد المعاشرة فلا ينافي الامر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب
لا ينافي حسن المعاشرة.
قوله تعالى : لا تسفكون دماءكم ، خبر في معنى الانشاء نظير ما مر في قوله : لا تعبدون الا الله ، والسفك الصب. قوله تعالى : تظاهرون عليهم ، التظاهر هو التعاون ، والظهير العون مأخوذ من الظهر لان العون يلي ظهر الانسان. قوله تعالى : وهو محرم عليكم إخراجهم ، الضمير لاشان والقصة كقوله تعالى : قل هو الله أحد. قوله تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب ، أي ما هو الفرق بين الاخراج والفدية حيث أخذتم بحكم الفدية وتركتم حكم الاخراج وهما جميعا في الكتاب ، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. قوله تعالى : وقفينا ، التقفية الاتباع وإتيان الواحد قفأ الواحد. قوله تعالى : وآتينا عيسى بن مريم البينات ، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران. (220)
قوله تعالى :
وقالوا قلوبنا غلف جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف
وأستار وحجب ، فهو نظير قوله تعالى :
« وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه » حم
سجدة ـ 5 ، وهو كناية عن عدم امكان استماع ما يدعون إليه.
بحث روائي
في الكافي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) :
في قوله تعالى :
« وقولوا للناس حسنا » الآية.
قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم.
وفي الكافي أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قولوا للناس ولا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو. وفي المعاني عن الباقر ( عليه السلام ) قال : قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم ، فإن الله عزوجل يبغض السباب اللعان الطعان على المؤمنين الفاحش المفحش السائل ويحب الحيي الحليم العفيف المتعفف. أقول : وروي مثل الحديث في الكافي بطريق آخر عن الصادق ( عليه السلام ) وكذا العياشي عنه ( عليه السلام ) ومثل الحديث الثاني في الكافي عنه. ومثل الحديث الثالث العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) وكأن هذه المعاني أستفيدت من اطلاق الحسن عند القائل واطلاقه من حيث المورد. وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : ان الله بعث محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمة. قال الله : وقولوا للناس حسنا ، نزلت في أهل الذمة ثم نسختها أخرى قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون ) الحديث. أقول : وهو منه ( عليه السلام ) أخذ بإطلاق آخر للقول وهو شموله للكلام ولمطلق التعرض. يقال لا تقل له الا حسنا وخيرا أي لا تتعرض له الا بالخير والحسن ، ولا تمسسه الا بالخير والحسن. ان كان النسخ في قوله ( عليه السلام ) هو النسخ بالمعنى الاخص (221)
وهو
المصطلح ويمكن ان يكون المراد هو النسخ بالمعنى الاعم ، على ما سيجئ في قوله تعالى :
« ما ننسخ من آية أو ننسها » البقرة ـ 106 ، وهو الكثير في كلامهم ( عليهم السلام )
لتكون هذه الآية وآية القتال غير متحدتين موردا.
ولما جائهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ـ 89. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فبائوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ـ 90. وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما ورائه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ـ 91. ولقد جائكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ـ 92. أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ـ 93. (222)
( بيان )
قوله تعالى :
ولما جاءهم الخ ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن.
وقوله : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب ، وأنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهجرته وأن ذلك الاستفتاح قد استمر منهم قبل الهجرة ، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله : كانوا ، وقوله : فلما جاءهم ما عرفوا ، أي عرفوا أنه هو بإنطباق ما كان عندهم من الاوصاف عليه كفروا. قوله تعالى : بئسما إشتروا بيان لسبب كفرهم بعد العلم وأن السبب الوحيد في ذلك هوالبغي والحسد ، فقوله بغيا ، مفعول مطلق نوعي. وقوله أن ينزل الله ، متعلق به ، وقوله تعالى : فبائوا بغضب على غضب ، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل ، والمعنى أنهم كانوا قبل البعثة والهجرة ظهيرا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومستفتحا به وبالكتاب النازل عليه ، ثم لما نزل بهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزل عليه القرآن وعرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به وينتظرون قدومه هاج بهم الحسد ، وأخذهم الاستكبار ، فكفروا وإنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل ، فكان ذلك منهم كفرا على كفر. قوله تعالى : ويكفرون بما ورائه ، أي يظهرون الكفر بما ورائه ، وإلا فهم بالذي أنزل إليهم وهو التوراة أيضا كافرون. قوله تعالى : قل فلم تقتلون ، الفاء للتفريع. والسؤال متفرع على قولهم : نؤمن بما أنزل علينا ، أي لو كان قولكم : نؤمن بما أنزل علينا حقا وصدقا فلم تقتلون أنبياء الله ، ولم كفرتم بموسى بإتخاذ العجل ، ولم قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور : سمعنا وعصينا. قوله تعالى : واشربوا في قلوبهم العجل ، الاشراب هو السقى ، والمراد بالعجل (223)
حب
العجل ، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل وبه يتعلق قوله في قلوبهم ،
ففي الكلام استعارتان أو استعارة ومجاز.
قوله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم ، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الانبياء والكفر بموسى ، والاستكبار بإعلام المعصية ، وفيه معنى الاستهزاء بهم. ( بحث روائي )
في تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) :
في قوله تعالى :
« ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق » الآية قال ( عليه السلام ) :
كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع ، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد وأحد
سواء ، فتفرقوا عنده ، فنزل بعضهم بتيما ، وبعضهم بفدك ، وبعضهم بخيبر ، فاشتاق الذين
بتيما إلى بعض إخوانهم ، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه ، وقال لهم أمر بكم ما
بين عير وأحد ، فقالوا له إذا مررت بهما فآذنا لهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة ، قال
ذلك عير وهذا احد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى
إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع
فهلموا إلينا فكتبوا إليهم إنا قد إستقرت بنا الدار واتخذنا بها الاموال وما أقربنا
منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم ، واتخذوا بأرض المدينة ، أموالا فلما كثرت أموالهم
بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد
إستطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم ، فقالوا :
ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي ، وليس
ذلك لاحد حتى يكون ذلك ، فقال لهم فاني مخلف فيكم من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده
ونصره فخلف حيين تراهم :
الاوس والخزرج ، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال
اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )
لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الانصار وكفرت به اليهود
وهو قوله تعالى :
« وكانوا من قبل يستفتحون على الذين
(224)
كفروا إلى آخر » الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم ( في الدلائل ) عن إبن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الاوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن أبي البراء وداود بن سلمة يا معشر اليهود إتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أصل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله : ولما جاءهم كتاب من عند الله الآية. وفي الدر المنثور أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن إبن عباس قال كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون الله ، يدعون على الذين كفروا ويقولون : اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الامي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جائهم ما عرفوا يريد محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يشكوا فيه كفروا به. أقول : وروي قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا. قال بعض المفسرين بعد الاشارة إلى الرواية الاخيرة ونظائرها : إنها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي بعض بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لاحد على الله فيدعى به إنتهى. وهذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق وفي معنى القسم. بيانه : أن القسم هو تقييد الخبر أو الانشاء بشئ ذي شرافة وكرامة من حيث أنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية ، فإن كان خبرا فببطلان صدقه وإن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم إمتثال التكليف. فإذا قلت : لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة ، وكذا إذا قلت إفعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف (225)
حياتك وقيمة عمرك.
ومن هنا يظهر أولا : أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الادب. وثانيا : أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة. وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله : « والله ربنا » وكقوله : « فو ربك لنسئلنهم » وقوله : « فبعزتك لاغوينهم » وأقسم بنبيه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والارض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والانسان والشجر والتين والزيتون. وليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس ـ والكل شريف بشرف ذاته الشريفة ـ فما المانع للداعي منا إذا سئل الله شيئا أن يساله بشئ منها من حيث أن الله سبحانه شرفه وأقسم به ؟ وما الذي هون الامر في خصوص رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى أخرجه من هذه الكلية وإستثناء من هذه الجملة ؟. ولعمري ليس رسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأهون عند الله من تينه عراقية ، أو زيتونة شامية ، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال : « لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون » الحجر ـ 72. ثم إن الحق ـ ويقابله الباطل ـ هو الثابت الواقع في الخارج من حيث انه كذلك كالارض والانسان وكل أمر ثابت في حد نفسه ومنه الحق المالي وسائر الحقوق الاجتماعية حيث أنها ثابتة بنظر الاجتماع وقد أبطل القرآن كل ما يدعي حقا إلا ما حققه الله وأثبته سواء في الايجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع وظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية وحقوق الاخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض |
|||
|