أحد التبريرات التي يغطي بها المذنبون ذنوبهم هي التبريرات الثقافية كأن :
1 ـ إذا ارتكب أحدً ذنباً واعترض عليه يقول : لم اكن اعلم بانه ذنب لاني رجل أمي . وهذا التبرير لا اساس له من الصحة وغير مقبول ، لانّ الله سبحانه وتعالى قد منّ على الانسان بالعقل وأعطاه فطرة سليمة ووجداناً كمصباح مضيء ليميز الصالح عن الطالح ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فقد اتم انبياء الله واولياؤه والائمة ( عليهم السلام ) الحجة عليه وارشدوه الى صراط السوي . ولكنه سلك السبيل الخاطىء والضال .
في الآية 149 من سورة الانعام نقرأ :
( قل لله الحجّة البالغة ) .
سأل احد الامام الصادق ( عليه السلام ) عن تفسير هذه الآية فقال : « انّ
(178)
الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي ! أكنت عالماً ، فان قال : نعم ، قال له أفلا عملت بما علمت ؟ وان قال كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل ؟ فيخصمه ، فتلك الحجة البالغة » (1) .
ونتيجة لهذا : فان تبرير عدم الفهم وعدم القراءة والكتابة لا يرفع المسؤولية عن الانسان . ونتيجة سير الانسان في الطريق الأعوج مع كل تلك الهدايات ، هي السقوط في شباك المجازات .
2 ـ احد التبريرات الاخرى هو الافتخار ( بالنسب ) ، فمثلاً يرتكز بعض الافراد على الحسب والنسب في اقتراف الذنب . فمثلاً يتنازع أحد الاشخاص المفتخرين بالنسب مع شخص مؤمن ، وعندما يراد الاصلاح بينهما نرى الجواب : ( أنا من العوائل المحترمة فكيف أقبل الصلح مع فلان ؟! ) . فهو يرتكب ذنب « تحقير المؤمن » الذي يعتبر من الذنوب الكبيرة لكونه من العوائل الغنية والفخمة . وكان مثل هذا الجو في صدر الاسلام سائداً حيث نرى المشركين المتكبرين ينظرون الى بلال وصهيب وجويبر من اراذل القوم وبعضهم كانوا يحقرون سلمان ( عليه السلام ) .
ان الشيطان قد طرد من رحمة الله سبحانه لافتخاره على ادم في خلقته ولهذا فهو لم يطع أمر الله سبحانه في السجود .
في الآية 12 من سورة الاعراف نقرأ :
( قال ما منعك الاّ تسجد اذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني
____________
(1) تفسير نور الثقلين 1 ص 76 .
(179)
من نار وخلقته من طينٍ ) .
ان هذا المعيار وهو الافتخار بالحسب والنسب في الحقيقة اتباع للشيطان لان الميزان والمعيار الذي جعله الله سبحانه للتفضيل هو التقوى والعمل الصالح .
( التعصب الخاطىء ) : شاعت في الجاهلية طريقة وأد البنات يعني دفنهن احياء بلا رحمةٍ ولا رادع ، وحتى التي تكبر وتصل الى حد البلوغ فان مصيرها الدفن وهي حية . ويبرر المتعصبون ذنبهم بانه من المحتمل ان تقع البنات أسارى بيد الاعداء عند الحرب في قبيلة اخرى فيلدن لهم . وبهذا العذر والتبرير يحفرون حفرة كبيرة ويدفنونهن بصورة مفجعة ممزوجةٍ بالآهات والويلات والبكاء وبلا هوادة ولا رحمة . نعم ، فهم يبررون ذنوبهم احياناً بانها عادية وطبقاً للعرف السائد . وبقدر ترسخ هذه الافكار الخاطئة في اذهانهم نراهم عندما يبشر احدهم بالانثى يظل وجهه مسوداً وهو كظيم كما في ( الآية 58 من سورة النحل والآية 17 من سورة الزخرف ) .
3 ـ من التبريرات الثقافية ( الفهم الخاطيء ) ، فمثلاً يقال للمرأة حافظي على حجابك ، وللرجل غض بصرك ، فيكون جوابهما « اذهبوا فان قلوبنا طاهرة » ، وبهذا التفكير يتصورون ان طهارة القلب كافية لذلك ولم ينتبهوا الى اعمالهم . أو يقال لهم لا يجوز اختلاط الرجل مع المرأة في الأعراس فيكون جوابهم « نحن اخوة ، وعلى هذا المنوال يقترفون الذنوب وهم لا يشعرون .
(180)
او يبررون ذنوبهم بانها مراسم الاعراس والضيوف والاعياد او انهم شباب او اطفال فيصبح ما حرم الله سبحانه حلالاً . واحياناً يقول أحدهم : اقسم أن لا أصالح فلاناً او اقسم ان لا اكون واسطة في الزواج لحدوث مورد ساءني عند سعيي للزواج .
هذه الانواع من القسم خاطئة لان متعلق القسم يجب ان يكون راجحاً ، فمثلاً لو اقسم احد بالله على التدخين فهذا يمين باطل وخطأ ، ولكن اذا أقسم على ان يتركها فذلك يمين صحيح ولا بأس به ، لان الإقلاع عن التدخين افضل وارجح من تناولها .
ففي انتصار الثورة الاسلامية قال عدة من كبار المسؤولين وقواد الجيش الشاهنشاهي : انا قسمنا بالله سبحانه ان نحيي ( الشاه المعدوم ) فأجابهم الامام الخميني ( رضى الله ) ( هذا يمين باطل من اوّله ) . وعلى كل حال فان الذنوب تقترف وتبرر نتيجة الفهم السيء في المجتمع .
مواجهة الامام الصادق ( عليه السلام ) لمبرر معاند :
في كل زمان توجد هذه التوجيهات ، وفي موارد كثيرة من التاريخ يوجد هذا الفهم السيء ، فالانسان يصاب بالتوجيهات اولاً ثم يرتكب الذنب والجريمة ، وفي هذا المضمار توجد قصة معروفة تدل على اسلوب الفهم السيء . والامام الصادق قد نهى بشدة عن هذه الاساليب وحذر الناس من اتباع هؤلاء الاشخاص .
« قال جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) في معنى قوله عز وجل :
(181)
( اهدنا الصراط المستقيم ) ارشدنا الى الصراط المستقيم ارشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك والمبلغ دينك والمانع من أن نتبع أهوائنا فنعطب او نأخذ بآرائنا فنهلك ثم قال ( عليه السلام ) : فان من اتبع هواه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء العامة تعظمه وتسفهه فاحببت لقاءه من حيث لا يعرفني لانظر مقداره ومحله فرأيته قد أحدق به خلق من غثاء العامة فوقفت منتبذاً عنهم متغشياً بلثام انظر اليه وإليهم فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم وفارقهم ولم يقر فتفرقت العوام عنه لحوائجهم وتبعته أقتفي أثره فلم يلبث أن مرّ بخبّاز فنغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة فتعجبت منه ثم قلت في نفسي : لعلها معاملة ، ثم مرّ بعده بصاحب رمان فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة ، فتعجبت منه ، ثم قلت في نفسي لعلها معاملة ، ثم أقول : وما حاجته اذن الى المسارقة ؟ ثم لم أزل اتبعه حتى مرّ بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه ومضى ، وتبعته حتى استقر في بقعة من الصحراء ، فقلت له : يا عبد الله لقد سمعت بك وأحببت لقاءك ، فلقيتك ولكني رأيت منك ما شغل قلبي واني سائلك عنه ليزول به شغل قلبي ، قال : وما هو ؟ قلت : رأيتك مررت بخبّاز وسرقت منه رغيفين ثم بصاحب الرمان وسرقت منه رمانتين ! قال : فقال لي : قبل كل شيء حدثني من أنت ؟ قلت : رجل من ولد آدم ( عليه السلام ) من امة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . قال : حدثني من أنت ؟ قلت : رجل من اهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . قال : اين بلدك ؟ قلت : المدينة .
(182)
قال : لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، قلت : بلى فقال لي : فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرفت به وتركك علم جدك وأبيك لئلا تنكر ما يجب ان يحمد ويمدح عليه فاعله ؟ قلت : وما هو ؟ قال : القرآن كتاب الله ! قلت : وما الذي جهلت منه ؟ قال : يقول الله عز وجل :
( من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ومن جاء بالسّية فلا يجزى الاّ مثلها ) .
واني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين فهذه اربع سيئات فلما تصدقت بكل منهما كان لي أربعون حسنة فانتقص من اربعين حسنة أربع بأربع سيئات بقي لي ست وثلاثون حسنة قلت : ثكلتك امك ! انت الجاهل بكتاب الله اما سمعت انه عز وجل يقول : ( إنّما يتقبل الله من المتّقين ) انك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين ولما سرقت رمانتين كانت ايضاً سيئتين ولما دفعتهما الى غير صاحبيهما بغير امر صاحبيهما كنت انما أضفت اربع سيئات الى أربع سيئات ولم تضف اربعين حسنة الى اربع سيئات فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته قال الصادق ( عليه السلام ) : بمثل هذه التأويل القبيح المستكره يضلون ويضلون » (1) .
وهنا مثال آخر يبين لنا نوعاً من انواع التبريرات الخاطئة الذي جاء به معاوية حول مقتل ( عمار بن ياسر ) حيث قال معاوية : ان عمار
____________
(1) معاني الأخبار ص 33 ـ 35 .
(183)
قد قتله علي ( عليه السلام ) ولست انا الذي قتلته لان الامام علياً ( عليه السلام ) هو الذي ارسله الى ساحة القتال فأجابه الامام علي ( عليه السلام ) : اذا كان ادعاء معاوية صحيحاً فان الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الذي قتل حمزة ( عليه السلام ) لان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الذي ارسل حمزة الى ميدان القتال ( هذه التبريرات السياسية قد ذكرناها بصورة مختصرة في المواضيع السابقة ) .
ومن هذه الروايات العجيبة يمكننا ان نحصل على المطالب التالية :
1 ـ ان بعض التبريرات خطيرة الى درجة بحيث تلقي بالانسان أحياناً في وادي التفسير بالرأي الخطير والتلاعب بكتاب الله تعالى ، وكأنه خمير يعجنه بما يطابق هواه وارادته ، ولقد بين الامام الصادق ( عليه السلام ) وانذر واعلن الخطر من الافراد ذوي الفهم الخاطىء .
2 ـ ذكرنا سابقاً الاشاعة والتشهير ، وقلنا : يجب الاستفادة من هذا الموضوع لما يرضي الحق ، ولكن هناك موارد جائزة التشهير بل يجب كما رأينا الامام الصادق ( عليه السلام ) كيف اعلن امام الملأ عن هذا الرجل ذي الفهم والفكر المعوج ، وفي النهاية قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : « طوبى للذين هم كما قال رسول الله يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين » (1) .
____________
(1) معاني الاخبار للصدوق ص 35 .
(184)
اسلوب الامام الصادق ( عليه السلام ) وبيان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوحيان بضرورة التشهير بالمنحرفين والمبتدعين . وبعبارة اوضح فاولئك الذين يتمتعون بمواقع حساسة في المجتمع بحيث تترك هدايتهم ضلالتهم اثرها على المجتمع ، يجب التصدي لهم ثقافياً لو انحرفوا عن الطريق الصحيح .
مثال : لو أن احداً شرب الخمر وركب السيارة واراد قيادتها فيجب التشهير به لان المسافرين في خطر وهو لا يهتم ويستهزء بارواح المسافرين . لكن لو شرب الخمر في بيته سراً ، فان التشهير غير جائز ويجب الحفاظ على ماء وجهه وسمعته في المجتمع .
(185)
هناك اشكال مختلفة من التبريرات الاقتصادية ، منها :
اضاعة الحقوق بأسم العدالة الاجتماعية .
وبأسم الضغوط المعيشية يعمدون الى اسقاط الجنين .
وبأسم البيع والشراء يأكلون الربا ( البقرة الآية 275 ) .
وبأسم الهدية يأخذون ويعطون الرشوة .
وبأسم المصلحة في الكذب يعمدون الى الكذب الحرام .
وبأسم الخوف من الفقر يقتلون اولادهم ( الاسراء الآية 31 ) .
ويستثمر ويأكل الارباح تحت غطاء « عندي ادارة ادارة جيدة » فيبرر عمله و ...
عذاب أصحاب السبت :
إنّ احدى القصص القرآنية التي يذكرها القرآن الكريم في سورة الاعراف ( الآية 136 ـ 166 ) هي قصة أصحاب السبت حيث تبين لنا
(186)
هذه القصة نوعاً من انواع التبرير الاقتصادي للمتخلفين والعاصين لقانون الله سبحانه وتعالى وكيف انهم استحقوا بعنادهم العذاب الشديد وجزاء الهون بما كانوا يعملون ....
وخلاصة القصة هي ان جمعاً من بني اسرائيل يقطنون على بحيرة « ايله » بجانب البحر « وظاهراً البحر الاحمر » ارسل الله سبحانه وتعالى اليهم رسولاً فأمرهم أن لا يصطادوا يوم السبت ، ولكنهم بحسب الاصطلاح الشرعي عمدوا الى حيلةٍ شرعية فشقوا أترعةً بجانب البحيرة فيتجمع السمك فيها يوم السبت فيغلقون الابواب امام رجوع السمك الى البحيرة فيبقى فى الاترعة فيصطادونه يوم الأحد ويقولون : ان الله سبحانه وتعالى قد أمرنا ان لا نصيدها يوم السبت وها نحن نصطاد الاسماك يوم الأحد . انهم بهذا التبرير الخاطىء غطوا نقض الاوامر الالهية بالرغم من انهم هيأوا وسائل الصيد في يوم السبت وبرروا عملهم بعدم اصطياد السمك في يوم السبت ، فوعدهم الله سبحانه بالعذاب الاليم فلم يردعهم ذلك ، فاستحقوا الهلاك والويل والثبور ، وجاء في الروايات ان اهل ايله في مورد هذا الذنب ينقسمون الى ثلاث مجموعات :
1 ـ مجموعة ارتكبوا الذنب وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2 ـ ومجموعة لم يرتكبوا الذنب ولكنهم وافقوا على الفعل ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر .
(187)
3 ـ ومجموعة لم يرتكبوا ولم يوافقوا على فعلهم بل امروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) :
« هلكت الفرقتان ونجت الفرقة الثالثة » .
قصة وعبرة :
قال الامام الباقر ( عليه السلام ) : كان احد المؤمنين يدعى ( سعد ) في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بداية الهجرة النبوية ، وكان فقيراً شديد الحاجة من أهل الصفة ( الفقراء الذين يسكنون اطراف المسجد ) ، وكان ملازماً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند مواقيت الصلاة كلها لا يفقده في شيء منها وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يرق له وينظر الى حاجته وغربته فيقول : يا سعد لو جاءني شيء لاغنيتك ، قال : فابطأ ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاشتد غم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسعد ، فعلم الله سبحانه وتعالى ما دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الغم ، فاهبط عليه جبرائيل ( عليه السلام ) ومعه درهمان فقال له : يا محمد ان الله قد علم ما قد دخلك من الغم بسعد أفتحب ان تغنيه ؟ فقال : نعم ، فقال له : فهاك هذين الدرهمين فاعطهما إياه ، ومره ان يتجر بهما ، فاخذهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم خرج الى صلاة الظهر وسعد قائم على باب حجرات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينتظره ، فلما رآه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : يا سعد أتحسن التجارة ؟ فقال له سعد : والله ما أصبحت املك ما اتّجر به ،
(188)
فاعطاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الدرهمين ، فقال له : اتّجر بهما وتصرف لرزق الله ، فاخذهما سعد ومضى مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى صلى معه الظهر والعصر ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قم فاطلب الرزق فقد كنت بحالك مغتماً يا سعد ، قال : فاقبل سعد لا يشتري بالدرهم الاّ باعه بدرهمين ، ولا يشتري شيئاً بدرهمين الاّ باعه باربعة دراهم ، واقبلت الدنيا على سعد فكثر متاعه وماله وعظمت تجارته ، فاتخذ على باب المسجد موضعاً جلس فيه وجمع تجارته اليه ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اذا أقام بلال الصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا لم يتطهر ولم يتهيأ كما كان يفعل قبل ان يتشاغل بالدنيا ، فكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : يا سعد شغلتك الدنيا عن الصلاة ؟ فيقول : ما أصنع ؟ أضيع مالي ؟ هذا الرجل قد بعته فاريد ان أستوفي منه ، وهذا رجل قد اشتريت منه فاريد أن أوفيه ، قال : فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أمر سعد غم أشد من غمّه بفقرة ، فهبط عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد ان الله علم بغمّك بسعد ، فايما احب اليك ، حاله الاولى أم حاله هذه ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا جبرائيل بل حاله الاولى قد أذهبت دنياه بآخرته ، فقال له جبرائيل ( عليه السلام ) ان حب الدنيا والأموال فتنة ومشغلة عن الآخرة ، قال : قل لسعد يرد عليك الدرهمين اللذين دفعتهما اليه ، فان أمره سيصير الى الحالة التي كان عليها أولاً ، قال : فخرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فمرّ بسعد فقال له : يا سعد أما تريد أن تردّ عليّ الدرهمين الذين اعطيتكهما ؟ فقال سعد : بلى ومائتين ، فقال له :
(189)
لست اريد منك يا سعد الاّ درهمين ، فاعطاه سعد درهمين ، قال : وأدبرت الدنيا على سعد حتى ذهب ما كان جمع ، وعاد الى حاله التي كان عليها (1) .
ان هذه القصة تعلمنا ان التعلق في الدنيا سببّ للغفلة عن الاخرة . وكثير غرقوا مثل ما غرق ( سعد ) وعندما تدعوهم الى الصلاة في المساجد او اي عمل من الاعمال الصالحة يبررون عدم حضورهم كما برر سعد لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويقولون : ان المسجد للذين لا عمل لهم ، ونحن نعمل ليلاً ونهاراً واشغالنا كثيرة . فهل هذا التبرير المادي صحيح ؟
اوليس على الانسان ان ينظم اوقاته حتى لا تتضرر عبادته ووظائفه الدينية ؟ ان هذه القصة تعتبر انذاراً للذين ربطوا قلوبهم بالدنيا وشيئاً فشيئاً ينقطعون عن ذكر امور الآخرة ، ولا نراهم الاّ في مجالس العزاء لأقاربهم ، وللأسف الشديد فان الكثير بهذه الحالة لان انشغالهم بالدنيا يجعلهم ان لا يصلون ارحامهم دائماً ، ولو اعترضت عليهم لاجابوك « لدينا مشاكل كثيرة » . ان هذه التبريرات الخاطئة تشكل خطراً شديداً عليهم .
____________
(1) وسائل الشيعة ج 12 ص 297 ـ 298 .
(190)
من البديهي ان تزداد التبريرات في الأمور الصعبة لأجل الفرار من المسؤولية ، فمسألة الجهاد والحرب مع الاعداء تعد من الواجبات المليئة بالمسؤولية الثقيلة ، واولئك الذين لا يمتلكون إيماناً قوياً يبررون تبريرات مختلفة لاجل ان يخلصوا انفسهم من المسؤولية الثقيلة والواجب المقدس .
واحياناً يعتذرون بالاب والام الكهلين واحياناً بالمرأة والطفل ، واخرى ان الوقت حار او بارد او بحلول موسم حصاد الزرع ، او التعذر بالمرض او الضعف لاجل تبرير عدم الاشتراك في الحرب ، خصوصاً اذا كانت الحرب مع الذين ينتحلون الاسلام والذين هم اسوء من الكفار ، يبررون عدم اشتراكهم في الحرب بان حرب المسلم مع المسلم غير صحيحة وانهم اخواننا في الاسلام .
(191)
وبمثل هذه التبريرات يهربون من الواجب المقدس وهو الجهاد في سبيل الاسلام .
التبرير في حرب تبوك :
وقعت حرب تبوك في السنة التاسعة للهجرة ، وقد أمر الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالجهاد العام لكل المسلمين للوقوف امام الاعداء الروم ، فتحرك المسلمون الى منطقة تبوك . وتخلف البعض منهم عن أمر الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحجة أن الهواء حار ولا يستطيعون السفر الطويل في مثل ذلك الجو والقتال فيه . وبخلوا بانفسهم واموالهم في سبيل الدفاع عن حرمة الاسلام . وبهذا التبرير امتنعوا عن الذهاب الى الحرب وكانوا فرحين بعملهم . فذمهم القرآن الكريم في سورة التوبة ( الآية 81 ) :
( وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنّم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون ) .
انتقاد الامام علي ( عليه السلام ) :
انتقد الامام علي ( عليه السلام ) مجموعة من المبررين الكذابين الذين اصطنعوا الاعذار الواهية للهروب من الجهاد المقدس والمسؤولية الثقيلة ، فخاطب اهل العراق الذين وهنوا في حربهم مع جيش معاوية فقال ( عليه السلام ) :
(192)
« فقبحاً لكم وترحاً ، حين صرتم غرضاً يرمى ، يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون ، فاذا أمرتكم بالسير اليهم في ايام الحر قلتم حمّارة القيظ ، أمهلنا يسبخ عنا الحرّ ، وإذا أمرتكم بالسير اليهم في الشتاء قلتم هذه صبّارة القرّ ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد ، فاذا كنتم من الحر والقر تفرّون فأنتم والله من السيف أفر » (1) .
التبرير في حرب الخندق :
يجب الانتباه الى اهمية الجهاد والدفاع وبالاخص عند الاحساس بالخطر الذي يهدد الاسلام ، فحفظ النفس اغلى من اي شيء ، ولكن في ساحة الجهاد والدفاع يجب ان تبذل ، والتبريرات التي تطرح في هذا المجال غير صحيحة ، فمثلاً من التبريرات قول البعض : ان بيوتنا عورة فيجب الحفاظ عليها وانّ ابسط الامور يعظمونها ويجعلونها اساساً لعدم المشاركة في الواجب المقدس وهو الجهاد والدفاع عن الاسلام ، ففي صدر الاسلام كانت مثل هذه الحجج والاعذار كثيرة . ففي معركة الاحزاب التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة احتج الذين في قلوبهم مرض بان بيوتهم عورة ويجب المحافظة عليها من شر الاشرار ، وبهذه الطريقة ارادوا الفرار من الحرب . لكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رد على هذا النوع من التبريرات .
____________
(1) نهج البلاغة الخطبة 27 .
(193)
( نقرأ في الآية 13 من سورة الاحزاب ) :
( ويستأذن فريق منهم النّبيّ يقولون انّ بيوتنا عورة وما هي بعورةٍ إن يريدون إلاّ فراراً ) .
تبرير مضحك آخر في حرب تبوك :
كان أحد المنافقين ويدعى « جدّ بن قيس » في معركة تبوك قد برر عدم اشتراكه في ميدان الجهاد بهذا التبرير المضحك حيث قال للرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « اعذرني يا رسول الله من الاشتراك في الحرب لانني شديد التعلق بالنساء ، فعندما تقع عيني على البنات الروميات أفقد نفسي وأنجذب اليهن فأخرج عن الجهاد والواجب الشرعي فأكون مذنباً بذلك » . وحول هذا التبرير المضحك نزلت ( الآية 49 من سورة التوبة ) مفنّدةً اقواله :
( ومنهم من يقول إئذن لي ولا تفتنّي الا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ) .
ان الماكرين يفرون من ساحة القتال بحجة الخوف من ارتكاب الذنوب ، ولكنهم سقطوا في قلب الذنب لانهم بالشبهة الشرعية خالفوا الاوامر الشرعية الربانية الصريحة ، وهل يستطيع احد ان يفرّ من الواجب الالهي الصريح بالتبريرات المضحكة ؟
(194)
تبرير قبل صلح الحديبية :
في السنة السادسة للهجرة الذي وافق شهر ذي القعدة ، توجه الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة الى مكة المكرمة مع ألف واربعمائة مسلم لحج العمرة . وكان هدف هذا التحرك كمناوراتٍ عسكرية لإخافة المشركين . فشجع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسلمين على الاشتراك بهذا التحرك . فساروا وما ان وصلوا الى منطقة ( عسقان ) القريبة من مكة المكرمة . منع المشركون الرسول من الدخول الى مكة المكرمة فتوجه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صوب الحديبية ( قرية تبعد عن مكة عشرون كيلو متراً ) حتى وصلوا اليها . وعندها عقد الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صلح الحديبية مع قريش حيث هيأ الارضية ذات الاهمية الواسعة لانتصار الاسلام مستقبلاً . ثم غادر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع اصحابه المكان متوجهاً الى المدينة من دون ان يدخل مكة . وبالرغم من ان الامر النبوي كان قد عم المسلمين قاطبة فقد تخلف أصحاب الايمان الضعيف ولم يشتركوا في الذهاب مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد برروا عدم ذهابهم بان : « كيف يمكن للمسلمين ان يعودوا سالمين والمشركون يتحينون الفرص للهجوم عليهم ؟! » (1) .
ولكن عندما رأوا المسلمين قد رجعوا سالمين تغمرهم فرحة الانتصار ( في صلح الحديبية ) بادر المتخلفون بالاعتذار من رسول
____________
(1) شرح هذه اللمحة التاريخية في تاريخ الطبري المجلد 2 وسيرة ابن هشام المجلد 2 و تفسير نمونة المجلد 22 صفحة 10 الى 17 .
(195)
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحجة المحافظة على نساءهم واطفالهم واموالهم ، وبهذه الحجة برروا ذنبهم امام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ردهم رداً شديداً كما نرى في ( الآية 11 من سورة الفتح ) :
( سيقول لك المخلّفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) .
وجاء كذلك ذمهم في ( الآية 11 ـ 14 ) من سورة الفتح التي تبيّن ان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أصدر أوامره الشديدة ضدهم .
التبرير في حرب الجمل :
احتج بعض الناس قائلين : إنّ حرب الجمل حرب بين الاخوة المسلمين ، فالواجب علينا ان نرفع ايدينا عن قتل المسلم للمسلم ، وقد انتقدوا أمير المومنين علياً ( عليه السلام ) ووقفوا ضدّه بهذه الحجة والعذر الواهي ، ولكنّ أمير المؤمنين علياً ( عليه السلام ) لعن أصحاب الجمل علناً ، فقال له أحدهم :« يا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) استثني المؤمنين منهم » ، فاجابه الامام علي ( عليه السلام ) بصورة قاطعة : « ويلك ما كان فيهم مؤمنّ » (1) .
وفي معركة صفين برر بعضهم عملهم بالقول : « ان قتل المسلمين غير جائز » ، فيجب الخروج عن طاعة الامام علي ( عليه السلام ) والانسحاب من المعركة .
____________
(1) بحار الانوار : ج 32 ، ص 326 .
(196)
فاجابهم امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : ان افراد جيش معاوية ليسوا مسلمين بل يتظاهرون بالاسلام ويخفون الكفر ويعلنونه متى ما تسلطوا على رقاب المسلمين .
وقال شخص آخر لعمار بن ياسر : الم يقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حاربوا الكفار حتى يسلموا فاذا أسلموا أصبحت دماؤهم واموالهم حراماً ؟! فأجابه عمار : بلى ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر حتى وجدوا عليه اعواناً (1) .
وبقوا على هذه الحالة من الاعذار الواهية والحجج الخاوية وظلوا في ترديدهم يعمهون ( بان قتل المسلم للمسلم حرام ) .
قال الامام الباقر ( عليه السلام ) في قبال هذا النوع من الافراد :
« لو أن علياً قتل مؤمناً واحداً لكان شراً من حماري هذا » (2) .
هذه هي الاعذار والحجج العسكرية التي طرحها بعض الناس ليرفعوا أيديهم عن نصرة الحق ويغروا الآخرين بها . ولكن يجب على المؤمنين ان يكونوا فطنين أمام الحيل والتبريرات التي يدبرها مرضى القلوب (3) .
____________
(1) بحار الانوار : ج 32 ، ص 325 .
(2) بحار الانوار ج 32 ص 327 .
(3) هناك تبريرات اخرى متفرقة ولاجل الاقتصار اكتفينا بهذا المقدار .
(197)
تبرير عسكري رهيب :
في سنة 1945 للميلاد القى الامريكان قنابل ذرية على مدينتي « هيروشيما » و « ناكازاكي » في اليابان بأمر من رئيس الجمهورية الاسبق لأمريكا ( ترومن ) فقتل ( 150 ألف انسان ) في ( هيروشيما ) وبعد ثلاثة أيام القيت قنبلة اخرى على ( ناكازاكي ) فراحت المدينة باهلها طعمة للنار ودمرت عن آخرها . فبرر ( ترومن ) هذه الفاجعة التي هي اشد مرارة من سم الافعى بان « هذا الأمر التاريخي لاجل نجاة مئات الآلاف من الجنود والملاحين والطيارين الامريكان » (1) .
نعم ان ترومن بهذه السفسطة اراد ان يخدع وجدانه والعالم أجمع ، ولكن لم يستمر كثيراً حتى انتفض عليه اصحاب الحرية في العالم وأدانوا علمه هذا ، وبقي هذا العار يتبعه الى الابد ، وفي الحقيقة لو ان باب التبرير كان مفتوحاً لمثل هذا ، لكانت افظع الجرائم التي لا تنسى تبرر بكلمات خادعة .
____________
(1) تاريخ الحوادث الكبرى ص 293 .